الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (318) - سورة النحل 23-32

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[النحل:22]، {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النحل:23]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[النحل:24]، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[النحل:25]، {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:26]، بعد تلك المقدمة الطويلة في سورة النحل وبيان ما إمتن الله -تبارك وتعالى- به على خلقه من هذه النعم العظيمة التي خلقها لهم، وفي ختامها قال -سبحانه وتعالى- {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17]، ليعقل الخلق المقارنة بين ما يدعونه من دون الله ويجعلونه إلهًا من دون الله وبين الله الرب الإله على الحقيقة، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، فإن الإله لا يكون إلا خالقًا، رازقًا، مالكًا لمعبوده، متصرفًا فيه، يملك نفعه وضره، وهذا لا يملكه إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأما كل ما أدعيت له الإلوهية فإنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؛ فضلًا عن أن يملكه لغيره.

بعد هذا أخبر الله -تبارك وتعالى- يخبر الله عباده إخبار وإلزام وكذلك أمر بأن يعبد هذا الإله وحده -جل وعلا-، قال لهم {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، يعني إعلموا هذا، إعلموا أيها الخلق والبشر المخاطبين بهذا القرآن، إعلموا أن إلهكم الذي يجب أن تألهوه وتعبدوه هو إله واحد، لأنه لا إله غيره في هذا الكون؛ هو الإله وحده، إذ هو الخالق وحده والرب وحده والمتصرف وحده، هو مالك الملك -سبحانه وتعالى-، لا يملك غيره لنفسه نفعًا ولا ضرًا مهما كان، من جبريل، من حملة العرش، من العرش، من الكرسي، من السماوات، من الأرض، من الجن، من الإنس، كل هذه المخلوقات لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا إلا بإذن خالقها وبارئها -سبحانه وتعالى-؛ فضلًا عن أن تملكه لغيرها، {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، قال -جل وعلا- هذه الحقيقة الكبرى {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ}، الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ لا يؤمنون بأن هناك يوم قيامة، يحاسبون فيه بين يدي الرب -سبحانه وتعالى- عن هذه الحقيقة، قلوبهم منكرة لهذه الحقيقة، ونسب الله -تبارك وتعالى- الإنكار إلى القلوب لأن القلب هو مكان العقل ومكان الفكر، فالإنكار نابع من قلوبهم، والإنكار هو جعلهم هذا الأمر منكر غير معروف، أنكروه بمعنى أنهم أبغضوه وكرهوه وأبعدوه عن أنفسهم، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}، أن يعبدوا الإله الواحد -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ........}[النحل:23]، وهذا فيه تهديد وكذلك تطمين لأهل الإيمان بأن ما يفعله هؤلاء المجرمون المحادون لله، الكافرون به، الجاحدون له، هذا أمرهم كله عند الله -تبارك وتعالى-، {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ}، يخفون، {وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}، لهؤلاء المشركين، {........ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[النحل:24]، هذه مقالة الكفار الذين جائهم هذا القرآن، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ........}[النحل:24]، ما الذي أنزله الله إذن من السماء على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم- هذا القرآن، قالوا مجيبين {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، أساطير جمع أسطورة، والأولين؛ الذين سبقوهم، يعني أنها كتابات ناس سابقين، كتبوا هذه الكتابات والنبي أمليت عليه، أخذها، نقلها، وصلت إليه بطريق ما، {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، كلمة تدل على الجهل والكفر والعناد وإلا فلا أي نوع من قرينة أو دليل يدل على مثل هذا القول، وإنما هو قول قالوه هكذا، إنما هو بالظن والتخمين والقصد هو دفع الحجة والبرهان النازل لهم من السماء، التي جاء بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}.

قال -جل وعلا- {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، لام العاقبة، يعني عاقبة قولهم هذا أن يحملوا أوزارهم، أوزار جمع وزر، والوزر هو الذنب، يعني ذنوبهم كاملة يوم القيامة، كل قول قالوه في هذا وكل عناد فعلوه في هذا الأمر فإنهم يصبح وزر وسيحملوه كامل يوم القيامة، ثم {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، كذلك يحملوا من أوزار وليس أوزار، من أوزار الذين يضلونهم بغير علم، الذين إتبعوهم في هذه المقالة فضلوا بهذا وأخذوها منهم، وخاصة أن كان الذي قائل هذه المقالة إنما هم من كبار القوم ومن المتبعوين، وإتبعهم الرعاع والدهماء في مقالتهم دون أيضًا تبين وتفكر، فهؤلاء الكبراء الذي إخترعوا هذه المقالة الباطلة فقالوا عن القرآن بأنه أساطير الأولين، سيحملوا وزر أنفسهم ثم سيحملوا وزرًا كاملًا مساويًا لوزر كل من إتبعهم في هذا الأمر، قال -جل وعلا- يحملوا {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، بغير علم؛ لأن هذه المقالة لا تستند إلى أي علم، قال -جل وعلا- {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، ألا فليعلم الجميع ساء ما يزرون، أمر سيئ جدًا الذي يزرونه، يعني هي أوزارهم هذي التي سيحملوها يوم القيامة يعني وزر في غاية السوء، وذلك أنه حمل ثقيل يبقى هذا الحمل على ظهورهم وهم في النار ملازمًا لهم ملازمة لا تنفك، فهذا يحمل وزره ويأتي به يوم القيامة ووزره خلاص أصبح مرتبط به، وإرتباطه به ديمومة في جهنم -عياذًا بالله-، {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- بأن لهم سلف في عنادهم وكفرهم واستكبارهم، قال -جل وعلا- {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:26]، {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي برسلهم، ومكرهم هو طبعًا من إظهار خلاف ما يبطنون، هؤلاء عرفوا أن القرآن هو كتاب الله ولكن قالوا عنه أساطير الأولين؛ مكر، حتى يضلوا غيرهم عن هذا الدين ويضلوا بأنفسهم، نفس الأمر فعله الملأ من كل قوم من الكفار؛ عرفوا الحق، عرفوا الحق أنه مع الرسل الذين جائوهم ولكنهم ردوه وصدوه، ثم مكروا بصنوف المكر ليصدوا الناس عن سبيل الله، فهذا قد فعله من فعله، من أكبر من فعله فرعون الذي قلب الحق باطلًا، فبعد وضح الحجة للجميع قال للسحرة الذين هو أتى بهم واستأجرهم وواعدهم بما واعدهم به، قال {........ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:123]، {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ........}[الأعراف:124]، إتهمهم بأنهم قد تواطئوا على هذا الأمر هم وموسى معهم، وقالوا عن موسى وهارون {........ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}[طه:63]، علمًا أن موسى إنما جائه ليقول له أرسل بني إسرائيل معي ليخرجوا من أرض مصر، قال -جل وعلا- {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}، أتى الله بنيانهم من القواعد، أتاه بمعنى أنه أهلكه، وإذا أهلك البنيان ودمر البنيان من قواعده فلا بقاء لحيطانه وسقوفه وطبقاته؛ يخر، ينتهي، {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}، أتاه من القواعد بمعنى يعني حطمه من قواعده، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ}، والخرور هو النزول بشدة، خر عليهم السقف يعني عندما هزت القواعد وقع السقف عليهم، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}، عذاب الرب -جل وعلا-، العذاب عقوبة الرب التي عجلها لهم، من حيث لا يشعرون؛ من حيث لا يظنون، وذلك أن هذا الإنسان الذي يعاند ربه ضعيف، وهلاكه يعني بأي سبل إهلاك الله -تبارك وتعالى- له بأي شيء، يزلزل الله الأرض التي هو عليها، يسقط عليه أجزاء من السماء التي فوقه، يحتر عليه الجو فيخنقه، يذهب بمائه فيغوره، ما الحصن والمانع الذي يستطيع أن يمنع الإنسان الكافر من عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، فيأتيه العذاب من حيث لا يشعر، من حيث لا يشعر أين سيأتيه العذاب فيأتيه العذاب، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}، هذا في الدنيا.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ}، الخزي الأكبر، الخزي هو الشعور بالندم والخيبة والخسار والدمار، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ}، وذلك بفضحهم على الرؤوس؛ على رؤوس الأشهاد، وبجرجرتهم وسحبهم إلى النار -عياذًا بالله- مخزيين، منكسي الرؤوس، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ}، هذا إظهار خزيهم، {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}، سؤال يراد به إخزائهم وبيان خيبتهم وخسارهم في الآخرة، يقول لهم الله {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}، وينهم؟ أين هم؟ {شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}، شركائي الذين إدعيتم أنهم شركائي، الذين كنتم تشاقون فيهم؛ تجعلوهم في شق الرب -سبحانه وتعالى-، بمعنى أنكم تحاربون الرسول وتقولون لا، هذه آلهة وهذه لها الحق ولها ولها ولها ...، مما يدعونه لآلهتم وصفًا أو عبادة أو حقًا لهم، الله يقول لهم وين؟ أي هم هؤلاء الشركاء الذين كنتم تشاقون فيهم الرسل، يعني تجعلون أنفسكم في شق مقابل دعوة الله -تبارك وتعالى- لكم بتوحيده وعبادته، قال -جل وعلا- {........ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[النحل:27]، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، وأوتوا؛ أعطاهم الله -تبارك وتعالى- علم هذا بالبناء ديَّت، علم؛ العلم الحقيقي، علم هذا الدين، علم التوحيد، علم الإيمان وآمنوا بالله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}، بالأمس كانوا يظنون أنهم العزة ويعتزون بما عبدوه من دون الله، وأن هذا هو الحق وهو الصواب وهو الخير وهذه هي الطريقة المثلى وهذه هي الآلهة، وإنتفشوا بهذا وقاموا بهذا وأما اليوم فهم مستسلمون، ويرون أن آلهتهم لم تنفعهم شيئًا ويرون أن هذه الآلهة التي إعتصموا بها ونصروها وقاموا ديَّت لا وجود لها الآن، لا وجود لها لتحميهم، لتدركهم، فعند ذلك لا جواب منهم، إنما يتكلم أهل العلم فيقولون إن الخزي اليوم يظهر خزي هؤلاء، {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ}، يوم القيامة، {وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}، هذا حالهم يوم القيامة لكن حال خروجهم.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حال خروجهم من هذه الدنيا، قال -جل وعلا- {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:28]، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، هذا الذين تأخذوا الملائكة؛ ملائكة الرب –تبارك وتعالى- أرواحهم، التوفي هو الوفاة أخذ الروح ونزعها للموت، وسميت الروح وفاة لأنه توفية الأخذ؛ أخذ هذا وافيًا، الذين تتوفاهم الملائكة بس حال كونهم ظالمي أنفسهم، ظالمي أنفسهم جملة حالية هنا، ظالمي أنفسهم بالكفر والشرك، ماتوا على الكفر والشرك، {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ}، يعني خلاص عندما يعاينون الهلاك والموت وحقائق الآخرة يلقوا السلام، {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ}، يعني الإستسلام، خلاص ما أصبح لهم مجادلة ولا معاندة ونشيد يرفعون نشيدهم بآلهتهم... لا، وإنما خلاص يستسلموا للأمر ويعلموا أن كل خلاص، تبين لهم أن كل الذي كانوا فيه إنما هو من التغرير والباطل، ثم يبدأوا بالإنكار يقولون {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، ما كنا نعمل من سوء هذا من خيبتهم وخسارهم ودمارهم أنهم خلاص يتبرأون من عملهم السابق، {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، أي سوء، سوء ما، علمًا أنهم قد عملوا السوء كله، من الشرك بالله -تبارك وتعالى- إلى ما تولد عن هذا الشرك من المعاصي والذنوب، {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، قال -جل وعلا- {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، بلى يعني قد عملتم السوء، هذي تنفي هذا النفي فهي تثبت، تثبت أنهم قد عملوا السوء، {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، لا تظنوا أن ما عملتموه قد خفي على الرب -سبحانه وتعالى-، بل الله -تبارك وتعالى- عليم بكل أعمالكم.

{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ........}[النحل:29]، نادى فيهم بعد ذلك وهذا أمر بالدخول، {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ........}[النحل:29]، أبواب جهنم اللي هي السبعة لكل باب منهم جزء مقسوم، {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، ومعنى خالدين فيها -عياذًا بالله-؛ ماكثين فيها مكوثًا لا ينقطع، بئس للذم، مثوى؛ مكان الثواء، اللي هو مكان الإقامة والراحة والهدوء، ثوى في المكان بمعنى أقام به وارتاح فيه وسكن فيه، ولا شك أن هذا ليس مكانًا للراحة والهدوء والطمأنينة، إنما هو مكان للبقاء ولكن بقاء في النار، فبئس أن يكون هذا مكانًا يبقى الإنسان فيه هذا البقاء السرمدي وهو في هذا المكان الموحش بكل الذي فيه، كل أسباب الموت قد إجتمعت فيه ولا يموت ساكنه، يموت أسباب الموت من النار ومن المقامع ومن الحميم الذي يصب من فوق رأسه، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}، {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج:20]، {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، فيأتيه الموت من كل هذه الأسباب وما هو بميت، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}، يتكرر ويتنوع له العذاب أبدًا في هذا المكان، {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، هذه صفحة هؤلاء الذين عاندوا هذا القرآن وعاندوا توحيد الله -تبارك وتعالى-، وقالوا ليس هذا القرآن كتابًا من عند الله وإنما هو أساطير الأولين.

الصفحة الثانية؛ صفحة أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا}، {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}، قيل لهم؛ سئلوا عن هذا في الدنيا وفي الموت، سئلوا عن هذا القرآن في الدنيا ما الذي ديَّت، ما الذي أنزل الله -تبارك وتعالى-؟ ماذا عند محمد -صل الله عليه وسلم-؟ {قَالُوا خَيْرًا}، خيرًا تشمل كل خير نزل به هذا الكتاب، يعني أن هذا الكتاب لم ينزل إلا بالخير، لم ينزل إلا بالخير فقد نزل بالنور وبالهداية وبالتوحيد، بالهداية إلى صراط الرب -سبحانه وتعالى-، {قَالُوا خَيْرًا}، قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، هذا جزاؤهم، للذين أحسنوا؛ بالإيمان والعمل الصالح، استقاموا على أمر الله، عملوا العمل الحسن، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، حسنة في الدنيا؛ يعني أجر حسن في هذه الدنيا، من أن يمتعهم الله -تبارك وتعالى- بالطمأنينة والراحة وراحة القلب، وإطمئنانه إلى أن هذا الطريق الذي إختاره هو طريق الرب حقًا وصدقًا، فيطمئن قلبه لذلك بما يمتعه الله -تبارك وتعالى- من الطيبات؛ بالحياة الطيبة، الحياة الطيبة التي هي حياة المؤمن وإن كان فيها ما فيها من الإبتلاءات والمحن، فإن هذه الإبتلاءات جزء من هذه الحياة الطيبة لأنها تكفير لسيئاته، رفع لدرجاته، تثبيت له، ليس له إلا لخير، فكل ما يلقاه المؤمن في هذه الدنيا خير من الله -تبارك وتعالى-، حتى وإن كان في ظاهره شر لكن هو في حقيقته خير، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، أي من حسنة هذه الدنيا، فمهما أعطى الله -تبارك وتعالى- المؤمن في هذه الدنيا من خيراتها وثمارها وبهجتها زينة هذه الدنيا، فإن ما يلقاه عند الله -تبارك وتعالى- أعلى وأفضل من هذا بكثير، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، الجنة، دار الآخرة؛ الدار الآخرة، خير؛ وهي الجنة، خير من هذه الدنيا، {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}، نعم؛ للمدح، دار؛ سماها الله الجنة دار المتقين، المتقين؛ الذين اتقوا الله -تبارك وتعالى-؛ خافوه، جعلوا في هذه الدنيا وقاية بينهم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، وذلك بالإيمان بالله -جل وعلا-، طاعة أمره فيما أمرهم به وفي الإنتهاء عما نهاهم -سبحانه وتعالى- عنه، فهؤلاء هم المتقون {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.

وصف لهذه الدار، قال -جل وعلا- {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، هذه دار المتقين جنات عدن، جنات؛ بساتين، جنات جمع جنة والجنة هي البستان الذي إلتفت أغصانه، حتى أن من دخل فيه يجنه؛ يعني يستره، جنات عدن؛ عدن إقامة، ما في رحلة ولا إنتقال، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاتَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار}، هذا تأكيد من الله -تبارك وتعالى- أنهم سيدخلونها، تجري من تحتها؛ من تحت أشجارها ومن تحت قصورها، الأنهار؛ المختلفة، من الماء واللبن والعسل والخمر، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}، لهم في هذه الجنة ما يشاؤون، كل ما يخطر على بالهم ويتمنونه يتحقق، حتى وإن كان أمر ما هو موجود أو هم يدعونه، لو كان كذا فيكون، كل ما تشتهيه أنفسهم موجود، مما زخره الله -تبارك وتعالى- لهم مما عرفوه في هذه الدنيا فهناك مثيله من خيراتها، ومما لا يعرفوه ولم يخطر على بال بشر قط يوجده الله -تبارك وتعالى- لهم كرامة لهم، ومما قد يخطر على بالهم نوع من المتعة فيكون، {........ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}[النحل:31]، كهذا الجزاء، كذلك الجزاء بهذه الصورة، أنهم وإن كانوا عملوا في الدنيا عملًا قليلًا لكن يجازيهم بهذا الجزاء العظيم، جنات عدن، إقامة دائمة ما لمئة سنة ولا لمائتين ولا لألف ولا لألفين ولا عشرة آلاف ولا مئة ألف ولا مليون... لا، هذا بقاء سرمدي لا إنقطاع له في هذا المتاع الدائم دون أدنى ما ينغص الخاطر، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ما في لغو، ولهم فيها ما يشاؤون وما يشتهون بإقامة دائمة، هذا جزاء ما شيء فوق التصور وفوق الخيال، بس {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}، كهذا الجزاء الكبير يجزي الله، لأنه الله هو الذي يجزي -سبحانه وتعالى-، لأن هذا الجزاء وهذا الأجر الذي أخذوه لعملهم هذا من الله، هذا جزاء الله -عز وجل-، ممكن أن نقول بأن من يعمل عمل لإنسان وكريم، غني، يقوم يعطيه، لكن مهما كان المجازي في الدنيا يجازي من يأتمر بأمره أو يصنع له عمل أو خدمة لكن لا يمكن مقارنة جزاء غير الله بجزاء الله -سبحانه وتعالى-، هذا جزاء الله الرب الإله الغني -سبحانه وتعالى- الجواد الكريم، فهذا العطاء على هذه الصورة عطاء الجنة والبقاء فيها؛ البقاء السرمدي، هذا عطاء الله؛ جزائه -سبحانه وتعالى-، الله يقول {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}، المتقين الذين خافوه وآمنوا به كهذا الجزاء يجزيهم الله -تبارك وتعالى-.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32]، هذي الخاتمة، هذه الخاتمة، فهؤلاء من هؤلاء؟ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ}، فمن توفته الملائكة، من جائه الوفاة وجائه الملائكة لأخذ روحه وهو من أهل الطيبة، طيبين؛ يعني حال كونهم طيبين، لأن المؤمن طيب والكافر خبيث، نجس هذا، كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، فالذين تتوفاهم الملائكة طيبين؛ يعني على الإيمان وعلى العمل الصالح؛ هذه الطيبة، {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ}، تقول لهم الملائكة سلام عليكم، عند أخذ أرواحهم وعند خروجهم من القبر وعندما يدخلون إلى جنة الرب -تبارك وتعالى-، يقولون لهم سلام عليكم؛ يعني أيها المؤمنون، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، ادخلوا الجنة؛ هذا تكريم بالدخول، الجنة؛ جنة الرب، بما كنتم تعملون؛ بما هنا سبب، يعني بسبب عملكم، بسبب أنكم عملتم هذه الأعمال الطيبة وكنتم طيبين دخلتم الجنة، بما كنتم تعملون؛ فهذه الأعمال الطيبة، تقوى الله -تبارك وتعالى- ورضوانه والسير في طاعته كانت هي السبب التي أدخلهم الله -تبارك وتعالى- بها الجنة، وهذا فيه دليل على أن دخول الجنة لا يكون إلا بالإيمان والعمل الصالح، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ثم بعد ذلك يوجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى الكفار ماذا ينتظرون، بعد وضوح الحجة والبيان ما الذي ينتظره الكافر من الرب -تبارك وتعالى- بعد كفره وعناده، وهذا نأتي إليه في الآيات الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.