الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء:2]، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4]، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}[الإسراء:5]، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}[الإسراء:6]، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء:7]، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:8]، هذه الآيات هي مقدمة سورة بني إسرائيل؛ سورة الإسراء، وهذه السورة مكية بتمامها.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بتسبيح نفسه -سبحانه وتعالى-، قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، التسبيح هو التنزيه، الإبعاد عن السوء، والله -سبحانه وتعالى- سبوح قدوس، منزه عن كل سوء -سبحانه وتعالى-، منزه عن أن يكون له شريك في الملك وأن يكون له ولد، فمنزه عن الشركاء والأنداد والأضداد، منزه عن الظلم، منزه عن كل نقص يعتري المخلوق، كل نقص الله -تبارك وتعالى- منزه عنه -سبحانه وتعالى-، فهو الحي الذي لا يموت وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الرب الإله القوي القادر -سبحانه وتعالى- الذي لا يظلم أحدًا -جل وعلا-، والذي إليه الأمر كله وبيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وهو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى- والمتصرف فيه، ولا يتطرق إليه -سبحانه وتعالى- الخلل، لا في تصرفاته ولا في أفعاله -سبحانه وتعالى-، فالرب -تبارك وتعالى- هو المنزه عن كل سوء، نزه نفسه -سبحانه وتعالى- وشهد بتسبيحه وتنزيهه وتقديسه كل مخلوقاته، كل مخلوقاته شاهدة بذلك، بلسان الحال أو بلسان المقال، قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه وأسند لنفسه -سبحانه وتعالى- أنه {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، السرى هو السير في الليل، والله -تبارك وتعالى- أسرى بعبده وعبد الله -تبارك وتعالى- هنا هو عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، وقد وصف الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صل الله عليه وسلم- هنا بأنه عبده، وهذه تشريف للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، فذكره هنا في مقام تشريف والمقام هنا مقام الإسراء، الإسراء ليرى آيات الله -تبارك وتعالى-، والمعراج ليصعد إلى السماوات السبع وإلى سدرة المنتهى وليكلمه ربه -سبحانه وتعالى-، في هذا المكان العظيم بهذه الأوامر العظيمة التي رجع بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهذه منزلة لم يتلقها ولم ينلها أحد من البشر قط، فذكر الله -تبارك وتعالى- محمد -صل الله عليه وسلم- عبده هنا هذا لبيان عظم منزلته -سبحانه وتعالى-، ولا شك أن العبودية تحقيقها على الحقيقة هو أعلى المنازل؛ هو تحقيق العبودية لله –تبارك وتعالى-، فالعبودية الإختيارية، عبودية الإيمان والطاعة للرب -تبارك وتعالى-، وإلا فكل من في السماوات والأرض كلهم عبيد الله -تبارك وتعالى-، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93]، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94].
لكن هناك عبودية خلق وقهر وتصريف، الله -تبارك وتعالى- هو رب خلقه جميعًا، هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، ولكن من عباده من هيأه الله -تبارك وتعالى- ويسر له أمر إختيار التعبد، إختيارًا لله -تبارك وتعالى-، إختيار الإيمان والسير فيه، وكلما علا في هذا الباب وعلت درجته في العبودية كلما نال علوًا وشرفًا عند الرب -تبارك وتعالى-، وليلًا تأكيد هذا للسرى أنه كان بالليل {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، المسجد الحرام؛ مسجد مكة، ويطلق المسجد الحرام على مكان المسجد فقط حول الكعبة، ومكة كلها التي حرمها الله -تبارك وتعالى- بحدودها المعروفة، ومنه قول الله -تبارك وتعالى- {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}، فمكة كلها حرام وكلها تسمى المسجد الحرام، وما يحيط بالكعبة مما إتخذ مسجدًا لله -تبارك وتعالى- هو المسجد الحرام، والنبي -صلوات الله والسلام عليه- أسرى الله -تبارك وتعالى- من مكة على الصحيح؛ من بيت النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مكة، قد جاء في بعض الروايات أن إسراء النبي كان من الحجر وأن النبي كان موجودًا في الحجر، ثم أسري به تلك الليلة، والصحيح أنه أسري بالنبي من مكة -صلوات الله والسلام عليه-؛ من بيته في مكة، وهو حرام لأن الله -تبارك وتعالى- جعل له حرمة خاصة، حرم الله -تبارك وتعالى- فيه أمورًا كثيرة مباحة في غيره كتحريم الصيد وتحريم اللقطة وتحريم أن يقطع شجره؛ يعضض، وأن يختلى خلاؤه، فله أحكام خاصة جعل الله -تبارك وتعالى- هذه البقعة من الأرض بقعة حرام، ميزها الرب -تبارك وتعالى- عن سائر بقاع الأرض، ثم حرم النبي -صل الله عليه وسلم- المدينة كما حرم إبراهيم مكة، فهذان البقعتان ...، والمدينة؛ كل المدينة، بحدودها المعروفة؛ حدود الحرم، وهما البقعتان اللتان حرمهما الله -تبارك وتعالى- في الأرض كلها، وليست هناك بقعة في الأرض لها هذه المنزلة.
{إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}، المسجد الأقصى؛ الأقصى الأبعد، الأبعد من مكة، فهو المسجد الأبعد من مكة، مسجد المدينة أقرب وسيأتي، ولكن هذا المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس، إيليا؛ مسجد الأنبياء، أسرى الله -تبارك وتعالى- بعبده محمد –صل الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم وصف الله -تبارك وتعالى- المسجد الأقصى فقال {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، وبارك الله -تبارك وتعالى- حول المسجد الأقصى بأنواع من البركات، منها البركة الدنيوية؛ البركات الدنيوية، فإن هذه البقعة من أرض الشام جعلها الله -تبارك وتعالى- بقعة مباركة بالخيرات التي زخرها فيها، من الماء العذب والزروع والثمار بأنواعها ومن الهواء النقي، فهذه البقعة بقعة مباركة في ما بارك الله -تبارك وتعالى- فيها من هذه البركات الدنيوية، وكذلك البركات الأخرى؛ البركات الدينية، فإنها مهد الأنبياء، مهد الأنبياء من إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء ثم من أتى بعده إلى عيسى إبن مريم -عليه السلام-، آخر نبي قبل نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- وليس بين عيسى وبين محمد نبي، هذه موطنه ومبعثه؛ مبعث عيسى -عليه السلام-، في هذه البقعة في الأرض المباركة.
ثم قال -جل وعلا- {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد أسرى بعبده في ليلة واحدة، من هذا المكان؛ من مكة المكرمة، المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى بإيليا؛ بيت المقدس في ليلة واحدة، قال {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، قال {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، أي ليريه الله -تبارك وتعالى- من آياته، فقد رأى النبي -صل الله عليه وسلم- في مسراه هذا ثم في معراجه من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى، قد رأى من آيات الله -تبارك وتعالى- أمور عظيمة جدًا، كما قال -تبارك وتعالى- {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}[النجم:14]، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:15]، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18]، لقد رأى؛ أي محمد -صلوات الله والسلام عليه- من آيات ربه الكبرى، فقد رأى النبي -صل الله عليه وسلم- فيها أولًا كيف ينتقل -صل الله عليه وسلم- من مكان في الأرض إلى مكان بعيد، كانت المسافة تقطع في هذا الوقت بالإبل وبالخيل شهر كاملة في ذهابها وشهر في عودتها، ذهبها النبي -صل الله عليه وسلم- أو قطعها النبي -صل الله عليه وسلم- في لحظات، ثم عرج به كذلك من بيت المقدس إلى السماء الدنيا فالثانية إلى السابعة إلى سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى التي أعدها الله -تبارك وتعالى- لعباده، ورأى في أثناء ذلك النار، ورأى في الطريق أمور عظيمة جدًا من البشر السائرين إلى أنواع المعذبين إلى الرسل المقربين، إلى أن يصلي -صلوات الله والسلام عليه- بعد ذلك بالرسل في أثناء عودته في المسجد الأقصى، كل هذا رأه النبي -صل الله عليه وسلم- وإطلع عليه من آيات الله -تبارك وتعالى-، وكل هذه في ليلة واحدة رأى من آيات ربه الكبرى، كيف تقطع هذه المسافات، رأى السماوات، رأى الملائكة، رأى الرسل، أحياهم الله -تبارك وتعالى- له، يسلمون عليه ويدعون له ويهنئونه ومنهم من يعظه ومنهم من يوصيه، أمور عظيمة جدًا رأها النبي -صل الله عليه وسلم- في ليلة واحدة، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18].
قال –جل وعلا- {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، الرب العزيز -سبحانه وتعالى-، {هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، السميع؛ لكل خلقه -سبحانه وتعالى-، هذي صفة عظيمة من صفة الرب -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- هو السميع لكل خلقه أين ما كانوا وكيف ما كانوا -سبحانه وتعالى-، سبحان من لا يشغله سمعًا عن سمع، يسمع هذه الأصوات بشتى اللغات في كل الأوقات مع تضاربها، مع خفائها، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10]، وسواء كان هؤلاء المتكلمون المتناجون في السماء العلى أو في الأرض الدنيا كلها لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- دبيب نملة سوداء على صفاة ملساء في ليلة ظلماء -سبحانه وتعالى-، {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، البصير بكل خلقه -سبحانه وتعالى-؛ مبصر له، فالله لا يغيب عن سمعه ولا عن بصره شيء من خلقه قط في كل وقت وحين، هذي آية عظيمة، هذه صفات عظيمة للرب -سبحانه وتعالى- وهي دالة على كماله المطلق -سبحانه وتعالى-، فإن الرب الذي وسع كل شيء؛ يعني وسع سمعه كل شيء، ووسع بصره كل شيء فلا يغيب عنه شيء ولا يعذب عنه شيء –سبحانه وتعالى- علمًا ومشاهدة، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، فهذه الآية هي تسبيح من الله -تبارك وتعالى- لهذا الصنيع العظيم الذي صنعه بعبده ورسوله محمد وهو الإسراء.
خلاصة الإسراء؛ هذا الأمر أولًا قد وقع للنبي -صلوات الله والسلام عليه- قبل الهجرة؛ قبل أن يهاجر إلى المدينة، وقد قيل أنه قبل الهجرة بسنة أو قبل هجرته -صل الله عليه وسلم- بستة عشر شهرًا، وقد روى الإسراء عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- جمع من الصحابة بمجموعة من الطرق الكثيرة، وقد وجد كذلك هذه الطرق بعضها في الصحيحين وبعضها في خارج الصحيحين، وخلاصة الأمر الذي يتلخص من حادثة الإسراء أن النبي -صل الله عليه وسلم- بينما كان نائمًا في بيته أتاه جبريل فأيقظه، شق صدره وغسله بماء زمزم، ثم أوتي له بدابة تسمى البراق ويبدو أن فعلها من إسمها، فالبراق من البرق، وقد وصف أنها تضع حافرها حيث ينتهي بصرها، وهذا يدل على أنها أسرع من البرق؛ من الضوء، وأن النبي -صل الله عليه وسلم- ركبه مع جبريل وأنهم وصلوا بيت المقدس، وأنه بعد ذلك أوتي بالمعراج، عرج بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- مع جبريل -عليه السلام-، مر بالسماء الأولى فرأى فيها آدم -عليه السلام- سلم عليه ودعى للنبي وقال له أهلًا بالإبن الصالح والنبي الصالح، وفي السماء الثانية إلتقى النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعيسى إبن مريم -عليه السلام- وإبن خالته وهو يحيى إبن زكريا -عليه السلام-، الإثنين إبني خالة، سلم أيضًا عليهما النبي -صلوات الله عليه وسلم-، وقالا له أهلًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج بالنبي إلى السماء الثالثة وهنا إلتقى النبي بيوسف -عليه السلام-، ووصفه النبي قال «أوتي شطر الحسن»، يعني نصف الجمال الذي وزعه الله -تبارك وتعالى- في الناس جعل نصفه ليوسف -عليه السلام-، وكذلك رحب بالنبي وسلم عليه وقال له أهلًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، وفي السماء الرابعة وجد النبي -صل الله عليه وسلم- إدريس -عليه السلام-، سلم على النبي كذلك دعى له بخير وقال له أهلًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، وفي الخامسة وجد هارون سلم عليه كذلك، ودعى له وقال له أهلًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، وفي السادسة إلتقى بموسى -عليه السلام- وسلم عليه وقال له أهلًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، وقد جاء أنه بكى عندما جاوزه النبي -صل الله عليه وسلم- وقال لما قيل له ما يبكيك؟ قال أبكي على غلام يدخل من أمته الجنة أكثر ما يدخل من أمتي، وليس هذا حسدًا وإنما غبطة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إنه بعد ذلك مر في السابعة على إبراهيم -عليه السلام-، وإن إبراهيم رحب به ودعى له بخير وقال له أهلًا بالإبن الصالح فهو من أولاده والنبي الصالح، وأنه بعد ذلك رأى سدرة المنتهى.
وقال النبي لما أراد أن يصفها قال «قال غشيها ألوان لا يستطيع أحد من خلق الله أن يصفها»، غشيها ديَّت، كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}[النجم:16]، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:17]، ما زاغ البصر؛ بصر النبي -صل الله عليه وسلم-، وما طغى؛ يعني كان بصر النبي ثابتًا ورأى بالفعل، يعني الذي رأه قد رأه بعيني بصره -صل الله عليه وسلم-، وعند سدرة المنتهى قيل له تقدم فتقدم، وأن الله -تبارك وتعالى- خاطبه وأخبره -سبحانه وتعالى- أنه قد فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأنه لما عاد بذلك؛ بهذا الأمر الإلهي من الله -تبارك وتعالى- مباشرة من الله، هذا ليس وحي يعني وحي، خطاب من الله -تبارك وتعالى-، تكليم من الله -تبارك وتعالى- مباشر لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأنه في أثناء عودته لما مر بموسى قال له ما صنع بك ربك؟ قال فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة في اليوم والليلة، فقال له إرجع إلى ربك فإسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال له لقد عالجت قبلك بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى إمتك، يعني أنه لم يستطيع قومه أن يقوموا بأدني من هذا، فرجع إلى الله -تبارك وتعالى-؛ رجع إلى ربه، وقال ربي أسألك التخفيف عن أمتي فوضع عنه عشرة، ثم مرة ثانية قال له موسى إرجع فسل ربك التخفيف، فرجع مرة ثانية وكل هذا يتردد بين موسى وبين ربه حتى أصبحت خمس، ثم قال له الله -تبارك وتعالى- «يا محمد هي خمس في العمل خمسون في الأجر ما يبدل القول لدي»، يعني أن قول الله -تبارك وتعالى- لا يبدل -سبحانه وتعالى-، فكما أنه فرض خمسين فجعل هذا الفرضية على الأمة خمسين، جعلها بالأجر خمسين وإن كانت بالفعل خمس، هذا من رحمة الرب -تبارك وتعالى- وإحسانه وإفضاله بهذه الأمة.
ثم إن النبي -صلوات الله والسلام عليه- عاد بعد ذلك إلى بيت المقدس، فجمع له الأنبياء كلهم بأمهم النبي -صل الله عليه وسلم- فصلى بهم ركعتين، وفي أثناء عودة النبي -صل الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى مكة، يعني في أثناء طريقه رأى طوائف المسافرين من القريشيين ومن غيرهم، رأهم في الذهاب ورأهم في العودة كذلك، ورأى بعض هؤلاء القوافل بأحداث معينة، قافلة راجعة يتقدمها جمل وصفه النبي بأوصافه عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة ديَّت، وجمل لهم كذلك كان قد ضل ووجدوه وجمل كسر في الطريق، كل هذا أطلعه الله -تبارك وتعالى- عليه ليكون له برهان بعد ذلك عندما يكذبوه المشركون، ويسألونه ما دليل أنك قد أسري بك؟ فلما عاد إلى مكة وأصبح في الصباح يعني عاد ديَّت، أتى ليخبر الناس فقيل له ...، قال له بعض الصحابة من أهله، أم هانئ -رضي الله تعالى عنها- وغيرها قالت لا تخبر الناس، إنك إن أخبرت الناس بهذا كذبوك فقال سأخبرهم، وخرج النبي -صل الله عليه وسلم- وأخبر الناس بأنه أسري به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فطبعًا الكفار المعاندون وجدوا في هذا كأنهم ظفروا بدليل يكذبوا به ويثبتوا به كذب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فتصايحوا بجميعهم وقالوا انظروا هذا صاحبكم، قالوا لبعض المسلمين انظروا هذا صاحبكم يزعم بأنه قد ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة واحدة، ونحن نذهب بالإبل شهرًا مصعدة يعني شهرًا في صعودها إلى الشام، وشهرًا ملوية؛ راجعة، حتى أن نرجع شهرين، وهو يزعم أنه قد أتى بها في ليلة، ثم قال له بعضهم صف لنا بيت المقدس هذا الذي قد ذهبت إليه، فعند ذلك قال لهم النبي كان الوقت ليلًا ثم إن الله -تبارك وتعالى- جلاه له، فكأنه ينظر إليه ثم وصف لهم النبي -صل الله عليه وسلم- بيت المقدس كأنه يراه -صلوات الله والسلام عليه-، ثم أخبرهم بقوافل العائدين إلى مكة، قالهم القافلة الفلانية يتقدمها فلان يتقدمها الجمل الفلاني عليه غرارتان، كان قد ند لهم بعير وجدوه في المكان الفلاني، كسر لهم بعير في المكان الفلاني، فقال بعضه انتظروا إذا جاء هذا، فلما جاء قالوا إن الوصف هو الوصف، يعني كأن النبي كان معهم -صلوات الله والسلام عليه-، ثم أنه في هذه الأحداث؛ أحداث الإسراء، طبعًا ذهب بعضهم إلى أبا بكر الصديق وقالوا له انظر ما يقول صاحبك، قال وما يقول؟ قالوا يقول أنه قد ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة واحدة، قال أوحدثكم؟ قالوا نعم، قال إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، يعني لا أصدقه ديَّت، إني أصدقه في خبر السماء، أنا أصدقه أن خبر السماء يأتيه ولا شك أن السماء أبعد من بيت المقدس، وسمي أبو بكر بالصديق -رضي الله تعالى عنه-، وهذا من عظيم إيمانه وعظيم تصديقه للنبي -صلوات الله والسلام عليه-.
لقد كانت هذه الرحلة للنبي -صلوات الله والسلام عليه- يعني هذا الإسراء كان له عظيم الأثر، أولًا في نفس النبي -صلوات الله والسلام عليه- وفي مدلولاته، فأولًا من حيث الأثر لا شك أن النبي -صل الله عليه وسلم- رأى ما وعد الله -تبارك وتعالى- وعيده عيانًا بيانًا، رأى الجنة، رأى النار، رأى الملائكة، رأى رضوان، رأى الملائكة، رأى رضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار، وسلم على الملائكة في السماء سماءً سماءً، ورأى جبريل على صورته التي خلقه الله -تبارك وتعالى- عليها، فقد رأه مرة في مكة ورعب منه النبي -صل الله عليه وسلم- على صورته أول ما جائه الوحي، وهنا رأه في السماء عند سدرة المنتهى على الصورة التي خلقه الله -تبارك وتعالى- عليها، ثم رأى هذه الآيات التي رأها في هذا ديَّت، رحلته بدءًا بما هو على الأرض إلى بيت المقدس وفي بيت المقدس ثم ما هو في السماء، فهذا أمر عظيم، ولذلك إيمان النبي -صل الله عليه وسلم- جاء عن الخبر وعن المشاهدة واليقين، فقد رأى من آيات ربه الكبرى -صلوات الله والسلام عليه-، الأمر الأخر هو هذا التكريم العظيم الذي لم ينله أحد من البشر لا قبل النبي ولا بعد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهو أن يصعد به؛ يعرج به، إلى ذلك المكان ويكلمه الله -تبارك وتعالى- ليس بينه وبينه واسطة، وتكليم الرب -تبارك وتعالى- أعظم تشريف، كما قال -تبارك وتعالى- {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، منهم من كلم الله يعني كلمه الله، {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}، موسى كليم الله وآدم كلمه الله، آدم كلمه الله -تبارك وتعالى- في السماء عندما خلقه -سبحانه وتعالى-، وموسى كلمه الله -تبارك وتعالى- في الأرض، فقد ناداه الله -تبارك وتعالى- وقربه نجيًا وناجاه في هذه الأرض؛ في طور سيناء، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}، أي نادينا موسى، {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، أن أخبره الله -تبارك وتعالى- بهذا، أما العبد الذي كلمه الله -تبارك وتعالى- فوق سدرة المنتهى وفي هذا المكان الأعلى فهو محمد -صل الله عليه وسلم-، وقد كلمه الله -تبارك وتعالى- كلام تشريف، فرض عليه وعلى أمته هذه الصلاة التي شرفت هذا التشريف، والتي هي أعظم وأجل وأكرم ما فرض الله -تبارك وتعالى- لعباده من العمل في الأرض، خير ما وضع لأهل الأرض الصلاة، فكان فرضيتها في هذا المكان دليل كذلك على تشريف وعلى تعظيم هذه العبادة العظيمة التي كلفها النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
كذلك قالوا أيضًا من آثار هذه الرحلة أنها كانت بعد عام الحزن، فالنبي العام الذي توفيت فيه خديجة -رضي الله تعالى عنها- وأبو طالب بعد ذلك كان الأذى شديد على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فكان أن تكون هذه الإسراء والمعراج في هذا الوقت الشديد العصيب على النبي -صلوات الله والسلام عليه- لتفتح للنبي هذه الآفاق العليا وهذه المشاهدة العظيمة ويبقى على يقين من أمر ربه -صلوات الله والسلام عليه-، لا شك أنه في الإسراء والمعراج أولًا أحداث عظيمة وآيات عظيمة وآثار عظيمة، وقد قال الله -تبارك وتعالى- {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
نكتفي بهذا الآن، ونأتي -إن شاء الله- إلى سياق السورة في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.