الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (317) - سورة النحل 11-23

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}[النحل:10]، {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:11]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[النحل:12]، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[النحل:13]، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:14]، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[النحل:15]، {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18]، هذه طائفة من إنعام الله -تبارك وتعالى- وإفضاله على عباده، تأتي هنا في سياق هذه السورة؛ سورة النحل، والتي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها الإنسان بنعمه أو ببعض نعمه التي أنعمها -سبحانه وتعالى- عليه، مقارنًا ذلك بين أنه الرب الإله الخالق لهذه النعم وبين ما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، وإنه لا يخلق شيئًا فكيف يستحق العبادة، قال -جل وعلا- هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، هذا ماء المطر، {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ}، تشربون منه، وقال منه لأن بعضه ما يشربه الإنسان كله، ومنه؛ من هذا الماء، شجر؛ ينبت الله -تبارك وتعالى- به الشجر، وفيه تسيمون؛ ترعون أنعامكم، السوم؛ الرعي.

{يُنْبِتُ لَكُمْ}، بهذا الماء النازل من السماء، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ........}[النحل:11]، ذكر الله الزرع وهو ما لا ساق له من هذه النباتات الكثيرة، والزيتون؛ وخصه الله -تبارك وتعالى- لشرفه وأنه قوام من مقومات غذاء الناس، {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ}[المؤمنون:20]، والنخيل؛ بما فيها من هذه الثمار التي هي من أشرف وأعلى ثمار جنان الأرض، ثمرة النخيل؛ التمور والرطب، التي هي دواء في الأدوية وشراب في الأشربة وطعام في الأطعمة، وكذلك ما فيها من هذه سهولة الحفظ وسهولة النقل مع ما فيها من هذه القيمة العظيمة، والنخيل كل ما فيها نافع حتى نواها، جريدها، سعفها، جذوعها، والأعناب؛ ثمرات العنب، وذكر الأعناب لأنها أشكال وألوان وأصناف، وهي كذلك من أشرف وأعلى ثمار الأشجار في هذه الأرض، ثم قال -جل وعلا- {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، يعني المختلفة الأنواع والطعوم والأشكال، الفواكه الكثيرة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، إن في ذلك؛ في خلق هذا، إنزال المطر على هذا النحو وإخراج هذه الزروع والثمار على هذه النحو، آية لكن لقوم يتفكرون، حصر الله -تبارك وتعالى- أن هذه الآية علامة، أولًا على قدرة الرب -تبارك وتعالى- وإنعامه وإفضاله على خلقه -جل وعلا-، لكن لقوم يتفكرون؛ يعملون فكرهم في هذه الآيات.

ثم قال -جل وعلا- {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، هذا تسخير دائم لكم أنتم المخاطبون اللي هم الإنسان؛ معشر الإنسان، لكم الليل والنهار؛ وجريان الليل والنهار على هذه الأرض لازم وضروري لحياة الإنسان ولا حياة لإنسان دونه، فإن في الليل بسواده وبرودته وظلمته يكون السكون والراحة؛ راحة الإنسان وإحتياجه إلى النوم، ليرتاح ويجدد نشاطه من جديد، وللنهار بحرارته وضوئه للنشاط وللعمل وللكسب، فهي تسخير، ولابد أن يكون على الأرض ليل ونهار وإلا لم تكن حياة، لو كانت ليلًا أبديًا لتجمدت الحياة ولم تكن ثمة حياة، أو نهارًا أبديًا إنتهت الحياة على الأرض، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، تسخير الشمس؛ تذليلها وتعبيدها للرب -تبارك وتعالى-، وإقامتها فيما أقامها الله -تبارك وتعالى- فيه، يعني خدمة لهؤلاء الخلق، ما في هذه الشمس من الحرارة ومن الضوء ومن الإشراق، والقمر تابع لهذه الأرض والذي له من المنافع العظيمة للأرض منافع عظيمة جدًا لا يمكن الإستغناء عنها، فتقديره منازل للسنين والحساب وليعرف الإنسان حساب أيامه على هذه الأرض، وهو ببهائه وجماله أنس ومتعة لأهل الأرض، ثم هو بجذبه في حال دورانه حول الأرض المياه من مكان إلى مكان، فيحصل بهذا المد في مكان والجزر في مكان ويحصل بهذا عملية تنظيف الأرض، فالبحار كذلك هي مغسلة هذه الأرض، وحركة المد والجزر فيها حركة عظيمة للحياة ولهضم ما يبتلعه البحر مما يبتلعه من قازورات الناس، فأمر عظيم فهذا تسخير من الله -تبارك وتعالى- أن سخر الشمس والقمر، {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}، النجوم في السماء مسخرات في أماكنها بأمره -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، إن في ذلك؛ في تسخير كل هذه، آيات؛ الأية العلامة، علامات على قدرة الرب -سبحانه وتعالى- وأنه الرب العظيم، هذي آية من يستطيع أن يوضع الشمس في مكانها والقمر في مكانه ويجري الليل والنهار على هذا النحو؛ على الأرض على هذا النحو، إن هذا لا يستطيعه إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى-، ثم يفعله يعني يحتاج إلى قدرة، يحتاج إلى علم، أن هذا بقدرة الرب، بعلمه -سبحانه وتعالى-، برحمته بخلقه، بحكمته وضع الأمور كلها في نصابها، فإنه لو تغير شيء من هذه عن أماكنه لما كانت حياة، ولما كان هذه البقاء الذي نحن فيه، ولكن هذه الآيات محصورة قال {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، يعملون عقولهم فيها.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ........}[النحل:13]، وما ذرأ لكم؛ ما خلق لكم وبث لكم في الأرض، مختلفًا ألوانه؛ من الجماد ومن الحيوان ومن النبات أشياء مختلفة الألوان والأشكال، ذرأها؛ خلقها وبثها -سبحانه وتعالى-، فدواب في الأرض من كل الأشكال والألوان، وجمادات في الأرض جبال مختلفة الأشكال والألوان، نقطع من هذه الجبال من أحجارها مختلفة الأشكال والألوان، رخام نقطعه مختلف الأشكال والألوان، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[النحل:13]، التذكر؛ إستحضار هذا الأمر والنظر فيه وبالتالي نسبته إلى ربه وخالقه -سبحانه وتعالى-.

ثم كذلك من إنعامه -جل وعلا- قال {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، سخر البحر؛ ذلَّله، قال {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}، فبيَّن أن هذي هدفه وغايته والحكمة منه، شوف المنفعة هذي الكبيرة يعني أنها من تسخير الرب -تبارك وتعالى-، وليأكل الناس منه لحمًا طريًا على مدى هذه العصور والدهور، يستخرج الإنسان من البحر من هذه الأسماك طعام أكثر من نصف سكان الأرض وأكثر من ذلك كلهم من هذا البحر، وهو بتسخير الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان لا يكلأ حيوانات البحر، لا يكلأ حيتانه وأسماكه ولا يرعاها ولا يقدم لها أي نوع من المجهود ليبقيها على ما هي عليه، بل هذا قد أقامه الله -تبارك وتعالى- بأسباب منه وحده -سبحانه وتعالى-، وسخر هذا البحر هذا التسخير ليكون فيه هذه الثروة الهائلة جدًا من السمك ليأكل الإنسان منه، الإنسان ما عليه إلا أن يغرف من ذلك ويأكل، قال {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، تستخرجون من أصداف البحر ومن شعبه حلية؛ حلي، تلبسونها؛ تتجملون بها، هذه اللآلئ وهذه الجواهر والأحجار الكريمة المستخرجة من البحر، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}، تنظرون الفلك؛ السفن، مواخر تمخر عبابه من طريقه من جانب إلى جانب ومن مكان إلى مكان ومن بحر إلى بحر، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- سخر البحر على هذا النحو لتحمل فيه السفن وهي تحمل أمتعتكم وبضائعكم لتبتغوا من فضله؛ لتبتغوا من فضل الله -تبارك وتعالى- بالتجارة والسفر، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يعني أنه أسبغ هذه النعم وسخر ما سخر من هذه النعم العظيمة لعلكم تشكرون الله -تبارك وتعالى-، لعل للعبد ليست ترجي هنا للرب -تبارك وتعالى- وإنما الترجي هنا بحسب العبد، يعني أن العباد لعلهم إذا وقد خلق الله -تبارك وتعالى- لهم ذلك وذرأ لهم ذلك وسخر لهم ذلك أن يشكروا نعم الرب -تبارك وتعالى- عليهم، والشرك لا يكون أولًا إلا بإعتراف القلب، أولًا يعترف القلب بأن هذه نعمة الله، هذا خلق الله، هذا هو أولًا، ثم الشعور بالإمتنان والفضل الذي هو من الله -تبارك وتعالى- للإنسان، فالعلم أن الله خلقها، الشعور بأنه خلقها منه رحمة وأن هذا إمتنان منه وأن العبد يشعر بهذه المنة وهذه النعمة وأنها فضل الله عليه وعلى البشر على هذا النحو، الأمر الأخر أن يقوم بحق شكر هذه النعمة، لا يقوم بذلك إلا بطاعة الرب -تبارك وتعالى- والسير في مرضاته وألا يسخر شيئًا من هذه النعم في معاصي الرب -جل وعلا-.

ثم وكذلك قال {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ........}[النحل:15]، ألقى الله -تبارك وتعالى- في الأرض رواسي، الرواسي هي الجبال، رواسي هي راسية يعني الشيء الراسي هو الثابت المستقر، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، يعني حتى لا تميد، الميد هو الميل والحركة، يعني حتى لا تميد بكم، فألقى الله -تبارك وتعالى- هذه الرواسي؛ هذه الجبال الراسيات، ليرسي الله -تبارك وتعالى- به الأرض حتى لا تميد في حركتها، وقد يستفاد من هذا أن الله -تبارك وتعالى- لما خلق الأرض قبل الجبال كانت متحركة مضطربة، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أرساها بالجبال، وقد جائت في هذا آثار عن كثير من السلف أن الله -تبارك وتعالى- خلق الجبال وأرساها على هذه الأرض بعد خلق الأرض، فهذا كذلك من نعمه وإفضاله أن هيأ هذه الأرض، بأن تكون ثابتة مستقرة بما ديَّت، بما جعل لها هذه الأوتاد وهي الجبال التي ثبت الله -تبارك وتعالى- بها الأرض، فأصبحت تسير في حركتها حركة كل أربع وعشرين ساعة، كل يوم وليلة تدور الأرض مرة حول نفسها، وتدور مرة حول الشمس أخرى، فهي حركتين مختلفتين ولكنها ثابتة مستقرة لا يشعر الإنسان بأنها تتحرك ولا تهتز قيد شعرة، هذا من إنعام الله –تبارك وتعالى- وإفضاله، قال {وَأَنْهَارًا}، يعني جعل لكم أنهار في هذه الأرض، أنهار مختلفة كذلك من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال من كل الإتجاهات، ليحصل بها الحياة والسقي، {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا}، جعل لكم سبل؛ طرق، في هذه الأرض حتى تسيروا فيها، والسبل هذه تكون بين أودية الأرض وبين جبالها، شعب من هنا وشعب من هنا، حتى يتم للإنسان التنقل بحرية بين جنبات هذه الأرض الواسعة، {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، لعلكم تهتدون في سفركم وإنتقالكم من مكان إلى مكان.

{وَعَلامَاتٍ}، جعل لكم علامات في الأرض، وهي هذه الأمور المختلفة فالجبال ليست بشكل واحد وليست بلون واحد، الأرض كلها ليست كذلك المنبسطة ليست بشكل واحد، هذي أرض صفراء وهذي أرض حمراء وهذه أرض لونها لون التراب والطين وهذه أرض سوداء وهذه أكا مرتفعة وهذه سهول منخفضة، وبالتالي تتميز قطع الأرض بعضها عن بعض فيصبح بهذه علامات هنا وهنا، ولو خلق الله -تبارك وتعالى- الأرض على نسق واحد وعلى شكل واحد لما إهتدى الإنسان طريقه، كالشأن مثلًا في قطعة صغيرة من الأرض في الربع الخالي مثلًا، فإنه لما كانت الأرض متشابهة تمامًا، الكثبان الرملية التي تغطيها هي متشابهة ثم هي متحركة في هذا الشكل نفسه وليست ثابتة فإن الإنسان يضل طريقه، لأنها أصبحت أولًا شكل واحد ثم هذا الشكل كذلك غير ثابت بل هو متحرك، وبالتالي لا يهتدي الإنسان طريقه ويضل، فلا يمكن للبشر أن يعيشوا في مثل هذه الحالة، أما الأرض فإن الله -تبارك وتعالى- وضع فيها وثبت فيها هذه العلامات، قال {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]، علامات يهتدي بها الإنسان عند سيره وسفره وإنتقاله في هذه الأرض الثابتة، وعلامات كذلك في السماء بالنجم هم يهتدون، فجعل علامات في السماء الإنسان يهتدي عند سيره في الأرض وكذلك عند سيره في البحر بالسماء، فإن الله -تبارك وتعالى- قد ثبت فيها نجوم ثابتة غير متحركة، كالنجم الذي يسمى بالنجم القطبي فإنه ثابت في مكانه، فالناس ديَّت، عرف الناس الإتجاهات بوجود هذا النجم، قال {........ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]، يهتدون به وذلك لثباته حركة هذه السماء حوله، عند ذلك يعرف وين هذا النجم موجود، ثم يعرف النجوم ديَّت هذه الثريا تخرج من هنا وتغيب في هذا المكان وفي هذا الوقت وفي هذا ...، فيعرف بها يهتدي بها إلى الأماكن وكذلك يهتدي بها إلى الوقت، فإنه الخبير بالنجوم يعرف وقت الليل ساعة بساعة من النظر في صفحة هذه السماء، {........ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16].

ثم قال -جل وعلا- {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ........}[النحل:17]، سؤال وهذا يأتي في مجال التقرير أو للتوبيخ والتأنيب، فالتقرير لكل ذي عقل وفهم، هل من يخلق كمن لا يخلق؟ كيف يسوي الإنسان بين الرب الإله الذي خلق هذا الخلق كله ومن لا يخلق مما أدعيت له الألوهية، فيجعله كالرب -سبحانه وتعالى- ويعطيه صفات الرب ويعطيه حقوق الرب، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ........}[النحل:17]، كيف تساوون بين الرب الإله الخالق لكل هذا الخلق والذي سخر لكم كل هذه النعم، وهو الذي ذرأها على هذا النحو، وهذا خلق لا يستطيعه إلا هو -سبحانه وتعالى-، وبين ما لا يخلق شيئًا، ما خلق أي شيء لا خلق نفسه ولا خلق غيره، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17]، يعني أليس هناك، أفلا هناك؛ أليس هناك يعني مجال ووقت لتحصل الذكرى، والذكرى هو إعمال العقل وإعمال الفهم، والتمييز والتفريق بين الإله الحق وهذه الآلهة الباطلة، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، موعظة الرب لكم وخطاب الرب لكم وأنه ربكم وإلهكم خالق كل هذه النعم -سبحانه وتعالى-، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18]، وإن تعدوا؛ تحصوا، نعمة الله لا تحصوها؛ لا يمكن أن تأتوا بآخرها، إحصاءًا نهائيًا فتقولوا هذا هو حصر هذه النعم، لا تحصوها؛ لا تحصروها جميعًا في عدد محدد وتقولوا هذه هي النعم، وهذا لا يمكن، فإن هذه النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- منها هذه النعم؛ نعم ظاهرة، فالشمس مثلًا نعمة ظاهرة والقمر نعمة ظاهرة وخلق اللسان والعينان نعمة ظاهرة، لكن ثمة نعم باطنة ما يعلمها الإنسان، فإن من أسرار خلق هذه الشمس وهي على هذا النحو فيه نعم باطنة كثيرة لا نعرفها، ونعم في القمر ما نعرفها ونعم في أنفسنا نحن، نحن نعرف العين مثلًا والأذن أنها نعمة، لكن ما هو باطن في هذا الخلق، ما هو من نعم الله -تبارك وتعالى- الخفية فينا نحن أمر أكبر وأجل وأعظم من أن نأتي حصرًا له، من كان يعرف مثلًا قبل مدة ما يسمى بمكونات الدم على هذا النحو، وأن بعض هذه المكونات على طول تتسابق في لئم الجرح، وبعضها في غذاء هذا الجسم، من كان يعرف ما يسمى بجهاز مناعة، جهاز كامل له مركز وله مواقع متفرقة في الجسم وله جهاز مناداة وله عمال نشيطون؛ جنود، جيش كامل له قيادة مركزية يهاجم الأمراض التي تهاجم الجسم وينظم عملية الحرب لها، هذه كانت نعمة عظمى على الإنسان لولاها لا يستطيع الإنسان البقاء في هذه الأرض، مع هذه الجيوش الهائلة من الأعداء التي تلاحقه من الجراثيم والفيروسات وغيرها، فالله -تبارك وتعالى- يبين هذي نعمة من النعم خفية، ثم ما خفي علينا من هذه النعم أعظم مما هو ظاهر، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، وإن تعدوا نعمة الله؛ نعم الله، لا تحصوها؛ لا يمكن أن تحصروها جميعًا وتقولوا هذي هي النعم، ثم ختم الله –تبارك وتعالى- هذا بقوله {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، إن الله -سبحانه وتعالى- لغفور رحيم، فإن هذا الإنسان بحق شكر هذه النعم يبقى مقصرًا، لا يستطيع أن يحصر نعم الله عليه ولا ديَّت، والله -تبارك وتعالى- يغفر له، يغفر له ويرحمه، وطبعًا مغفرة الله -تبارك وتعالى- ورحمته ليست للجحود المكابر، ولكن لهذا الإنسان المقصر الذي مهما قام به من شكر ومن عبادة لله -تبارك وتعالى- فإنه لن يؤدي ...، لن يكافئ الله -تبارك وتعالى- ولن يؤدي حق نعمه كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-، ويقابل الله -تبارك وتعالى- ذلك بالمغفرة والرحمة {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.

ثم جاء في مقام التهديد للكفار فقال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النحل:19]، يعني إعلموا أن الرب الإله الذي خلق هذا الخلق كله وأنعم عليكم بهذه النعم هو يعلم ما تسرون؛ تخفونه، السر هو الإخفاء، وما تعلنونه؛ تظهرونه، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[النحل:20]، والذين يدعون؛ يعني الذين يدعونهم من دون الله، من كل ما يدعى ملائكة كانوا أو بشرًا أو جمادًا أو نباتًا أو أي إله إدعيت له الإلوهية باطلًا، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ........}[النحل:20]، فإن الله -تبارك وتعالى- هو المتفرد بالخلق وحده -جل وعلا- {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، هم؛ كل ما أدعيت له الإلوهية، هم قد خلقهم الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النحل:21]، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون؛ من هذه الآلهة الباطلة، أموات؛ إما أنهم جمادات، هذه الأصنام ديَّت، أو من هؤلاء البشر الذين ديَّت هم أموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون؛ فإن البعث لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، ولا يشعر هؤلاء الذين ماتوا ممن يدعون من دون الله الوقت الذي يبعثهم الله -تبارك وتعالى- فيه، فإن الله غيب علم يوم القيامة عن كل أحد -سبحانه وتعالى-، {........ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النحل:21].

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، تعقيب على هذا، {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن الإله إلهكم يعني معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه إنما هو إله واحد، وهو الله -سبحانه وتعالى-، هذا إخباره هو حق، وهذا الإخبار هو فيه أمر يعني لا تألهوا إلا هذا الإله الواحد، لأنه لا خالق إلا هو وكل ما عبد من دونه فهو لم يخلق شيئًا وهو مخلوق، وبالتالي فهو إلهكم إله واحد هو هذا الإله الذي خلق لكم كل شيء والذي خلقكم -سبحانه وتعالى-، {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، هو الرب الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {........ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[النحل:22]، {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النحل:23]، تهديد لهم، {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، لا يؤمنون بالآخرة، لا يؤمنون بالحياة الآخرة وأنهم مبعوثون بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى-، {قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ}، نسب الله -تبارك وتعالى- الإنكار إلى القلوب لأن القلب هو محل العقل والتفكير، منكرة؛ لهذا الأمر، منكرة لأن الإله الذي يستحق الألوهية هو الإله الواحد هو الله -سبحانه وتعالى-؛ منكرة لهذا، منكرة لإنفراد الرب -تبارك وتعالى- بالألوهية، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}، وهم مستكبرون؛ بهذه الجملة الإسمية تدل على أنهم هم غارقون في هذا الإستكبار، مستكبرون؛ متكبرون، يتكبرون على عبادة الرب -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- مهددًا لهم {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النحل:23]، لا جرم؛ لا شك، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، يعني هؤلاء المستكبرين عن عبادة الرب -تبارك وتعالى- الله -تبارك وتعالى- يعلم ما يسرونه؛ يخفونه، وما يعلنونه، إنه؛ الرب -جل وعلا-، {لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}، يبغضهم ويمقتهم -سبحانه وتعالى-، الذي يستكبرون على عبادته مع أنه هو الرب، هو خالقهم وهو الذي أقام لهم كل هذه النعم.

نقف عند هذا ونأتي إلى سياق هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.