الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (319) - سورة النحل 33-42

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين،سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[النحل:33]، {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[النحل:34]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- المصير والمآل الذي سيئول إليه الذين آمنوا به، وإعتقدوا أن هذا القرآن كتابه -سبحانه وتعالى- وهو منه، وآمنوا بهذه الرسالة التي أرسل بها النبي، وكذلك مصير الذين قالوا بأن هذا القرآن أساطير الأولين وأنهم لم يؤمنوا به، بيَّن الله -تبارك وتعالى- حالهم، قال -جل وعلا- مخاطبًا الكفار {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، يعني ماذا ينتظر الكافر المعاند لأمر الله -تبارك وتعالى- بعد وضوح الحجة والبيان والدلالة، هي ينظرون؛ يعني ينتظرون من الإنتظار، إلا أن تأتيهم الملائكة؛ أي لقبض أرواحهم، وهذا أمر حتمي لابد أن يكون، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}، بإهلاكهم، أو يأتي أمر الله -تبارك وتعالى- كما صنع الله -تبارك وتعالى- بالأمم السابقة، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، كذلك فعل الذين من قبلهم يعني ظلوا على التكذيب والعناد للرسل ورد أمرهم حتى أتاهم أمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، عندما أهلكهم بما أهلكهم به لم يكن الله -تبارك وتعالى- ظالمًا لهم، وإنما وقع عليهم ما يستحقون بعد هذا الكفر والعناد، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، كانوا؛ أي هؤلاء الكفار السابقين الذين أهلكهم الله، أنفسهم يظلمون؛ يظلمون أنفسهم، وقدم أنفسهم هنا لبيان أن الظلم الذي وقع منهم محصور في أنفسهم يعني لم يظلموا الله -تبارك وتعالى-، فإن الله لا يضام جانبه -سبحانه وتعالى-، ما أحد يستطيع أن يضر الرب -تبارك وتعالى-، ولو كفر كل أهل الأرض فما كان هذا بضار للرب -تبارك وتعالى-، فالكافر إنما كفره على نفسه وظلمه الذي ديَّت؛ هو ظلمه لنفسه، ظلم نفسه بأن حرمها من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والدخول إلى رضوانه وجنته، حرمها وصرفها إلى هذا الطريق المظلم؛ فكان ظلمه لنفسه، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، فالذي وقع عليهم من عقوبة الرب هو بسببهم وإلا هم لو جانبوا هذا الباطل وأخذوا طريق الحق لأنجى نفسه ونفع نفسه بهذا.

قال -جل وعلا- {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}، أصابهم؛ الأقوام السابقة، سيئات ما عملوا؛ الذي عملوه أصابتهم سيئاته، الجزاء هذا السيء الذي وقع لهم، {........ عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[النحل:34]، حاق بهم؛ نزل بهم وأهلكهم، الذي كانوا به يستهزئون؛ العذاب الذي إستهزئوا به، وقالوا لرسوله وين العذاب؟ هات لنا العذاب، فوقع بهم هذا العذاب الذي إستهزئوا به، وهذا وعظ عظيم وتهديد ظاهر للكفار بهذا اللسان العربي المبين، لكن الكافر في عمه؛ الكافر أعمى، ظل كذلك الكفار على عماهم حتى حل بهم نكال الله -تبارك وتعالى-، مات منهم من مات على الكفر، قتل منهم من قتل في بدر وبقي الكافر أعمى على هذا النحو، ومن هداه الله -تبارك وتعالى- فإنه أبصر الطريق.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين فساد كفر هؤلاء، وأقوالهم الشنيعة في الكفر وإحتجاجاتهم الباطلة، فمن إحتجاجاتهم الباطلة إحتجاجهم بأن الذي هم فيه إنما هو مشيئة الرب وإرادة الرب وأمر الرب، قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35]، {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، عبدوا مع الله -تبارك وتعالى- غيره، والذين أشركوا كثيرون، عرب كلهم كانوا مشركين لأنهم كانوا مع إعتقادهم بأن الله خالق هذا الكون إلا أنه لا يعبد وحده، وإنما يعبد معه بناته كما ظنوا؛ الملائكة، ويعبد معه الشمس ويعبد معه هذه الآلهة التي صنعوها من الأصنام تعبد مع الله -تبارك وتعالى-، يستشفع بها إلى الله، يطلب بها المطر، يطلب بها ...، وجعلوا لكل شيء من الأرزاق إلهًا، إله للبن وإله للإبل وإله لكل أمر من أمور الخير، جعلوا له إلهًا يدعونه من دون الله، {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، يعني أن الذي نحن فيه إنما هو مراد الله وأن هذه مشيئته، وهو الذي أقامنا فيما أقامنا فيه، فإحتجوا بأن هذه المقادير الجارية عليهم إنما هي مراد الرب ومشيئته، {نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، وأنه لو شاء أيضًا أن نحرم هذا الذي حرمناه وذلك أن القرآن نعى عليهم تحليلهم وتحريمهم بالباطل وعدم إتباعهم لشرعة الرب -تبارك وتعالى-، قالوا ولا حرمنا من دونه؛ يعني بأنفسنا، وما أخذناه من هذه التشريعات الباطلة من شيء، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، إحتجاجهم بأن هذا الذي هم فيه من الكفر والشرك هو مشيئة الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، يعني الذي إحتجوا بهذا كاذبون، فإن الله -تبارك وتعالى- يأمرهم بأن يستقيموا على أمره وأن يسيروا في منهجه، لم يأمرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الذي هم فيه من الشرك والكفر والعناد، بل إن الله -تبارك وتعالى- قد أمرهم على ألسنة الرسل بأن يتخذوا الطريق إليه -سبحانه وتعالى-، ولا يحاسبهم إلا بما أقدرهم عليه -سبحانه وتعالى-، بما هم فيه من القدرة على فعله، فهم قادرون على الإيمان، قادرون على إتخاذ الطريق إلى الرب -تبارك وتعالى-، ولكن هم الذين إمتنعوا كبرًا وعنادًا عن هذا الأمر، وحالهم كحال إبليس الذي أبى أن يسجد مع قدرته على السجود؛ ولكنه أبى، ثم {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39]، نفس الأمر يحتج به هؤلاء المشركون وكلهم كأنهم على قلب واحد؛ هم ورأسهم في الكفر إبليس، فقالوا {نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي في إحتجاجهم، من أول إبليس والأمم السابقة، قال -جل وعلا- {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، يعني إن الله -تبارك وتعالى- لم يكلف الرسل إلا بأن يبلغوا أقوامهم البلاغ المبين، فيقولوا لهم هذا طريق الرب وهذا صراطه ويبينوا لهم الحق، فمن إتبع هذا الحق نجا، من أصر على كفره وعناده فقد أتاه الهلاك.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فهذي رسالة الله -تبارك وتعالى- واضحة وصريحة ومجملة وظاهرة؛ وكل الرسل قد قالوها، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ}، ولقد؛ يخبر الله -تبارك وتعالى- ويؤكد أنه بعث، إختار وبعث في كل أمة رسولًا، في كل أمة رسول ومنهم، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، كلمتين، جملتان أرسل بهم الرسول، اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، يعني يا قوم كل رسول كان يقول لهم اعبدوا الله؛ أي وحده واجتنبوا الطاغوت، الطاغوت هو إسم فاعل مشتق من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحق، فمن طغى هذه البداية فيصبح طاغي ثم إذا بالغنا قلنا طاغية مع زيادة تاء التأنيث، ثم مع المبالغة يصبح طاغوت بزيادة الواو والتاء، والطاغوت كل من جاوز حده ممن إدعى لنفسه الإلوهية أو إدعيت له الإلوهية من دون الله -تبارك وتعالى-، فالأصنام طواغيت ورأس الطواغيت هو إبليس، لأنه هو أكبر من أتبع من دون الله -تبارك وتعالى- مخالفة لأمر الله، فهو أكبر داعي إلى الشر، فهو رأي كل الطواغيت ورأس كل شر وخطيئة في هذه الدنيا والداعي إليها، فهو رأس الطواغيت، وكل من دعى إلى عبادة نفسه لا شك أنه طاغوت، من شرع بغير تشريع الله -تبارك وتعالى- طاغوت، طاغوت لأنه جاوز حده فإن التشريع لله؛ لله وحده -سبحانه وتعالى-، من قال للناس اعبدوني من دون الله -تبارك وتعالى- أكبر طاغوت، كما في فرعون يقول أنا ربكم الأعلى، فهذه الطواغيت الذين طغوا الطغيان العظيم، فالأمر؛ الله -تبارك وتعالى- أرسل الرسل بكلمتين أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

قال -جل وعلا- {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}، منهم من هداه الله -تبارك وتعالى- ووفقه إلى طاعته وشرح صدره ونور بصيرته عندما إتخذ طريق الرب -جل وعلا-، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}، ومنهم من أصبحت هذه الضلالة عليه حقًا؛ لازمة، وذلك بكفره وعناده وإتباعه للشيطان، حقت عليه الضلالة لأن الشيطان قال للرب -تبارك وتعالى- يوم طرده من رحمته، قال {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}، {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]، فكل من تبع الشيطان وعصى أمر الرب -تبارك وتعالى- فقد حقت عليه الضلالة، أصبحت هذه الضلالة عليه حقًا، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}، قال -جل وعلا- {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، فسيروا في الأرض؛ إمشوا فيها، وانظر كيف كان عاقبة المكذبين؛ الذين كذبوا الرسل وعاندوهم واحتجوا بما يحتج به هؤلاء، إن هذه مشيئة الرب وأن الله أقامنا على هذا النحو، {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، من ثمود القريبون منكم في الحجر، من عاد في جنوب الجزيرة، من قرى لوط، من قوم مدين، من قوم فرعون، انظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء المكذبين، ألم يستأصلهم الله -تبارك وتعالى- ولم يهلكهم وقد كانوا ممكنين وإحتجوا ما تحجون به، انظروا العاقبة الأليمة والسيئة التي إنتهوا إليها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[النحل:37]، يعني بعد هذا البيان المتواصل من الرب -تبارك وتعالى- بكلام الله -عز وجل- النازل إليهم، يعني لا عذر لأحد في أن يترك طريق الرب -تبارك وتعالى- بعد هذا البيان وهذا الوضوح، والنبي -صل الله عليه وسلم- كان من شأنه أنه حريص كل الحرص على أن يؤمن به الناس؛ الناس كلهم، إشفاقًا عليهم -صلوات الله والسلام عليه- ورغبة في أن ينجوا من النار، أخبره الله، الله -تبارك وتعالى- يقول له {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}، كلهم، أن يهتدي الجميع، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}، إعلم أن الله لا يهدي من يضل، يعني إن من يضله الله -عز وجل- فإنه لا يهديه، من كتب عليه الضلالة وأضله، وطبعًا بسبب عناده وبعده عن الله -تبارك وتعالى- فإن الله يضله، خلاص يجعله يستمرئ ويستعذب ويستجمل يعني يصبح هذا الضلال في نفسه جميلًا، خلاص يزين له عمله، {........ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[النحل:37]، وما لهم من ناصرين؛ يعني ينصرونهم من دون الله، مين يقدر ينصرهم من دون الله -تبارك وتعالى- ما دام أن الله -تبارك وتعالى- أضلهم وختم على قلوبهم وأسماعهم، وجعل على بصرهم غشاوة وأضلهم الله بهذا الشكل، لا أحد ينصرهم من دون الله -تبارك وتعالى- فيعيد لهم هذا الذي أخذ منهم، ويهديهم الطريق أن ينقذهم من عقوبة الرب -جل وعلا-، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.

باب أخر من أبواب ضلالهم، يبينه الله -تبارك وتعالى- ويرد الله -تبارك وتعالى- عليه، قال -جل وعلا- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}، انظر يعني الغاية؛ غايتهم في الضلال، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، أقسموا؛ حلفوا، القسم هو الحلف، بالله؛ وهم يؤمنون به ويعظمونه ويرون أنه هو خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، جهد أيمانهم؛ يعني أخر ما في عندهم من الجهد في الأيمان، يعني أقسموا غاية الإقسام، يمين ويمين ويمين ويمين ...، جهد أيمانهم، يعني إجتهدوا فيها، بلغوا نهاية الجهد يبذلونه في القسم، إيش؟ على أي شيء؟ {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}، جملة ينفون بها البعث قط، فهذا يعني تأكيدهم لهذا الأمر تأكيد بالأقسام المغلظة {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}، فانظر هذه القضية الباطلة كل البطلان، بكل أنواع البطلان فيما إحتجوا به، أولًا إستعظامه على الله -تبارك وتعالى-، كيف تستعظم هذا الأمر على الله وأنت تؤمن بالله، تؤمن بأنه هو الذي بدأ الخلق، الذي بدأ الخلق لا يعجزه أن يعيده، هو خلق ما هو أكبر من الإعادة، خلق السماوات والأرض، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ........}[غافر:57]، الموت والحياة عملية كل يوم تكون، في كل لحظة يشاهد موت وحياة، فالله يحيي ويميت ديَّت، فما الذي يدعوا الكافر إلى أن يكذب بالبعث؟! ثم إذا كان الرب الذي خلق هذا الخلق لا شك أنه حكيم عليم، إذن لا يمكن أن يخلق لعبث، لا يمكن أن يفعل هذا عابثًا، لو لم يكن هناك بعث لكانت الدنيا هذي والحياة أكبر أكذوبة، كانت أكذوبة كبيرة ولعبة عظيمة وكان الفائز فيها هو المجرم، الذي كان يفوز فيها هم أهل الإجرام فقط، لأنهم أهل البطش وأهل القوة والذين ظلموا ونهبوا وأكلوا وفعلوا ما شاءوا، ثم بعد ذلك يموتون ولا عقوبة، ويموت الضعفاء والمساكين الذي يسحقون ويهلكون وينالون بعضهم لا ينال من حقه شيء ويظلم، وقد يكون من أهل الإحسان وأهل الخير ثم بعد ذلك هذا لا ينال شيئًا، لا ينيله الله -تبارك وتعالى- شيء، لماذا خلقه الله؟ خلقه الله ليستعبده الكافر وبفعل به ما يفعل هذا الظالم ثم تكون الأمر ينتهي هذا وهذا، فالفائز في هذه الدنيا يكون الفائز فيها القوي الكاسر والظالم الفاجر يبقى هو اللي فاز، هو الذي فاز وهو الذي نال الحظوة وأخذ حظه في هذه الحياة ومات ولا عليه شيء، فالله يقول {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، كيف تحكمون على الله -عز وجل- أن يكون ويقول للكافر {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}[التين:7]، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين:8]، الله هو أحكم الحاكمين، إذا كان أي حاكم في الدنيا مهما كان لا يرضى أن يكون حكمه عبث؛ لعب، لا يجازى محسن على إحسانه ولا مسيء على إسائته ومن يفعل يفعل، ثم بعد ذلك يكون ما في أي مجازاة للمحسن والمسيء، يكون هذا مو حاكم، فكيف ينسب هذا للرب -جل وعلا-! فكل الأمور والبراهين قائمة على أنه لابد أن يكون بعث، بل لو لم ترسل الرسل وتنزل الكتب وعرفنا الله -تبارك وتعالى- معرفة بالعقل فقط، لإهتدى هذا العقل ولألزمتنا ضرورة هذا العقل إلى أن خالق هذا الكون لابد إذا مات الناس على هذا النحو أن يحييهم مرة ثانية، ليأخذ المحسن جزائه والسيء جزائه، لابد يكون هذا، حتى وإن لم يكن هناك خبر إلهي فكيف هناك الخبر الإلهي الأكيد أنه لابد أن يجازي الله -تبارك وتعالى- كل محسن بإحسانه وكل مسيء بإسائته، يستحيل هذا، فهؤلاء الكفار يقسمون بالله الأقسام المغلظة أن لا يبعث الله من يموت، هذا يناقض إعتقادك أنت بأن الله هو خالق السماوات والأرض؛ أساس إعتقادك، فكيف يكون هذا وتقسم بالأقسام المغلظة على هذا؛ على هذي القضية الباطلة، تقسم عليها الأقسام الباطلة، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}.

قال -جل وعلا- {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}، بلى لابد أن يبعث الله -تبارك وتعالى- من يموت، وعدًا عليه حقًا؛ قد وعد عباده -سبحانه وتعالى-، وأن هذا إلتزمه الرب -سبحانه وتعالى-، فهو الذي ألزمه، هو الذي أوجبه على نفسه -سبحانه؛ عليه حقًا، حقًا؛ لابد أن يكون، ثم قال -جل وعلا- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، أكثر الناس لا يعلمون هذا، نسوا هذا اليوم، جحدوه، كفروا به، مع أن هذا يناقض حتى إعتقادهم في الرب -تبارك وتعالى- لكنهم مع هذا عموا عن هذا اليوم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

قال -جل وعلا- {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}[النحل:39]، يعني أنه لابد أن يكون هذا اليوم ليبين لهم الله الذي يختلفون فيه، وإيش هاد يختلفون، كفر ولا إيمان، الله هو الإله الواحد ولا هناك هذه الآلهة المتعددة، كل واحد إتخذ إله له من دون الله، حورب الرسل، قوتلوا، أهينوا، قامت المعارك على طول الخط في قضايا الإيمان وفي قضايا الكفر وفي الحق والباطل وفي الصحة والفساد وفي الخير والشر، صراع البشر صراع حول هذه الحقائق كلها، هل يكون خلاص إذا مات الناس وإنتهت الأمر لا يكون بعد ذلك قيام ويبقى الناس قد ماتوا وهم على ما إختلفوا عليه، كل واحد على دينه وعلى إعتقاده وعلى مذهبه الذي كان؛ لا يبين له هذا الأمر، لا يبين للكافر أنه قد كفر وإفترى وكذب وإنتحل الباطل، ولا يخبر المؤمن بأن نعم الذي آمنت به هو الحق وأن هذا يومك الذي كنت توعد وهذا الجنة التي كنت توعد، يترك هذا؛ يستحيل هذا، قال -جل وعلا- يبعثهم؛ يبعقهم ولابد، وعدًا عليه حقًا، {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}، ليبين لكل إنسان، يعرف كل إنسان حقيقة الفعل الذي فعله، {........ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}[النحل:39]، لابد أن يعلمهم الله -تبارك وتعالى- بأنهم كانوا كاذبين؛ كانوا يقولون الكذب، كانوا يحلفون بأن ما في يوم قيامة وهم في قرارة أنفسهم قد يعتقدون ويعلمون بأن الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، ولكن كانوا يجادلون ويدفعون هذه الحقيقة بما عندهم من الباطل، فلابد أن يفضحوا ويبين كذبهم ويكشف هذا للناس ويخزون أمام الجميع، {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}[النحل:39].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40]، لا يوجد أمر مستعصٍ على الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40]، هنا يبين الله -تبارك وتعالى- لنا أن أي شيء يريده الله -تبارك وتعالى- فإنما هو بتوجه الأمر الإلهي، إذا توجه له الأمر الإله "كن" اللي هو أمر من حرفين فقط كن فيكون على طول، فإن هذا الأمر لابد أن يكون، فبوتجه الأمر الإلهي لما يريده الله -تبارك وتعالى- لابد وأن يكون، فالله لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-، ولا يعالج أمر يعني كما الإنسان فإنه إذا أراد شيء فيعالجه، بدو يزرع، بدو يصنع، بدو يسوي، بدو يقيم، بدو يحط، أي شيء يفعله الإنسان لابد من معالجة ومن ومن و... لا، الله -تبارك وتعالى- لا يقف أمام إرادته شيء ولا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-، فقيام الساعة بتدمير هذا السماوات والأرض القائمة وتغيير صورتها وإخراج الناس من قبورهم ووضعهم في صعيد واحد وإعطاء كل إنسان حقه وما يستحق، وصرف أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة هذا أمر لازم، هذا سهل على الله -تبارك وتعالى- ولا يعجز الرب -تبارك وتعالى-، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40].

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[النحل:41]، {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل:42]، هذا وعد رفيق ورقيق من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين صبروا في طريقه فهاجروا في الله، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، الآن هذه السورة تنزل مؤمنون وكفار؛ صراع قائم، وهذه الفئة التي آمنت بالله -تبارك وتعالى- قد نزل بها ما نزل من بطش وظلم الكفار، وإضطر هذا إضطرهم المؤمنون في مكة إلى أن يخرجوا منها، فرارًا بدينهم إلى بلدان يأمنون فيها على أنفسهم وعلى دينهم، فمنهم الذين هاجروا إلى الحبشة، الله يقول {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، هاجروا في الله؛ يعني هجرتهم كانت في الله -سبحانه وتعالى-، من أجله ولأجله -جل وعلا-، من بعد ما ظلموا؛ في مكة، وهذا طبعًا يعم الجميع؛ يعم كل من هاجر في الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، لام تأكيد، نبوئنهم؛ تبويئهم تمكينهم، يعني يمكنهم الله -تبارك وتعالى-، أو تبويئهم ينزلهم؛ ينزلهم الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا ويمكنهم من حسنة الدنيا، حسنة؛ في الدنيا وذلك بالأمن والراحة والتمكين والقرار وقد كان، فإن الله -تبارك وتعالى- بوأهم وأقرهم ومكن لهم دينهم بعد هذا الشتات والهجرة في الله، ثم قال –جل وعلا- {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ}، أجر الآخرة عند الله -تبارك وتعالى- هو الجنة، أكبر من ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- من حسنة الدنيا، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، يعني لو كانوا يعلمون، لو كان يعلم الجميع لا شك أن الذي عند الله -تبارك وتعالى- أكبر مما في الدنيا.

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل:42]، الذين صبروا؛ على أذى هؤلاء الكفار، وصبروا على دينهم وتمسكوا به، وعلى ربهم يتوكلون؛ قد سلموا أمورهم كلها لله -تبارك وتعالى-، وجعلوا الله –تبارك وتعالى- هو غايتهم ومرادهم وسلموا أمرهم له، وتحملوا ما تحملوا من هذا العذاب وانتظروا فرج الله -تبارك وتعالى- وإحسانه، الله يخبرهم بأن هذا؛ يعني هذا الإحسان وهذا الفرج وهذا التمكين لابد أن يكون، وعد من الله -تبارك وتعالى- لهذه الصفوة من عباده المؤمنين.

نقف عند هذا اليوم، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.