الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (322) - سورة النحل 61-66

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول والأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن أهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النحل:60]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[النحل:61]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}[النحل:62]، {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:63]، يخبر -سبحانه وتعالى- بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة كحال مشركي العرب، الذين بعث فيهم هذا النبي الكريم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فإنهم كانوا ينكرون الآخرة إنكارًا كاملًا، ويعتقدون أن هذا أمر مستحيل أن يكون وأنه ليس إلى هذه الحياة وأن بقاء هذه الدنيا بقاءًا سرمديًا لا إنقطاع له، وأنه لا يوم قيامة يحاسبون فيه بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى-، وقد إعتقدوا ما إعتقدوا ونسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- من السوء ما نسبوا، من ذلك نسبوا إليه أنه تزوج بالجن وولد له الملائكة وأن الملائكة كلهم إناث،  فجعلوا المثل السيء لله -تبارك وتعالى-، المثل السيء عند أنفسهم فإنهم كانوا يكرهون لأنفسهم الإناث، وإذا بشر أحدهم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:58]، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}، لا يستطيع أن يقابل الناس حتى لا يعير بذلك أو لا يستهزأ به بمثل هذا الأمر، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ........}[النحل:59]، هذا كان مصير الأنثى عندهم ومع ذلك يجعلون الملائكة؛ أن الله إختار لنفسه الملائكة، فالله يقول لهم أنتم قد نسبتم إلى الله -تبارك وتعالى- ما تكرهونه لأنفسكم، وكان المفروض أن ينسب إلى الله -تبارك وتعالى- كل كمال، فكل كمال في المخلوق الله أولى به -سبحانه وتعالى-، أما أن يجعل النقص في المخلوق وينسب إلى الله -تبارك وتعالى- فهذا من سوء قياسهم وظلمهم وجهلهم وقولهم على الله -تبارك وتعالى- بلا علم.

قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}، هؤلاء هم الذين يستحقون كل نقص وكل عيب لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، والذي لا يؤمن بالآخرة قد نسب إلى الله -تبارك وتعالى-؛ نسب إلى الله -عز وجل- أنه خلق خلقه عبثًا وسدى، وأنه ليس هو أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى-، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فهؤلاء الذين ضلت عقولهم على هذا النحو هم أليق بمثل السوء، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}، كل كمال ينسب للمخلوق الله أولى به -سبحانه وتعالى-، فالحلم والكرم والجود والقوة والمنعة كل هذه مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- لعباده، الله أولى -جل وعلا- بصفات الكمال من خلقه -جل وعلا-، لأنه هو واهب الكمال لخلقه -سبحانه وتعالى-، فكيف يكمل خلقه ويكون الله -تبارك وتعالى- هو في موضع النقص، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ ........}[النحل:60]، الغالب، الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نصابه.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[النحل:61]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ}، يعني مؤاخذة عندما يقع منهم الظلم يؤاخذهم الله -تبارك وتعالى- مباشرة وعلى الفور، فإنه لا يبقى أحد ولا دابة في هذه الأرض، وذلك أن إهلاك الكافر يتبعه إهلاك الأرض، إهلاك الحرث والنسل، إهلاك كل ما على الأرض، كما كان الشأن لما طغى قوم نوح فإن الله -تبارك وتعالى- أهلكهم وأهلك ما حولهم، أغرق الأرض بكل ما فيها، والذي أنقذ هم الذين كانوا في هذه السفينة، وكذلك قرى لوط أفكها الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها بما فيها، وكذلك قوم عاد فإن الله -تبارك وتعالى- أهلكهم، كما قال -جل وعلا- {........ فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وهؤلاء الآن كفار العرب قد قالوا على الله -تبارك وتعالى- مقالات عظيمة، وظلموا أنفسهم ظلمًا كبيرًا، فنسبة الولد إلى الله -تبارك وتعالى- وعندما نسبوا الولد؛ نسبوا أيضًا له الإناث ولم ينسبوا له الذكور، ونسبوا له الزوجة أنه يتزوج، تعالى الله عما يقولون عن ذلك علوًا كبيرًا، ونسبة الشريك وأن هؤلاء الذي زعموهم بناته الملائكة كذلك جعلوهم شركاء له في العبادة؛ يعبدون معه -سبحانه وتعالى-، ثم أن الله رزقهم رزق من الأنعام فقسموها قسمة جائرة بينهم وبين الرب -تبارك وتعالى-، أعطوا لأصنامهم ما أعطوه وأعطوا لله -تبارك وتعالى-، ثم يعتدون على حق الله في زعمهم ويأخذونه لأصنامهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ........}[الأنعام:136]، ما خصصوه للشركاء لا يمكن أن يذبحوه وأن يتقربوا به إلى الله، {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، فلو يؤاخذهم الله -تبارك وتعالى- بظلمهم هذا لأهلكهم وأهلك ما حولهم، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا}، على هذه الأرض، {مِنْ دَابَّةٍ}، تدب.

{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، لكن إقتضت حكمة الله -تبارك وتعالى- أن يؤخر هؤلاء، فيتركهم في الدنيا يفعلون ما يشاءوا من الكفر والعناد والعذاب، وقد لا يستأصلهم في هذه الدنيا ويؤجل ذلك إلى أجل مسمى، الأجل المسمى اللي هو يوم القيامة، وأنه مسمى يعني أنه محدد عند الله -تبارك وتعالى- لا يتأخر ثانية عن وقته، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}، إذا جاء أجلهم بأن يهلكهم الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا فإنهم لا يتأخرون لحظة عن هذا الأجل، وكذلك إذا جاء أجلهم؛ يعني أجل الجميع، بأن يخرجهم الله -تبارك وتعالى- لفصل الحساب فإنهم لا يتأخرون ولا لحظة واحدة، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}، ساعة من الزمن، لا يتقدمون على هذا؛ على الأجل الذي حده الله -تبارك وتعالى- ولا يتأخرون عنه.

ثم أيضًا إضافة جديدة في هذا السياق من باب ظلم هؤلاء الكفار وعدوانهم على الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}[النحل:62]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}، فالبنات يكرهونها ويجعلونها لله -سبحانه وتعالى-، وكذلك ما يجعلون لله ما يكرهون من الرزق، فمن أمور الرزق التي يكرهونها هي من الرديئة أو الفاسدة فهذه كذلك يوجهونها لله، فالله -تبارك وتعالى- عندهم يعني ما حق الله عندهم فضلة، الفاضل والذي لا يريدونه هذا الذي يجعلونه لله، وكذلك ينسبون إلى الله -تبارك وتعالى- ما يكرهون، فيكرهون الأنثى ولكنهم ينسبونها أنها بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى}، تصف ألسنتهم؛ تقول، ألسنتهم تقول الكذب، والله نسب الكذب هنا إلى ألسنتهم بأنهم يقولونه بأسنتهم، ما هو مجرد إعتقاد بل يعتقدونه وكذلك يرددونه بألسنتهم، أن لهم الحسنى؛ أنهم لهم الحسنى في كل شيء، الأمر الحسن، أن الله -تبارك وتعالى- هو يحبهم وهو يريدهم وهو يرزقهم لهذا وهو يكرمهم، وأنه لو فرض أن يكون ثمة يوم قيامة فإن لهم الحسنى كذلك، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، يعني لئن حصل وكان فيه يوم قيامة فكذلك الأغنياء سيكون الأغنياء، من أعطاهم الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا يقولون كذلك يعطينا في الآخرة، كما يقول من يقوله من الجهال الكفار أن غني الدنيا غني الآخرة، يعني يقيسون الذين أغناهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا ها دول هم الذي أكرمهم ويحبهم، وكذلك إذا كانت الآخرة فكذلك هو يغنيهم ويحبهم.

كما قال العاص إبن وائل السهمي قال لصهيب لما ذهب يقاضيه مال أكله عليه العاص وهو سيد قومه في قريش، فقال له أعطني مالي، فقال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قال له أكفر بمحمد وأنا أعطيك الدين الذي لك علي، قال له والله لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث، قال له أنا أكفر بمحمد حتى ديَّت، فقال دا خلاص ما دام أني سأموت وأبعث فإنني سيكون عندي مال عندما أبعث وأعطيك؛ أسدد لك هذا الدين، يقول هذا إستهزاءًا، يقول هذا إستهزاءًا وقياسًا على أنه ما دام أن الأمر أنه سيكون هناك حياة أخرى، قاله خلاص إذا كان هناك حياة أخرى فسأكون رجلًا غنيًا وسأعطيك ما تطلبه الآن من الدين، قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}[مريم:77]، {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}[مريم:78]، {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}[مريم:79]، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}[مريم:80]، نرثه؛ جريمة هذه قول هذا الإجرام هذا هو الذي سيرثه، ويأتينا فردًا؛ واحدًا، يحاسبه الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء تصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى عند الله، وأن الله يحبهم ومادام أنه قد أعطاهم وأغناهم في هذه الدنيا فإنه يحبهم، فكذلك فستكون لهم الحسنى على كل حال، قال -جل وعلا- {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}، لا جرم؛ لا شك، أن لهم النار؛ يوم القيامة، وأنهم مفرطون؛ منسيون، مهملون، متركون فيها، يعني أنهم سيدخلوا النار ثم إنهم يتركون فيها ترك ديَّت، ولا يسمع لشكواهم ولا يلتفت إلى صراخهم وعويلهم، كما قال -جل وعلا- {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}، ومأواهم النار، فاليوم ننساهم؛ نتركهم ونخليهم، فهؤلاء خلاص يصير ديَّت، هنا يبين الله -تبارك وتعالى- أنهم ساقطون من عين الرب -تبارك وتعالى-، وأنهم يوم القيامة سيكون مصيرهم النار وأنه لن تسمع له شكاة، {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}، متروكون مضيعون مهملون في النار -عياذًا بالله-، وهذا أعظم رد في تبجحهم في أنهم أحباب الله وأهم أوليائه، وأنه أعطاهم وأغناهم في هذه الدنيا ولو وقع يوم القيامة وجاء فإن حالهم سيكون هو حالهم في الدنيا، لأن ما دام أن الله أكرمهم في الدنيا فسيكرمهم في الآخرة، {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:63]، تالله؛ يقسم الله -تبارك وتعالى- بنفسه -جل وعلا- بإسمه الله، تالله؛ والله، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ}، لقد؛ يؤكد الله -تبارك وتعالى- أنه أرسل من قبل بعثة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ إلى الأمم السابقة، أرسل لهم رسل، {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، جاء الشيطان وزين؛ جمل وحسن، في قلوب هؤلاء الكفار أعمالهم، علمًا أنها أعمال خبيثة، ساقطة، لا تستند إلى عقل ولا أدب ولا خلق، فليس من العقل إتخذا إله مع الله والحال أنه لا إله إلا هو، أي عقل يسوغ هذا! أن تكون الشمس أو القمر أو النجوم أو الملائكة أو البشر أو غيرهم آلهة يعبدون مع الله -تبارك وتعالى-، ما العقل في هذا! لا عقل، كذلك لا خلق، ما في خلق فيمن يتخذ له إله دون الله، يعبده ويشكره وينسب له الفضل ويخاف منه، والحال أنه لا فضل بيده يعطيه ولا ضر يدفعه عن عابده ولا يملك له نفعًا ولا ضرًا، بل لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ثم ينسى الرب -تبارك وتعالى-؛ ينسى الرب الإله الخالق الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- ويجحد، فأي خلق في هذا! فهؤلاء لا خلق، هذا الدين الذي إتخذوه لا خلق له، لكن الشيطان جاء زين لهم هذي، زين لهم أعمالهم من الشرك والكفر والجحود، ثم أعمالهم الأخرى التي هي من مفردات هذا الشرك وتنبع عنه، من أن يحكموا في رزق الله -تبارك وتعالى- فيما يشاءون بالهوى، كيف! الله -تبارك وتعالى- هو خالق الخلق وأنت تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء بهواك ولا ترجع إلى إلهك ومولاك تعرف حكمه في هذا الأمر، كيف يكون هذا! عدوان هذا، فيستحلون من الأعمال والأقوال ما يشاءون، ويشرعون لأنفسهم ما يشاءون، فأي عقل في هذا! وأي خلق في هذا! لا خلق ولا عقل، ولكن هذا قد زينه؛ زينه الشيطان لهم، يقولك أنا حر أفعل ما أشاء، كيف أنت حر! خلقك إله رب العالمين، خالق هذا الخلق وله شرعة ومنهاج وأرسل رسل وقال هذا طريقي من إتبعه نجى ومن خرج عنه هلك، وأنت تخرج عن هذا الطريق وتظن أن هذا الرب لا يحاسبك ولا تلتقي به وليست هناك حكومة معه... لا، يبقى كيف هذا! لكن هذا كله تزيين الشيطان، الشيطان زين لهم أعمالهم، قال {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ........}[النحل:63]، جمل لهم وحسن لهم أعمالهم أي في أنفسهم وفي عقولهم، قال -جل وعلا- {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ}، فهو هذا الشيطان وليهم اليوم، اليوم؛ يوم القيامة، يعني خلاص الله -تبارك وتعالى- يلزمهم هذا الشيطان، ويدفعهم إليه ويكونون هو وهم في النار -عياذًا بالله-، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94]، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95]، فيجتمعوا معه، إن هذا الذي عبدتموه فإذهبوا معه، فهذا الذي عبدوه ووالوه وإتخذوا طريقه وتركوا طريق الرب -تبارك وتعالى- أهم معه، كما قال -جل وعلا- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، ثم قال -جل وعلا- {........ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، أفتتخذونه وذريته؛ أتتخذون الشيطان وذريته من الشياطين أولياء من دوني، تتركون ولاية الرب وتوالون الشيطان وذريته، وهم لكم عدو؛ الحال أن الشيطان وذريته أعداء لكم، بئس للظالمين بدلًا، ما دام إستبدلتم ولاية الشيطان عن ولاية الرب -تبارك وتعالى- واشتريتم هذا وتركتم ولاية الرب فلتكونوا معه، قال -جل وعلا- {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولهم؛ للجميع، للشيطان المزين المزخرف ولهؤلاء العميان، الذين إنطمست بصائرهم وإتبعوه وساروا خلفه.

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]، هذي نعمة الرب -تبارك وتعالى- على أوليائه، بعد بيان هذا السوء والفحش والظلمة التي سار فيها الكفار، من نسبتهم إلى الله -تبارك وتعالى- ما نسبوه من النقص وتبجحهم في أنهم أهل الحق، وأن الله ما دام قد أكرمهم في الدنيا فسيكرمهم في الآخرة، بعد كل هذا السوء وأنها ديَّت، الله -تبارك وتعالى- يبين حال أهل الإيمان فيقول {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ........}[النحل:64]، ما أنزلنا عليك؛ يخبر الله -تبارك وتعالى- أنه ما أنزل هذا الكتاب؛ كتاب الرحمة، القرآن، سمي كتاب لأنه مكتوب كتبه الله في السماء ونزل ليكتب في الأرض ويحفظ، إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه؛ يعني أنزل القرآن على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- ليكون هذا القرآن مبين لما إختلف فيه، كل الأمر التي إختلف فيها الناس جاء الله -تبارك وتعالى- فيها بالحق، ما إختلف فيه اليهود وما إختلف فيه النصارى وما إختلف فيه مشركوا العرب وما إختلف فيه الأمم من كل أنواع الإختلاف، في حقيقة الرب -تبارك وتعالى-، في الطريق إليه، في النبوة، في الرسالات، في تشريع الرب -تبارك وتعالى-، فيما يحبه الله -تبارك وتعالى-، في بيان صراطه المستقيم وصرط الشيطان، كلها قد أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن ليبين الله -تبارك وتعالى- للناس الطريق إليه -سبحانه وتعالى-، {........ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]، نزل هذا القرآن هدى؛ هداية، هداية؛ هداية طريق وكذلك هداية في القلب، هداية في القلب يعني هداية توفيق وهداية بيان، ورحمة؛ رحمة لأن الله -تبارك وتعالى- ينقذهم، ينقذ المؤمنين بهذا القرآن من الضلال إلى الهدى، من أي شك إلى الثبات، من الضياع عن الحق إلى البصيرة فيه، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، لكن لأهل دول، هذا الآن محصور اللي هو الهداية والرحمة لقوم يؤمنون، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم.

ثم بعد ذلك فاصل جديد من هذه السورة، يبين الله -تبارك وتعالى- فيها نعمته على عباده، هذه السورة سورة النحل نستطيع أن نقول أنها سورة النعم، سورة تعداد الله -تبارك وتعالى- نعمه على عباده وموقف العباد من هذه النعم، وخاصة موقف الكفار الجاحدين لنعم الله –تبارك وتعالى-، الذين ينسبونها إلى غير الله -تبارك وتعالى- ويعتقدون فيها غير الحق، وموقف أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[النحل:65]، هذا من فعله وكرمه ومنه بعباده -سبحانه وتعالى-، ولا يستطيع أحد ممن إدعيت له الإلهة أن يفعل شيئًا من ذلك، {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ........}[النحل:65]، ماء؛ ماء المطر، ومن السماء؛ من العلو، أحيا به الأرض؛ حياة الأرض فيها نفسها بالأرض تحيا، فإنها تهتز وتربوا وتكون فيها حركة، حركة في الأرض بعد ذلك بتفكك ذراتها بعضها عن بعض وإستقبالها للنبات، ثم الحياة بالنبات الذي يكون حيًا فوقها ويكون بهجة للناظرين، {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، بعد أن تكون هامدة خاشعة قبل نزول المطر، يابسة قد تداخلت ذراتها بعضها في بعض، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}، {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، فهذه حياة للأرض، الله ينزل ماء المطر فيحيي به الأرض بعد موتها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، هذي آية، فإن هذه نقلة هائلة جدًا من الموت إلى الحياة بماء المطر النازل، وانظر كيفية تصريفه على ظهر هذه الأرض، فإن الله -تبارك وتعالى- جعله ينتقل ويتوزع على سطح هذه المعمورة بطريق جميل جدًا، سهل، بديع، انظر هذا السحاب ينشئه الله -تبارك وتعالى-، ثم تسوقه الرياح تبسطه في السماء، في الأماكن ينزل المطر على شكل قطرات مفرق، لا ينزل قطعة واحدة فيدمر وإنما ينزل بهذا الشكل الذي ينزل فيه، بقطرات أو بذرات الثلج عندما ينزل على الأرض، أمر عظيم جدًا وفيه تصريف، ثم يكون في موقع عظيم جدًا بعيد عن مساكن أهل الأرض وفوق رؤوسهم، يرطب لهم ويلطف لهم الجواء؛ الجو والهواء، ويغسل الهواء في أثناء نزوله، رحمة من كل أنواع الرحمة، وأمر بديع وأمر جميل، ففيه متعة وفيه جمال وفيه حكمة عظيمة جدًا في إنشائه وفي توزيعه وفي تسييره، {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ........}[النحل:65]، في كل هذا آية بس لقوم يسمعون قول الحق؛ قول الحق -سبحانه وتعالى-، الله عندما يذكرهم بهذا القول فالذي يسمع هذا ويدرك هو الذي يستفيد بهذه الآية، أما الأعمى الذي تقع أمام عينه ويقع أمام سمعه هذه الآيات؛ لكنه يمر عليها غافل لا يتفكر فيها، فهذا أعمى، هذا لا يسمع، هذا أصم لا يسمع شيء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل:66]، انظر صنيع الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، يقول أمر أخر فيه عبرة، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ}، بهيمة الأنعام؛ اللي هي هذه الثمانية أزواج من الغنم والماعز والإبل والبقر، عبرة؛ العبرة الإعتبار، وهي جاية من العبور وهو النظر فيما هو خلف الأشياء، يعبر ظاهر الأمر إلى ما هو خلفه وما هو المراد منه وكيف وجد، ما الحكمة فيه، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}، عظة وإعتبار، قال -جل وعلا- {......... نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل:66]، هذي عبرة عظيمة جدًا، فإن الله -تبارك وتعالى- يسقينا اللبن الخالص أبيض؛ ناصع البياض أحيانًا، أو يميل من البياض إلى الزرقة في بعض الأنعام، أو إلى الصفرة في البعض الأخر، خالص؛ ما في أي شائبة من المسارات التي يسير فيها في بطون الأنعام، فإن الأنعام تأكل من حشيش هذه الأرض؛ من أكلها الأضغاث التي تأكلها، ثم انظر بعد ذلك هذا المسارات التي يسير فيها الغذاء بعد ذلك، مسار الدم الأحمر القاني ومسار الفرث الذي يذهب إلى روث بعد ذلك إلى المخرج ومسار البول، وانظر المسار بعد ذلك مسار اللبن الخالص، وكله سار في هذه المسارات وتكون خالص من بين فرث ودم، من بين هذه الأخلاط، الفرث ما يكون في بطن البهيمة من هذه الأخلاط من هذا الطعام المختلف الذي تأكله، ولكن يخرج الله –تبارك وتعالى- من هذه البطون هذا اللبن الخالص الأبيض الناصع، {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}، السائغ؛ سهل الشرب، يسوغ شربه لكل أحد، لكل أحد فلا يغص به، يعني لا يغص به ولا يقف في بلعومه وإنما هو سائغ للشرب، لا شك أن من كان عنده عقل وإعتبار ونظر أن هذا الحيوان اللبون هذا مصنع هائل جدًا، يأخذ هذه الأخلاط من الطعام ثم انظر كيف يخرجها بعد ذلك إلى أمر جدًا مختلف، إلى حليب هذا لبن خالص على هذا النحو، ثم إلى ما يدخل في تركيب ومكونات هذا الكائن من لحمه وعظامه وجلده، ثم الفضلات التي تأخذ مسارها لا يختلط بعضها ببعض، هذا أمر لا شك أنه لا يقدر عليه إلا الرب الإله الخالق -سبحانه وتعالى-، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، بطونه؛ بطون الأنعام، {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}، يعني كأنه في بطونه وجاء في الأخرى في بطونها من باب أنه الحيوان، {........ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل:66].

نقف هنا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.