السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (32) - سورة البقرة 106-109

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106]، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[البقرة:107]، هذه الآيات جاءت أيضًا في معرض رد الله -تبارك وتعالى- على إفتراء اليهود، وردهم لرسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وعدم قبولها، وإبائهم الدخول في الدين؛ دين الإسلام، الذي يدعوهم الله -تبارك وتعالى- إليه، وإيمانهم بالرسول الذي جاءت التوراة بالدعوة إلى الإيمان به، وبشَّر به موسى، وبشَّر به عيسى -صلوات الله والسلام عليه-، فكان من اعتراضهم أن الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن ينسى حكم التوراة، وأن حكم التوراة نازل من الله -تبارك وتعالى-، وهو دينه وشريعته على موسى، وأن النسخ أي البداء، ومعنى البداء أن يكون الله قد بدا له أمر لم يكن يعلمه قبل ذلك، وقالوا البداء على الله مستحيل، فكيف ينسخ الله -تبارك وتعالى- حكمًا بعد إقراره! ولا شك أن هذا من التلبيس، فإن النسخ إنما هو في الأحكام العملية، وليس في الأخبار، فإن الله -تبارك وتعالى- لم ينسخ خبرًا، بمعنى أنه لم يبدل خبرًا من أخباره، فكل الرسل دعوا إلى أمرٍ واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له.

ومسائل الإيمان لا تتغير ولا تتبدل، وكل قضايا الغيب فهي واحدة عند جميع الرسل، أخبر بها الله -تبارك وتعالى-، والله عالم الغيب -جل وعلا-، أما الأحكام العملية فإنها تتبدل في الشريعة الواحدة، وكذلك من شريعةٍ إلى شريعة، ففي شريعة موسى قد كان هناك كثير من الأمور التي تغيرت وتبدلت، فقد أُمر أولًا مثلًا بألا يقاتل، ثم أُمر بالقتال بعد ذلك، وقال لقومه {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ........}[المائدة:21]، وجاء عيسى -عليه السلام- حاكمًا بحكم التوراة، ثم جاء كذلك مغيرًا لكثير من الأحكام التي كانت في التوراة، كما قال لهم {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، فقد حرَّم عيسى وأحل كثير مما لم يكن في التوراة، وأوقف العمل بكثير من الحدود، لمَّا كان حال النصارى في وقته تحت قهر الرومان، ثم جاء الله -تبارك وتعالى- بشريعة كاملة، أزال الله -تبارك وتعالى- فيها كل الآصار والأغلال التي كان على الأمم السابقة، كما في قول الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ........}[البقرة:286]، فجميع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد رفعها الله –تبارك وتعالى- في هذه الشريعةالمطهَّرة، التي أرسل بها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، في الطهارات وفي الزواج وفي الطلاق وفي الحدود وفي الأطعمة وفي الأشربة، فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرَّم عليهم كثير من الطيبات، كما قال -جل وعلا- {........ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام:146]، كان في الطهارة كذلك لا يحلَّ لليهودي أن يغسل ما أصابته النجاسة، ولكنه يقرضه بالمقاريض، لابد وأن يقصه بالمقص ولا يغسله بالماء، كان لا يحِّل له أن يؤاكل الحائض ولا أن يساكنها في وقت حيضها، بل لابد أن تسكن في مكانٍ بعيد، وكل شيء تمسه بيديها فإنه يبقى نجسًا، فإذا مسَّه أحد فقد تنجس به، أمور عظيمة جدًا في كثير من الأحكام، ثم لما جاءت شريعتنا المطهرة رفعت كل هذه الآصار والأغلال، فالنسخ إنما يكون في الأحكام ولا يكون النسخ في الأخبار، فاعتراض اليهود على أن محمد -صلوات الله والسلام عليه- جاء برسالةٍ ناسخة للشرائع السابقة، والله لا يمكن أن ينسخ شريعة، لأن هذا من البداء؛ والبداء مستحيلٌ على الله، هذا كذبٌ وتلبيس، فإن نسخ الأحكام لا يعني البداء، إنما النسخ الذي هو طعنٌ في صفة الرب –تبارك وتعالى- أن يقال بأن الله -تبارك وتعالى- نسخ خبرًا من الأخبار، كأن يخبر بخبر ثم يخبر بخلافه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

فالآيات جاءت في معرض الرد على اليهود، قال -جل وعلا- {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}، النسخ أصله التبديل، ومنه نسخة الكتاب أنه بُدِّل الكتاب، حمل الكتاب فوضع في مكانٍ أخر، {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}، أي نُبدِّل حكمها من حكمٍ إلى حكم، {أَوْ نُنسِهَا}، ننسها؛ ننسها من النسيان، ننسك إياها، فإذا وقع هذا أوهذا أخبر -تبارك وتعالى- أنه يقع بإذن الله -تبارك وتعالى- وأمره ومشيئته، قال -جل وعلا- {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}، بخير منها في الحكم، أي بحكم أفضل من حكم تلك الآية، فإما أن يكون أمر شديد يُخفف، أو أمر خفيف في الأول ثم يدرَّج في التشريع إلى أن يشدد فيه عندما تتأهل الأمة لذلك، كما وقع للمسلمين في مسائل كثيرة، فمثلًا في الخمر، لما كان الخبر مستفحلًا ومستشريًا في الأمة العربية، يشربونه صباحًا ومساءً وفي كل أوقاتهم، ويتغنون به، وهو غاية حياتهم ومنتهى سعادتهم، يقول قائلهم ((ونشربها فتتركنا ملوكًا، وأسدًا لا ينهنها اللقاء))، وكان الكبير والصغير يشرب، فإن الله -تبارك وتعالى- لم ينزل تحريم الخمر دفعةً واحدة، وإنما هيأ المسلمين في أربعة آيات متتالية، في أربعة مراحل حتى نزل قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، فجاء التشريع؛ تشريع الخمر متدرجًا، بدءًا بتذكيرهم بأنها نعمة في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ........}[النحل:67]، سكرًا مسكرًا، ثم نهيهم أن يشربوا وقت الصلاة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، فنهاهم عن الشرب في الوقت الذي يكون قريب من الصلاة، وبعد ذلك بُدِّلت حالهم فكانوا يشربون في الأوقات التي تكون فيها الصلاة بعيدة، كبعد العشاء وبعد صلاة الصبح لأن وقت الظهر بعيد، ثم لما استفتوا في الخمر أرشد الله أنه أمرٌ مضارُّه أكثر من منافعه، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.

بعد أن تهيأت الأذهان بعد ذلك إلى أنه هذه مضرَّةٌ أكثر من النفع، أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، فهذا نسخ الحكم الأول الذي يفيد الإباحة؛ إباحة الخمر مطلقًا، ثم إباحتها، ثم تحريمها فقط في أوقات الصلوات، ثم بعد ذلك تحريمها القطعي، هذا كان من رحمة الله -تبارك وتعالى-، وذلك لينقل الأمة من حالة إلى حالة فيؤهلها بذلك، وقد يكون النسخ من الأشد إلى الأخف، تخفيف كنسخ المصابرة، في أول الإسلام كان المسلم مطلوبٌ منه أن يصابر عشرة من الكفار ولا يفر منهم، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم إلى أخف من ذلك، أن يصابر اثنين فقط، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ........}[الأنفال:66]، فأصبح واجب على المؤمن ألا يفر من اثنين من الكفار، وإن فر فيكون هذا الفرار من الزحف، وهذه من إحدى الكبائر السبع، الشاهد أن النسخ إنما هو لحكم عظيمة، ففيه تدرج في التشريع إلى أن تصل الأمة إلى مرحلة النضج والكمال، فتأخذ الشريعة كاملة، فله حِكَم، والله هو الحكيم -سبحانه وتعالى- أنزل شريعته؛ شريعة حكيمة متدرجة هذا النسخ منها، أو من فيها كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا ينسيه الله –تبارك وتعالى- بعض الآيات، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6]، {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7]، فهذا أمر النسخ راجع إلى حكمة الله -تبارك وتعالى-.

وعلى كل حال النسخ الواقع؛ الذي وقع في القرآن على ثلاثة ضروب، الضرب الأول نسخ ٌ للحكم والتلاوة، ينسخ الحكم مع التلاوة معًا، ونسخٌ للحكم مع بقاء التلاوة، وهذا كثيرٌ في القرآن، ومن ما ذكرنا عن آيات الخمر، ونسخٌ للتلاوة مع بقاء الحكم كما هو في آيات الرجم، فقد نزلت آيات في القرآن تأمر بالرجم، الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهم البتَّة نكالًا من الله، والله عزيزٌ حكيم، وقد نسخت هذه الآية في التلاوة، ولكن بقيت في الحكم، أما الذي نسخ تلاوةً وحكمًا فهو أنه كان مما أنزل من القرآن حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله وتعالى عنها-، كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعاتٍ مشبعاتٍ يحرِّمن، فهذه نسخت بخمس معلومات وبالسنَّة -بخمس معلومات وبالسنَّة-، فهذه الآيات نسخت؛ نسخت تلاوة ونسخ حكمها، فالنسخ بكل هذه الصور لا شك بأنه واقع في القرآن، ومنكر النسخ جاء كذلك بعض المسلمون ينكرون وقوع النسخ، وأنه لم يقع نسخٌ قط، ولا شك أن هذه مكابرة، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن النسخ واقع، وهو واقعٌ بأمره -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أي لك، {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}، بخير منها في الحكم، فإنها إما أن تكون صورة أخف، وإن كانت بصورة أشد فهذا يكون فيه خير للأمة أن تأخذ به، ينقلها الله إلى الأمر لتأخذ به فيكون هذا أشد، كمثلًا تحريم الخمر تحريم البت، ولا شك أنه أشد من الأمر الأول أنهم أبيح لهم شربها، فهذا لا شك أنه خير، أنه خير وإن كان فيه أخذ بشدة وتحريم، لكنه في خير للأمة، فكل نسخٍ إنما يكون بخير، لا ينسخ الله -تبارك وتعالى- حكم إلى حكم آخر إلا والحكم الثاني هو خيرٌ للأمة من الحكم الأول.

{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، أو مثلها كذلك في الحكم، فيكون هذا خير بخير، والله -تبارك وتعالى- يبدِّل من الأحكام ما يشاء -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي قد علمت السؤال هنا للتقرير، لا شك أن الله -تبارك وتعالى- قديرٌ على كل شيء، ومن قدرته -سبحانه وتعالى- على خلقه أن يأمر بما شاء، وينسخ ما شاء، ويحل ما شاء ويحرِّم ما شاء -سبحانه وتعالى-.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[البقرة:107]، ألم تعلم قد علمت أن الله -سبحانه وتعالى- له ملك السموات والأرض، ملك الله -تبارك وتعالى- للسموات والأرض ملك ذات، وملك تصريف وملك مصير، أي كل أنواع الملك، فالملك الحقيقي لله -تبارك وتعالى-، وكل ما سوى الله فملكه عارٍ، عرية عنده أن الله هو المالك الحقيقي للسموات والأرض، ولكل ما عداه -سبحانه وتعالى-، لأنه خالق الكل، فالله خالق السموات والأرض، فالله يملك المخلوقات ذاتًا لأنه خالقها، ويملكها تصريفًا؛ فلا تصريف بأي نوع من التصريف، حياة موت سعادة شقاء بكاء ضحك ذكورة أنوثة، فهذه من التنويع، التصريف والتنويع كذلك حرارة برودة طول قصر، كل الصفات الخلقية وكذلك كل نوع من التصريف مما يعتور المخلوق من حالة إلى حالة، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44]، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45]، {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46]، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48]، ما يغنى أحد إلا بغنائه –سبحانه وتعالى-، وأقنى من القنية، أي ما يقتني أحد شيئًا؛ بيت سيارة، أي شيء قنية من الله، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48]، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49]، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50]، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52]، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53]، فوقوع ما وقع من العقوبات على هذه الأمم هو الذي فاعله، وهو الذي أمر به -سبحانه وتعالى-، فالأمر كله {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42]، فهذا ملك الله -تبارك وتعالى- لعباده تنويعًا وتصريفًا ومصيرًا، مصير العباد كلهم والخلق كلهم إلى الله -تبارك وتعالى- {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، ولذلك ملك غير الله ملك عاري، أي ملك استعارة، فأنت إذا ملكت شيئًا فهذه استعارة، الله ملكك إياها وهو الذي يأخذها في الوقت الذي يشاء، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، كلنا لله -سبحانه وتعالى-.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وبالتالي فهو يتصرف في ملكه -سبحانه وتعالى-، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}، لا وليَّ لكم، الوليّ الناصر -الوليّ الناصر-، الوليّ في اللغة كل من قام بينك وبينه علاقة تجعلك تواليه وهو يواليك، والولاية تدخل فيها النصرة والمحبة، كل هذه من معاني الولاية، فلا نصير لكم ولا وليّ لكم دون الله -تبارك وتعالى-، وهذا مقتضاه التسليم لأمر الله –تبارك وتعالى-، فإذا نسخ الله -تبارك وتعالى- حكمًا بحكم فالأمر له -سبحانه وتعالى-، وهو الملك الذي يحكم ما يريد –سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[البقرة:108]، هذا خطاب للجميع، لأهل الكتاب، وخطاب كذلك للمسلمين، {أَمْ تُرِيدُونَ} أي معشر اليهود، {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ}، رسولكم محمد -صلوات الله والسلام عليه- هو رسولهم، لأنهم الآن الذين بعث فيهم النبي هم من أمة دعوته، أي أنهم من الأمة التي أمر من النبي أن يدعوها إلى الله -تبارك وتعالى-، {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}، سئل موسى من قبل بأسئلة كثيرة من أسئلة التعنت، كقولهم له {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، أي قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فهذا من تعنت اليهود مع موسى -عليه السلام-، وقد سألوه أمور كثيرة على سبيل التعنت، وأنهم لن يؤمنوا إلا بذلك، وكذلك هذا الحال في اليهود، فإنهم سألوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، وأنهم لن يؤمنوا له إلا بهذا، وكذلك قولهم {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}، أي أن عندنا عهد من الله -تبارك وتعالى- أننا لا نؤمن برسول يأتينا –أي رسول يأتينا- إلا إذا آتانا بقربان تأكله النار، قرَّب قربان ونزلت نار من السماء تأكله، قال -جل وعلا- {........ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:183].

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} -أي محمد-، {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} إعناتًا، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، وكذلك هذا أيضًا نهيٌ لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أمة الإجابة، من استجاب ودخل في الإسلام أنه لا ينبغي أن يسأل الرسول -صلوات الله والسلام عليه- كما فعل اليهود، أي نُهيَّ المسلمون -في هذه الآية- أن يفعلوا مع النبي محمد كما فعل اليهود مع موسى -عليه السلام- في طلب الإعنات، أن يسألوا آيات على وجه الإعنات، وقع من بعض الصحابة أنهم في مرةٍ من المرات سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسئلة كان فيها مشقة وعنت لبعضهم لمن سأل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ووقف يومًا وقال «لا تسألوني عن شيئًا في مقامي هذا إلى أجبتكم عنه، فقام رجل وقال يا رسول الله: من أبي؟»، وكان هذا الرجل إذا خاصم الرجال يُدعى إلى غير أبيه، أي إذا حصلت خصومة بينه وبين أحد يقول روح أنت لست ابن فلان، يتهم بالزنا، فقال يا رسول الله من أبي؟ فقال أبوك حُذافة، وكان هذا هو أبوه الحقيقي الذي ينسب إليه، وقام أخر وقال يا رسول الله: أين أنا؟ قال له أنت في النار، فعند ذلك جثا عمر بن الخطاب على ركبتيه وقال ((رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا))، ونزل قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ........}[المائدة:101]، إذا نزلتم عنها حين الوحي تٌبدَ لكم لأن هذا من الغيب، وإن سألتم عنها تُبدَ لكم، {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}[المائدة:102].

فنُهيَّ المسلمون ممن آمن بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أن يسألوا رسولهم سؤالًا على وجه الإعنات، أو أسئلة يمكن إذا أبديت لهم أن تسوءهم، {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[البقرة:108]، إذا كان هدفه أن يُعنت النبي، وقال النبي لن يجيبني إلى هذا السؤال، ولم يقع هذا الاقتراح الذي اقترحناه، وجعل هذا عدم إجابة النبي على هذا الأمر، أو استجابةً له ما اقترحوه دليل على كذب النبي، وأنه ليس رسول الله، وتبدَّل الكفر بالإيمان، أخذ الكفر بدلًا من الإيمان، قال -جل وعلا-  {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، والسواء الوسط، والسبيل هو الطريق، ومن ضل وسط الطريق انحرف إلى حافته، يوشك أن يخرج من الطريق الصحيح إلى الطريق الخاطئ.

ثم قال -جل وعلا- {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:109]، هذا تعليمٌ من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، وتبصيرٌ لهم بأعدائهم الذين يريدون إضلالهم، وكشف هؤلاء الأعداء وبيان خبيئة نفوسهم وقلوبهم، وحقيقة مشاعرهم نحو أهل الإسلام، قال –جل وعلا- {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، ودَّ بمعنى أحب كثيرٌ من أهل الكتاب، فهم عدد كثير وليسوا قليل، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وسموا أهل الكتاب لأنهم يُنسبون إلى كتابٍ من الله -تبارك وتعالى- التوراة والإنجيل، ودُّوا ماذا؟ ودُّوا {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}، تمنوا وأحبوا أن يردُّوا المسلمين، بعد أن دخل المسلمون في الإيمان وأصبحوا مؤمنين أو يردوهم كفارًا، يرجعوهم إلى الكفر مرةً ثانية، ثم قال -جل وعلا- {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ}، أي إن الذي دفع اليهود والنصارى إلى هذا، أن يكفِّروا المسلمون، وأن يخرجوهم من الدين هو الحسد، بدافع الحسد للمسلمين، يحسدوا المسلمين أنهم قد هداهم الله -تبارك وتعالى- إلى صراطه وإلى طريقه، أرسل فيهم النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-، هذا النبي قد جاء بالعز والثناء والتمكين في الأرض، وأن ملكه باقٍ إلى قيام الساعة، وجاء بالأمة العظمى التي هي أفضل أمم الهداية في الأرض على الإطلاق، فأمته خيرٌ من كل الأمم التي سبقها من قوم عيسى، ومن قوم موسى، ومن كل أقوام الهداية الذين سبقوهم، فالحسد الهائل لمن آمن هو الذي دفع اليهود والنصارى أن يُحَوِّلوا المسلمين عن طريق الله، إلى أن يكونوا كفَّارا.

قال -جل وعلا- {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ}، أي إن هذا الحسد كائنٌ من عند أنفسهم، من نفوسهم المريضة المليئة بالحقد على أهل الإسلام، ولذلك ودُّوها؛ ودُّوا أن يتحول المسلمون عن الإسلام، لا أن هذا الإسلام باطل -كما يدَّعون- ولكن حسدًا لأهل الإسلام أن وفقوا إلى هذا الطريق، قال -جل وعلا- {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}، أي أنهم قد تبين لهم الحق، أن هذا الدين حق، وأن محمد حق، وأن القرآن حق من الله -تبارك وتعالى-، وأن هؤلاء أمة الهداية الحقيقيين، ومن بعد ما تبين لهم هذا يريدون تحويل المسلمين عن هذا الدين، قال -جل وعلا- {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، اعفوا عنهم مع بيان أي مع كشف الله -تبارك وتعالى- حقيقة قلوبهم، وأنهم أعداء حقيقيون، وأنهم يحاربون الإسلام ويحاربون الله عن علم وعن بصيرة، لكن الله -تبارك وتعالى- أمر المسلمين بأن يعفوا عنهم ويصفحوا، أي يتركوا عقوبتهم وأن يصفحوا عنهم، الصفح هو إعطاء الصفحة أي الإِعراض؛ الإِعراض عنهم، الآن قال -جل وعلا- {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، أي لا تقاتلوهم الآن، لا تعادوهم حتى يأتي الله -تبارك وتعالى- بأمره فيهم.

وقد جاء أمر الله -تبارك وتعالى- في هؤلاء، بوجوب قتالهم بعد ذلك، كما نزل بعد ذلك قول الله -تبارك وتعالى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وهذا إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- أنه قدير على كل شيء، قدير على أن يمكِّن هذه الفئة القليلة، كان ينظر إليها أهل الكتاب بنوع من الاستصغار والاحتقار، وأنهم ليسوا بشيء، وأن مآلهم إلى السفول، وأنهم لن يمروا ولن يكثروا ولن يقووا ولن ينتصروا، والله -تبارك وتعالى- إخبارًا منه أنه على كل شيء قدير أن يجعل من هذه الأمة المستضعفة المستصغرة في عيون الجميع، يجعلها الأمة العظمى الكبرى كما قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ........}[التوبة:33]، وكفى بالله شهيدًا.

نكتفي بهذا الآن -إن شاء الله- ونكمل في درسٍ قادم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.