الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (325) - سورة النحل 81-89

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}[النحل:80]، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}[النحل:81]، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:82]، {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83]، هذه الآيات من سورة النحل في بيان تعداد نعم الله -تبارك وتعالى- على خلقه، وأن الرب الإله الذي لا إله إلا هو، الذي خلق لعباده كل هذه النعم وأنه لم يشركه أحد -سبحانه وتعالى- في ذلك، قال {وَاللَّهُ}، بسم الله -تبارك وتعالى- الذي يعلمه كل الخلق؛ الله، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}، من بيوتكم؛ البيت من المبيت الذي يبات فيه، مكان للسكن، للراحة والأمن، فإن الإنسان لو كان على قارعة الطريق لا يكون في سكن، في هذه في العراء وفي الجواء لا يكون في سكن، البيت سكن، فهذا من تيسير الله -تبارك وتعالى- ومن خلق الله للإنسان، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا}، هذي بيوت أخرى من جلود الأنعام؛ هذه صفتها، {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}، ترى أنه خفيف؛ بيت يحمل، غير بيت الحجر والمدر فهذا بيت ثابت، وبيت ثاني تحمله، تسخفونها يوم ظعنكم؛ في يوم سفركم، ويوم إقامتكم؛ كذلك يستخف هذا البيت الصغير، كما هو الشأن في كثير من الناس في الحاضرة يقوم يبني بيت، يبني خيمة من هذه، يضرب خيمة، كذلك خيمة خفيفة بيت محبب إلى النفوس، {وَمِنْ أَصْوَافِهَا}، من أصواف الأنعام، {وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا}، يعني الجلود تأخذونها وتنتفعون بها، ومن أصوافها؛ المأخوذ من الغنم، وأوبارها من الإبل، وأشعارها من الماعز، {أَثَاثًا}، تعملونها أثاث، من الفرش والبسط والمراكب، {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، تتمتعون بهذه إلى حين، إلى حين الوفاة وإلى حين الموت وإلى حين نهاية هذه الدنيا، فهذا من خلقه ومن تيسيره -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا}، جعل لكم من الذي خلقه ضلالًا؛ قال مما خلق ظلالًا، فالإنسان يستظل من الشمس بأمور كثيرة، بالجبل في ديَّت، بالأشجار، بالبيوت، بالعرائش، بكل ما هو مسمط له ظل، فخلق لكم أشياء كثيرة تجعلونها ظل؛ ستر بينكم وبين الشمس، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}، نصب الله -تبارك وتعالى- الجبال ومن رحمته أن خلق فيها أكنان؛ بيوت داخلها، مغارات، المغارة يدخل لها فوهة ثم يدخل داخلها فإذا بها مكان فسيح عظيم، ففي هذه المغارات يأوي إليها الرعاة بأغنامهم وبمواشيهم، يدخلونها ويستكينون بها بل يسكنها كثير مما يسير وممن يقيم فيها، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}، كن، جمع كن، تسكنون فيه من المطر ومن البرد أنتم ومواشيكم، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، سرابيل؛ ملابس، السربال هو اللباس، تقيكم الحر؛ وذكر الله -تبارك وتعالى- الحر ولم يذكر البرد، لأن الحاجة إلى السرابيل في البرد أشد، فبيَّن بالقليل على الكثير، بالحاجة الدونية عن الحاجة الكبرى، فكما جعل لنا سرابيل تقينا الحر فنلبس على رؤوسنا وعلى أجسادنا ما يقينا الحر، فكذلك البرد من باب الأولى، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}، سربال يقيكم بأسكم، بأس؛ شدة، شدة الناس بعضها بعض؛ الحرب، والسرابيل هنا إنما هي الدروع، الدروع التي تلبس من الحديد حتى تقي لابسها، تقيه ضربات السيف والرمح والسهام التي تأتيه عندما يغطي جسمه أو بعض المواضع في جسمه بزرد الحديد وبالدروع، حتى يحتمي فيها من بأس أخيه عندما يحاربه، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ}، بهذه النعم في كل الأنحاء والمواطن {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}، يجعل نعمته عليكم تامة، {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}، فانظر النعم التامة التي لا يمكن أن تحصى في عناية الرب -سبحانه وتعالى- وإفضاله على خلقه، بالبيوت، بالمغارات في الجبال، بالظلال، بالأنعام التي ينتفعون منها بالجلود وبالصوف وبالوبر، فنعم في كل ما يحتاجه الإنسان ليعيش الحياة الطيبة الهنيئة المريحة في هذه الدنيا، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}، لربكم، تسلمون له، تسلمون له، تنقادون له -سبحانه وتعالى-، تزعنون له بما يأمركم به، أن يكون الشكر والعبادة له وحده -سبحانه وتعالى- فهو المتفضل بكل ذلك، أن تعتقدوا أن الرب الإله الذي لا إله إلا هو فتسلموا له وجهتكم ومقصدكم، وتطيعوه فيما يأمركم به -سبحانه وتعالى- وتنتهوا عما ينهاكم عنه، هذا معنى الإسلام؛ الإستسلام لله -تبارك وتعالى- والإزعان له.

قال -جل وعلا- {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:82]، إن تولوا بعد هذه الدعوة إليهم؛ هذا ربكم، يعني هذه دعوة من الله -تبارك وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- يعرف العباد بنفسه، أنه ربهم خالقهم هو الذي خلق لهم هذه النعم، وهو الذي يدعوهم إليه -سبحانه وتعالى-، فإن تولوا عن هذه الدعوة الكريمة من الله -تبارك وتعالى- للعباد بأن يسلموا له، {........ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:82]، خطاب للرسول -صل الله عليه وسلم- أنه ليس عليه مما كلفه الله -تبارك وتعالى- نحو الكفار إلا البلاغ؛ أن يبلغهم، المبين؛ البيِّن الواضح، وهذا قد كان، وهذا قد كان بإبلاغ النبي هذا القرآن وقراءته عليهم، خلاص بلغ رسالة الله -تبارك وتعالى-، {........ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:82]، وبالتالي الأمر إلى الله -عز وجل-، يعني ليس عليك أن تجبرهم أن تقرهم على الإسلام والإزعان... لا، أنت الرسول الذي كلفه الله -تبارك وتعالى- به نحو الأمة التي بعثه فيها يبلغهم البلاغ المبين، {........ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:82].

ثم وصف الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء الكفار ، فقال {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83]، {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ}، من حيث المعرفة، وأن هذه النعم التي يتقلبون فيها من طعامهم وشرابهم وخلقهم ومساكنهم كلها إنما هي نعم الله؛ أنها خلق الله -تبارك وتعالى-، ولكن ينكرونها بقلوبهم وبألسنتهم، ينكرونها؛ لا ينسبونها إلى الرب -تبارك وتعالى- وينسبونها إلى غيره، {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}، أكثرهم؛ أكثر الناس الذين أرسل لهم الرسول، الكافرون؛ بالألف واللام يعني أنهم المتصفون بهذه الصفة الكافرون.

ثم بعد ذلك يذكر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بمآلهم ونهايته يوم القيامة، فيقول -جل وعلا- {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[النحل:84]، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، ليشهد عليهم وهو رسولهم، وهو رسولهم يبعثهم الله -تبارك وتعالى- ويستشهده عليهم، ألم تأتك الرسالة وتبلغ القوم؟ فيشهد أي ربي بلغت، وكان موقف قومي مني كذا وكذا، فهو شهيد على هؤلاء، يشهد على من أطاعه فيكون له الجنة ويشهد على من عصاه بالنار، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، كما قال –تبارك وتعالى- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ........}[النحل:84]، لا يتكلموا، ما يؤذن لهم بأن يتكلموا وأن يطلبوا المغفرة وأن يطلبوا الرحمة، {........ ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[النحل:84]، لا يؤذن لهم بأن يعرضوا شكايتهم، ولا هم يستعتبون؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- يعاتبهم، لما فعلتم كذا؟ ولما فعلتم كذا؟ من باب العتاب، يعني الذي بعد هذا العتاب إذا إعتذروا وكذا وكذا تقال عثرتهم ويقال خلاص إنتهى الأمر وعفوت عنكم... لا، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ........}[النحل:84]، يأس من رحمة الله -تبارك وتعالى- فلا يؤذن له أن يتكلم، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، من الرب -تبارك وتعالى-، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يعاتبهم ليعتذروا إليه، ثم يعافيهم الرب -تبارك وتعالى- ويخرجهم مما هم فيه.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[النحل:85]، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ}، يوم القيامة ورأوه وعاينوه، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ}، أبدًا، بل عذاب الآخرة؛ عذاب النار في إزدياد، في إزدياد دائم، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، {كُلَّمَا خَبَتْ}، نار الآخرة، {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، فيزدادون سعير إثر سعير -عياذًا بالله-، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ}، أي العذاب، {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}، يمهلون، إن والله هذا العذاب ولكن أمامكم مئة سنة، مائتين سنة حتى تدخلوا النار... لا، فلا مهلة ولا كذلك تخفيف لهذا العذاب ولا يوم، فإن أهل النار ينادون خزنتها أن {........ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}[غافر:49]، يخفف ولو يوم واحد راحة نستريح فيه بين فترتين، ثم نرجع إلى العذاب، فعند ذلك لا يجابون إلى ذلك، {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}[غافر:50]، فادعوا؛ ادعوا الله -تبارك وتعالى- أن يخفف عنكم يومًا، ولكن دعاء الكافرين في ضلال؛ لا يسمع ولا يستجاب لهم، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[النحل:85].

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}[النحل:86]، هذا وقت حصول خيبتهم وخسارهم وعارهم، فإذا رأوا شركائهم الله يقول {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ}، في يوم القيامة وشافوا الشركاء الذين عبدوهم مع الله -تبارك وتعالى-، من هذه الأصنام والأوثان وغيرها من هذه المعبودات ومن الذين زعموا أنهم رجال صالحين فعبدوهم، وكذلك من الذين عبدوا بغير رضًا منهم، كعيسى إبن مريم -عليه السلام- والملائكة والإنبياء والصالحون، فإنهم عبدهم من عبدهم بغير رضًا منهم ولا دعوة من هؤلاء أن يعبدوهم، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ........}[النحل:86]، قالوا هؤلاء شركاؤنا أي في هذا الأمر فإن قد دعوناهم من دونك، هؤلاء شركاؤنا؛ يعني الذين أشركنا بهم، نسبوهم إلى أنفسهم أنهم كانوا مشتركين هم وهم في الشرك، في أن هؤلاء دعوهم إلى الشرك بالله -تبارك وتعالى- وهؤلاء استجابوا لذلك، فقالوا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، هذا قول هؤلاء العباد الضلال الذين تمسكوا بهؤلاء الشركاء وقالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا، الذين كنا ندعوا من دونك؛ يعني ندعوهم من دونك، قال -جل وعلا- {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ}، وهنا ألقوا يعني ما إنتظوا فترة حتى يجيبوهم بل مباشرة، ألقوا إليهم القول؛ هؤلاء الذين عبدوهم بالباطل، {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}، إنكم لكاذبون أي لم ندعوكم إلى عبادتنا ولا حرضناكم على هذا ولا كنا معكم في هذا الأمر، طبعًا الذين اللي هم سبقت لهم من الله -تبارك وتعالى- الحسنى من أهل الإيمان فنعم، والذين عبدوا من دون الله من الآلهة الباطلة وكانوا يحرضون على الآلهة الباطلة فإنهم يتبرأون من هذا ويسب بعضهم بعضًا.

أما الملائكة فإنهم عندما يقولون نعم كنا نعبد الملائكة، والله -تبارك وتعالى- يسأل الملائكة {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، أما عيسى -عليه السلام- وهو أكثر من عبد من دون الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- عندما يقرره -سبحانه وتعالى- أما من عبده، ويقول له {........ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116]، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، فهذا شأن كل عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين الذين عبدهم هؤلاء المشركون دون علم منهم ودون رضًا بعبادتهم، فهذا يتبرأ من هؤلاء ويقول له ديَّت، فالملائكة تتبرأ من الذين عبدوهم، ويقولوا يا ربي ما عبدونا عبدوا الجن، إنما كانوا يعبدون الجن الذين يدخلون لهم في الأصنام ويخاطبونهم من داخلها، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، وعيسى يقول أنا ما قلت لهم إعبدوني ولا اعبدوا أمي ولكن هم فعلوا هذا، وأنا يوم كنت معهم كنت شهيدًا عليهم، ولما توفيتني {كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وهذا حال كل صالح عبد من دون الله -تبارك وتعالى-، فإنه يتبرأ من عابده ويبرأ إلى الله -تبارك وتعالى- أن يكون قد أمر هؤلاء الذين عبدوه بأن يعبدوه، وأما من عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- وهم كانوا الداعين إلى هذه العبادة، من الطواغيت والشياطين فإنهم كذلك يتبرأون؛ يتبرأون ممن عبدهم، ويقولون لا {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}، يتبرأوا من فعلهم القبيح الذي فعلوه، نعم كانوا شركاء لهم في هذا فقد دعوهم إلى هذا الأمر، كما قال –جل وعلا- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، والذين أُتبعوا هم هؤلاء أهل الباطل، من الذين إتبعوا هؤلاء الذين ساروا معهم، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}، يا ليت لنا رجعة، يقولو لو أن لنا كرة؛ رجعة إلى الدنيا مرة ثانية، فنتبرأ من هؤلاء المجرمين الطواغيت الذي عبدناهم في الدنيا كما تبرأوا منا، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}، هؤلاء وهؤلاء، {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، وما هم بخارجين من النار جمعيهم، الطاغوت الذي دعى الناس إلى عبادة نفسه وهؤلاء الأتباع ضعيفي الفهم والعقل الذين لا عقول لهم، الذين إتبعوا هؤلاء الطواغيت وعبدوهم من دون الله، قال -جل وعلا- {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ........}[النحل:86]، يعني ألقى هؤلاء الشركاء في زعمهم، {إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}، إنكم لكاذبون ما عبدتمونا، ولا ما أمرناكم بهذا ولا كنا معكم في هذا الأمر فيتبرأوا منهم.

قال -جل وعلا- {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، إنهاروا بعد ذلك، هذا خلاص بعد أن يروا أن الأمر والقوة إنما هي لله جميعًا، وأن هؤلاء الشركاء الذين عبدوهم من دون الله إن كانوا صالحين تبرأوا منهم وإن كانوا من المفسدين كذلك تبرأوا منهم، فعند ذلك الله يقول {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ........}[النحل:87]، خلاص إستستلموا للأمر بعد أن ظهرت فضيحتهم وعارهم وشنارهم وخزيهم، وأن الذي تعلقوا به ظنوا أنه منجيهم لا مجال لأن ينقذهم من شيء، {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ........}[النحل:87]، إستسلموا لله -تبارك وتعالى- فيما يفعله فيهم خلاص، {........ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، كل الذي إفتروه وكذبوه وأن هؤلاء آلهة وهؤلاء وهؤلاء ...، مما قالوه وزينوه لأنفسهم في هذا ضل عنهم؛ راح، كل هذا ضل عنهم، الضلال هو الذهاب والبعد عن الحق، {........ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، ذهب وإنمحى عنهم هذا.

ثم قال -جل وعلا- {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}[النحل:88]، هم قسمان، قسم ضل وقسم ضل ودعى إلى الضلالة، فالذين ضلوا ودعوا إلى الضلالة دعاء إلى الضلالة هؤلاء يأخذون عذاب مضاعف، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، كفروا بالله -تبارك وتعالى- وصدوا عن سبيله، صدوا غيره عن سبيل الله، قال -جل وعلا- {........ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}[النحل:88]، يزيدهم الله -تبارك وتعالى- عذاب فوق العذاب؛ فوق عذاب الكافر الذي لم يكن داعية للكفر، بما كانوا يفسدون؛ لأن هذا المفسد هذا، لأن هذا يفسد غيره ويدعوا غيره إلى ما هو فيه من الشرك والكفر.

ثم قال -جل وعلا- {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:89]، هذا تذكير وبيان لخصوص هذه الأمة التي بعث فيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يعني هذا حال الذي قصه الله -تبارك وتعالى- هذا حال الأمم كلها، ثم نص الله -تبارك وتعالى- على أن على حال هذه الأمة التي بعث فيها النبي -صلوات الله عليه وسلم-، فقال {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، وهو رسولها، يبعث فيها شهيدًا عليهم من أنفسهم، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل لكل أمة رسول من نفسها، من يعني إبن العشيرة والقبيلة، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ........}[النحل:89]، جئنا بك؛ يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، أتى الله -تبارك وتعالى- شهيدًا على هؤلاء، الذين بعث فيهم -صل الله عليه وسلم-، ولا شك أن هذا فيه قرة عين لأهل الإيمان، من آمن بالنبي وعازره وناصره فإن النبي شهيد عليهم وشفيع لهم، وخزي وعار وشنار لمن عانده وحاربه ووقف في طريقه، فالذين صدوا عن النبي وآذوه وكفروا به سيكون العار والشنار عليهم، كما قال -تبارك وتعالى- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ........}[النساء:42]، لو تسوى بهم الأرض يعني يدفنون وخلاص، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، ولا يكتمون الله حديثًا؛ لا يستطيعون أن يكتموا الله -تبارك وتعالى- حديثًا قط، مما حتى حدثوا به أنفسهم لابد أن يخرج في هذا اليوم، فمن كان قد أخفى في نفسه شيء على النبي -صل الله عليه وسلم- سيخرجه الله -تبارك وتعالى- في هذا.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ........}[النحل:89]، ثم قال -جل وعلا- {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، نزلنا عليك؛ وجاء هذا التنزيل منجمًا مفرقًا عليك، الكتاب اللي هو القرآن، سمي بالكتاب لأن الله -تبارك وتعالى- قد كتبه في السماء، نزل في اللوح المحفوظ مكتوبًا، ونزل على النبي -صلوات الله عليه وسلم- شفاهًا سماعًا، سمعه جبريل من رب العزة -جل وعلا-، ثم أتى به إلى النبي على قلبه ثم كتب في الأرض؛ فهو كتاب، ونزلنا عليك الكتاب؛ القرآن، تبيانًا لكل شيء؛ مبين لكل شيء، فكل ما تحتاجه الأمة لتهتدي قد بينه الله -تبارك وتعالى-، فأعظم هذا بيان حقيقة الرب الإله الذي لا إله إلا هو، وبيان صفاته وأسمائه وبيان خلقه وبيان هذه العوالم التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، بداية هذا الخلق للإنسان، طريق هذا الإنسان إلى الرب -تبارك وتعالى-، ماذا ديَّت، يعني الصراط المستقيم، الصرط الضالة، ضحد الباطل، كل أنواع الباطل التي يمكن أن يتزرع بها من تزرع من الكفار ضحدها الله -تبارك وتعالى-، ثم ما الذي سيكون في هذه رحلة الإنسان بعد ذلك قد فصله الله -تبارك وتعالى- أكمل تفصيل، فهو كتاب كامل شامل لكل ما يحتاج للهداية والإستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى-، والسير في طريق الهدى والنور إلى الرب -جل وعلا-، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، فمع التبيان لكل شيء وهذا البيان لكل الناس، ممكن يأخذوا هذا البيان لكن يخص المؤمنين أو في خصوص المؤمنين أنه هداية ورحمة، هداية خاصة، توفيق خاص، يهديهم الله -تبارك وتعالى- بآيات القرآن، كما قال -جل وعلا- {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، ورحمة لهؤلاء المؤمنين، رحمة من كل شيء، رحمة من كل ما هو من العذاب، من الشرك، من الشك، من عدم الإستقرار، فهو يقين يرحمهم الله -تبارك وتعالى- به، وكذلك رحمة لما يؤهلهم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن إلى رحمة الله الكبرى، إنجائهم من النار وإدخالهم الجنة، وبشرى للمسلمين؛ فيه بشارة للمسلمين، فإن هذا القرآن حمل البشرى من الله -تبارك وتعالى- للمسلمين، المستسلمين لله -تبارك وتعالى- السائرين في طريقه، بشرهم الله -تبارك وتعالى- بأن يثبتهم على الدين، بأن يهديهم، بأن يوفقهم، بأن يشد من أزرهم، بأن يهلك عدوهم، بأن يكون معهم، بأن ينجيهم من كل المهلكات، بأن في النهاية بأن يدخلهم الجنة، ففيه يحمل هذه البشرى من الله -تبارك وتعالى- ولكن لعباده المسلمين.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء العباد، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.