الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (321) - سورة النحل 51-60

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل:51]، {وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}[النحل:52]، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل:53]، {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:54]، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[النحل:55]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- في الآيات التي سبقت هذه الآيات التي قرأناها، أنه الرب الإله وحده -سبحانه وتعالى- الذي يسجد له كل خلقه طوعًا وكرهًا، وتسجد ظلالهم معهم، قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}[النحل:49]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، هنا قال الله -تبارك وتعالى- أمره –سبحانه وتعالى- ديَّت، أصدر الله -تبارك وتعالى- أمره لعباده ألا يتخذوا لهم إلا إله واحد، وهو الرب الإله الذي هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، صدر الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر بأن أظهر إسم الفاعل وهو الله، ما قال وقلت أو وقيل أو ديَّت، وإنما أظهر إسم الفاعل ليبين أنه وهو الآمر بهذا، وأن الآمر بهذا هو الله، الله الذي تعرفه ويعرفه كل خلقه بهذا الإسم، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو، فهو الله الذي لا يستحق هذا الإسم إلا هو، وهذا إسمه الأعظم الدال عليه، وهو الله الإله؛ الإله حقًا، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، وقال الله الذي هذا إسمه -سبحانه وتعالى- {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، لا تتخذوا لكم أي أيها الناس إلهين إثنين، وإثنين تأكيد لإلهين، لا تتخذوا هذا، {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، إنما هو؛ يعني الرب الإله، أو هو الشأن والحال أنه إله واحد، يعني ليس في هذا الكون إلا إله واحد هو الرب -سبحانه وتعالى-.

{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، معبود واحد الذي يستحق هذا، وليس في الكون إلا إله واحد لأن هذا الموجود كله خلقه وأبرزه خالق واحد فقط، والذي يتصرف فيه وله الحكم فيه هو أيضًا رب واحد، إله واحد هو هذا الإله، ولا يشاركه أحد قط ولم يشاركه أحد قط في خلق ذرة من هذا الموجود، ولا في تصريف ذرة؛ فكل التصريف له، فالملك كله له خلقًا هو الذي أوجده، خلقًا من العدم، إيجادًا من العدم، وتقديرًا على ما هو عليه وتصريفًا فيما يتصرف فيه، غنى وفقر، حياة وموت، يحيى، يموت بأمره، يغني، يفقر، يهتدي، يضل، يضحك، يبكي، ما يصيبه من نعمة منه، ما يصيبه من ضر منه، هو كل مخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء خالقه ومولاه، وبالتالي لا إله إلا هو، لأنه لا خالق إلا هو ولا متصرف إلا هو ولا منعم إلا هو، فإذن هو الإله وحده، إذن لا إله غيره، لا ينبغي أن يكون إله غيره، وكا ما يدعى له الإلهية غيره باطل، لأنه لا يخلق، لا يرزق، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، لا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًا، فماذا يفيد بعد ذلك، ماذا يفيد المشرك أن يعبد غير الله -تبارك وتعالى- وأن يتخذ له إله غير الله، أو يتخذ له إله مع الله لأن الله لا يرضى بهذه الشركة، الله لا يرضى بأن يكون له شريك، لأنه ليس له شريك في ذاته ولا في صفاته، فكذلك في حقه على عباده، لا يرضى أن يكون له منافس وشريك يعطى حق مثل حق الله -تبارك وتعالى-، يسجد له مع الله، يركع له مع الله، يدعى مع الله... لا، بل الله -تبارك وتعالى- لا يرضى إلا أن يعبد وحده -سبحانه وتعالى-.

{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، يعني إنما هو الشأن والحال في هذا الكون إله واحد حقيقي، تتخذ إله ثاني يبقى خلاص، يبقى خرجت عن طاعة هذا الإله الواحد -سبحانه وتعالى- وتعرضت لغضبه ونقمته، ثم إتخذت باطل، جعلت ما ليس إلهًا إلهًا وهذا أمر باطل، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، فإياي؛ هو وحده -سبحانه وتعالى- لا لغيره، فارهبون؛ الرهبة؛ خوف مع تعظيم، مع إعظام للأمر المخيف وأن ديَّت، والله -تبارك وتعالى- هو جدير بأن يرهب وأن يخاف، لأنه يعاقب عقوبة شديدة وعذابه مؤلم وأخذه شديد، وإذا تجرأ أحد على معصيته على هذا النحو وشتمه بأن له ولد وأن له إله وأن له ند يبقى قد تعرض لغضب الرب -تبارك وتعالى-، وإذا غضب الرب -تبارك وتعالى- وعاقب فعقوبته شديدة، لا يعذب أحدًا كعذاب الله، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، فإياي فارهبون؛ يخوف الله -تبارك وتعالى- العباد من نفسه -سبحانه وتعالى-؛ منه، وأنهم يجب أن يرهبوا الرب -تبارك وتعالى-، وألا يعتدوا على حقه بأن يتخذوا لهم إله من دونه، لأنه لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}[النحل:52]، فهذا الإله الواحد -سبحانه وتعالى- الذي يجب أن تكون الرهبة كلها له وأن يخاف عقوبته {وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، كل الذي في السماوات من مخلوقات؛ السماوات بما فيها وما تحتوي، والإرض وما فيها كذلك له؛ ملك له، هو خالقها، هو المتصرف فيها، {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}، خضوع العباد له خضوع دائم؛ واصب، فإن العباد قد يخضعوا لغيره ممن يدعي الربوبية أو الألوهية أو يتسلط على الناس، لكن يبقى هذا فترة زمنية قليلة، فملك ظالم، طاغوت، جبار، يأخذ له أيام، يعيش هذا في طغيانه أيام ثم يزول، يزيله الله -تبارك وتعالى-، يزول عن وجه هذه الأرض، أما الرب -سبحانه وتعالى- فله خضوع العباد خضوع دائم، العباد كلهم خاضعون له خضوعًا لا ينقطع، وله الدين؛ الدين اللي هو الخضوع، الدنيا هنا بمعنى الخضوع والجزاء الذي يجازي به العباد هذا ديَّت، يجازيهم جزاءًا دائمًا في الدنيا والآخرة فالدين كله له، الدين بمعنى الشرعة والمنهج والسبيل الذي يسلك، فخضوع العباد في دين الله -تبارك وتعالى-؛ دينه القهري على عباده، حيث يحيون ويموتون ويتصرفون كل التصرفات بحسب أمره الكوني القدري -سبحانه وتعالى-، فالخضوع له خضوع دائم لا ينفكون، ليس لله -تبارك وتعالى- سلطان في وقت عن وقت أخر أو في مكان وليس في مكان أخر، فالدين دائم له -سبحانه وتعالى-، {........ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}[النحل:52]، فالذي له خضوع العباد خضوع تام في كل الأوقات يتخذ يعني يخاف من غيره ويلجأ إلى غيره، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}، أفغير الله؛ أفغير الله الرب الإله الذي هذا شأنه وهذا فعله وهذا ملكه يتقى إله أخر غيره، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}، تخافون.

ثم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، وما بكم؛ أيها المخاطبون من نعمة، أي نعمة، الحياة نعمة، هذا الكيان كله؛ كيان الإنسان نعمة، ما في هذا الكيان من البصر، السمع، القلب، الظفر، أي جزئية من هذه الجزئيات هذي نعم، ولا نستطيع أن نحصي نعم الله -تبارك وتعالى- في كيان الإنسان، ثم ما يرزقه الإنسان من هذه النعم، من طعامه الذي يطعمه، شرابه الذي يشربه، لباسه الذي يلبسه، بعد ذلك زوجته، أولاده الذين رزقهم، بيته، سكنه، أثاثه، الأرض التي هو عليها، البحر الذي ينظر إليه، السماء التي فوقه، كل هذه النعم هي منه، كل النعم التي يتقلب فيها هذا المخلوق هي منه -سبحانه وتعالى- وليست من غيره، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ}، أي نعمة، {فَمِنَ اللَّهِ}، لأنه هو الخالق وحده وهو الرازق وحده، فلا يخلق إلا هو ولا يرزق إلا هو ولا يجري هذه النعم إلا هو، من الذي يجري الشمس؟ أكبر نعم الله -تبارك وتعالى- على هذه الأرض ومن فيها، فمجريها هو الرب -تبارك وتعالى-، من الذي يجري القمر؟ من الذي خلق البحر؟ من الذي خلق هذه الأسماك فيها؟ فكل هذه النعم إنما الله -تبارك وتعالى- هو مجريها وهو بارئها وخالقها -سبحانه وتعالى-، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل:53]، وهذا كان حال العرب وحال كثير من الكفار والمشركين، أنهم في وقت الضر ...، الضر؛ الضرر الشديد، كما يكون في حالة من يشرف على الغرق في البحر، ضر عظيم جدًا خلاص يصبح يعاين الموت، {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}، ثم إذا مسكم؛ أصابكم ونالكم الضر، أي ضر في البر، في البحر، فإليه؛ لا إلى غيره، تجأرون؛ الجآر هو رفع الصوت وديَّت، بالدعاء والإستغاثة واللجء إلى الله -تبارك وتعالى-، فإليه تجأرون يعني ترفعون أصواتكم بالإستغاثة وبالجآر إلى الله -تبارك وتعالى- في أن ينجيكم من الضر الذي وقعتم فيه.

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:54]، فهذا الرب الإله الذي تلجأ إليه مخلوقاته عندما يصيبها الضر، لما يكشف الضر بعد هيجان البحر والإشراف على الغرق دعوه، فأسكن الله -تبارك وتعالى- الريح، هدأت العاصفة وارتاحوا، وخرجوا من لجة البحر إلى الأرض وديَّت، وأصبحت الأرض يابسة تحت أرجلهم نسوا الله -تبارك وتعالى- ورجعوا إلى أصنامهم وشركهم، كانوا في ضر، قحط شديد، ما جاهم مطر، لجأوا إلى الله -تبارك وتعالى- يستغيثونه أن ينزل بهم المطر، فأرسل الله -تبارك وتعالى- المطر وجرت الأنهار ونبت الزرع، ثم ينسى بعد ذلك كثير من الناس ينسى الرب -تبارك وتعالى- الذي لجأوا إليه في وقت ضرهم، {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ ........}[النحل:54]، جماعة، فرقة، {مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}، بربهم؛ بخالقهم، برازقهم، بمن لجأوا إليه وجأروا إليه وتوجهوا إليه بالدعاء، يشركون؛ يجعلون لله -تبارك وتعالى- شريكًا، في أن يدعوا غيره، في أن يطلبوا من غيره، في أن يسجدوا له، في أن يؤدوا له أنواع من العبادات التي لا تجوز ولا تنبغي إلا لله -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}، اللام هذه لام العاقبة؛ ليكفروا، يعني ليكون هذا رجوعهم إلى الكفر، إلى الشرك بالله -تبارك وتعالى-، ونيسانهم ما دعوا به ربهم -تبارك وتعالى- حال الضر، هذي العاقبة التي دخلوا فيها هي الكفر بالله -جل وعلا-، قال {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}، من هذه النعم، ومنها إنجائهم من الضر الذي كانوا فيه، قال -جل وعلا- {فَتَمَتَّعُوا}، تهديد، فتمتعوا أي بما أنتم فيه من المتعة، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، فسوف تعلمون؛ سوف تعلمون عاقبة إجرامكم هذا، عاقبة شرككم بالله -تبارك وتعالى-، عاقبة رجوعكم إلى الله -تبارك وتعالى- في حال الضر ثم الرجوع إلى الشرك والكفر في حال بعد أن أكرمكم الله -تبارك وتعالى-، وأنجاكم من الضر الذي كنتم فيه، قال {........ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[النحل:55].

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- لون جديد من ألوان شرك وكفر هؤلاء المشركين، فقال -جل وعلا- {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}[النحل:56]، {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ........}[النحل:56]، الجعل هنا أنهم هو التصيير، يعني جزء من النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليهم؛ من الحرث ومن الأنعام و ...، يجلعونها؛ يوجهونها، الله يقولم {لِمَا لا يَعْلَمُونَ}، لما لا يعلمون أنه إله ديَّت، أصنام إتخذوها بأيديهم ونحتوها، آلهة مدعاة، نصيبًا؛ يجعلون نصيب، مما رزقناهم؛ نحن الذين رزقناهم هذا، فهذا الحرث اللي هو هذه الزراعة والثمار وهذه الأنعام هي رزق من الله -تبارك وتعالى- لهم، لكنهم يأخذونها وهي رزق الله وعطائه لهم ويوجهونها إلى غيره، يوجهونها للآلهة التي نصبوها أنداد لله -تبارك وتعالى-، {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}[النحل:56]، ووصف الله -تبارك وتعالى- الأصنام التي إتخذوها قال {لِمَا لا يَعْلَمُونَ}، لأن ما عندهم علم ولا عندهم سلطان بأن هذه آلهة وإنما هكذا، فإن كان عبدوا الشمس، عبدوا هبل، عبدوا القمر، عبدوا النجوم، عبدوا اللات، عبدوا العزة، عبدوا غيره، ما عندهم أي علم ولا أي سلطان ولا أي برهان أن هذه آلهة تستحق هذه العبادة، وتستحق أن تعطى ما يعطونه من رزق الله -تبارك وتعالى- الذي رزقهم إياه، {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}[النحل:56]، تالله؛ والله، يقسم الله -تبارك وتعالى- بنفسه -جل وعلا-، لتسألن؛ تسألن بالبناء لما لم يسمى فاعله، وهو الذي سيسألهم الله -تبارك وتعالى-، سيسألكم الله -تبارك وتعالى- عما كنتم تفترون؛ تكذبون، فهذا افتراء، تسمية هذه المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر آلهة والحال أنها ليست بآلهة، إنما الله هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}.

ثم لون أخر من ألوان نجاسة قلوبهم وشركهم وكفرهم ونسبتهم إلى الله -تبارك وتعالى- ما لا يليق به -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}[النحل:57]، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:58]، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل:59]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}، يجعلون؛ هنا الجعل بمعنى الإعتقاد، فقد جعلوا لله البنات، زعموا بأن الملائكة هم بنات ولسوا ذكورًا، وأنهم بنات الله؛ ولدوا لله -تبارك وتعالى- من الجن، زعموا أن الله تزوج بالجن وولد له الملائكة، تعالى الله -تبارك وتعالى- عما يقولون علوًا كبيرًا، وجعلوا لله بنات علمًا أن هم في أنفسهم لا يقبلون بالبنات، يعني العربي المشرك الجاهل كان يكره أشد الكراهية أن يرزقه الله -تبارك وتعالى- بنتًا، فأنت لا ترضى أن يكون لك بنت ثم تجعل للملائكة الذين ولدوا لله في زعمك وفي ظنك بنات، إذا كان الله -تبارك وتعالى- هو الخالق الذي يخلق ما يشاء، وهو الذي يعطي عباده الذكور والإناث، فيعطيهم الذكور ويخص نفسه بالبنات، لما تجعل هذه القسمة لربك -سبحانه وتعال-! قال -جل وعلا- {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}، فيزعموا أن الملائكة بنات الله، قال -جل وعلا- {سُبْحَانَهُ}، سبحانه أن يكون له ولد؛ بنتًا، وسبحانه كذلك أن يجعل ملائكته إناث، فإن الملائكة ...، الذكورة والأنوثة إنما هي في البشر وفي الجن، أما الملائكة فإنهم خلق ليس فيه ما يسمى مذكر أو مؤنث، وإنما هم خلق ملائكة خلقهم الله -تبارك وتعالى- على هذه الصورة التي خلقهم عليها دون ما يسمى بالذكورة والأنوثة، قال -جل وعلا- {........ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}[النحل:57]، لهم؛ لأنفسهم، ما يشتهون؛ يحبون أن يكون لهم الذي يشتهونه هم، والذي يشتهونه هو أن يكون لهم الذكور.

الله يقول ...، انظر شدة كراهيتهم للأنثى، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى}، بشر أحدهم؛ البشارة هي الإخبار بما يسر، لكن هنا يعني أخبر بأنه جائته بنية؛ جائته بنت، فعند ذلك الله يقول {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}، من الغم والهم والكرب إن جائته بنت، {وَهُوَ كَظِيمٌ}، كظيم يعني كاظم لغيظه، يعني هو مغتاظ في نفسه أشد الغيظ ولكنه يكظم هذا حتى لا ينفجر ويغضب، {وَهُوَ كَظِيمٌ}، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ}، يشبه الله -تبارك وتعالى- حال المشرك الكافر عندما يأتيه بنت ماذا يكون حاله، فأولًا يصير كاظم لغيظه وهمه وغمه، وأنه في اليوم الذي جائته هذه البنت يتوارى من القوم، ما يحضر مجالسهم، ما يلتقي بهم، وإنما يهرب من مواجهة الناس حتى لا يعيروه بذلك، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}، يعني من هذا الأمر السيء شديد السوء الذي بشر به، حتى لا يعير به ولا يؤنب ولا كذا ولا يستهزأ به، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}، ثم {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}، يعني يبقى متردد بين هذين الأمرين، ماذا يصنع بهذه البنت التي جائته، أيمسكه على هون؛ يعني يجعلها حية، على هون؛ على ذلة، ذلة في نفسه وذلة من المجتمع الذي يرثى له ويحتقره على هذا الأمر، على هون؛ على ذلة، أم يدسه في التراب؛ أم يأخذه خلسة ويخرج به ويحفر لهذه البنت ويدسها في التراب ويأدها ويغطي عليها، هذا يعني الحال للمشرك؛ أعلى حال من الهم والغم، والضيق أشد الضيق بأن يأتيه بنت، فكيف يا أيها المشرك يا من هذا حالك مع الأنثى تقوم تعتقد وتقول بأن الملائكة خلقهم الله -تبارك وتعالى- إناث، وتنسب هذا لله -تبارك وتعالى-، يعني على كل حال إذا أردت إجعل لربك ما تحبه لك أنت، فأنت إذا كنت تكره الأنثى فكيف تجعل لله -تبارك وتعالى- الأنثى، يعني بلغ بهم فساد الإعتقاد إلى هذا الحد من نسبة النقص إلى الله -تبارك وتعالى-، الذي هم لا يرضونه لأنفسهم ولكنهم يرضوه لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، ألا؛ فإعلموا، ألا الإعلامية، ساء ما يحكمون؛ يعني أمر سيء الذي حكموا به على الله -تبارك وتعالى-، فإنهم حكموا لله -تبارك وتعالى- بما لا يحكمون به ولا يرضون به لأنفسهم، رضوا لله -تبارك وتعالى- بالأمر الدنيء الذي لا يرضونه هم لأنفسهم، {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النحل:60]، {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، هؤلاء المشركون لا يؤمنون بالآخرة، لأنهم يعتقدوا أن هي الحياة إنما هي الحياة الدنيا فقط، وأنهم إذا ماتوا فلا بعث بعد ذلك ولا نشور ولا حياة بعد ذلك، وأن هذا الكون ماشي سائر على ما هو سائر عليه، الشمس ثابتة وهذا الكون ثابت والحال أنه بالنسبة إليهم أرحام تدفع وأرض تبلع في النهاية، ولا حكومة ولا قيامة ولا نهاية لهذا العالم، بل هو سائر على هذه المسيرة التي هو سائر عليها ولا بعث لهم، {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، قال -جل وعلا- {مَثَلُ السَّوْءِ}، المثل السيء، فالمثل السيء ينطبق عليهم هم بكل شيء، لأنهم منتكسون في فهمهم وفي عقولهم وفي حكمهم على الرب -تبارك وتعالى-، فالذي يحكم على الله -جل وعلا- بأنه لا يعيد البشر ليحاسبهم وبالتالي يجعل الله -تبارك وتعالى- كأنه خلق الخلق عبثًا وسدى، هذا من أسواء المخلوقات عقلًا وفهمًا، فقد حكم على ربه الإله الذي خلق هذا الخلق بأنه على هذا النحو، نسب إليه السفه والطيش وأنه يخلق لا لغاية ولا لهدف، فهذا الذي عقله على هذا النحو وهو يعتقد بأن الله خالق هذا الكون، إذا كنت تعتقد أن الله خالق هذا الكون فلابد أن تعتقد فيه الحكمة العظيمة والعلم التام والرحمة بالعباد، فكيف يليق بهذا الرب الذي خلق هذا الكون أن يتركه ويهمله سدى وعبثًا! فلذلك يعني الذي صدر منهم هذا، صدر منهم نسبة أن ينسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- السفه والطيش وأنه لم يخلق خلقه لغاية وهدف وإنما خلقهم سدى وعبثًا، الذي نسب إلى الله -تبارك وتعالى- هذا لا يستبعد عليه أن ينسب إلى الله –تبارك وتعالى- غير ذلك، من هذه الألوان من أن يخلق الله -تبارك وتعالى- الملائكة إناث، ويصطفي نفسه بالإناث ويعطيهم هم الذكور، {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}، قال -جل وعلا- {........ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النحل:60]، الله له المثل الأعلى، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هو أولى من خلقه بكل كمال، كل كمال يكون في الخلق الله أولى به، فإذا كانت من الحكمة هي من صفات الكمال في المخلوق فالله أولى بذلك، كذلك إذا كان العلم من صفات الكمال الله أولى بذلك، كل كمال في المخلوق الله أولى به لأن الله -تبارك وتعالى- هو خالقه وهو مسديه -سبحانه وتعالى-، فكل كمال للمخلوق الله -تبارك وتعالى- أولى به، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ}، الغالب الذي لا يغلبه أحد، {الْحَكِيمُ}، الذي يضع كل أمر في نصابه -جل وعلا-.

لهذه الآية -إن شاء الله- عودة في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.