الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (324) - سورة النحل 70-80

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[النحل:70]، {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[النحل:71]، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}[النحل:72]، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ}[النحل:73]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:74]، الآيات هذه من سورة النحل وهي في سياق بيان قدرة الرب -تبارك وتعالى- وفعله وإنعامه على خلقه -سبحانه وتعالى-، وبالتالي ضعف وهوان ما يعبد من دونه وأنه لا يملك شيئًا من صفات الرب -تبارك وتعالى-، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا غير أن يملكه لغيره فكيف يجوز أن يعبد مع الله -تبارك وتعالى-، يعبد الخلوق الضعيف المحتاج مع الرب الإله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، قال -جل وعلا- وهذه من صفاته -جل وعلا- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ}، إبرازًا من العدم -سبحانه وتعالى- وكذلك تقديرًا وتسوية، {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}، هذه رحلة الإنسان لابد الرحلة اللازمة، لابد من الوفاة؛ وهو الموت، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}، العمر المقدر، من الناس بعضًا يرده الله -تبارك وتعالى- إلى أرذل العمر، أرذل العمر؛ أسوأه وأثقله، وهو في عمر الأمة التي بعث فيها النبي بعد الخامسة والسبعين تقريبًا، يبدأ أرذل العمر ويبدأ هبوط ورجوع الإنسان مرة ثانية إلى الضعف، {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}، ضعف القوى العقلية حتى لا يعلم بعد علم شيئًا، بعد أن كان يعلم أمور كثيرة ينسى ولا يتعرف إلى أقرب الناس إليه، إلى أولاده، إلى زوجته، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، سبحانه وتعالى، فالذي أنشأ هذا الخلق على هذا النحو وقدره على هذا النحو وملكه على هذا النحو هو الرب الإله، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، عليم بكل شيء قدير على كل شيء -سبحانه وتعالى-.

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}، من حكمته -سبحانه وتعالى-، يعني أغنى بعض الناس وبسط لهم ومد لهم وضيق على الأخرين، فضل بعضكم على بعض في الرزق درجات، قال -جل وعلا- {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}، يعني الذين فضلهم الله -تبارك وتعالى- في الرزق لا يردون ما فضلهم الله -تبارك وتعالى- به على ما ملكت أيمانهم؛ عبيدهم وأرقائهم، فهم فيه سواء؛ فيكونون سواء في هذا، بل المالك يتمسك بملكه وينفق فيه كيف يشاء ولا يساوي مملوكه معه في الرزق، وهذا فيه بيان ما لا ترضونه كذلك لأنفسكم تريدونه لله -تبارك وتعالى-، تريدون أن يكون لله شركاء في ملكه -سبحانه وتعالى- وتعبدونهم من دون الله -تبارك وتعالى-، والحال أنكم لا تجعلون عبيدكم وإمائكم شركاء في هذا المال تتساوون أنتم وهم في المال الذي أعطاكم الله -تبارك وتعالى- إياه، {........ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[النحل:71]، سؤال للتوبيخ والتأنيب، أفبنعمة الله؛ هؤلاء الذين أغناهم الله -تبارك وتعالى- وأعطاهم هذه النعم يجحدون نعمة الله -تبارك وتعالى- عليهم.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، هذا من فعله كذلك -سبحانه وتعالى-، من أنفسكم أزواجًا؛ زوجات، بدءًا بآدم -عليه السلام- فإن الله -تبارك وتعالى- خلق له زوجة من نفسه، أخذ ضلع من أضلاعه ديَّت، وجعل له إمرأة زوجة نظيره، بشر مثله، ثم جعل الله -تبارك وتعالى- إيجاد الذكر والأنثى من إجتماع الذكر والأنثى، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، لأن الله لو خلق للإنسان أنثى من غير جنسه لما حصل السكن والتلائم والتوافق على هذا النحو، فكان من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن يجعل للإنسان زوجة منه؛ من جنسه، النساء شقائق الرجال، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}، جعلكم لكم من أجواكم؛ بعد الزواج، بنين؛ وذكر الله -تبارك وتعالى- البنين فإن هذا مما يعتز به ومما يفخر به، البنين؛ الذكور، وحفدة؛ أولاد الأولاد، وأولاد الأولاد حفدة لأنهم يقومون بخدمة آبائهم ويسعون في هذا الأمر، فالحفد هو السعي والجد والإجتهاد والخدمة، فجعل الله -تبارك وتعالى- لكم من أزواجكم بنين وحفدة، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، رزق من الطيبات في المطاعم والمشارب والملابس، فتطعمون وتشربون من الطيبات، أنواع الفواكه وأنواع اللحوم والألبان وغيرها مما رزقه الله -تبارك وتعالى- الإنسان من الحلال الطيب الذكي، هذي بعض هذه الأطعمة طيب في طعمه، طيبة في الرائحة، طيبة في الشكل، فرزقكم من شئون الطيبات هذا أمر كثير متعدد لا يمكن أن يحصره الإنسان، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}، أفبالباطل يؤمنون، الباطل؛ الآلهة التي تعبد من دونه -سبحانه وتعالى-، فيعبدونها ويشكرونها ويقدمون له القرابين وهي باطل، لم تخلق شيئًا من هذا الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، ولا منة لها على عابدها في شيء من ذلك، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}، أفبالباطل يؤمنون؛ فيشركون به -سبحانه وتعالى- ويجعلون له ندًا ممن لم يخلق شيئًا ولم يرزقهم شيئًا ولم يعطهم شيئًا مما أعطاهم الرب -تبارك وتعالى-، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}، بنعمة الله؛ نعمة مفرد مضاف إلى معرفة؛ الرب -تبارك وتعالى- فتعم، أي بنعم الله -تبارك وتعالى- هم يكفرون، هم يكفرون؛ جاء هنا الإخبار بطريق هذه الجملة ليدل على أن هذا فعلهم، كأن هذا الأمر المستقر عندهم الكفر بالله -تبارك وتعالى-، والكفر بالله؛ الجحود به، الشرك به -سبحانه وتعالى-، يعني كفرون نعمة الله، يسترونها، يجحدونها، وجعلهم شريك لله -تبارك وتعالى- في هذا كفر بحق الله -تبارك وتعالى- وبنعمه الكثيرة التي أنعمها عليهم.

قال -جل وعلا- {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ}[النحل:73]، هذه نعم الله -تبارك وتعالى- عليهم وبعد ذلك ينصرفون فيعبدون من دون الله؛ غير الله -سبحانه وتعالى-، {........ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ}[النحل:73]، الذي لا يملك لهم الرزق؛ الرزق الذي به حياتهم، لا ينزل لهم مطر من السماء ولا ينبت لهم زرع من الأرض، {مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا}، شيء قليل من هذا الرزق، {وَلا يَسْتَطِيعُونَ}، لا قدرة عندهم أيضًا أن يرزقوهم بشيء، فكل الآلهة هذه التي عبدت من دون الله لا تخلق ذرة، لا تخلق برة، لا تخلق حبة قمح واحدة ولا حبة أرز واحدة، فكيف يترك العبد يترك الرب الإله الذي لا إله إلا هو خالقه ورازقه والمنعم عليه بكل هذه النعم، والذي لا منعم عليه غيره ثم يأتي ويعبد ما لا يملك له رزقًا من السماوات والأرض شيئًا، {وَلا يَسْتَطِيعُونَ}، ولا يستطيعون أن يخلقوا لهم شيء ولا يرزقوهم بشيء.

ثم قال -جل وعلا- {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:74]، فلا تضربوا لله الأمثال؛ الأمثال الباطلة، التي ضربوها لله بأنه تزوج وأنه جاء له البنات وأن الملائكة بناته، وأنهم يعبدون الملائكة ليقربوهم إلى الله -تبارك وتعالى- كشأن ملوك الأرض، فإن ملوك الأرض لا يتوصل إليهم إلا بواسطة وزلفى تقربهم، من قريب لهذا الملك؛ إبن أو زوجة أو وزير أو نحو ذلك، فإتخذوا، ضربوا هذا مثل لله -تبارك وتعالى- وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، من عبدوهم من دون الله؛ الملائكة، وقالوا لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا تملكه وما ملك، فضربوا لها الأمثال أن الله يملك هؤلاء الآلهة اللي هم الملائكة وهم لا يملكون شيئًا، لكنهم لابد من دعوتهم حتى يقربوا ويرفعوا دعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، أمثال طويلة في الباطل والشرك يضربوها لله -تبارك وتعالى-، قال لهم الله -تبارك وتعالى- {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، أمثال الكفر والشرك، {........ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:74]، إن الله يعلم وقد أحاط علمًا بكل شيء وأنتم أيها الكفار المشركون لا تعلمون، بكل إنسان لا يعلم إلا ما علمه الله -تبارك وتعالى-.

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- مثلين لذاته العلية -سبحانه وتعالى- ولما يعبد من دونه، فقال -جل وعلا- {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:75]، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}، لكم، إسمعوا هذا المثل، والمثل هو تصوير معنى أمر معنوي ويصور بأمر حسي من المشاهد، {عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، عبد لغيره من البشر، مملوك؛ يملكه صاحبه، لا يقدر على شيء؛ يعني لا يقدر على شيء من العمل ومن الخروج ومن التصرف إلا بإذن مولاه، فإن العبد في ملك سيده، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}، رجل أخر حر رزقه الله -تبارك وتعالى- منه رزقًا حسنًا، {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}، هذا مالك وحر وليس هناك أحد يملكه فهو حر يتصرف في ماله كيف يشاء وينفق منه سرًا وجهرًا، {هَلْ يَسْتَوُونَ}، هل يستوي هذا وهذا؟ هل يستوي هذا العبد المملوك الذي لا يستطيع أن يتصرف في درهم في يده لأنه هو وماله ملك لسيده؛ ولا يقدر على شيء، لا يقدر على الكسب إلا بإذنه ولا على الإنفاق إلا بإذنه، وبين الحر؛ إنسان ثاني حر، عنده مال كثير، رزقه الله مالًا كثيرًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا، {هَلْ يَسْتَوُونَ}، هل يستوي هذا وهذا؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، فالعبد المملوك كل ما خلق الله -تبارك وتعالى- كلهم عبيده، ولا يتصرفون أي تصرف إلى بإذن إلههم ومولاهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-، والعبد الذي رزقه الله -تبارك وتعالى- وهو يتصرف كما يشاء ضربه الله -تبارك وتعالى- مثل نفسه، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الرب الغني القادر -سبحانه وتعالى-، الذي يتصرف في ملكه وخلقه -سبحانه وتعالى- دون أن يكون هناك من يلزمه بشيء ومن يأمره بشيء -سبحانه وتعالى-، فله الأمر كله وله العطاء كله ويتصرف في خلقه كما يشاء -سبحانه وتعالى-، فهل يستوي هذا وهذا؟ هل يستوي الرب الإله المالك لكل شيء -سبحانه وتعالى-، المتصرف في خلقه كما يشاء، وعبد الله، عباد الله، كل ما سوى الله -تبارك وتعالى-، من ملك وبشر وجن، ملائكة أو بشر أو جن أو سماوات أو أرض كلها إنما هي مملوكة للرب، لا تصريف لشيء منها إلا بأمر مولاها، فالملائكة لا تتصرف في أي أمر إلا بإذن مولاهم، نزولًا، صعودًا، خروجًا، دخولًا، وكذلك كل هذه المخلوقات إنما هي في قبضة الله -تبارك وتعالى- وتحت قهره، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83]، فهل يستوي هذا وهذا؟ الله ضرب لهم مثل هنا من المشاهد، بين رجل غني يتصرف بإرادته ومشيئته كما يشاء وبين عبد مملوك لا يستطيع أن يتصرف بأمر ديَّت، فهل يكون هذا مثل هذا؟.

مثل أخر يضربه الله -تبارك وتعالى- له ليبين الفارق الهائل، بين الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- وبين ما يعبد من دونه، قال -جل وعلا- {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل:76]، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}، مثلًا أخر، {رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ}، البكم اللي هو فقد النطق، وفقد النطق تابع لفقد السمع، {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، ما في، ما تعلم، وذلك أن السمع هو وسيلة التعليم، فهذا لم يتعلم شيء وأصبح ما يقدر على شيء من الأشياء التي يمكن أن يؤديها غيره من أهل العلم، هذا من ديَّت، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ}، كل؛ تعب، ويعني عالة كاملة على مولاه، مولاه؛ أبوه، أخوه الكبير، سيده، هو أبدًا يعني حمل عليه، في أكله، في شربه، في تصريفه، في نقله، في غسله، في كل أموره التي يجب أن يقوم بها؛ يقوم بها مولاه عنه، {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}، لو وجهه لأي وجهة لا يأتي بخير لأنه لا يعرف، فإذا قال له إذهب هات هذا أو إفعل هذا أو إذهب إلى هنا أو إفلح هذا الأمر فهو لا يأتيه بخير في أي وجهة يسيره فيها، هل يستوي هذا؟ {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، إذا كان هناك رجل يأمر بالعدل، يعرف العدل ويأمر به وهو على صراط مستقيم في العدل، فقائم بالعدل والحق وعلم ومهتدي ويسير على صراط مستقيم، هل يستوي هذا وهذا؟ فهذا حال الأصنام التي تعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، صماء، بكماء، لا تقدر على شيء ولا تنفع صاحبها بشيء وهي كل على عابدها، فهي ينقلها ويحميها ويزينها، يغطيها، بل هو يصنعها، هذه الأصنام وهذه الآلهة ديَّت هو صانعها وهو المعتني فيها وهو المدافع عنها، ولو جاء ثعلب ليبول عليها؛ يبول عليها، فهي كما قال ذلك الأعرابي لما مر على صنم ووثن من أوثانهم وقد جائت الثعالب وبالت عليه، فقال ((أرب يبول التعلبان برأسه، ألا هان من بالت عليه الثعالب))، فهل هذه الأصنام الصماء البكماء هذه والتي هي مفتقرى إلى هذا الذي يعبدها في كل شيء؛ في صناعتها وخدمتها والعناية بها، تساوى بالله الرب الإله الذي لا إله إلا هو خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، العليم بكل شيء... شتان، فلا عقل هذا عند هذا عابد الوثن وعابد الصنم، الذي ترك عبادة الرب الإله الواحد -سبحانه وتعالى- وراح يعبد صنم على هذا النحو، فالله ضرب لهم مثل بهذا، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل:76].

قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[النحل:77]، هنا جاء التهديد والوعيد لهؤلاء ولينتظروا العقوبة، هؤلاء المشركون الذين عميت أبصارهم على هذا النحو وسووا بين الله -تبارك وتعالى- وبين هذه المخلوقات، بل هذه الأصنام المرزولة سووا بينها وأعطوها ما لم يعطى الله -تبارك وتعالى-، فقال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الغيب الذي يكون في السماوات والأرض، سواء كان هذا الغيب غيب إضافي أو الغيب المستقبلي الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، يعني كل ما غاب في السماوات والأرض مما هو يغيب عن بعض المخلوقين دون بعض، أو غيب السماوات والأرض ما يحصل للسماوات والأرض بعد اللحظة التي فيها الكلام اللي هو المستقبل، هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، ما أمر الساعة؛ عند حدوثها الذي يثتثقله هؤلاء، إلا كلمح البصر؛ يعني إذا أمر الله -تبارك وتعالى- بها فإن مجيئها يكون كلمح البصر، لا تحتاج إلى معالجة وطول أمر وإنما كلمح البصر تقوم الساعة، أو هو أقرب؛ أو هو أقرب من هذا، يعني أقل من لمح البصر، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فالله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، فالإتيان بالساعة بهذه السرعة الهائلة التي هي كلمح بصر أو أقرب من لمح البصر هذا من عظيم قدرة الرب -تبارك وتعالى- على خلقه، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، أيضًا عاد سياق السورة بعد ذلك لتذكير الخلق بفضل ونعم الرب -تبارك وتعالى- في خلقه وأياته في سائر جنبات هذا الخلق، وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى- عليهم بما خلق لهم من الخلق، فأولًا بدأ الله -تبارك وتعالى- هنا بخلق الإنسان؛ هذا المخاطب المكلف، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}، الله -سبحانه وتعالى- لا غيره هو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم، حيث في بطون الأمهات كانت بداية الحياة والبذرة الأولى للإنسان، في أرحام الأمهات؛ والرحم في البطن، {لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، عندما خرجتم إلى هذه الحياة وخروجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، لا يعرف الخارج من بطن أمه شيء، ما يعرف شيء من أشياء الحياة، ثم بدأت هداية الرب -تبارك وتعالى- له، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ}، اللي هو أعظم وسيلة للهداية، يسمع الأصوات فيعلم المراد وديَّت، {وَالأَبْصَارَ}، كذلك الوسيلة الثانية، {وَالأَفْئِدَةَ}، القلوب، هذه وسائل المعرفة، هذه وسائل المعرفة التي يعرف بها الإنسان ويتعلم بها الإنسان، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أعطاكم هذا لعلكم تشكرون، تشكرون الرب -تبارك وتعالى- عندما تروا قدرة الرب وهذا الإنعام العظيم للرب -تبارك وتعالى- عليكم فيما خلق لكم من هذه الوسائل، السمع والأبصار والأفئدة؛ قدم الله -تبارك وتعالى- السمع لأنه أعظم آلة للإنسان في باب العلم، باب العلم هذا ديَّت، فإن التعلم عن طريق السمع هو أكبر تعلم يتلقاه الإنسان عن طريق السمع، {وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

آية من آيات الله -تبارك وتعالى- لخلقه، قال {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:79]، {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}، أنواع الطيور، {مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ}، مسخرات؛ مذللات، في جو السماء؛ طيرانًا، رحلة من الشرق إلى الغرب، من القطب إلى القطب، من جنبات ديَّت في بيئة واحدة لا تتعداها، في بيئات تخرج من قارة إلى قارة، فهم مسخرات في جو السماء على هذا النحو، آية من آيات الله -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}، ما يمسكهن في هذا الطيران وفي هذه الرحلات المتتابعة من هنا وهنا إلا الله، وإلا فهذا الطير هذا ما هي القدرة والإمكانية لأن يطير هذا الطيران، وأن يستمر هذا الوقت الهائل في الطيران على هذا النحو، فإن الله -تبارك وتعالى- هيأ له، نظم له، خلقه على هذا النحو وأعطاه هذه القدرة، وأعطى بعض الطيور القدرة على أن تجوب المحيطات البعيدة، قدرة هائلة جدًا، كيف هذا طائر صغير يجوب المحيط من أقصاه إلى أقصاه، ويذهب من القطب إلى قطب أخر في رحلات بعشرات الآلاف من الكيلومترات، ليس معه أي آلة مما يستخدمه الإنسان في هذه الرحلات، بوصلة وخرائط تنظم رحلته وتبين إتجاهه، وقدرة من الوقود التي يحملها حتى يقطع هذه المسافة، كل هذا قال -جل وعلا- {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}، لا يمسكهن في جو السماء على هذا النحو إلا الله -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، إن في ذلك؛ في هذا الخلق، ذلك المشار إليه يعني خلق الطير وتسخيره في السماء على هذا النحو، لآيات؛ دلالات واضحات على قدرة الرب -جل وعلا-، لكن لقوم يؤمنون؛ كأنها محصورة لأهل الإيمان، وذلك أن أهل الكفر والجحود والنسيان ينسون ذلك، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، لا يتفكرون في مثل هذا.

ثم آية جديدة من آيات الله -تبارك وتعالى- ونعمة من نعمه، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}[النحل:80]، هذا أيضًا من إنعام الله -تبارك وتعالى- وتفضله على بني آدم، قال {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}، من بيوتكم التي تبنونها بأي صورة من صور البناء، بالحجر، بالطين، بالقش، جعل فيها سكن، والسكن؛ السكينة والراحة والكمأنينة للنوم وللإستراحة، فهذي تهيئة الله -تبارك وتعالى- للإنسان أن يبني بيتًا ليسرتيح فيه، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا}، من بيوت الأنعام؛ تذبحوا الأنعام، تأخذوا جلودها، تدبغونها، تعملون منها خيام، بيت، {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}، هذه الخيام المتخذة من جلود الأنعام هذه بيت خفيف، يوم ظعنكم؛ سفركم، فعندما تسافر لا تستطيع أن تحمل بيت من الحجر والطين فتحمل بيت من الجلد ومن الشعر، تحمله معك فتستخفه، ويوم إقامتكم؛ كذلك في الإقامة كذلك ممكن الإنسان يعني وهو في الحاضرة يستخدم هذا البيت، {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا}، الأصواف المأخوذ من الغنم، وأوبارها المأخوذ من الإبل، وأشعارها المأخوذ من المعاعز، {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، أثاث؛ مما يستخدم في البيت وخارج البيت، وأمتعة إلى حين؛ إلى حين الموت وإلى حين نهاية الحياة، هذا كله من خلق الرب وإنعامه -سبحانه وتعالى-.

نقف عند هذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.