الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد والله
الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل سنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:109]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن
كثيرًا من أهل الكتاب يتمنون ويحبون أن يردوا المسلمين كفارًا، وأن هذا منهم إنما
هو حسد لأهل الإسلام، بعد أن رأوا أن الله -تبارك وتعالى- قد هداهم إلى الدين
الخاتم، وجعلهم في خير أمةٍ أخرجت للناس، وأرسل فيهم النبي الذي كتب الله -تبارك
وتعالى- له العز والثناء والملك في الدنيا والآخرة، فإن هذا النبي قد بعث بالدين
الذي شاء الله -تبارك وتعالى- أن ينصر ويعلو على كل دين، فلما رأوا أن الله -تبارك
وتعالى- قد جعل الرسالة في هذا النبي العربي، وأن الرسالة قد خرجت من بني إسرائيل
إلى بني إسماعيل، ورأوا تجمع الأمم حول هذا الدين، حسدوا المسلمين حسدًا عظيمًا،
هنا الرب -تبارك وتعالى- يكشف حقيقة قلوب هؤلاء، ويبين مكنون ضمائرهم، تحذيرًا
للمسلمين منهم، قال {وَدَّ كَثِيرٌ} وهذا
معناه أنه ليس قليل، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
اليهود والنصارى، {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} معشر
المسلمين من بعد الإيمان بالله كفارًا، قال -جل وعلا- {حَسَدًا
مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}، تبين
لهم الحق أن هذا هو رسول الله حقًا وصدقًا، المبشَّر به في التوراة والإنجيل،
والذي هو المخلِّص من العالم كله من الشرك والكفر، والمنقذ للأمم من الضلال، والذي
أمته هي الأمة الخاتمة، آخر الأمم وجودًا في الأرض إلى قيام الساعة، فحسدوا لذلك
حسدًا عظيمًا، من بعد ما تبين لهم الحق بهذا، قال -جل وعلا- {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}، أمر الله -تبارك وتعالى- أهل
الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن اليهود والنصارى، فلا يبدأوا بحربهم ومعاقبتهم على ما
يسعون به من إضلال المسلمين ومن تكفيرهم، قال -جل وعلا- {حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، بأمره وشأنه فيهم، وقد جاء الأمر بعد ذلك،
أمر الله -تبارك وتعالى-، وجاء أمر الله بوجوب قتالهم لكفرهم.
قال -جل وعلا- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} هذه من
جرائمهم، { وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30]، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، فعدَّد الله -تبارك وتعالى-
كفرهم وجرائمهم، التي يستحقوا بها أن يقاتَلوا، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنهم
مهزومون، وأن أهل الإسلام منتصرون عليهم ولابد، فقال الله -تبارك وتعالى- يقول {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، الله قادرٌ على كل شيء، وقد
أظهر الله -تبارك وتعالى- قدرته في أهل الإسلام، فالأمة المستضعفة التي كان ينظر
إليها بعين الاحتقار والاستصغار، والنبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- الذي
ظنَّ الناس أنه لا يمكن أن يكون مثله نبي، رجل أمي من قريةٍ مهملة في العالم، لا
شأن لها كالعواصم الكبرى في مكة، منه يخرج فيأكل القرى كلها، تكون هي لهذه أم
القرى، كما قال النبي «أُمرت بقريةٍ تأكل القرى»، فتأكل بعد ذلك قرى العالم، وتدين
الأمم كلها للقرية التي بعث منها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وتصبح كل ملوك
العالم وأكاسرتها وقياصرتها في ركب هذا النبي وتبعٌ له، كما يقول قيصر حينما جاء
له كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- اسلم تسلم، وإن لم تسلم فإنما عليك إثم
الأريثيين، وبعد أن يتحقق من الكتاب، وأن هذا هو نبي هذه الأمة، يقول لأبي سفيان
وقد كان أمامه لما سأله عن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال له لإن كان
ما تقول حقًا فإنه سيملك موقع قدمي هاتين، وكان هذا في القدس في ذلك الوقت، وودتُّ
أني أخلص إليه، أتمنى أن أخلص إليه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، لو كنت عند
النبي الآن لغسلت قدميه، وقد كنت أعلم أنه خارج، أي أن نبيًا يخرج، ولكن ما كنت
أظنه منكم، أي ما كنت أظنه من العرب، فإن العرب قد كانت أمة لا يأبه بها أحد، ولا
يعطيها الناس الكبيرة قيمة، فيقول كنت أعلم أنه سيخرج نبي، ولكن ما كنت أظن أنه
منكم.
فأخبر الله -تبارك
وتعالى- الله يقول {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، إشارةٌ منه -سبحانه وتعالى-
أنه قادرٌ على كل شيء، فقادر على أن يجعل من هذه الأمة المستضعفة المستذلة أمة
تناطح الأمم بعد ذلك، وتنتصر على الجميع، {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، وقال {لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، أي ولو كره المشركون ذلك
فإن الله -تبارك وتعالى- ناصرٌ نبيه -صلوات الله والسلام عليه-، وناصر دينه هو -هذا
الخاتم- على كل دين.
ثم وجَّه الله -تبارك
وتعالى- أهل الإسلام، على ما ينبغي عليهم في هذا الوقت وفي كل وقت، قال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، كأنه توجيه
من الله أن يكون هذا الاهتمام الهم والعمل، أقيموا أيها المسلمون الصلاة، أقيموها أي
اجعلوها مستقيمة، ولا تكون الصلاة مستقيمة إلا بأن تؤدى وفق شروطها وبأركانها
وبآدابها كما شُرِعَت، وبروحها خشوعها ونيتها، كل هذا لابد أن يحتف حتى تكون هناك
صلاة قائمة، قال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ}،آتوا الزكاة أعطوها، والزكاة نفقة واجبة في مال المسلم، وجاء
بعد ذلك مقاديرها في كل مال، أي نصابها ومقاديرها، سمي هذا المال الجزء الذي يخرج
من مال المسلم بالزكاة، لأنه زكاة للمال نفسه، فالمال الذي لم تخرج زكاته يصبح
خبيث، لأن فيه حق الله لم يخرج، فإذا خرج منه طَهُرَ المال، ثم يطهُر به نفس
الفاعل، تطهُر عن الشح وعن البخل، تطهُر بالعطف على الفقراء وعلى المساكين لأن هذا
حق هؤلاء، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ}[المعارج:24]،
{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، فسميت زكاة من هذا؛ أنها
تذكي المال وتذكي النفوس.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:110]، هنا هذا بعد تخصيص بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة جاء التعميم، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}، ما تقدموا لأنفسكم من خير أي خير، فيعم كل خير
يفعله المسلم، مما شرعه الله -تبارك وتعالى- من أمور الخير، وقال الله -تبارك
وتعالى- {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ}، تقدموا؛
تفعلوه الآن للزمن القادم، والزمن القادم يوم القيامة، فكأنك إذا فعلته الآن قدمته
لتجده أمامك، فإن فعلت شيئًا الآن من الخير فأنت ستجده أمامك، ثم تقدمه ليس لأحد
لنفسك أنت، إنما العامل ينفع نفسه، فكل عملٍ تعمله الآن فهو لنفسك، لأن ثوابه وجزاءه
عند الله -تبارك وتعالى- لك، هذا حثٌّ وحضٌّ من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، أن
يبذلوا كل ما يستطيعون من الخير، لأن أي خير مهما كان قليلًا فهو موجود قدمته، ثم
وهو لنفسك، تقدمه كذلك لنفسك، طبعًا هذا أكبر موجبات وحوافز للعمل، إن ما في شيء
يضيع، وأن كل ما تفعله ستنال ثوابه، وأن ثوابه إنما هو لك، يعود نفعه إليك، فهذا
حثٌّ عظيم من الله –تبارك وتعالى-، وتوجيهٌ عظيمٌ منه لعباده المؤمنين، أن يقدموا
ما يستطيعوا، لأنه لا يضيع عنده شيء -سبحانه وتعالى-، قال {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، فالله لا يهمل مثقال ذرَّة
من الخير لعبده المؤمن، ولا يضيِّعُه، {إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، أي للعبد المؤمن، {........
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، فقال ستجدوا؛ أي خير تفعلوه ستجدوه عند الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، هذا كذلك إن
الله أي عمل تعمله حتى لو كان في ظلمة الليل، لم يطَّلع عليك أحد، لم يرك أحد،
الله مبصرٌ -سبحانه وتعالى-، وبالتالي ما هيضيع، جمع الله -تبارك وتعالى- في هذه
الآية كل الحوافز التي تدفع المؤمن أن يفعل الخير، أول شيء أن أي خير ولو كان صغير
سيجده الإنسان، وأن الخير الذي تعمله هو لنفسك، ثم إنك ستجده محفوظ، عند من؟ عند
الله، الله لا يضيِّعه، ثم إن الله مبصرٌ بالعمل، فلا تخف أن تعمل في أي مكان ولو
من وراء البحار.
كما قال النبي لذلك
الرجل، قال له فأعمل المراد أن أي عمل تعمله؛ فأعمل ولو من وراء البحار، فإن الله -تبارك
وتعالى- لن يظلمك أجرك، قال هذا النبي لمن أراد الهجرة، وقال له النبي هل لك من
إبل؟ فقال نعم، قال له الهجرة شديدة، أمر الهجرة شديد، أي ليس أنك ستهاجر فستأخذ
الأجر، بل لو كنت تعمل حتى في برِّيتك لله –تبارك وتعالى- فإن أجرك موجود، فقال له
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له إن أمر الهجرة شديد، أي لا تستطيعه وأنت في
البر، قال فأعمل ولو من وراء البحار، فإن الله لن يتِرَك عملك، فعملك محفوظ، فهنا
يقول الله -تبارك وتعالى- {........ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:110].
بعد هذا التوجيه من الله -تبارك وتعالى-
لعباده المؤمنين، بدأت الآيات ترد على دعوة أخرى من دعاوى اليهود، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا
أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ}[البقرة:111]،
لما قفل الباب على اليهود والنصارى في هذا الحِجاج الذي دحض كل مفترياتهم، بدأوا
يلقون دعواهم الكبيرة، كأنهم يقولون للمسلمين لا تتعبوا أنفسكم أمر الجنة محسومٌ
أمرها، فهذه منتهية، قال اليهود الجنة لنا، ما أحد يدخلها إلا يهودي، فلا يتعب
أحدٌ نفسه في سبيلها، وقال النصارى نفس المقالة، أن هذه الجنة محسومٌ أمرها لنا
وحدنا، ولن يدخلها إلا نصراني، وهذا القول من اليهود للمسلمين ومن النصارى
للمسلمين تيئيسٌ لهم، وبيان أن طريقهم إلى ضلال، وأن الجنة هذه خلاص قد كتبها الله
لهم من دون الناس، وأنه لا مجال إلى أن يدخلها أحدٌ غيرهم، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ}، بنفي الفعل
مستقبلًا أبدا، يدخل الجنة؛ جنة الآخرة، {إِلَّا مَنْ
كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، أي قال اليهود الجنة لنا وحدنا، ولن يدخلها
إلا يهودي، وقالت النصارى الجنة لنا وحدنا، ولن يدخلها إلا نصراني، قال -جل وعلا- {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}، تلك هذه المقالة من أن الجنة
خالصة لهم، هذه أماني؛ أماني يتمنونها ويقولونها وليست من الحقيقة، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي
هاتوا البرهان هذه دعوة تدَّعونها، فما البرهان عليها؟ والبرهان هو الدليل المؤكد
الذي لا يترك في الحق لبس، أمرٌ مؤكد فهل عندكم مثلًا عهد من الله هكذا؟ كتب الله
لكم فيما أنزل على الأنبياء وكذا، أن هذه الجنة خاصة باليهود، أو أن الجنة خاصة
بالنصارى، هل ثم شيء من هذا؟ أنزل الله -تبارك وتعالى- لهم فيه عهد، فالجنة جنة
الله، فهل عهد الله -تبارك وتعالى- إليكم بذلك؟ {قُلْ
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي فيما تدَّعونه من أنكم
أهل الجنة وحدكم.
ثم قال -جل وعلا- {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:112]، أن الجنة لهؤلاء، لكل من
أسلم وجهه لله وهو محسن، بلى هذه نفيٌ لما قالوه، ثم قال –جل وعلا- {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، الإسلام بمعنى الاستسلام، والوجه معروف، أي جعل وجهته ونيَّته ومقصده هو
الله -تبارك وتعالى-، فجعل وجهه في الحياة لله، {أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ}، وأشرف ما في الإنسان وجهه، فإذا سلم وجهه لله -تبارك
وتعالى- بمعنى أنه انقاد له، وإستسلم لله -تبارك وتعالى-، ولا يكون الإنسان مسلمًا
وجهه لله إلا بتصديق ما أخبر به، والتزام ما أمر به -سبحانه وتعالى-، في الاثنين؛
فيكون إيمانٌ بقوله، واستجابةٌ لأمره -سبحانه وتعالى-، {
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ}، ينبغي أن يكون محسنًا، ولا يكون محسنًا إلا بطاعة ربه –سبحانه
وتعالى-، فيسلم النية والوجهة ويكون محسنًا في عمله لله -تبارك وتعالى-، والمحسن
هو فاعل الأمر حسن على وجهه، ولا يكون الأمر حسنًا إلا باعتقادٍ صحيح، وعملٍ موافق
لما سنَّه الرسل، قال -جل وعلا- {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ}، لا يضيِّع الله -تبارك وتعالى- أجره، هذا من كل الأمم ومن كل
الشعوب، ومن كل أتباع الرسل، لأن مَن من صيَّغ العموم، {مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، أجره ثواب عمله، عند ربه؛ ربه إلهه الذي خلقه -سبحانه
وتعالى- يعطيه، أي لا يضيع، {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}
في مستقبلهم، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} في ماضيهم،
فالخوف هوترقُّب الشر للمستقبل، والحزن هو الألم والغم على شيء ماضٍ، أي أنه قد
سَلِمَ من كل شيء، فهذا أجره محفوظ ولا شر يصيبه، لا في المستقبل ولا فيما مضى، ولا
شك أن هذا طبعًا يدخل فيه أنبياء الله، كل رسل الله، كل أنبيائه، كل من أطاع هؤلاء
الرسل والأنبياء، وكان مؤمنًا بهم، فالرسل والأنبياء اتباع موسى على الحقيقة، اتباع
عيسى على الحقيقة، هؤلاء كلهم داخلون فيها، كذلك اتباع محمد -صلوات الله والسلام
عليه-، أما مَن كفر برسول من الرسل فلا شك أنه كافر بالله -تبارك وتعالى-، فاليهود
الذين بعث فيهم عيسى وكفَرُوه وقالوا لست برسول، وأنك لم تخلق، خلقك الله -تبارك
وتعالى- بالكلمة، ونسبوه أنه ولد لغيَّة، ولم يخلقه الله -تبارك وتعالى- بكلمته كن
فيكون، يجعله معجزة على هذا النحو.
كما قال -تبارك
وتعالى- فيهم {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}[النساء:156]، فبقولهم البهتان العظيم هذا كفروا بالله
-تبارك وتعالى- فهم كفار، هذا لم يسلم لله -عز وجل- لكفره بالنبي الذي أرسله، وكذلك
النصارى الذين بعث أليهم النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- والمبشَّر
بالإنجيل، والذين قالوا له لست بالمخلِّص الذي وعِدنا به، ولست بالرسول الذي
وعِدنا به، هؤلاء خلاص كفروا بالله -تبارك وتعالى-، هؤلاء لا يطلق عليهم أنهم
أسلموا وجههم لله وهم محسنون، {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:112]، وخلاصة من يدخل في مضمون
هذه الآية هو النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- والمؤمنون معه، فهؤلاء قد
أسلموا وجوههم لله -تبارك وتعالى- وهم محسنون في عملهم، في إيمانهم بالله كما شهد
الله لهم بهذا، فقال {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285]، فهذه شهادة الله -تبارك
وتعالى- لرسوله محمد، وللذين آمنوا معه، فهؤلاء هم أهل الجنة على الحقيقة، هؤلاء
هم الذين يدخلون الجنة على الحقيقة مع الرسل السابقين، والأنبياء السابقين، واتباع
هؤلاء الرسل، كلهم أمةٌ واحدة، هؤلاء كلهم أمة واحدة وكلهم أصحاب الجنة، وليس
الأمر كما قال اليهود، أنهم بس في الجنة هي خاصةٌ بهم، وليس كما قال النصارى أن
الجنة هي خاصةٌ بهم، بل كل أهل الإيمان، من لدُن آدم وإلى آخر مؤمن، يتصف بهذه
المواصفات {........ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ}[البقرة:112].
ثم بعد ذلك بدأ الله -تبارك وتعالى-
ببيان، أن اليهود والنصارى يجتمعون على حرب الإسلام، وعلى التكذيب بالنبي محمد -صلوات
الله والسلام عليه-، ويفترقون فيما بينهم كذلك، فإنه يكفِّر بعضهم بعضا، ولكنهم
يجتمعون معًا على التكذيب بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا من عجيب
الأمر، قال -جل وعلا- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[البقرة:113]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}،
هذا من التعدي والظلم ونفي أساس الدين، فاليهود قالوا ليست النصارى على شيء، وذلك
بأن اليهود يعتقدوا بأن النصارى إنما هم ضُلَّال، يتَّبِعون عيسى الذي لم يكن لا
نبي ولا رسول ولم ينزل عليه شيء، وإنما يعتبرنه أنه كذَّاب، وقد نسبوه إلى ما هو
أكبر من هذا، لأنه ابن زنا، وأنه لا يستحق أن يكون رسولًا، والذين اتَّبَعوه في
هذا ضُلَّال كفار خارجون عن كل دين، فهذا اعتقادهم في النصارى ومقالتهم فيهم، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}،
أي على شيء من الحق ومن الدين، قال -جل وعلا- {وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، قابل كذلك النصارى اليهود
بأن قالوا فيهم نفس المقالة، بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنهم خارجون عن كل
أمر وعن كل حكم، وكفروا بما عندهم، وحوَّلوا دينهم إلى أن يكون مضاد لدين اليهود،
حتى من الحق الذي أُمروا به، فقد حوَّلوا قبلتهم، ونسخوا الشريعة بكاملها -شريعة
موسى-، وأرادوا أن يخالفوا ما عليه اليهود مخالفةً كاملة، ورأوا أنهم كفار عن بكرة
أبيهم.
قال -جل وعلا- {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}، وهم الاثنين يتلون
الكتاب المنزل عليهم، فلا شك أن التوراة حق، والإنجيل حق، ولو كان اليهودي يقرأ
كتابه قراءة صحيحة لآمن بعيسى -عليه السلام-، لأنه جاء مكمل لشريعة التوراة، حاكمٌ
بها، مؤيد بالمعجزات، فلو كان يقرأها حقًا لعلم أن النصارى المؤمنون على حق، وأن
عيسى عبد الله وسوله حقًا، وكذلك النصراني إذا قرأ كتابه علم أن عيسى -عليه السلام-
إنما جاء امتداد للعهد الأول؛ العهد القديم، وأنه مؤمنٌ به، وأنه عاملٌ بشريعته،
كما قال لهم في الإنجيل ما جئت لأغيِّر، قال لهم أنا ما جئت لأغيِّر، أي لأغيِّر
الحكم السابق، وإنما جئت لأكمل، إنما جاء مكملًا للشريعة السابقة، فلا شك أن عند
اليهود حتى الذين ضلوا منهم بعض الحق، وأن النصارى حتى الذين ضلوا عندهم بعض الحق،
فهؤلاء عندهم حق ودخل عليهم باطل، وهؤلاء عندهم حق ودخل عليهم باطل، فالقول بأنهم
ليسوا على شيء مطلقًا ونفي كل ما هم عليه مطلقًا، هذا لا شك أنه من التعدي، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ
وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ}، الحال أنهم يتلون الكتاب؛ كتاب الله، أي كتبه، قال -جل وعلا- {قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}،
مثل هذا القول قال الذين لا يعلمون، والذين لا يعلمون هم العرب، مشركو العرب وهم
لا يعلمون لأنهم لم ينزل عليهم كتاب قبل محمدٍ -صلوات الله والسلام عليه- لم يكن
فيهم رسول، فقد كانوا من أهل الجهالة، وكانت كذلك نظرتهم إلى اليهود والنصارى أن
دين العرب خيرٌ من الدين الذي هم عليه، فالعرب على شركهم كانوا يرون أن دينهم من
عبادة الأصنام والأوثان، والكفر بيوم القيامة وما هم عليه، كل ما هم عليه كانوا
يرونه دينٌ خير من الدين السابق، بل كانوا يرون أن آلهتهم أفضل من عيسى، كما قالوا
آلهتنا خيرٌ أم هو، أي آلهتنا خير -التي نعبدها- أم ما يعبده النصارى من عيسى، فقد
كانوا يرون أن دينهم خير من هؤلاء، فالله قال حتى الذين لا يعلمون ينظرون إلى
اليهود والنصارى هذه النظرة، أنهم ليسوا على شيء.
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}،
قال -جل وعلا- {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، ردَّ الله -تبارك
وتعالى- حكم هؤلاء المختلفين إليه، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه في يوم القيامة، هو
الذي يحكم بين عباده -سبحانه وتعالى-، فمن كان على شيء من الحق أحقه الله، ومن كان
على شيء من الباطل لا شك أنه يبطله، وأنه يبين كل ما يختلف فيه العباد، ويعطي كل
ذي حقٍ حقه -سبحانه وتعالى-، ولا يضيع عنده إحسان، والباطل هو ما يبطله، فمرد
العباد جميعًا إلى الله -تبارك وتعالى-، يفصل بينهم في كل أمورهم، والحكم له، وكلٌ
يأخذ عنده جزاءه يوم القيامة، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، بين هذه الأمم كلها، {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
نقف عند هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.