الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (329) - سورة النحل 114-119

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114]، {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:115]، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}[النحل:116]، {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:117]، {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[النحل:118]، بعد أن ضرب الله -تبارك وتعالى- لأهل مكة هذا المثل، لمكة التي جعلها الله –تبارك وتعالى- بلدًا آمنًا ورزق أهلها من الثمرات، وقال {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2]، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3]، {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، وهذا على إمتداد تاريخها حتى في أوقات الجاهلية، يوم كان تتخطف الناس ويقطع الطريق في كل مكان كانت مكة بلدًا آمنًا، كما قال -تبارك وتعالى- {........ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[القصص:57]، فكانت هذا البلد الآمن بنعمة الله -تبارك وتعالى- ثم إن الله -تبارك وتعالى- أتى أهل مكة قريش بالنعمة العظمى؛ محمد -صلوات الله والسلام عليه-، نبيه ورسوله إلى العالمين، جاء بالهدى والدين، جاء بالسعادة لهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران وبالجحود، آذوا الرسول -صل الله عليه وسلم-، وقفوا في وجهه، تآمروا به إلى القتل، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]، شنوا الغارة على أصحابه ضربًا وتعذيبًا وفتنة لهم أن يرجعوا عن الدين، شتتوهم في البلدان، فقابلوا نعمة الله -تبارك وتعالى- العظمى عليهم بالكفر، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}[إبراهيم:28]، فالله ضرب لهم مثل وأنه -سبحانه وتعالى- سيغير ما بهم من تلك الأمن والنعمة إلى الجوع والخوف والنقمة، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112]، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ .........}[النحل:113]، رسول منهم؛ محمد -صلوات الله والسلام عليه-، من قريش، من العرب، {........ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[النحل:113].

بعد هذا؛ بعد ضرب هذا المثل، رتب الله -تبارك وتعالى- على ذلك أن دعاهم إلى إتخاذ طريقه -سبحانه وتعالى-، قال {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114]، {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، أي أيها الناس، {حَلالًا طَيِّبًا}، ولا يكون الأكل مما رزقنا الله حلالًا طيبًا إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وشكر نعمته، والإعتراف بأن هذا الذي هو فيها العبد من النعم إنما هو من الله -سبحانه وتعالى-، خالق هذه النعم وبارئها ومسديها -سبحانه وتعالى-، كما قال -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، هذا دعوة للناس جميعًا، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ........}[البقرة:172]، قال {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا}، يعني حال كونه حلالًا مما أحله الله -تبارك وتعالى-، طيبًا؛ الطيبة ضد الخبث، فالخبيث ما زاد ضرره على منافعه، إما لطعمه أو لرائحته أو لأثره في البدن، كما نسمي مثلًا شجرة الدخان شجرة خبيثة، شجرة المخدر شجرة خبيثة، إن فيها خبث هذا ضد الطيبة، فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالًا طيبًا، والطيب هو الذي تزيد منافعه على مضاره، {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، الشكر بقلوبكم، الإعتراف أولًا بالقلب أن هذه نعمته -سبحانه وتعالى-، وبألسنتكم حمد الله -تبارك وتعالى- والثناء عليه لإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، ثم بأعمالكم، بأعمالكم وذلك بطاعة الله -تبارك وتعالى- والسير في مرضاته، {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، على الحقيقة، يعني إن كنتم تعبدون الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، فهذا طريقه أن تشكروا الله -تبارك وتعالى- على ما رزقكم من هذه النعم، ويجب عليكم أن تأكلوها حال كونها حلالًا طيبًا، مفهوم هذا أن تأكلوا حلالًا مفهوم المغايرة إذا كان حرامًا لا يحل أكله، وإذا كان خبيثًا لا يحل أكله أو شربه.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- بأن الذي حرمه إنما هو محصور والباقي حلال، قال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ........}[النحل:115]، أربعة أشياء، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وتؤكل كذلك وتتناول في حال الضرورة، فهذا الذي حرمه الله -تبارك وتعالى- قال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، وهو كل ما مات من بهيمة الأنعام التي هي حلال في الأصل، كل من مات بغير الذبح والنحر، فهذا الذي أباحه الله -تبارك وتعالى- أن نأكل به بهيمة الأنعام، أن يذكر إسم الله -تبارك وتعالى- عليها وأن تذكى الذكاة الشرعية، وذلك بقطع الوليجين؛ عرقي الرقبة، لينزل يصفوا منها الدم، ثم تؤكل بعد ذلك هذه المذكاة، وأما كل ما ماتت بعد ذلك بسبب غير هذا السبب فهي ميتة، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ}، أي التي تموت خنقًا، {وَالْمَوْقُوذَةُ}، وهي التي تموت بالوقز، والوقز هو الضرب على الرأس حتى تموت، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}، وهي التي تهوي من مكان عال إلى مكان منخفض فتموت، {وَالنَّطِيحَةُ}، أي المنطوحة، التي تنطحها مثلًا أخت لها أو حيوان أخر فتموت بالنطاح، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، ما إعتدى عليها السبع فقتلها، فهذه لا يجوز أن تؤكل بعد قتل السبع لها، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، إلا ما ذكيتم؛ يعني إلا ما أدركتموه فذكيتموه، هذا إستثناء متصل، أو إلا ما ذكيتم فكلوا ما ذكيتم فقط، فالذي ذكيتموه تأكلوه أما الذي لم يذكى لا يؤكل؛ فهذي ميتة.

فقال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، وقد جائت كذلك الكتاب والسنة بتحليل السمك لو مات، لو مات قبل صيده ووجد ميتًا فإنه يؤكل فهذا من الميتات التي أحلها الله -تبارك وتعالى-، وكذلك لا يذبح السمك إذا صيد ومات بعد الصيد فهو كذلك من الميتة التي أحلها الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الجراد فإنه يصاد ويموت في صيده فإنه كذلك يؤكل، كما في الحديث «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان في الكبد والطحال»، {وَالدَّمَ}، الدم وقد جاء هنا عامًا، ولكنه جاء مقيدًا في قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}، الدم المسفوح وهو الذي يسفح ويراق ويسكب أو يخرج من البهيمة إما عند الذبح؛ الوليجين، وإما على النفس، النفس الذي كان يفعله العرب فإن العرب كانت تأكل الدم، الدم مسفوح عند الذبح تتلقاه في إناء وإذا جمد يأكلونه، وكذلك كانوا يأكلون الدم من الحيوان وهو حي؛ يفصدون عرقه، يأتون إلى البعير فيفصد العرق؛ يقطع عرق من عروق البعير، ثم يضع إناء تحته حتى يمتلئ هذا الإناء، ثم يضمد جرحه، وإذا جمد هذا الدم يأكلوه، فيأكلوا الدم من الحيوان، فهذا الدم حرام، ولكن الدم الذي أبيح واستثني هنا هو فقط الطحال لنسبة الدم الكثيرة التي فيه فهو يؤكل، وكذلك سمي دمًا لهذا والكبد، وكذلك ما بقي في العروق بعد الذبح، إذا صفيت الذبيحة إذا بقي شيئ في العروق أو شيء على اللحم فهذا لا شك أنه يعني جاء في الحديث؛ الحديث الصحيح لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، «كنا لا نعد القترة من قتار القدر شيئًا»، فكانوا يأكلون اللحم ولا يكلفون بأن يفتحوا كل العروق الموجودة في داخل اللحم لإستخراج الدم منها.

{وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}، الحيوان المعروف، ولحمه يدخل فيه كذلك شحمه فهو داخل في معنى اللحم، هذا الحيوان قد حرم الله -تبارك وتعالى- أكله لخباثته، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، أهل؛ الإهلال هو رفع الصوت، وهو جاي من الهلال، وذلك أنهم كانوا يترقبون أول الشهر؛ الهلال في أول الشهر، فإذا رأوه صاحوا من باب إستقبال شهر جديد، فسمي كل رفع للصوت في أمر ما إهلالًا، كرفع الصوت عند البدء بالحج والعمر إهلالًا، أهل بالحج أو أهل بالعمرة بمعنى أنه رفع صوته، لبيك اللهم بعمرة أو لبيك الله بحج، وهؤلاء كانوا يهلون؛ يرفعون أصواتهم عند الذبح لأصنامهم، فيقول بإسم هبل أو بإسم فلان فيرفع صوته وعقيرته بذكر الإله والصنم الذي يذبح له، فهذا الذي أهل لغير الله يعني ذكر إسم الله -تبارك وتعالى- عند ذبحه مهلًا به؛ يعني يرفع الصوت به، هذي أربعة أشياء، وهذه إما الخبث فيها لذاتها وإما الخبث فيها للمعنى؛ يعني خبث معنوي هنا، فالخبث هذا الميتة خبيثة لذاتها، فالخبث فيها أنها قد تموت بمرض أو تموت حتف أنفها ويبقى دمها، والدم هو مجرى فضلات الجسم؛ قاذورات الجسم، البول وغيره يدخل في الدم، فإذا ماتت فإن هذه السموم الموجودة في الجسم والتي هي مجراها الدم تبقى فيها، مع إذا كان ما فيها أمراض فهي خبيثة لهذا، والدم مع أنه مجرى الغذاء فإنه هو كذلك مجرى السموم التي في الجسم، ولحم الخنزير لنجاسته وخبثه، فهذا حيوان خبيث نجس في أخلاقه وفي حياته وأكله للقاذورات، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، فهذا المعنى الذي فيه وأنه ذبح لغير الله -تبارك وتعالى- فيتنجس لذلك.

ثم قال -جل وعلا- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، من إضطر؛ الإضطرار هو الإلجاء القهري والقصري، يعني من ألجئ إلى أن يأكل شيئًا من ذلك حل كونه غير باغٍ، غير باغٍ؛ يعني مريد ومحب لهذا الأمر ومشتهي له، ولا عاد؛ ولا متعدي، إما متعدي حد الضرورة كأن يأكل شهوة ويخزن ويحمل، فلا يتعدى فقط قدر الضرورة تمسك الحياة، يعني لا يحل له أن يأكل من هذه المحرمات التي حرمها الله -تبارك وتعالى- إلى القدر التي يمسك بها حياته؛ وفي حال الضرورة فقط، في حال ما إذا ألجئ إلى هذا وإضطر إلى هذا فيدفع ضرورة الموت عنه بأكل شيء من هذا، قال -جل وعلا- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، غفور؛ مسامح –سبحانه وتعالى- يستر الذنب، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى- أن أباح لهم ذلك في حال الضرورة رحمة بهم، حتى لا يفضي بهم الضرورة إلى الهلاك، وهذه الآية جائت بهذه الصيغة من بيان رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، وأن المحرمات التي حرمها الله محدودة جدًا بجوار ما أباحه الله -تبارك وتعالى-، تبقى بعد ذلك كل ما في الأرض، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، فكل الذي في الأرض بعد ذلك من ما خلق الله -تبارك وتعالى- إنما هي حلال إلا ما حرم فقط، في المطعومات من هذي الأربع فقط، فدل على ضيق دائرة التحريم وتوسيع الله -تبارك وتعالى- لدائرة المباح والحلال.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}[النحل:116]، {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:117]، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، ينهى الله -تبارك وتعالى- عباده أن يحلوا ويحرموا بأهوائهم؛ بالكذب على الله -تبارك وتعالى-، فإن التحليل والتحريم بالهوى إنما هو إفتراء على الله -تبارك وتعالى-، يقولوا إن الله أحل هذا وحرم هذا ولم يحلله ولم يحرمه فإن هذا إفتراء الكذب على الله -تبارك وتعالى-، وكانت العرب لها تهاويل كثيرة في التحليل والتحريم، كما قال -تبارك وتعالى- {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:103]، فعندهم البحائر وهي ما يشقون أذنها ويجعلونها للأصنام، وعندهم السوائب التي يسيبونها خلاص لمعنى في هذه السائبة، كأنها خلاص تؤخذ وتؤنى من أولها وتسيب للأصنام، تسيب، تترك، تهمل، لا تركب ولا كذا حتى تكون بعد ذلك لأصنامهم، والوصيلة هي الناقة التي تصل يعني إناث بإناث بإناث بإناث عند ديَّت، فعند ذلك خلاص إذا وصلت مجموعة من الأبطن فإنها عند ذلك كذلك خلاص يقولوا أتمت ما عليها فتركت، والحام؛ فحل الإبل، يقولون إذا خرجت له عشرة أبطن فإن عند ذلك خلاص يقولوا حمى ظهره، فعند ذلك خلاص يتركونه للأصنام، وفي جانب المباح كذلك يأكلون الميتة ويأكلون الدم ويذبحون لأصنامهم وأوثانهم ويأكلون، فانظر هنا يحلون ما حرم الله -تبارك وتعالى- وهنا يحرمون ما أحل الله -تبارك وتعالى- لهم، وما في بطون الأنعام كذلك يشيرون إليه، فأحيانًا يجعلونه يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالص لذكورنا ومحرم على أزواجنا من البداية، فيقول خلاص ما في بطن هذه الناقة هذه فقط يعني للذكور فقط وليس للإناث فيها شيء، وإذا نزل ما في هذا البطن ميت يقولوا خلاص هم فيه سواء؛ فيأكل منه الذكور والإناث، تهاويل عظيمة بتحليلهم بعقولهم وبأهوائهم وتحريمهم بعقولهم وأهوائهم ونسبة هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا كذب وإفتراء على الله، فالله يقول {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، سواء كذلك هذا نسبوه إلى الله -تبارك وتعالى- فقالوا إن الله أحله أو حرمه، أو فعلوه هم بأنفسهم، أو فعلوه هم بأنفسهم ثم قالوا هذا بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}.

قال -جل وعلا- {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، وذلك أن التحليل والتحريم حق الله -تبارك وتعالى-، فمن قال هذا حرام ولم يحرمه الله -تبارك وتعالى- فقد إفترى على الله الكذب، لأن هذا حق الله، حق الله -سبحانه وتعالى- هو خالق الأشياء فهو الذي يحرم ويحل -سبحانه وتعالى-؛ فهذا حقه، وكل من حرم وأحل من عند نفسه فقد إعتدى على حق الله -تبارك وتعالى-، وبالتالي وبالضرورة إفترى على الله الكذب، {........ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}[النحل:116]، قضية وحكم، حكم الرب -تبارك وتعالى-، حكم الله -عز وجل- {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}، كل من إفترى على الله كذبًا لا يفلح، والفلاح أصل الفلاح هو النجاح والفوز بالمطلوب الأكبر، مطلوب الإنسان الأكبر أعظم مطلوب هو الفوز بالجنة والنجاة من النار والحياة الطيبة، الحياة في رضوان الله -تبارك وتعالى- وفي هدايته، هذا هو الفلاح وضد هذا الخسار، فالمفتري على الله الكذب هذا فعل جريمة كبيرة؛ أكبر جريمة، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ما في أحد أظلم منه هذا، إن الله -سبحانه وتعالى- يأتي من يفتري عليه الكذب، يقول أحل أو أباح أو حرم أو أحب أو فعل والله لم يفعل ذلك، فهذا أكبر مجرم، أكبر جريمة ممكن أن تقع في الأرض، لا ذنب أعظم من هذا، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ........}[الأنعام:21]، فالله -تبارك وتعالى- حكم على هذا المفتري بحكم، أو هذا حكم إلهي ما يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}، مطلقًا، معنى أنه لا يفلح خلاص الخسار قد إرتبط به وأصبح لازمًا له.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- صورة خسارهم، قال {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:117]، متاع قليل في هذه الدنيا، يمتعهم الله -تبارك وتعالى- متاع قليل في الدنيا، ولكن يضطره في الآخرة إلى عذاب أليم، كما قال -جل وعلا- {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}[لقمان:24]، ومعنى نضطرهم يعني ندفعهم دفعًا رغمًا عنهم، يذهب إلى العذاب رغمًا عنه، يساق له سوقًا رغمًا عنه ولابد أن يصله، فقال -جل وعلا- {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:117]، لهم؛ أصبح خلاص ملك، هذا العذاب الأليم أصبح لازم لهم وملك لهم، ولهم عذاب أليم وهذا في الآخرة.

ثم قال -سبحانه وتعالى- {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[النحل:118]، هنا بيَّن الله -تبارك وتعالى- صورة قد يعترض بها على أن دائرة الحرام ضيقة ودائرة الحلال متسعة، وأن الله -تبارك وتعالى- إنما أحل الطيبات كلها، أما الشأن في اليهود فإن الله -تبارك وتعالى- حرم عليهم كثيرًا من الطيبات، فأخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا إنما كان تشريع خاص باليهود بظلم منهم، قال -جل وعلا- {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ........}[النحل:118]، يعني على الذين هادوا وحدهم دون غيرهم في تشريع الله -تبارك وتعالى-، حرمنا؛ الله هو الذي يحرم -سبحانه وتعالى-، قال ما قصصنا عليك من قبل؛ الذي قصصناه عليك من قبل، وهو الذي قصه الله -تبارك وتعالى- كما جاء في سورة الأنعام، قال -تبارك وتعالى- {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام:146]، فحرم الله -تبارك وتعالى- عليهم هذه الأشياء من الطيبات، قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}، بسبب البغي؛ بالظلم الذي بهم، وكذلك قال -سبحانه وتعالى- {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء:160]، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:161]، فلما ظلموا وحادوا عن إتباع ما أمر الله -تبارك وتعالى-، فإن الله عاقبهم عقوبات في الدنيا هذه العقوبات الدنيوية أن الله حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم، حتى إذا أكل من هذه الطيبات التي حرمها يصير جاوز الحد وكأنه أكل من الحرام، أصبحت حرام عنده فيعاقب عليها كذلك، فيكون عقوبتين؛ الحرمان أولًا من هذا الشيء الطيب في الدنيا، ثم إن الأكل منه يعتبر كأنه أكل حرامًا وبالتالي عليه عقوبة وذنب، يعاقب عليه كذلك في الدنيا ربما وفي الآخرة، قال -جل وعلا- {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}، لم يكن هذا ظلم من الله -تبارك وتعالى- لهم عندما حرم عليهم هذه الطيبات، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أي بعدوانهم، لما كانوا يعتدون ويتجاوزون حدود الله -تبارك وتعالى- فإن الله عاقبهم بهذا، وكان هذا ظلم لأنفسهم وليس ما وقع عليهم ظلم من الله -تبارك وتعالى- لهم.

ثم قال -جل وعلا- {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:119]، ثم؛ بعد ذلك، إن ربك؛ يا محمد -سبحانه وتعالى-، إن ربك؛ نسب الله -تبارك وتعالى- هنا الرسول إلى نفسه تعظيمًا لشأن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبيان أنه هو الذي يشرع -جل وعلا-، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}، كل من عمل السوء، ولا يعمل أحد السوء إلا وهو جاهل، جاهل بحق الرب وحقيقة الرب -سبحانه وتعالى-، فكل من عمل السوء؛ أي سوء، سميت المعاصي سوءًا لأنها تسوء صاحبها، في النهاية هي تسوء صاحبها، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}، اللي هي كل المعاصي والذنوب، {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، من بعد ذلك؛ أي من بعد عملهم لهذه السيئات، وأصلحوا؛ بعد ذلك وأصلحوا أي ساروا على الصراط المستقيم وأصلحوا فيما يستقبل من أمرهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، إن ربك -سبحانه وتعالى-، كرر هذا من بعدها؛ أي من بعد إسائتهم السابقة، ولكن استقاموا بعد ذلك على الأمر من بعده لغفور رحيم، فهذا إعلان منه وإخبار -سبحانه وتعالى- أن كل مؤمن عمل سوء وعمل سيئة ولا يعملها المؤمن إلا بجهالة؛ جاهل، فإذا تاب عن ذلك ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- يغفر له، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:17]، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ........}[النساء:18]، فهنا ثم تابوا من بعد ذلك؛ قبل الموت، قبل الموت، يعني إذا تاب من بعد ذلك؛ من بعد فعله، ولكن هذا كان وقع منهم قبل الموت فإن الله -تبارك وتعالى- يغفر له، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «يغفر لأحدكم ما لم يغرغر».

نقف عند هذه الآية، ونكمل بقية السورة في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.