الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103]، {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:104]، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105]، {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[النحل:107]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[النحل:108]، {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[النحل:109]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- مقالة الكفار الدالة على قلة عقولهم وعدم فهمهم، وأنه عندما رأوا أن الله -تبارك وتعالى- قد يبدل آية مكان آية، ينسخ آية بآية، فاتهموا النبي -صلوات الله عليه وسلم- بأنه مفتري، قال –جل وعلا- {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:101]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102]، فهذا فعل الله -تبارك وتعالى- في تبديله آية مكان آية، نسخ آية من القرآن والمجيء بآية أخرى، والنسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار وهذا بحكمة الرب -تبارك وتعالى-، وهذا القرآن المعجز؛ هذا القرآن المعجز نازل من الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ}، جبريل -عليه السلام-، الروح المقدسة، روح الله المقدسة، {........ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102].
ثم مقالة أخرى من مقالة الكفار تدل على أنه لا مسكة من العقول وإنما هو إفتراء الكذب، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، ولقد نعلم؛ يؤكد الله -تبارك وتعالى- علمه -جل وعلا- بمقالتهم الفاجرة الكافرة، إنما يعلمه بشر؛ أي الرسول يعلمه هذا القرآن بشر، قال -جل وعلا- {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}، لسان الذي يلحدون إليه؛ يميلون إليه في قولهم هذا أن النبي يتعلم به أنه أعجمي، كانوا يقولون هذا مشيرين إلى غلام رومي في مكة، كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يجلس إليه أحيانًا، فقالوا إن محمدًا يتعلم هذا القرآن من هذا الأعجمي الروحي، فقال -جل وعلا- {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}، كيف يعلم الأعجمي الذي لا يحسن العربية ويتكلم شيئًا قليلًا بلغة العرب كيف يحسن أن ينزل هذا القرآن العربي! الذي تحداهم الله -تبارك وتعالى- أن يأتوا سورة من مثل سوره، فمقالة الكفار ونسبة القرآن إلى هذا الأعجمي أن النبي يتعلم منه، فينسبون الكذب إلى الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وينسبون هذا القرآن الكريم إلى رجل لا يحسن العربية، هذا يدل على أنه لا مسكة من عقل عندهم وإنما هو إفتراء الكذب وإنحطاطهم فيه، قال -جل وعلا- {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ}، اللحد هو الميل، يعني يميلون إليه في قولهم هذا؛ إنما يعلمه بشر، يعني أنه ليس من الله -تبارك وتعالى-، ليس ملكًا علم النبي هذا القرآن وأتى به من الله وإنما بشر الذي يعلمه، قال -جل وعلا- {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، وهذا؛ القرآن، نزل باللسان العربي المبين، البيِّن الفصيح الواضح المتحدى به.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:104]، هذه هي الخلاصة، هذه خلاصة الأمر، هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله مع ظهورها وبيانها ولكنهم لا يؤمنون بها؛ لا يصدقون بها، ويفعلون بمقتضى هذا التصديق من مخافة الرب -تبارك وتعالى- ومن تعظيمه وإجلاله وعبادته وحده لا شريك له؛ هذا مقتضى الإيمان، التصديق بهذه الدلائل الواضحات التي هي آيات الله -تبارك وتعالى- المنزلة عليهم، سواء آياته هذه المقروءة أو آياته المنظورة، {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ ........}[النحل:104]، فهؤلاء الذين يردون هذه الآيات ويكذبونها فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبهم، بأن يغلق منافذ الفهم والمعرفة والعقل عليهم، لا يهديهم الله؛ لا يوفقهم الله -تبارك وتعالى-، يهديهم هنا يوفقهم إلى الخير ويوفقهم إلى طريقه -سبحانه وتعالى-، {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، في الآخرة، فيبقوا ضالين عن الحق في هذه الدنيا ولهم عذاب أليم ينتظرهم في الآخرة.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105]، إنما يفتري الكذب؛ حصر في من هم الذين يفترون الكذب ويختلقونه؟ الذي لا يؤمنون بآيات الله، فهذا هو الجدير والخليق بأن يكذب، ما دام أنه رد آيات الله -تبارك وتعالى- وجحدها؛ هذا الكذب، هذا هو الكذاب الذي رأى آيات الله -تبارك وتعالى- وردها، وأولئك هم الكاذبون؛ هذا هو الكذاب على الحقيقة، وليس رسول الله -صل الله عليه وسلم- كما يدعون، فإن رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- هو المؤمن بربه -سبحانه وتعالى-، المتبصر بالأمر، السائر على طريق الهدى والصدق، وحاله ليس فيها أي حال من أحوال الكذابين، ولقد عاش بينهم أربعين سنة لم يعهدوا عليه كذبًا، فكيف يترك الكذب على الناس ثم يأتي ويكذب على الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105]، هم الكاذبون على الحقيقة، وهذه صور كذبهم وإفترائهم في قولهم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، الله –تبارك وتعالى- ينسخ آية بآية يقولون إنما أنت مفترٍ، فينسبوا الكذب إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم قال -جل وعلا- {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106]، هذا حكم الله -تبارك وتعالى- في من شرح الله -تبارك وتعالى- صدره للإسلام، وعرف الحق وآمن به ثم إرتد عنه، {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}، ثم إستثنى الله –تبارك وتعالى- قال {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، قال -جل وعلا- {........ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106]، فالمكره هذا أخرجه الله -تبارك وتعالى- من هذا الحكم وعذره فيه؛ في إكراهه، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بهذه الأمة أنه أباح للمكره أن يظهر الكفر بلسانه دون ما في قلبه، كما كان من شأن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- في مكة، كعمار إبن ياسر الذي أتى إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- يشكوا له تعذيب الكفار له والإهانة له، وأنهم لم يتركوه حتى قال في النبي -صل الله عليه وسلم- وحتى مدح آلهتهم، فقال له كيف ترى قلبك؟ فقال مطمئن بالإيمان، فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- إن عادوا فعد، إن عادوا أي إلى تعذيبك فعد إلى هذه المقالة، ما دام قلبه مطمئن بالإيمان.
ولكن هناك من الصحابة من بقي على الإيمان ظاهرًا وباطنًا مع شدة تعذيب الكفار له، كما كان الشأن من بلال إبن رباح -رضي الله تعالى عنه-، فإنهم عذبوه عذاب شديد، سيده؛ مالكه، أبي إبن خلف كان يأخذه في حر مكة وفي رمضائها، يلقيه على رمضائها على ظهره ويأتي بالصخرة العظيمة فيضعها فوق صدره في شدة الحر، ويقول له لا أرفع عنك حتى تكفر بمحمد، فيقول أحد أحد، يعني الله -تبارك وتعالى- هو الواحد، وقال لو أعلم أن لكم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها، لو هناك كلمة تغيظكم أكثر من هذه لقلتها، فبقي ثابتًا على قول كلمة الحق مع شدة التعذيب له، هذا هو الأكمل والأولى ولكن الله -تبارك وتعالى- عذر من قال كلمة الإيمان عند مخافته، كذلك من الذين صبروا سمية أم عمار، فإنها صبرت على مقالة الحق حتى قتلوها فكانت أول شهيدة في الإسلام -رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها-، ومن هؤلاء عبد الله إبن حذافة السهمي، وكان هذا في خلافة عمر إبن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أثره الروم، ولما أثروه أخذوه إلى ملكهم فقال له أزوج إبنتي وأشركك في ملكي إن تنصرت، فقال له والله لو أعطيتني ملكك كله بل الدنيا كلها على أن أكفر بالله طرفة عين ما فعلت، فقال له إذن أقتلك، فقال له أنت وذاك، فجائوا بمثل البقرة من النحاس أحموا تحتها حتى إحمرت؛ أصبحت نارًا، ثم أتي بأسير من أسرى المسلمين وألقي فيها، حتى صار عظمًا يلوح في دقائق معدودات، فقال له أصنع بك هكذا ورفع بالرافعة ليوضع في هذا المكان فكأنه بكى، فظنوا طمعوا فيه قالوا له ما يبكيك؟ قال أبكي على أني سأموت مرة واحدة وأتمنى أن يكون لي نفوسًا كثيرة لأموت في سبيل الله هذه الميتة، فأخذوه فسجنوه ومنعوا عنه الطعام لعله أن يرجع، ثم أتوا له بلحم خنزير وخمر فأبى أن يأكله مع شدة حاجته، ثم قيل له لما لم تأكل؟ قال لهم إنه يحل لي ولكني لا أريد أن أشمتكم، ثم إنهم بعد أن يئسوا منه قالوا له نطلقك، قال له الملك أطلقك على أن تقبل رأسي، فقال له وتطلق معي أسرى المسلمين جميعًا، فقال له نعم، فرضي بهذه وقبل رأسه وأطلق له ملك الروم أسرى المسلمين، فلما جائوا إلى عمر إبن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- فقال حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله إبن حذافة، فجاء المسلمون فتكاثروا عليه ويقبل كل منهم رأسه، فهذا وأمثاله ممن ثبتوا على الحق وبقوا على كلمة الدين مع تعرضهم للهلاك ووصولهم إلى حد القتل، ولكنهم بقوا على الإيمان هذا هو الأكمل، لكن من خشي الهلكة وإشتد عليه التعذيب وقال كلمة الكفر فهذا قد عذره الله -تبارك وتعالى-، {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ........}[النحل:106]، إذا قلبه إنشرح للكفر وقبله ورضي به وأحبه، قال -جل وعلا- {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فهؤلاء قد نزل عليهم غضب الله -تبارك وتعالى-، ولهم عذاب عظيم في الآخرة، عليهم غضب من الله في الدنيا ولهم عذاب عظيم في الآخرة.
ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ}، يعني حصول هذه العقوبة الشديدة لهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ........}[النحل:107]، استحبوا؛ أحبوا، الدنيا أصبحت عندهم أحب إليهم من الآخرة، وهذا الذي جعلهم يفضلون الكفر على الإيمان، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ........}[النحل:107]، والذي يفعل هذا لا يستحق كرامة الله -تبارك وتعالى-، فإنه آثر الكفر على الإيمان وآثر نعيم هذه الدنيا الزائل على نعيم الآخرة الباقي، وآثر ما عند الناس على ما عند الله -تبارك وتعالى-، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[النحل:107]، الكافرين لا يهديهم الله -تبارك وتعالى-؛ أي لكفرهم، لأنهم كفروا وكانت نفوسهم دنيئة على هذا النحو فرضوا بالدنيا من الآخرة، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يهديهم؛ لا يوفقهم إلى الحق والخير.
قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[النحل:108]، أولئك؛ يعني الذين إرتدوا بعد الإسلام إلى الكفر، طبع الله على قلوبهم؛ والطبع هو بمعنى الختم، قفل؛ تقفل ثم يطبع الطابع عليها، بمعنى أنه خلاص كأنه يعني ختمت ولا تفتح، ما يفعله الله -تبارك وتعالى- أدخل الكفر وجعل عليه طابعة، فإن هذا من يستطيع أن يفتح قلبه للإيمان بعد ذلك، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ ........}[النحل:108]، فقلوبهم لا تفقه وسمعهم لا يسمع الحق، وأبصارهم؛ كذلك طبع عليها فهي لا ترى الحق، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، الذين غفلوا عن حقيقة الدين، عن توحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان به وثمرات ذلك، عن ما ينتظر كل كافر من المهانة في الدنيا والآخرة؛ فهذا غافل، فيصبح غافل لأن الله -تبارك وتعالى- قد سد عليه كل منافذ العلم والمعرفة والهداية، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[النحل:108]، {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[النحل:109]، لا جرم؛ لا شك، يؤكد الله -تبارك وتعالى- أن هؤلاء الذين آثروا الحياة الدنيا وإختاروا الكفر على الإيمان هؤلاء هم في الآخرة هم الخاسرون، خسروا، صفقتهم خاسرة، فالذي باع آخرته بدنياه صفقته خاسرة، لا شك أنه قد خسر في هذه الصفقة البائرة لأنه إستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدل عن الخلود في دار النعيم ورضوان الله -تبارك وتعالى- استبدل بهذا سخطه وعقوبة الرب -تبارك وتعالى- وهذه لعاعة هذه الدنيا؛ متاع هذه الدنيا القليل الذي يتمتع به.
ثم قال -جل وعلا- {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:110]، هناك أقوام من المسلمين كانوا في مكة فتنوا؛ فتنهم الكفار، يعني عذبوهم حتى يتركوا الدين، ثم بعد ذلك تهيأت لهم الفرصة ليخرجوا ويهاجروا بدينهم من مكة إلى الله ورسوله في المدينة، فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هؤلاء الذين وافقوا الكفار عندما كانوا في مكة بعد أن عذبوهم وفتنوهم، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا}، فتنوا؛ قالوا للكفار ما يشاؤن، وعاشوا معهم وأظهروا لهم الكفر لكنهم هاجروا، ثم جاهدوا؛ أي مع النبي -صل الله عليه وسلم-، وصبروا؛ يعني على الإيمان، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، إن ربك من بعدها؛ من بعد هذه الفتنة التي حصلت لهم في مكة، وبعد أن إستقام حالهم وهارجوا إلى الله -تبارك وتعالى-، لغفور رحيم؛ لهذا الذنب الذي سلف لهم هناك.
ثم قال -جل وعلا- مبينًا حال كل إنسان يوم القيامة، قال {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[النحل:111]، هذه موعظة عظيمة تأتي في هذا السياق الذي هو سياق الفتنة والصبر عليها والهجرة في سبيل الله وإختيار الدين على الدنيا، وإختيار ما عند الله -تبارك وتعالى- على ما عند الناس وتحمل الأذى في سبيل ذلك، حتى وقد أدى هذا إلى القتل، ففي هذا السياق يخبر الله، يذكر الله -تبارك وتعالى- عباده بما يكون الحال عليه يوم القيامة؛ وأنه حال شديد، العمل لهذا اليوم يجب أن يكون أن يبذل الإنسان فيه ما يستطيع، لأن العذاب في هذا اليوم والفتنة في هذا اليوم عظيمة، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}، يأتي الإنسان وحده ويجادل عن نفسه وحده ليحاول أن يخرجها من النار ويدخلها الجنة، ما في أحد هناك يدافع عن أحد، لا أب ولا أخ ولا قريب ولا زوج عن زوجته ولا إبن عن أبيه... لا، كل إنسان في هذا الوقت هو مشغول بنفسه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]، {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35]، {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36]، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}، طبعًا جدال الكفار عن أنفسهم هيكون جدال بالباطل، كإنكارهم أنهم لم يكفروا {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:24]، يجحدوا شركائهم، يقولوا ما أشركنا، أو أنهم يجادلوا بالإسترحام والإستعطاف والطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يعيدهم مرة ثانية إلى الدنيا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107]، كل صور جدال الكافر عن نفسه ليدفع عن نفسه العذاب أو ليخرج منه أو ليعود إلى الدنيا طبعًا كل هذا إنما هو في ضلال، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}، لا نهاية له، وأما العبد المؤمن فإنه إذا نوقش الحساب عذب، من نوقش الحساب عذب؛ عذب ولا شك، وأما من تجاوز الله -تبارك وتعالى- عنه وغفر له وكان في بس فقط العرض فهذا يحاسب حسابًا يسيرًا، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7]، {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8]، {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:9].
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[النحل:111]، توفى؛ تعطى وافيًا، التوفية والوفاء هو إعطاء الشيء وافي؛ يعني كامل، {........ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[النحل:111]، فمن عمل السوء سيأخذ جزائه وافيًا، ومن عمل الإحسان سيأخذ جزائه كذلك وافيًا غير منقوص، كما قال الله -تبارك وتعالى- في أعمال الكفار {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}، نصيبهم من العذاب، {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}[الذاريات:59]، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الذاريات:60]، فهؤلاء سيأخذون نصيبهم من العذاب كاملًا، والمؤمن لا ينقصه الله -تبارك وتعالى- من أجره مثقال ذرة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[النحل:111].
ثم قال -جل وعلا- {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112]، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}، هذا المثل ضربه الله -تبارك وتعالى- لأهل مكة، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً}، مكة؛ بلد الله -تبارك وتعالى- الحرام، كانت آمنة مطمئنة؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- كتب لها الأمن والإطمئنان، وكان أهلها يعيشون في حياة رغيدة، كما قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ........}[العنكبوت:67]، فبدعوة إبراهيم -عليه السلام- {........ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35]، وكذلك {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[البقرة:126]، وكان من هذا الأمن الذي جعله الله -تبارك وتعالى- لمكة أن العرب مع كفرهم ومع جاهليتهم ومع حميتهم وأنفتهم، كان العربي يرى قاتل أبيه وقاتل أخيه في مكة ولا يمسه بسوء حتى يخرج من الحرم، وكذلك كان أهل الحرم؛ قريش، أهل بيت الله كانوا محترمين عند العرب جميعًا، وكانوا يذهبون بتجاراتهم إلى الشام وإلى اليمن آمنين من أن يسمهم أحد، وذلك أن العرب كانت تحترمهم وتقول هؤلاء آل بيت الله، كما قال -جل وعلا- {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2]، رحلة الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3]، {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، فأطعمهم من جوع؛ بلدهم بلد جوع، بلد غير ذي زرع، لكن أطعمهم الله -تبارك وتعالى- وجعل بلدهم تأتيها الخيرات من كل مكان، وآمنهم من خوف؛ الناس كلهم يخافون فيمن حولهم وهم آمنون.
لكن كفروا بنعمة الله -تبارك وتعالى-، وأعظم نعم الله -تبارك وتعالى- التي أنعم بها عليهم هو هذا النبي الرسول القرشي -صلوات الله والسلام عليه-، الذي جاء منهم يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- ويبين لهم طريق السعادة والنجاة؛ فكفروا به، كفروا بنعمة الله -تبارك وتعالى- بإنزال هذه القرآن بلغتهم، هذه النعمة العظيمة كفروا بها وبدأوا يحابوا النبي -صل الله عليه وسلم-، يحاربوا المؤمنين ويصدوا عن سبيل الله ويشتتوهم في كل مكان ويصرفوا الناس كلهم عن الدخول في الدين، كلما أتت قبيلة من خارج مكة في موسم الحج كانوا يمنعونها من أن تسمع شيئًا من النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فبدأوا جندوا أنفسهم بكليتهم لصد الناس عن دين الله -تبارك وتعالى-، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}، وكذلك كفروا بالنعمة التي أغدقها الله -تبارك وتعالى- عليهم في هذا البلد، أن جعله بلدًا آمنًا مطمئنًا، أن يسر لهم سبل معايشهم على هذا النحو، أن حبب قلوب العباد فيهم وأنهم يأتوا إليهم من كل مكان ويحملوا خيرات الأرض إليهم، قال -جل وعلا- {........ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112]، أذاقها الله لباس الجوع؛ كأنها أصبحت الجوع جبة تلبسها، والخوف؛ أصبح الجوع والخوف يلابسهم ويخالطهم في كل مكان؛ في مكة وخارج مكة، فإن الله -تبارك وتعالى- قد سلط رسوله -صلوات الله والسلام عليه- عليهم، فقعد لهم بالمرصاد في تجارتهم إلى اليمن وإلى الشام يترصدهم، وقال -جل وعلا- {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، وأصبحم يخافون، ثم أصبحم يخافون كذلك من أن النبي سيعود إليهم يومًا إلى مكة ويحاربهم -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إنهم بعد ذلك دعى النبي عليهم، يعني بعد أن زادوا في كفرهم أن يجعلها الله -تبارك وتعالى- عليهم سنين كسنين يوسف، فأصابهم القحط مضر كلها حتى أكلوا الوبر مع الدم من الجوع، ورأوا شدة هائلة جدًا في الجوع حتى أنهم جائوا يستعطفون النبي، ويقولون له نناشدك الرحمة أنت من أرحامنا، فالله -تبارك وتعالى- ألبسهم لباس الجوع والخوف، قال -جل وعلا- {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، بصنيعهم الإجرامي في صدهم الناس عن سبيل الله، وفي إخراجهم النبي -صلوات الله عليه وسلم-، وفي إخراجهم المؤمنين، وفي تصديهم لهذه الدعوة بمحاولة صرف الناس عنها، فالله ضرب لهم هذا المثل وأنه -سبحانه وتعالى- الرب الإله القادرة على أن يسلب النعمة التي أنعم بها وهذا بهذه الأسباب.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم، والحمد لله رب العالمين.