الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (327) - سورة النحل 97-102

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل:99]، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:100]، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:101]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، فتعهد الله -تبارك وتعالى- قال {........ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97].

جاء هذا بعد أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بأن يقوموا بما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، وينتهوا عما نهاهم الله عنه، ويلتزموا بكل ما عاهدوا بعضهم بعضًا عليه، قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، هذه أوامر الله ونواهيه، هذه الآية الجامعة التي جمعت كل الأوامر وكل النواهي، أجمل الله -تبارك وتعالى- كل أوامره ونواهيه في هذه الآية، ثم أمر الله -تبارك وتعالى- بأن نفي بما عاهد بعضنا بعضًا عليه، قال {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}، نسب الله -تبارك وتعالى- هذا العقد وإن كان يقع بين البشر إليه، لأنه قد جعل الله -تبارك وتعالى- شهيدًا وكفيلًا عليه، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[النحل:91]، وضرب مثل لمن ينقض عهده بتلك الخرقاء التي تتعب في نسج وغزل صوفها ثم تعود فتنقضه مرة ثانية، فكأن من نقض عهده كان هذا مثله، قد نقض أمرًا قد أحكمه وله الأجر والثواب به عند الله -تبارك وتعالى-، فلما نقضه نقض ما له من ثواب ومنزلة وقدم عند الرب -جل وعلا-، وأكد الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر بأن المؤمن إذا عاهد وإذا أقسم على أمر من الأمور هذا أصبح يمين الله -تبارك وتعالى-؛ إياه أن ينقض ذلك، قال {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:94]، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، إياك وإن أعطيت الدنيا لتنقض عهدك الذي عاهدته مع أحد؛ لو أعطيت الدنيا كلها هي ثمن قليل، بالنسبة لما عندك إذا إلتزمت بعهدك مع الله -تبارك وتعالى-، فإنك قد أخذت ثمن قليل، أخذت الدنيا في مقابل ترك الجنة، والجنة أعظم من هذا، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[النحل:95]، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ}، مهما أخذت من الدنيا فإنه إلى نفاد، {........ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:96]، صبروا على الطاعة، وصبروا على إنفاذ العهود التي عاهدوا عليها حتى يؤدوها، مهما كان في ورائها من إلتزام وشدة.

ثم الله -تبارك وتعالى- بيَّن سنته وجزائه لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، من؛ من صيغ العموم، كل مؤمن يعمل صالح؛ الأعمال الصالحة، من ذكر أو أنثى؛ سواء كان هذا العامل ذكرًا أو أنثى، وهو مؤمن؛ شرط أن يكون مؤمنًا، لأن عمل صالح، بر والدين، صدق حديث، أي أمر من الأمور الصالحة لو عملها غير المؤمن فإن ثوابه لها في الدنيا ولا يعطى عند الله لها ثوابًا في الآخرة، أما الذي ينال هذا الثواب الدنيوي والأخروي فهو المؤمن، قال وهو مؤمن؛ حال كونه مؤمن بالله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، هذا وعد من الله -تبارك وتعالى- وتأكيد بأن يحيه الحياة الطيبة، الحياة الطيبة هي ليست الحياة الطيبة هي المرفهة، وإنما الحياة الطيبة هي التي تمتاز بالطيبة ضد الخبث، وحياة المؤمن هي الطيبة، وذلك أنه عرف ربه، عرف طريقه، عرف الصراط، إمتلأ قلبه بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبمحبته، كل ما يؤديه من العمل له، وكل ما يناله من خير أو شر له، فهو في حسن دائم، إن أصابته حسنة شكر الله كان له أجر، إن أصابته سيئة وصبر عليها كان له بها أجر، فأمره كله له خير، فهذه الحياة الطيبة، فإذن حتى ما يناله من الفتن والبلايا والمحن هي خير له، فهذه الحياة الطيبة، الله يخبر بأنه سيحيه هذه الحياة الطيبة، حياة الهداية والتوفيق والأمن والطمأنينة إلى الله -تبارك وتعالى- والثبات على الدين والسير عليه والإطمئنان إلى الرب، والسعادة الداخلية التي لا يشعر بها غير المؤمن، كما كان يقول بعضهم ((والله إننا لفي سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف))، يقول إحنا في سعادة ما يحس بها غيرنا؛ فالمؤمن هكذا، المؤمن الراضي هو في سعادة لا يحس بها إلا من عرف حقيقة الإيمان، «ثلاثة من وجدهن وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»، فهذه مفهوم الحياة الطيبة، ليست الحياة الطيبة هي الحياة المرفهة، أن الله -تبارك وتعالى- يرزقه من الطيبات في ركوبه ومسكنه وتنقله وتنعمه، ليست هذه هي مفهوم الحياة الطيبة، بل قد يكون الإنسان يجمع له هذه الأسباب الدنيوية ولا تحصل له الحياة الطيبة، تكون حياته خبيثة، حياته خبيثة لأنها حياة كفر، إذا كان كافر بالله -تبارك وتعالى-، معاند لأمر الله -تبارك وتعالى-، غارق في معاصي الرب -تبارك وتعالى- في الفواحش، تكون حياة خوى، هواء، ما ديَّت، ولا يمكن لمثل هذا أن يشعر بالسعادة الحقيقية، وإنما يشعر باللذة والمتعة وقد يكون بالفرح والسرور، لكنه في حقيقة أمره لا يحيا حياة طيبة وإنما حياة خبيثة، ولا يمكن أن يشعر بمسمى السعادة الحقيقية، السعيد؛ التقي هو السعيد، الذي يخاف الله -تبارك وتعالى- هو السعيد حقًا، وأما كل من لا يخاف الله -تبارك وتعالى- فهو شقي، كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، فهي معيشة ضنك، وهذا يعلمه كل من يعلم حقائق عيش الناس، من الكفار والبعيدين عن الله -تبارك وتعالى- فإنهم يعيشون الضنك، وإن كانوا في ظاهر الأمر ممن خولهم الله -تبارك وتعالى- كثيرًا من النعم.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، إذن أخذوا الحسنيين، نجزينهم؛ في الأخرة، أجرهم؛ أجر من الله، الله هو الذي سيعطي الأجر، الإنسان عندما يستخدم غيره ويأمره بأمر ويؤدي خدمة له يعطيه أجر، لكن مهما كان الإنسان كريمًا وغنيًا وأعطى أجر لغيره؛ كم سيعطيه؟ كم سيعطيه؟ مهما أعطاه؛ ملايين؟ هذي لا يمكن أن تقارن بأجر يعطيه الرب -تبارك وتعالى- للعبد المؤمن، فأجر الله -تبارك وتعالى- شيء عظيم جدًا؛ الجنة، الجنة التي موضع الصوت فيها خير من الدنيا وما فيها، المرأة في الجنة نصيفها على رأسها لو قدر هو خير من الدنيا وما فيها، فهذا أمر، ثم خلود دائم، خلود دائم ليس لألف سنة وألفين ومليون ومليار بل خلود لا ينقطع، فالله هو الذي سيجزي، قال ولنجزينهم؛ الله هو الذي سيجزيهم، {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، بأحسن ما كانوا يعملون؛ بعملهم هذا الحسن الذي أدوه، من إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- وعمل الصالحات فنعطيهم أجر ديَّت، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن يعطيهم الأجر على كل خير فعلوه ولو مثقال ذرة، ولو كان هذا الخير بمثقال الذرة، يعني وزن نملة، الذرة؛ النملة، لو وزنها من الخير فعلوه، لو تصدق بتمرة واحدة فإن التمرة الواحدة فيها لعله عشرات الألوف من مثقال الذرة، فهذا يعطاه؛ يعطاه، بخطوة واحدة يخطوها إلى الصلاة يأخذ أجره عليها، بتسبيحة واحدة قال سبحان الله، الحمد لله، هذي يأخذ أجره عليها وأجر عظيم، «كلمات ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، فهي خفيفة على اللسان وهي حبيبة إلى الرحمن وهي ثقيلة في الميزان، ثقيلتان في الميزان وهو أمر لم يكلف المؤمن كلفة، ما فيه كلفة شديدة عندما يقول سبحان الله والحمد لله، وهذه الباقيات الصالحات يأخذ عليها أجر عظيم جدًا، علمًا أنها لا تكلفه من حيث الجهد والكلفة لا تكلفه، حركة لسان قليلة ووقت قليل، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، جزء صغير من الدقيقة؛ لحظة، فهذا أمر عظيم، فالله يقول {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولكل شيء، هذا وعد عظيم من الله -تبارك وتعالى-، إذن شتان بين حال المؤمن وبين حال الكافر.

ثم بعد ذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- أفضل وأعظم عمل العبد وهو قراءة القرآن، فوجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، بأن كيفية المحافظة على هذا العمل العظيم الذي هو من خير؛ بل خير عمل المؤمن، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل:99]، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:100]، إذن يا أيها المؤمن، يا من عرفت الطريق، يا من ستجزى هذا الجزاء، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}، القرآن الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى-، سمي قرآنًا لعظة قراءته، يقرأ في السماء من الملائكة، ويقرأ في الأرض من المؤمنين على مدى هذه العصور، ليس هناك كتاب يقرأ كما يقرأ هذا الكتاب، جعل الله -تبارك وتعالى- لهذا الكتاب قراءة فيقرأه القارئون ليلًا ونهارًا، القارئون المؤمنون بهذا، سمي قرآنًا لأنه أكثر الكتب قراءة، يقرأ في السماء، {........ صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13]، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15]، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، يقرأونه، ويقرأ هنا في الأرض، قرئ على لسان النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ثم قرأه القارئون جيل بعد جيل، قراء من ديَّت لديَّت، كان بعضهم يقرأ القرآن كله في ليلة واحدة وبعضهم في ثلاث ليالي وبعضهم في أسبوع وبعضهم في شهر، ووجد هذا بحمد الله -تبارك وتعالى- على مدار الزمان من يفعل هذا مع كتاب الله -تبارك وتعالى-، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، وذلك أن الشيطان مجرم، حريص على صد الإنسان عن طريق الله -تبارك وتعالى-، وحريص على إفساد عمل المؤمن، فهو يقعد له عند كل عمل خير، يقعد له عند الصلاة ليفسد عليه صلاته، يقعد له عند الصدقة ليصرفه عنها، ليحولها، ليمن بها، يقعد له عند الجهاد، يقول له أولادك، زوجتك، كل عمل من أعمال الخير، يقعد له عند القرآن، تثبيطًا، إدخالًا للشكوك فيه، شغلًا له، له منافذه الشريرة للصرف والصد عن كتاب الله.

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، شرع لنا وأمرنا هنا بأن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والإستعاذة؛ طلب العوذ، والعوذ هو اللجوء، يعني إلتجئ إلى الله، وذلك أن هذا الشيطان عدو حيلة الإنسان في دفعه بنفسه ما في حيلة؛ لأنها لا يراه، وهو يدخل كل مكان في جسده، كما قال النبي «إن الشيطان يجري من إبن آدم مجرى الدم»، والدم لا يترك مكان في جسم الإنسان إلا ويدخل فيه، من منبت الشعرة إلى الظفر إلى كل مسام الجلد، شعيرات الدم إنما هي تسير في كل خلايا الإنسان، الشيطان كذلك، الشيطان له قدرة على الدخول إلى منافذ الإنسان، «إن الشيطان يجري من إبن آدم مجرى الدم»، وهو جاثم قلب إبن آدم، كما قال النبي «الشيطان جاثم على قلب إبن آدم، فإذا ذكر الله خنث، وإذا نسي وسوس»، إذن هو جالس ومراقب وتابع وقرين للإنسان، فهو الوسواس الخناث، فعند القرآن أمر الله -تبارك وتعالى- قبل أن نشرع في قراءة القرآن نقول أعوذ بالله، أعوذ به؛ ألوذ به، لأن هذا الشيطان لا أراه وله مداخل شديدة، له مداخل على العبد شديدة، قد لا تخفى على ...، حتى المؤمن الحريص قد تخفى عليه، فلذلك أمرنا هنا بأن نلجأ إلى الله، اللجء إلى الله، فاستعذ بالله؛ اللجء إلى الله، لأنه لا يحمي من هذا الشيطان إلا الرب -سبحانه وتعالى-، {........ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، الشيطان؛ هذا جنس الشياطين، رأسهم إبليس وهؤلاء ذريته وأعوانه، الرجيم؛ المرجوم، مرجوم ومبعد عن طريق الرب -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل:99]، يخبر -جل وعلا- بأن ليس له سلطان، سلطة وقهر على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، المؤمنون المتوكلون على الله -تبارك وتعالى- الذين سلموا أمورهم لله وأمنوا بالله -تبارك وتعالى- فإن الشيطان لا سلطان له عليهم، بالتشكيك، بالصرف عن الحق، بحرفهم عن الطريق، هذا ما له؛ ليس له سلطان على ذلك، فهم هؤلاء المؤمنون في عصمة منه بعضمة الرب -تبارك وتعالى-، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ........}[النحل:100]، إنما سلطانه؛ حصر الله -تبارك وتعالى- سلطان الشيطان على الذين يتولونه؛ أهل ولايته، والذين يتولونه خلاص أحبوه ووالوه وأطاعوا أمره وساروا في طريقه وزين لهم الشر فأخذوه ونالوه، فأصبحوا بينهم وبين الشيطان ولاية، ولاية؛ محبة ونصرة بينهم وبينه، فهذا خلاص هذا قد أسلم قياده له، والشيطان إجتذبه وسار خلفه، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:100]، الذين هم به مشركون؛ يعني أشركوا هذا الشيطان وجعلوه شريك للرب -تبارك وتعالى-، فأطاعوه ووالوه وأخذوه كأنه أصبح إلههم ومعبودهم مع الرب -تبارك وتعالى-، إذن المؤمن -إن شاء الله- في حماية الرب -تبارك وتعالى- والشيطان هذا قد أصبح له سلطانه، وسلطان الشيطان ليس سلطة مادية قهرية، وإنما سلطة وسوسة وتزيين وتجميل للشر، وهذا الكافر والغافل عن الله -تبارك وتعالى- يتبعه في هذا، كما يقول الشيطان يوم القيامة لأتباعه {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، فهم دعاهم الشيطان واستجابوا له وساروا ورائه فأصبح له سلطان بهذا، فاصبح سلطانه سلطان الوسوسة وهم إتبعوه في هذا، لما زين لهم إتبعوه في هذا فأصبحوا على هذا النحو من أوليائه.

ثم قال -جل وعلا- مبينًا هذه الشبهة التي يقول بها أولياء الشيطان؛ الشيطان وأوليائه على القرآن، قال -جل وعلا- {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:101]، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}، فإن الله -تبارك وتعالى- ينسخ بعض الآيات بالبعض الأخر، كما أحكام في أول الإسلام كانت مناسبة لحال المؤمنين ثم نسخها الله -تبارك وتعالى- بعد أن تغير هذا الحال بغيرها، كالخمر التي كانت في أول الإسلام مباحة يشربها المسلمون، ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك نسخ هذا، ومباحة بل إن الله -تبارك وتعالى- إمتن بها على الناس، بأنها هم إتخذوها من هذه النعم، قال {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ........}[النحل:67]، ثم جاء الأمر الإلهي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، ثم إنتقل بعد ذلك إلى الأمر نهائي في تحريم الخمر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، فأصبحت آية مكان آية، الأمر بالإعراض عن الكفار وعدم مقابلة أذاهم وسيئاتهم بدفاع المسلمين عن أنفسهم الله -تبارك وتعالى- نسخ هذا، قال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، فالله -تبارك وتعالى- يبدل من آياته، التبديل هنا يعني إنما هو نسخ وإحلال حكم بعد حكم أخر، وإنما هو في الأحكام وليس في الأخبار فإن أخبار الله -تبارك وتعالى- لا تنسخ، إذا أخبر الله -تبارك وتعالى- بخبر فإن أخبار الله -تبارك وتعالى- كلها صدق، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا يدخلها تبديل، فإن الله لا يبدل القول لديه في الخبر، أخبر بأن المؤمن ينال الجنة هذا إنتهى، وأخبر بأن الكافر مرده إلى النار نعم، وأخبر خبر بأن هذا يموت على الكفر؛ يموت على الكفر ولابد، فعندما يقول الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2]، {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]، هذا خبر لابد أن يكون ووقع الأمر، يقع الأمر كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، فاخبار الله -تبارك وتعالى- لا يدخلها النسخ، وإنما يدخل النسخ؛ نسخ في الأحكام، في الأحكام يعني حكم يكون حلال ثم يحرم بعد ذلك، حكم يكون حرام ثم يحل بعد ذلك، أمر يكون مقيد بقيد ثم يفك هذا القيد بعد ذلك ونحو هذا.

قال -جل وعلا- {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يبدل وهو أعلم بما ينزل، وأعلم بتنزيله وهو الحكيم -جل وعلا-، كما قال -جل وعلا- {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106]، فالله على كل شيء قدير -سبحانه وتعالى-، وهو ينسخ آية ويجعلها محل آية وحكم محل حكم فالله -تبارك وتعالى- أعلم بما ينزل، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، قال يعني هؤلاء المجرمون الكفار، إنما أنت مفترٍ؛ إنما أنت يعني يا أيها النبي مفترٍ، يعني المفتري الكذاب، قال -جل وعلا- {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، يعني لا يعلمون الحق ولا يعلمون أن هذا من الله -تبارك وتعالى-، وإتهامهم للنبي لا شك أنه دليل جهل وحمق وظلم، فإن هذا النبي كل أدلة صدقه قائمة من كل الوجوه، ولا يمكن أن يتطرق ذو عقل إلى أن يعني تطرق إليه شك في صدق النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

قال قل لهم {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، الذي نزل هذا القرآن هو روح القدس؛ جبريل -عليه السلام-، سمي روحًا ومنسوب إلى الله هو روح الله لأنه ينزل بالروح، ينزل بالوحي والوحي هو الروح، الذي يحيي الله -تبارك وتعالى- به موات القلوب، والقدس؛ المقدس، المنزه عن كل عيب، عن كل نقص، منزه عن النقص والعيب، منزه عن الكذب وعن أن يفتري على الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}، من ربك؛ رب العالمين -سبحانه وتعالى-، رب محمد، نسب الله -تبارك وتعالى- محمدًا إليه -سبحانه وتعالى-، فهو نازل من الله -تبارك وتعالى- رب النبي، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، يعني حال كون نزوله حق، وكذلك محتواه والذي نزل به القرآن من الله -تبارك وتعالى- حق، {........ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102]، ليثبت الذين آمنوا؛ يثبتهم على الدين، يعني يجعلهم يتمسكون به التمسك الثابت الذي لا يتزعزع عنه، ليثبت الذين آمنوا؛ ومن هذا التثبيت أن ينزل القرآن على هذا النحو، وأن يكون هناك نسخ لبعض الأحكام على هذا النحو، فإن هذا فيه تثبيت لأمر المؤمنين على الإيمان، فإنه كلما نزل الحكم المناسب في الوقت المناسب بعد أن يتأهل المؤمنون يكون هذا تثبيتًا، فإنه مثلًا لو أن الخمر حرمت من أول البعثة؛ من أول ما بعث النبي -صل الله عليه وسلم-، فاجأ الناس وأعلمهم أن الخمر قد حرمها الله -تبارك وتعالى- فإن هذا قد لا يدخل الإيمان أحد، وقد لا يبقى كذلك على الإيمان أحد، فإن الخمر كانت مستشرية في المجتمع العربي إستشارءً بليغًا ووصلت ديَّت، يعني إلى حد خلاص أصبحت هي حلمهم وشهوتهم وحياتهم ومنتدياتهم تكون عليها، فهي شراب الأندية يشربونها صباحًا ويشربونها مساءًا، غبوقهم في المساء وصبوحهم في الصباح ويتغنون بها، وهي جزء من القصيدة العمودية تغني، فهي جزء أساس، فلو أنهم تخلوا لو أنهم خيروا بين الموت وبين ترك الخمر لإختاروا أن يموتوا ولا يتركوا الخمر، فأمر عظيم ولكن الله -تبارك وتعالى- أخذهم مرحلة مرحلة حتى عندما جاء التحريم النهائي كانوا مستعدين لترك هذا الأمر، فكذلك كلما القرآن نزل على النبي منجمًا حتى أنه كلما يأتي بشبهة يأتي بها، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان:32]، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ........}[النحل:102]، جاء القرآن ونزل على هذا النحو ليكون تثبيتًا على الذين آمنوا على الإيمان.

{وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، وهدى وبشرى للمسلمين؛ هداية وبشرى لهم، هداية للحق، هداية بيان وهداية توفيق، يعني يجعل الله -تبارك وتعالى- القرآن بلسم لهم، شفاء لهم، فيهديهم الله -تبارك وتعالى- به، عندما يسمعوه تطمئن له قلوبهم فيوفقون إلى الخير بهذا، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124]، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102]، بشرى لهم بما يحمله هذا القرآن من الأخبار السارة من الله -تبارك وتعالى- لعباده المسلمين، سواء كانت هذه الأخبار ما يحصل لهم في الدنيا من النصر والتمكين والحياة الطيبة، وما ينتظرهم في الآخرة من الرضوان والسعادة ودخلوهم جنة الله -تبارك وتعالى-.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.