الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[النحل:91]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[النحل:92]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:93]، هذه الآية الجامعة التي جمعت أوامر الله -تبارك وتعالى- ونواهيه، قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، إن الله؛ ذكر الله -تبارك وتعالى- نفسه هنا بالإسم، ما قال إنا نأمر ليبين أن هذا أمر الله، الله الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- رب العالمين وخالق الخلق أجمعين -سبحانه وتعالى-، بإسمه الأعظم الذي يدل عليه -جل وعلا-، فهذا كله لتقدير الأمر حتى يقدر من يسمع هذا أن هذا أمر الله -سبحانه وتعالى-، يأمر بالعدل والإحسان؛ العدل هو التسوية وإعطاء كل ذي حق حقه، فكل أوامر الله -تبارك وتعالى- عدل، فالله لا يأمر إلا بالعدل وهو يأمر به -سبحانه وتعالى-، ولم يأمر عباده إلا بالعدل؛ العدل مع كل شيء، والعدل ضد الظلم، العدل ضد الظلم، فتوحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان به عدل، والشرك بالله -تبارك وتعالى- وصرف شيء من العبادة لغيره؛ أي نوع من الشرك ظلم، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وكذلك إعطاء كل ذي حق حقه من العباد عدل وعدم ديَّت، أما سلب الناس وأخذ حقوقهم وقهرهم فهذا ظلم، فكل ظلم الله -تبارك وتعالى- ينهى عنه والله -تبارك وتعالى- يأمر عباده بالعدل، وهو -سبحانه وتعالى- لا شك أنه العدل، الرب -سبحانه وتعالى- العدل صفة من صفاته -سبحانه وتعالى-، فإنه الرب الذي لا يظلم أحد شيئًا -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، الإحسان في اللغة هو الإتيان بالشيء على أحسن صوره؛ أكمل صوره، والإحسان؛ الدين كله إحسان، الدين كله الذي أمر الله -تبارك وتعالى- به إنما هو من الإحسان، لأنه جعل الشيء والإتيان بالشيء حسنًا على أتم وجوهه، وقد يأتي بالإحسان إذا كان أضيف إلى العدل فهو ما يكون في باب المستحبات والمندوبات، فالعدل هو الحق؛ الحد الأدنى من الحقوق، والإحسان هو ما زاد على ذلك، فإعطاء المفروض عدل والزيادة على الفرض هذا إحسان، فمن أخذ حقه من ظالمه فعدل، من تجاوز لظالمه عن مظلمته فهذا إحسان، وسئل النبي عن الإحسان فقال «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فإن مراقبة الله -تبارك وتعالى- في كل عمل لا شك أنه عند ما يؤمن بذلك يأتي بكل عمله على أتم وجهه؛ على الإحسان، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، إعطاء ذوي القرابة، إعطاء ذوي القرابة من الفضل، من كل ما هو فضل، وذوي القربة يبدأ بعد الوالدين والإخوة والقرابة من جهة الأب والقرابة من جهة الأم، ولا شك قرابة الأم مقدمة في الإحسان على القرابة من جهة الأب، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- لما سئل «أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك»، فإعطاء ذوي القربى من أي جهة من الجهات هذا مما أمر الله -تبارك وتعالى- به، هذه جمعت كل المأمورات، كل مأمورات الله -تبارك وتعالى-؛ العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنصوص على ذلك فيما جاء كثيرة، يعني النصوص اللي هي مفردات العدل ومفردات الإحسان ومفردات ذوي القربى هذه كثيرة، ومما نص الله -تبارك وتعالى- عليه ونص عليها رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، ثم ما لم ينص عليه كل ما هو داخل في هذا، كل ما هو داخل في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى إذن هو مما أمر الله -تبارك وتعالى- به.
{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، هذي مناهي الرب -تبارك وتعالى-، الفحشاء؛ كل ذنب غليظ، غلظ في قباحته وفي خسته، فاحش؛ الفاحش هو الغليظ، وهذا يشمل كل الذنوب، فإن الله -تبارك وتعالى- لا ينهى إلا عن أمر فاحش، هذا كبائر الإثم، والمنكر؛ كل ما هو منكر، يعني أنكرته الشرائع، تنكره الفطر السليمة، ما جبى الله -تبارك وتعالى- لأهل الفطر السليمة، فإنها تنكر بقلوبها أي أمر تنكره بقلوبها هذا هو مما ينهى الله -تبارك وتعالى- عنه، والبغي؛ العدوان والظلم، بغى؛ إعتدى وظلم، فهذه كلها مناهي الرب -تبارك وتعالى- تشتمل هنا، الفحشاء؛ الذنوب العظيمة، المنكر يدخل في هذا وما هو دون ذلك، والبغي؛ أي نوع من الظلم على العباد، قال -جل وعلا- {يَعِظُكُمْ} الله، يعظكم؛ هذي الموعظة من الله، والموعظة أنه يأمركم بهذا وينهاكم مبينًا -سبحانه وتعالى- أولًا أنه الآمر والناهي، وإذا كان الله هو الذي يأمر وينهى فإن الأمر عظيم، فإن الأمر عظيم عندما يقول لكم إن الله؛ الله هو الذي يأمركم بهذا فقدروا هذا، أنه ليس كأمر أي أحد بل هذا أمر الله -تبارك وتعالى- وهذا نهيه يعظكم به، يعظكم بهذا القول ويرشدكم إلى ما يأمر به وإلى ما ينهى عنه، والوعظ هو الأمر الذي يحتف كذلك بالآثار التي تترتب عليه، فالآثار التي تترتب على الفعل من الكرامة والفضل والإحسان من الله -تبارك وتعالى-، وما يترتب على الترك؛ ترك الأمر الإلهي، من العقوبة في الدنيا والآخرة، {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، يعني لعلكم أن تتذكروا أوامر الله -تبارك وتعالى- فتعقلوها وتعملوا بها.
ثم قال -جل وعلا- {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، هذا مضاف إلى هذا، أن الله يأمر بهذا ويأمركم كذلك بأن كل ما عاهدتم عليه بعضكم بعض بعهد الله، العهد الذي قطعتموه بينكم وبين بعضكم بعض وهو عهد الله، أعطيتم أن الله شهيد على هذا الأمر وأعطيتم عهدكم، يعني العهد هو الميثاق المؤكد وجعلتم الله شاهد على هذا، وأوفوا بعهد الله؛ ما عاهدتم به، كل عهد، كل ميثاق يقوم بين طرفين، وقد عاهدوا بهذا العهد وجعلوا الله -تبارك وتعالى- عليهم كفيلًا وشهيدًا عليهم، قال {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}، أيًا كان هذا العهد، ما دام أنه في الشروط المشروعة بين مسلم وكافر، بين مشترٍ وبائع، بين مؤجر ومستأجر، بين الزوجة وزوجها، بين أفراد يتحالفون على أمر من الأمور، أي أمر يكون فيه إشتراط وعقد بين طرفين فهذا عهد قد أوثقوه، وإذا كان هذا بشهادة الرب -تبارك وتعالى- فينسب هذا العهد إلى الله، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، النقض هو الحل بعد الإبرام، والإبرام؛ العقد، والنقض هو حل هذا وفسخه وتركه، الأيمان؛ الأقسام، يعني أقسمت يمين على أن تفي بهذا الأمر؛ أقسمت يمين فلا تنقض يمينك، بعد توكيدها؛ بعد أن أكدتموها وعقدتموها وأخرجتموها من القلب وقولتموها وأكدتموها، هذا توكيدها، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}، هذا الحال في العقود أنها يجعل الله -تبارك وتعالى- كفيلًا، يقول أعاهدك على كذا وكذا وكذا والله كفيل علينا؛ والله شهيد علينا، والكفيل هو الذي يتكفل بأن يؤدي هذا المعاهد على عهد ما عهده، والكفالات تكن كفالة شخصية وكفالة مالية، كمن يكفل في أنه سيؤدي هذا الدين الذي عليه أو المال الذي عليه، أو أن يكفل مثلًا شخص بأن يأتي به للحكم عندما يحاكم، فالمتعاقدين يجعلان الله -تبارك وتعالى- عليهم كفيلًا، أن الله كفيل علي وكفيل عليك، نحن قد تعاقدنا على هذا الأمر فالله كفيل علينا بمعنى أنه جعلناه هو الكفيل، هو الذي إليه المرد في أن يلتزم كل منا بما عاهد عليه.
قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، وهذا تحذير من نقض العهود، فالآية الأولى جائت في بيان الأوامر المباشرة التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، هذي أوامر الرب -تبارك وتعالى-، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، إفعل أوامر الرب، إنتهي عن نواهيه، ثم ما يتعاقد عليه البشر بينهم وبين بعضهم البعض، كل عقد مباح جائز بين طرفين الله -تبارك وتعالى- أمرنا بالوفاء به، مهما كان هذا العقد ولو كان بين مسلمين وكفار، فإنه يجب عليهم أن يعني أمرهم الله -تبارك وتعالى- بأن يلتزموا به، وأوفوا بعهد الله؛ والله سماه عهد الله وذلك أنه يستشهد فيه الله -تبارك وتعالى-، في ختام العقد بعد توثيق الأمر وكتابته فيجعل أن الله -تبارك وتعالى-، المؤمن يجعل الله -تبارك وتعالى- هو الشاهد عليه والشهيد على تنفيذه لما عاهد عليه، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[النحل:91]، فهذا تحذير من أي خيانة أو أي نقض أو أي مكر أو أي لف ودوران لنقض العهد الذي عاهد المسلم ربه عليه.
ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[النحل:92]، {وَلا تَكُونُوا}، يعني أيها المؤمنون الذين أمرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا، {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}، مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين فيمن ينقض عهده، وأنه كهذه المرأة الخرقاء التي تتعب وتشقى في غزل صوفها، وبعد أن تحكم غزله إلى خيوط ثم بعد ذلك تنسجه وتحكم نسجه، ثم بعد أن تتعب في كل هذا تعود مرة ثانية فتنقضه من جديد، تحل خيوطه ثم تقطع هذه الخيوط وترجعها إلى الصوف مرة ثانية، فقد تعبت في الإحكام ثم بعد ذلك تعبت في النقض وأصبح عملها إلى خسار ودمار، فقال -جل وعلا- وهذا المثل ضربه الله -تبارك وتعالى- لمن يعني يضع شروط لميثاقه ولعهده ثم بعد ذلك ينقضها، وإذا نقضها وبالتالي هنا أخلف عهده مع الله -تبارك وتعالى- وقد جعل الله كفيلًا عليه، فإنه ينتظر عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، وبالتالي يكون ما تعب فيه من إيمانه وعمله الصالح وتقواه كل هذا قد نقضه بعد ذلك بنقض عهده مع الله -جل وعلا-، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}، يعني من بعد أن كان غزلها قد قوته، أنكاثًا؛ الأنكاث اللي هي القطع المتفرقة، جمع نكث.
{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}، اليمين والقسم تتخذه دخل؛ الدخل هو الخبيثة، يعني أنك تحلف وهو يخفي في صدره أنه سينقض هذا الأمر، وأنه بين وبين ما هم معه في هذا الأمر يقول يعني نعد ثم نخلف بعد ذلك وننقض، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، أن تكون أمة هي أربى من أمة؛ جماعة أربى من جماعة، أكبر منها، أربى؛ أكثر، فإذا كان هناك عهد بين المسلمين وهم قوة وبين غيرهم وهم قلة فلا يهتمون بنقض العهد، عدم إهتمامهم هنا بنقض العهد لأنهم قوة، لا يستطيع الطرف الثاني أن ينتقم لحظه وحقه، لا.. بل أنت عاهدت الله -تبارك وتعالى- فسواء كنت في موضع القوة أنت والأخر في موقع الضعف أو العكس فإنك يجب أن توفي لله -تبارك وتعالى-، {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، قال -جل وعلا- {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}، إنما يبلوكم الله به؛ يبتليكم الله -تبارك وتعالى- به، بهذا الأمر بأن توفوه، بأن توفوا ما عاهدتم عليه، وأن هذا خلاص ما دام إنت عاهدت على هذا الأمر يجب أن تلتزمه وأن توفي به، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، وليبينن لكم؛ بالتأكيد أن الله -تبارك وتعالى- سيبين لعباده يوم القيامة ما كانوا فيه يختلفون، كل ما يختلفوا فيه؛ في شأن التوحيد والشرك، في شأن الإيمان والكفر، في أي شأن من الشئون، في هذه العقود التي عقدوها بعضهم مع بعض، ولا شك أنه ليس هنا إذا كان هناك البيان فإنه ما يترتب على هذا البيان بعد ذلك من العقوبة والجزاء؛ ففي جزاء بعد هذا البيان، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:93]، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- لجعلكم أمة واحدة؛ كلكم على الهداية، ليس فيه مؤمن وكافر وأمة كافرة وأمة مؤمنة، بل يجعلكم الله -تبارك وتعالى- أمة واحدة على التوحيد، لو شاء الله -تبارك وتعالى- أن يكون ذلك لكان، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، ولكن تمت إرادة الله -تبارك وتعالى- ومشيئته أن يضل من يشاء الله -تبارك وتعالى- إضلالًا، وأن يهدي الله -تبارك وتعالى- من يشاء هداية، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يعني أن الأمر راجع إلى مشيئة الله -تبارك وتعالى-، ولكن لابد أن يكون هناك سؤال عن عمل الإنسان، فإن الله -تبارك وتعالى- يضل من يشاء بإتخاذ هذا الضال سبيل الضلالة، فإن الله -تبارك وتعالى- يضله، ويهدي من يشاء -سبحانه وتعالى- بإتخاذ هذا المهتدي سبيل الهدى، فمن توجه إلى الله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5]، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6]، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8]، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9]، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، فإن الإضلال والهدى بأسباب، جعله الله -تبارك وتعالى- بأسباب ولذلك سيحاسب الله -تبارك وتعالى- كلًا على إتخاذ الطريق الذي إتخذه، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
لهذه الآية كذلك معنى أخر غير هذا المعنى وهو {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ........}[النحل:92]، أن تكون أمة الكفر أربى من أمة الإسلام فتنقض عهدكم مع الله -تبارك وتعالى-، وتميلوا إلى الكفر وترجعوا عن إيمانكم، {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}، إنما يبلوكم الله -تبارك وتعالى- بأحيانًا بكثرة الكفار وغلبتهم وضعفكم، وهل تبقون على الإيمان والإسلام أم لا، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، جعلكم كلكم مهتدين، {........ وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:93].
ثم أكد الله -تبارك وتعالى- الأمر، قال {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:94]، هنا تأكيد من الله -تبارك وتعالى- إلى أن من حلف بالله وأقسم بالله على أمر وأكده ثم بعد ذلك مال عنه فإنه تذل قدمه عن الإيمان، {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}، لا تتخذ اليمين؛ الحلف بالله -تبارك وتعالى- دخل في قلبك، دخن ودخيلة من دخائل الشر وأنت تنوي بعد ذلك وتريد بعد ذلك أن لا تستجيب ولا تلتزم بما إلتزمت به؛ باليمين، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}، والزلل هو الزلق والبعد عن الثبات على الطريق، فتزل قدم؛ تمحى وتذهب عن طريق الرب، بعد ثبوتها؛ بعد أن تكون ثبتت، يعني الخروج إلى الكفر بعد أن كان ثابتًا على الإيمان، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}، وهذا المعنى أخذ المعنى الحسي هذا لبيان المعنى المعنوي، فأخذ المعنى الحسي وهو إنسان يسير في الطريق فتزل قدمه بفعل لزوجة الطريق وضحده ففي الضحد يزل، أخذ هذا المعنى معنى زلل الإنسان وزلق في طريق الضحد إلى من خرج عن طريق الإيمان بعد أن كان ثابتًا فيه، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وتذوقوا السوء؛ السوء كله، في الدنيا والآخرة، وأعظم السوء نار جهنم -عياذًا بالله-، بما صددتم؛ أي أي بسبب صدكم عن سبيل الله، وذلك أن الذي يدخل الإيمان ويكون فيه ويقسم على الأمر ثم يخرج منه فإنه يصد غيره عن الدين، يصد غيره عن الدين، {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، في الآخرة، هذا وعيد شديد من الله -تبارك وتعالى- لمن فعل ذلك، كل من عقد اليمين وإتخذ يمينه دخلًا بينهم، {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:94].
{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[النحل:95]، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، الشراء؛ إستبدال، عهد الله؛ يعني عاهد الله -تبارك وتعالى- على الأمر، طبعًا هذا الذي عاهد في إلتزام، ثم أراد أن ينصرف عن هذا الإلتزام إلى أن ينفض من هذا العهد ولا يكون هذا إلا رغبة في الدنيا، إلا رغبة في الدنيا فاشترى هنا ثمن قليل، إما إنه الخوف من عذاب الكفار وما يترتب على هذا وإما إنه رغبه في الدنيا؛ فيرغب إلى شيء من الدنيا، ومهما أخذ بعد ذلك فهو ثمن قليل، مهما أخذ الناقض لعهد الله -تبارك وتعالى- بنقضه لهذا العهد مهما أخذ من الدنيا فهو ثمن قليل، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، ولو كان الدنيا كلها هي ثمن قليل، وإنما هذا قيل ثمنًا قليلًا بمقارنته بالآخرة، فإن الإلتزام على الدين والإلتزام على الحق والبقاء عليه فيه جزاء عظيم جدًا؛ وهو الجنة، ومن نقض عهده يريد شيء من الدنيا ولو أعطي الدنيا كلها تبقى ثمن قليل بالنسبة للآخرة، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[النحل:95]، إنما عند الله؛ لمن يوفي عهده ولمن يصبر على الدين هذا خير من كل ما يعطاه في هذه الدنيا، إن كنتم تعلمون؛ حقيقة العلم، وتفرقون بين ما عند الله -تبارك وتعالى- وما في هذه الدنيا.
{مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}، هذا من الفضل العظيم لثواب الآخرة على ثواب الدنيا، فما عندكم؛ مهما كان ينفد، له نهاية، يخلص، عندك مال نقود، عندك أي شيء جاه، عندك ما عندك لابد أن ينفد، ينفد؛ ينتهي، ينفد؛ ينتهي ويضمحل ويذهب، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}، أما ما عند الله -تبارك وتعالى- من ثوابه العظيم وجنته ورضوانه -سبحانه وتعالى- فهو باقٍ لأهل الإيمان بقاء لا إنقطاع له، {........ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:96]، وهذا إقسام من الرب -تبارك وتعالى- يخبر بأن الذي صبروا على الإيمان، على الإيفاء بعهودهم الذين عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليها وعاهدوا عليها غيرهم، الذين صبروا على ذلك الله أخبر بأنه سيجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، بأحسن ما كانوا يعملون كل أعمالهم هذه الحسنة سيجزيهم الله -تبارك وتعالى- عليها جزاءً عظيمًا، الحسنة بعشر أمثالها، ومن هم بالحسنة فقط فإنها تكتب له حسنة، فإذا عملها كتبت عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى-، إلى أن يعطيها الله -تبارك وتعالى- بغير حساب يعني بغير عد، فيجزيهم الله -تبارك وتعالى- أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، أو بأحسن ما كانوا يعملون على أحسن ما كانوا يعملون، فيعطيه الله -تبارك وتعالى- الثواب على أحسن ما قدمه من العمل، فأحسن ما أدى من الصلاة يعطى ثوابك كل الصلاة بمستوى هذا الإحسان الذي بلغه، {........ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:96]، فهذا وعد من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء، لعباد الله -تبارك وتعالى- الذين صبروا على الطاعة، وصبروا على ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه، وعلى أي عهد قطعوه بينهم وبين غيرهم ولم ينقضوا شيئًا من ذلك، واستمروا على ذلك حتى يلقوا الله -تبارك وتعالى-، هذه بشرى لهم من الله -تبارك وتعالى- بأنه سيجزهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله على عبده ورسوله محمد.