الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]، {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44]، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:45]، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}[النحل:46]، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:47]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}[النحل:48]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}[النحل:49]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ........}[النحل:43]، رد من الله -تبارك وتعالى- على شبهة الكفار في أنه كيف يختار الله -تبارك وتعالى- رسولًا من البشر إليهم، لما لم يرسل ملكًا إذا أراد أن يرسل رسالة إليهم، فيخبر -سبحانه وتعالى- أن سنته الجارية في خلقه منذ بدء الرسالات أن يرسل رجالًا، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ}، أي في أمة من الأمم، {إِلَّا رِجَالًا}، وهذا قول الله رجالًا دليل على أن الله -تبارك وتعالى- لم يختر إمرأة لتكون نبية ورسولة؛ رجال، ثم قال -جل وعلا- {نُوحِي إِلَيْهِمْ}، يعني أن هؤلاء الرجال، وصف هؤلاء الرجال أو تميزهم عن غيرهم أن الله –تبارك وتعالى- يوحي إليهم، والوحي في لغة العرب هو الإعلام بطريق خفي، والإعلام الذي يأتي الله -تبارك وتعالى- إلى الرسل يكون طريقًا خفيًا، يأتيهم عن طريق ملك لا يراه الناس ويراه الرسول، أو عن طريق صوت الملك نفسه كما أخبر النبي في الوحي قال «يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وهو أشد علي، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني»، فهذا وحي لأنه إعلام من الله -تبارك وتعالى-، هذا وحي الله إلى الرسل، إعلام بطريق خفي يعني لا يراه من حول الرسول، نوحي إليهم بهذه الرسالات والعلم الذي ينزله الله -تبارك وتعالى- عليهم، قال -جل وعلا- {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، اسألوا أهل الذكر؛ أهل الذكر السابق من الذين قد وصلهم هذا الذكر من السابقين؛ اليهود والنصارى، الذين هم على قراءة لكتب الله -تبارك وتعالى- ويعلمون أن الرسل السابقين كلهم إنما هم بشر، فإن هذا مدون عندهم في التوراة، فاسألوا أهل الذكر من أتباع الرسالات السابقة، إن كنتم لا تعلمون؛ إن كنتم لا تعلمون أن هذه سنة الله الجارية، في أن يختار لعباده رسولًا منهم يبلغهم رسالته -سبحانه وتعالى-، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}، فهو ليس أمر مبتدع أن يكون محمد إبن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- رسول من البشر، يرسله الله -تبارك وتعالى- إلى قومه، فكل الرسل السابقين على هذا النحو، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}، أي أرسلنا هؤلاء الرسل السابقين كلهم بالبينات، البينات جمع بينة، والبينة هي الدليل الواضح الذي لا يترك في الحق لبسًا، والبينات هنا على أنهم رسل الله، فكل رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى قوم أعطاه الله -تبارك وتعالى- البينة؛ الحجة القاهرة، الدليل المعجز الذي يدل على أنه رسول من الله، دليل ينقطع عنه كل الذين يتحدوه ويعلمون أن هذا بالفعل لم تأته هذا الأمر المعجز إلا لأنه رسول من الله، فبالبينات والزبر، الزبر؛ الكتب، فالزبور والمزبور والزبر أصلًا؛ الزبر هو الكتابة، فالزبر جمع زبور أي بالكتب، أنزل الله -تبارك وتعالى- كتبًا كذلك على كل رسول، ليكون كذلك هذا الأمر المكتوب أمر شفاهًا؛ كلام، ثم كذلك أمر مكتوب منه كما أنزل الله الإنجيل على عيسى والتوراة على موسى والزبور على داود -عليه السلام- وصحف على إبراهيم، فكل رسول أرسله الله –تبارك وتعالى- كان معه كذلك كتاب مكتوب، {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، إختص الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد بالذكر؛ هذا القرآن، سماه الله -تبارك وتعالى- ذكرًا لأنه مذكر، مذكر بكل هذه الأمور العظيمة، هذا هو النبأ العظيم، ثم إن الله -تبارك وتعالى- جمع فيه كونه كتاب يكون مرجع للهداية والنور والتشريع وكونه في ذاته هو البينة، هو البينة على صدق الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، فهو آيته التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- معه ليثبت للجميع أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وتحدى الله -تبارك وتعالى- كل الذين أرسل إليهم النبي إن كانوا مكذبين، إن كانو يكذبون هذا النبي أن يأتوا بسورة تماثل أو تقارب سور القرآن في حلاوتها وطلاوتها وصياغتها، كلام عربي مثل هذا الكلام العربي الذي نزل إليهم، ولا شك أنهم عجزوا أن يجاروا القرآن بسورة من مثل سوره، وأنزلنا إليك الذكر؛ هذا الذكر، القرآن، لتبين للناس ما نزل إليهم؛ فيكون الرسول مبلغ للذكر ومبين للناس ما نزل إليهم، تبيين وطريقة تبيين الرسول -صلوات الله والسلام عليه- إما أن تكون بالطريقة العملية، بأن يعمل بتأويل هذا القرآن، فيكون عمله تأويل لكلام الله -تبارك وتعالى-، فهذي السنة العملية، فأمر الله -تبارك وتعالى- له بالصلاة والصيام والزكاة والحج يكون فعل النبي -صل الله عليه وسلم- لهذه العبادات هذه بيان، لمراد الرب -تبارك وتعالى- وتبيين لهذا الكتاب المنزل، فبالسنة العملية وكذلك بالسنة القولية؛ شرحًا له، إما شرح وتفسير لكلام الله -تبارك وتعالى- وبيان مراد الله -عز وجل- فيما يشكل على الناس منه، وكذلك أيضًا تقرير لهذا الكلام، تقرير له يعني أن يقرر النبي ما جاء به القرآن، فخطب النبي ومواعظه وتعليمه وكل هذا أيضًا كذلك تقرير لكلام الله -تبارك وتعالى-، فيبين بهذه الصور الثلاث من صور البيان، بعمله «صلوا كما رأيتم أصلي، خذوا عني مناسككم»، وبتفسيره وتأويله وتبيين وشرح وبيان مراد الله -تبارك وتعالى- من كلامه، وكذلك بتقريره لكلام الرب –جل وعلا-، {........ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44]، ولعلهم يتفكرون بهذه، فهذا أعظم وسيلة للهداية، أن يختار الله -تبارك وتعالى- رسول منهم، بلسانهم يخاطبهم، مع هذا الرسول كتاب، الرسول مبين للكتاب، قائم لهم، إسوة حسنة لهم، فلعله بعد بذلك كل هذه الوسائل العظيمة ليهتدوا للطريق ويرشدوا لطريق الرب أن يتفكروا في هذا الأمر، يشكروا الله -تبارك وتعالى- على هذا؛ على إرسال هذا الرسول، يتخذوا طريقهم إلى الرب -جل وعلا-.
ثم هددهم الله -تبارك وتعالى- بأنواع من التهديد، مبينًا قدرة الرب -تبارك وتعالى- على عباده وأنهم لا يعجزوه، قال -جل وعلا- {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:45]، سؤال للتأنيب والتوبيخ والتحقير ولينظر هؤلاء الناس فيما ساروا فيه من معاندة الرب -تبارك وتعالى-، قال {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}، مكروا السيئات؛ مكروا المكر السيء، يعني مكروا بالسوء وللسوء، فالمكر هو محاولة إيصال الضر للأخرين بطريق خفي، وهؤلاء عملوا في الخفاء وفي مؤامراتهم كيف يبطلوا رسالة الرسول، كيف يمنعوه، كيف يصرفوا الناس عن هذا الدين، مكر كشأنهم لما تعاقدوا بأن يقاطعوا بني هاشم وبني المطلب، لا يوزوجوهم، لا يتزوجوا منهم، إتفاقهم وإجتماعهم على أن يقولوا في هذا القرآن قول ينفر الناس من هذا القرآن، فنقول سحر، نقول كهنة، إتفق رأيهم بعد ذلك بأنه محمدًا قد جاء بسحر، كلام سحر يفرق فيه بين الأخ وأخيه وبين الزوج وزوجه وبين الولد وأبيه، مع هذه الروابط يفرق هذا التفريق، فيكون هذا المكر هذا لصرف الناس وهذا أمر يبشع الناس ويصرف الناس عن دين الرسول، فالمكر هو هذه الشبهات الكثيرة التي أرادوا بها يعني أطلقوها على هذا الدين والرسول، للتنفير وإبعاد الناس عن دينه، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ ........}[النحل:45]، فهذا في قدرة الله -تبارك وتعالى- وفي إمكانه، فالأرض هذه الثابتة المستقرة التي يكفرون بالله عليها ويمكرون عليها قادر الرب -تبارك وتعالى- أن يهبطها، أن يخسف بهم الأرض وأن يجعل قبرهم مباشرة فيها، {........ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:45]، يعني يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أن هذا الباب سيأتيه منه عذاب، فإن قدرة الرب -تبارك وتعالى- على الخلق وعلى البشر؛ هذا الله لا يعجزه شيء، ويستطيع أن يصيبهم بأي ضر بما لا يتصوروه ولا يتخيلوه، وهذه الأمم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- أهلكها بأسباب خفية، طوفان تفجر الماء من تحتهم وينزل الماء عليهم ثم يغرقهم الله -تبارك وتعالى-، ريح تفتح في مكان فتسفي عليهم حتى تهلكهم، ظلة من الحر الشديد حتى تقتلهم في أماكنهم، صعق؛ صيحة من لملك يصيح فيهم صيحة واحدة فيصعقون لساعتهم، حاصب؛ أحجار تحصبهم فتقضي عليهم، أن يأفك الله -تبارك وتعالى- عليهم قراهم كما أفكها على قرى لوط؛ رفعها وأفكها عليهم، فهذا قدرة الرب -جل وعلا- على أن يعذب عباده –سبحانه وتعالى- بما شاء، هذا أمر يسير على الرب، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ........}[الأنعام:65]، فهذا كله العذاب يعني إذا أراد الله -تبارك وتعالى- بقوم سوء فلا مرد له ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، من حيث لا يتصور أن هذا ممكن الباب فيأتيه العذاب؛ فيأتيه العذاب منه، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:45].
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}[النحل:46]، أو يأخذهم؛ يعني بالعذاب، في تقلبهم؛ تقلبهم التقلب؛ التنقل، يعني في شتى النعم، وهم يتقلبون في النعم الكثيرة، يتقلبون من البيوت المريحة والقصور الفارهة إلى المزارع والبساتين الغناء إلى أنواع من السفر للتنزه والسير في الأرض إلى فرحهم بالأموال والبنين إلى إلى ...، فيكون في تنقلهم وتقلبهم في هذه النعم يأخذه الله وهم يتقلبون في نعمه -سبحانه وتعالى-، يعني ممكنين أغنياء عندهم أكثر من نعمة يتنقلوا فيها من نعمة إلى نعمة، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}[النحل:46]، فما هم؛ يعني ما هؤلاء الكفار المعاندين للرب، الذين يمكرون السيئات، بمعجزين، معجزين لله -تبارك وتعالى-، معجزينه؛ يفوتونه، فيكون الرب عاجزًا عن أن يصل إليهم بعذابه -سبحانه وتعالى-، فهذا ما في أحد معجز يعني أنه لا يفوت الرب -جل وعلا-.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:47]، أو يأخذهم؛ كذلك ديَّت، على تخوف؛ تخوف؛ تنقص، يعني جزءًا جزءًا، فيأخذهم الله –تبارك وتعالى- مجموعة مجموعة وجزء جزء هكذا، فينقصهم وينقصهم وينقصهم ...، حتى يقضي الله -تبارك وتعالى- عليهم بصنوف الآفات وصنوف المحن، يعني أن الله قادر على أن يستأصلهم إستئصالًا واحدًا في وقت قوتهم، أو يأخذهم ينقصهم ينقصهم، فيأتيهم مجاعة، يأتيهم قحط، يأتيهم مرض، يأخذ منهم هنا، يأخذ منهم هنا، حتى يهلكهم الله -تبارك وتعالى- جزءًا جزءًا، قال -جل وعلا- {........ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:47]، إن ربكم لرءوف رحيم مع قدرته -سبحانه وتعالى- خلقه على هذا النحو، إلا أنه يمهلهم، يرسل لهم الرسالة، يرسل لهم الإنذار تلو الإنذار ويحلهم الله -تبارك وتعالى- عليهم ويمدهم لعلهم أن يعودوا إلى رشدهم ويعودوا إلى صوابهم ويتخذوا طريق الرب -سبحانه وتعالى-، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:47].
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- قدرته –سبحانه وتعالى-، وأن هذا الخلق الذي خلقه كله عابد له -سبحانه وتعالى-، قال –جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}[النحل:48]، {أَوَلَمْ يَرَوْا}، إعلموا، {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}، كل شيء خلقه الله -تبارك وتعالى-، فإنه {........ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}[النحل:48]، يتفيأ ظلاله؛ الظل يكون هو هذه إنعكاس هذا الجسم عندما يقع عليه ضوء الشمس فإنعكاس الجسم هذا الظل؛ ظل الشيء، أي جسم بارز على ظهر الأرض إذا إنعكس عليه ضوء الشمس فإن يكون لهذا الجسم ظل واقع، الظل ما يكون قبل الزوال وما بعد الزوال فيكون فيء، فإنه يرجع الظلال مرة ثانية عندما تزول الشمس عن كبد السماء وتذهب وتتضيف إلى المغيب، فإن الظل ينتقل كان في جهة الغرب يعود مرة ثانية إلى جهة الشرق وتعود الشمس إلى جهة الغرب، فهذه الظلال؛ ظلال كل شاخص على الأرض تقع، ظلال كل شاخص على الأرض يقع الظل على الأرض، فكل شاخص موجود يسجد لله، وكله يسجد لله -سبحانه وتعالى-، ساجد لله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ ........}[الرعد:15]، اللي هو الصباح، {وَالآصَالِ}، فكل مخلوق يسجد لله -تبارك وتعالى- كل مخلوقات الله، بالنسبة للأرض كل شاخص على الأرض هو ساجد لله بذاته، هذا الشاخص سواء كان جبل عظيم أو شجره أو غيره يسجد لله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18]، فهذه المخلوقات إما تسجد لله طواعية وهي سجود المؤمنين، الملائكة والمؤمنين هؤلاء يسجدون لله طواعية وكذلك هذه الجمادات، الكافر يسجد لله -تبارك وتعالى- كرهًا؛ يسجد بهذا الشخوص، فكونه شاخص موجود هو يسجد مع سجود الأرض، وظله كذلك عندما يقع على الأرض هو ساجد لله -سبحانه وتعالى-، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا}، هذا للمؤمنين، {وَكَرْهًا}، ديَّت، قال -جل وعلا- {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}، ظلالهم كذلك تسجد بالغدو والآصال، قول الله -تبارك وتعالى- هنا {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}، عن اليمين والشمائل؛ إذا كان إنسان مثلًا متجه إلى جهة الكعبة فإن اليمين عن القبلة والشمائل عن القبلة بالنسبة إلى المخاطب؛ المشاهد، {سُجَّدًا لِلَّهِ}، كل هذه ساجدة لله؛ الشاخص وظله، كل ما له ظل وظله كذلك، {وَهُمْ دَاخِرُونَ}، يعني أذلة، ذليلون صاغرون، فكل هذه تسجد، من الشمس في السماء إلى أصغر شاخص في الأرض كله يسجد لله -تبارك وتعالى- وهو ذليل؛ الكل ذليل، خاضع لأمر مولاه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}[النحل:49]، {وَلِلَّهِ}، ليس لغيره -سبحانه وتعالى-، لله وحده -سبحانه وتعالى-، قدم هنا المعمول على العامل، {وَلِلَّهِ}، ما قال يسجد لله لأن يسجد لله يحتمل يسجد لله ولغيره، لكن ولله يسجد يبقى له وحده -سبحانه وتعالى-، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ........}[النحل:49]، ما في السماوات؛ كلها السبع، وما في الأرض من دابة؛ والدابة هي كل ما له دبيب على الأرض، من النملة الصغيرة إلى ما هو أعظم من ذلك، كل ما له سير ودبيب كل هذه تسجد لله -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ........}[النحل:49]، وسجودها سجود إما سجود طوعي وإما سجود كرهي، تسجد كرهًا لله -تبارك وتعالى-، فهذه الأرض في أثناء دوارنها حول نفسها كل حال بيكون أهلها وأشخاصها وما هو قائم عليها ساجد لله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}، يعني الملائكة كذلك يسجدون لله -تبارك وتعالى- وهم لا يستكبرون، وخص الله -تبارك وتعالى- الملائكة بعد هذا العموم لأنهم لعلهم أعظم خلق الله -تبارك وتعالى-؛ قدرة ومتانة وعلم ورفعة وسمو، فهم أعلى يعني هم في سقف مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، فقد خلقهم الله من نور وخلقهم بقوة هائلة جدًا، وخلقهم أيضًا بوظائف عليا عظيمة فكلهم في طاعة، كل الملائكة مطيعين لله -تبارك وتعالى- وليس منهم عاصٍ للرب -جل وعلا-، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206].
والخلق خلقهم خلق عظيم، فعندما يقول النبي «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه»، هذه المسافة الصغيرة عندنا، التي لعلها في حدود عشرين سنتيمتر، هذي في خلق الإنسان أو أكثر قليلًا أو أقل قليلًا، أما هذي بالنسبة للملك، « ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، يعني لو أن طائر يطير في هذا المكان للملك ليمكث خمسمائة عام في خفقانه لا يبلغ هذه المسافة من هنا إلى هنا، فكيف بطول هذا الملك الكامل! ماذا يحتاج الطير إذن آلاف السنين حتى يقطع مسافة طول ملك واحد من ملائكة الله -تبارك وتعالى-، الله وصف جبريل بصفات عظيمة، قال {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5]{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6]، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7]، شديد القوى، والله يخبرنا ببعض قواه مثلًا، يقول {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، نتق الجبل؛ يعني أن يضع جبريل يده في جبل فيقوم يقتلعه من مكانه، ثم يأتي به إلى بني إسرائيل كلهم ويضعه فوق رؤوسهم، ويأمرهم الله -تبارك وتعالى- بأخذ العهد الذي أخذ عليهم وأن يعملوا به، فرفع جبل، نتقه من مكانه، وضعه على رأس قوم، كانوا بنوا إسرائيل في هذا الوقت أكثر من سبعمائة وخمسين ألف إنسان، مليون إنسان جبل يغطيهم جميعًا، الله يقول {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:171]، هذا فعل جبريل، أمر الله جبريل أن يفعل هذا الفعل بأمر الله -تبارك وتعالى-، فلا شك أن هذه قوة عظيمة، فالملائكة هؤلاء الله يخبر بأنهم يسجدون لله، قال {وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}، يعني يسجدون لله والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله -تبارك وتعالى-؛ عن السجود له، وذكر الله -تبارك وتعالى- هنا السجود لأنه أعظم وضع يدل على ذل الساجد للمسجود له؛ للمعبود، فهذا ذله لأن الساجد يضع أشرف ما فيه وهو جبهته ووجهه يضعها في الأرض لإلهه وربه ومولاه، فهو في حال أتم الحال من الذل والخضوع، فالملائكة يفعلون هذا للرب -سبحانه وتعالى-، فكل المخلوقات تسجد لله -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}[النحل:49].
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ........}[النحل:50]، هذا حال الملائكة، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ........}[النحل:50]، فإن ربهم -سبحانه وتعالى- فوق عرشه وكل خلق الله -تبارك وتعالى- دون هذا العرش، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، ويفعلون ما يؤمرون؛ ما يأمرهم الله -تبارك وتعالى- ينفذوه، وفي التو واللحظة وكما أمرهم الله -تبارك وتعالى-، ولا يتحركون حركة إلا بإذنه وأمره، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، وأقامهم الله -تبارك وتعالى- فيما أقامهم فيه من الأعمال العظيمة، سوق الرياح، سوق المطر، الأرحام، هذا ملك موكل بالأرحام، ملك موكل بالأرواح، كل ملك وكل بعمل من الأعمال يقوم به على النحو الكامل كما أمره الله -تبارك وتعالى-، {........ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:61]، لا يتأخرون ثانية ولا يقدمون ثانية، بل يلتزمون بالوقت المحدد الذي حدده الله -تبارك وتعالى-، في قبض الروح وفي حملها وفي إرجاعها، فهم في طاعة كاملة لربهم -سبحانه وتعالى-، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، ما يؤمرون بالبناء لما لم يسمى فاعله، يعني ما يأمرهم به الرب -تبارك وتعالى- هم منفذون له.
نقف هنا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.