الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، من إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء:2]، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4]، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}[الإسراء:5]، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}[الإسراء:6]، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء:7]، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:8]، سبح الله -سبحانه وتعالى- نفسه في مقدمة هذه السورة؛ سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل، بأنه -سبحانه وتعالى- الذي أسرى بعبده محمد -صل الله عليه وسلم- ليلًا، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في إيليا الشام؛ القدس، قال {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه}، أي ببركات الدنيا فهي الأرض المباركة، وكذلك بركات الدين فهي مهد الأنبياء من لدن إبراهيم وإلى عيسى -عليه السلام-، قال -جل وعلا- {لِنُرِيَهُ}، أي النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-، من أياتنا العظيمة في السماء والأرض، إنه؛ الرب -سبحانه وتعالى-، هو السميع؛ لكل خلقه -جل وعلا-، البصير؛ بكل خلقه وعباده -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء:2]، كان من أهداف وغايات الإسراء بالنبي -صل الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن يجتمع له الأنبياء في هذا المكان ويكون النبي هو إمامهم -صلوات الله والسلام عليه- بأمر الله، ليكون هذا بيان أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- أصبح هو وارث الدين، دين الله -تبارك وتعالى- أصبح الوارث له والقائم به هو محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، وأن الأنبياء قد سلموا له الأمانة، وقد جاء النبي ليؤم الأنبياء في المكان الذي بعثوا فيه، الأنبياء جميعًا من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى عيسى -عليه السلام-، كل الرسل والأنبياء جمعهم الله -تبارك وتعالى- للنبي ليكون إمامًا لهم في هذا المكان؛ في القدس، ليكون هذا بيان من الله -تبارك وتعالى- وإعلام للجميع أن النبي أصبح هو الإمام في الأرض لكل الناس، وأنه لا طريق لله -تبارك وتعالى- إلا خلف هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأن النبي قد أخذ مفاتيح الأرض، ومفاتيح خلاص مفتاح الرسالة والنبوة أصبح عنده -صلوات الله والسلام عليه-، وهو رسول الله ويجب للجميع أن يسلم له، فلو أن الجميع أحياء على الأرض ما كان لهم طريق إلا إتباع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -صل الله عليه وسلم- «والله لو أن موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني»، ما يسعه إلا إتباع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولذلك عيسى عندما ينزل في آخر الزمان فإنه يكون إمام في هذه الأمة ومتبع لهذه الشرعة والدين والملة التي بعث بها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
فكان ذكر الله -تبارك وتعالى- هنا لإسرائه إلى بيت المقدس، ثم بيان بعد ذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد آتى موسى الكتاب {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، وذلك أنه من وقت موسى ثم تتالي الأنبياء بعد ذلك إلى عيسى -عليه السلام- كلهم كانوا في هذا المكان، وكلهم كانوا على شرعة الكتاب المنزل من الله -تبارك وتعالى- على موسى وهو التوراة، فقال -جل وعلا- {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، آتينا؛ أعطينا، فهذا عطاء وإنزال من الله -تبارك وتعالى- للكتاب، الكتاب هنا هو التوراة، قال {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، جعلناه؛ أي الكتاب، هدى؛ هداية، لبني إسرائيل من وقت موسى إلى بعثة عيسى -عليه السلام- جعل الله -تبارك وتعالى- التوراة إمام لهم، كما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ........}[المائدة:44]، وقال أيضًا -سبحانه وتعالى- {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[المائدة:46]، فالله -تبارك وتعالى- جعل عيسى -عليه السلام- جاء في ختام رسل بني إسرائيل، قال -جل وعلا- عن عيسى {........ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[المائدة:46]، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ}، فعيسى جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل كذلك مصدق للتوراة، فهي شرعة بني إسرائيل أعني أن التوراة شرعة بني إسرائيل إلى عيسى إبن مريم -صلوات الله والسلام عليه-، وقال الله -تبارك وتعالى- في عيسى {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[آل عمران:48]، {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}، فعلمه الله -تبارك وتعالى- الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، علمه الله -تبارك وتعالى- التوراة لأنه سيكون حاكمًا بها.
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ........}[الإسراء:2]، بنوا إسرائيل هم أولاد يعقوب -عليه السلام-، فمن وقت موسى النبي العظيم مخلص بني إسرائيل من ذل فرعون وقومه، والذي خرج بهم من مصر إلى أرض سيناء ثم كان التيه، ثم بعد ذلك لما لم يدخلوا الأرض المقدسة دخل بهم غلامه من بعده اللي هو يوشع إبن نون -عليه السلام-، فمنذ موسى الذي أرسل في بني إسرائيل والذي جمع بني إسرائيل جميعًا كشعب واحد وأمة واحدة، ونزلت لهم التوراة ليحكموا بها في ذريتهم إلى عيسى -عليه السلام-، قال -جل وعلا- وجعلناه؛ أي التوراة، {........ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء:2]، وكأن هذه هي خلاصة الرسالة وأعظم الموعظة {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد عهد إلى بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله عليهم؛ على موسى -عليه السلام-، ألا يتخذوا لهم وكيلًا غير الله -تبارك وتعالى-، أن يكونوا متوكلين على الله في جميع شئونهم، ولا يكونوا متوكلين على الله إلا أن يكونوا متوكلين عليه وحده -سبحانه وتعالى- {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}، ولا يكونوا متوكلين عليه حق التوكل إلا بإلتزام أمره وإلتزام شريعته والتسليم له -سبحانه وتعالى- والإسلام له، والسير على دينه ومنهجه والطريق الذي رسمه لهم -سبحانه وتعالى-، {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}، هذه كلمة جمعت كل محتوى ومضمون الرسالة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- في التوراة على بني إسرائيل، {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}.
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ........}[الإسراء:3]، نداء كريم لهم من الله -تبارك وتعالى-، يعني يا ذرية من حملنا مع نوح، أنتم ذرية من حملنا مع نوح، الصفوة الذين حملهم الله -تبارك وتعالى- في السفينة مع نوح، ثم مدح الله -تبارك وتعالى- نوح فقال {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، يعني اذكروا نعمة الله -تبارك وتعالى- عليكم أن جعلكم من ذرية هؤلاء الصالحين، ثم تمثلوا بأبيكم نوح -عليه السلام- فقد كان عبدًا شكورًا لله -تبارك وتعالى-، يعني إشكروا الله -تبارك وتعالى- على نعمائه، كيف أنزل لكم الكتاب، كيف أرسل لكم هؤلاء الرسل من لدن موسى -عليه السلام- إلى آخرهم، ثم كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وحكمهم التوراة، فاشكروا هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليكم، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ........}[الإسراء:3]، يا ذرية من حملنا مع نوح، إنه؛ أي نوح -عليه السلام-، {كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، هذا ثناء من الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله نوح النبي، أول رسول إلى أهل الأرض، والذي كل من جاء بعده إنما هو من نسله -عليه السلام-، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، عبدًا شاكرًا لله -تبارك وتعالى-، شكور هنا مبالغة في الشكر، والشكر هو الزيادة في اللغة، والشكر من العبد للرب يكون بإعتراف القلب بفضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، وحديث اللسان بفضل الرب -تبارك وتعالى- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، ثم سير الأركان في طاعة الرب -تبارك وتعالى-، فالصلاة شكران والصوم شكران لله -تبارك وتعالى-، وقد أمر الله -تبارك وتعالى- على أن نشكره لهذه العبادات، فالعبادة شكر لله -تبارك وتعالى-، وكذلك الثناء على الله -تبارك وتعالى- بهذه النعم التي أنعمها؛ نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة، نعمه في الدين ونعمه في الدنيا على عباده -سبحانه وتعالى-، إنه؛ أي نوح، كان عبدًا شكورًا؛ أي لله -سبحانه وتعالى-.
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن بني إسرائيل، فقال {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4]، هذا قرآن نازل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- ويخبر الله -تبارك وتعالى- فيه عن بني إسرائيل، وهذا الإخبار ليس هو لمجرد القصص المجرد عن المعنى والعبرة والفائدة، بل إنما هو قصص يقصه الله -تبارك وتعالى- علينا ليبين لنا هذه الدروس المستفادة من هذا والإعتبار، انظروا أن هؤلاء هذي أمة من أمم الهداية، أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها هؤلاء الرسل، وصاهم الله -تبارك وتعالى- بما أوصاهم به، أنزل عليهم الكتاب، ثم كيف كان الأمر في أنهم لما إنحرفوا عن الأمر الإلهي الذي أمرهم الله -تبارك وتعالى- به كيف عاقبهم الله -تبارك وتعالى-، أي إحذروا أنتم يا أمة محمد أن تميلوا كما مال هؤلاء عن الحق فعاقبهم الله -تبارك وتعالى-، وهذه السورة هنا بدءًا من ذكر الله -تبارك وتعالى- كيف أسرى بعبده وكيف تسلم النبي -صل الله عليه وسلم- مفاتيح الرسالات، وأصبح نهاية الرسالات إليه وأصبح هو الرسول الخاتم وأمته هي الأمة الخاتمة، يعني تذكروا ما كان في الأمم السابقة حتى لا تقعوا فيما وقعوا فيه من الميل فيعاقبكم الله -تبارك وتعالى-.
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ}، قضينا؛ أنهينا وأخبرنا، {إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، الكتاب المنزل عليهم؛ في التوراة، {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}، أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأنواع من الشرور التي ستقع منهم ليحذروها وليتجنبوا هذا الأمر وليعلموا أن الله -تبارك وتعالى- يعاقب، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-؛ أخبر هذه الأمة، ببعض هذه الشرور لعلهم أن يحيدوا ويبتعدوا عن هذا، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ........}[الإسراء:4]، والأرض التي أفسدوا فيها؛ أرض الشام، حيث قامت لهم دولة عظيمة فيها، {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}، لتعلن علوًا كبيرًا؛ علو على الناس وعلو على أمر الله -تبارك وتعالى- وعلى القيام به، يحصل لهم البطر والأشر والرجوع إلى الكفر والعناد وعبادة آلهة أهل الأرض والتعالي على الخلق، والظن أن الله -تبارك وتعالى- أكرمهم لذاتهم ولم يكرمهم للصلاح الذي يكونوا فيهم وللقيام بأمره -سبحانه وتعالى-، {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}، ذلك أنهم دائمًا إدعوا أنهم شعب الله المختار، وأنه مهما يكن منهم من أمر فإن الله لا يعاقبهم بذلك.
قال -جل وعلا- {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}[الإسراء:5]، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا}، وعد جاء؛ هذا الإفساد الأول والعلو الأول لكم في الأرض، {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}، قال أهل العلم هم الأشوريون بقيادة نابوخز نصر، الذي خرج بجيوشه من بابل في العراق قاصدًا بلاد الشام، وغزاهم وإنتصر عليهم إلى أن دخل إلى بيت المقدس فهدم ما هدم وجاث خلال الديار، يعني أن العدو دخل خلال ديارهم، الله يقول {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}، أو هذا الوعد الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- به كان وعدًا مفعولًا، فإن الله -تبارك وتعالى- هو العالم بالغيب وهو القادر على إنفاذ أمره -سبحانه وتعالى-، وأن هذا أمر لله -تبارك وتعالى- كوني قدري لابد أن يكون وأن يقع، {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}، طبعًا نابوخز نصر عندما دخل وهزمهم سبى بني إسرائيل جميعًا وأخذهم سبي إلى بابل بعد أن خرب ديارهم.
قال -جل وعلا- {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}، مرة ثانية يرد الله -تبارك وتعالى- الكرة عليهم فتكون لهم القوة والمنعة، {........ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}[الإسراء:6]، أمدهم الله -تبارك وتعالى- بأموال وبينين؛ ذكور أولاد، وهم القادرين على القتال، {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، يعني أكثر جندًا ينفرون إلى الحرب، إذا إستنفر إلى الحرب وقيل أخرجوا فيخروجوا، فالنفير هو الجيش، يعني أكثر منهم جيشًا ينفر للقتال، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ}، إن أحسنتم بعد أن منَّ الله -تبارك وتعالى- عليكم بهذا، بالخروج من الأسر والرجوع إلى أوطانكم مرة ثانية وبناء دولتكم من جديد وكثرة الذكور الذين يحملون السلاح والقوة، قال -جل وعلا- يعني هذه إنعام من الله -تبارك وتعالى-، فإن أحسنتم بعد أن منَّ الله -تبارك وتعالى- عليكم بذلك أحسنتم لأنفسكم، الأحسان يكون للنفس لأنه عاقبة هذا الإحسان ستقع وستعود عليكم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، يعني إن أسأتم وعدتم مرة ثانية إلى الطغيان والكبر والتعالي وعبادة الأصنام والأوثان والبعد عما أمركم الله -تبارك وتعالى- به، فلها؛ ستكون هذه الإساءة لكم وليس على غيركم، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ}، اللي هو الآخرة؛ الإفساد الثاني، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}، ليسوءوا وجوهكم؛ يعني ليهزموكم هزيمة مذلة تسوء وجوهكم فيها، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، ليدخل هؤلاء الجند المسجد كما دخلوه أول مرة في الهزيمة الأولى لكم، {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، التتبير؛ الهلاك، يعني ليهلكوا كل ما علوتم تتبيرًا، ما علوتم؛ يعني على الأرض، من بناء أي شيء علوتموه على الأرض يعني يسوونه بالأرض، {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، وقال أهل العلم بأن هذا كان في غزو الرومان لهم، غزاهم الرومان ودمروا دولتهم وهذا هو الهدم الثاني، ذلك ما يسمونه بالهيلك هو المسجد هدموه وسووه مرة ثانية بالأرض، ودمروا بلادهم تدميرًا.
قال -جل وعلا- لهم {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}، عسى للترجي، وليس على الله -تبارك وتعالى- وعسى من الله تحقيق، عسى يعني أرجوا من الله -تبارك وتعالى- أن يرحمكم، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}، بعد هذا الإذلال والتهديم، إذا عدتم إلى الله -تبارك وتعالى- ورجعتم إليه أن يزيل أثر هذا عنكم، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى-، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}، ولا تكون هذه إلا بالرجوع إليه -سبحانه وتعالى- والإعتزاز به، ولكن إن عدتم إلى الفساد عدنا؛ عدنا إلى تدميركم، كما دمرتم في المرة الأولى ودمرتم في المرة الثانية فإن الله -تبارك وتعالى- يعود فيسلط عليكم كما سلط عليكم في المرتين السابقتين، ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، يعني هذا العقوبة من الله -تبارك وتعالى- لكم في الدنيا والعقوبة تنتظر الكافرين في الآخرة، العقوبة الكبر بقى، وجعلنا؛ هيأنا وخلقنا، جهنم؛ هذا السجن الأكبر الذي لا سجن أكبر منه، النار المشتعلة التي سورها نار وأرضها نار وغطائها نار -عياذًا بالله-، للكافرين حصيرًا؛ جعلناها للكافرين حصيرًا، الحصير إما من الحصر؛ محصار، فهي ديَّت، إذا دخلوها أغلقت عليهم، كما قال -جل وعلا- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، فهي تغلق أبوابها -عياذًا بالله-، تفتح عندما يدخلها أهلها ثم إذا غلقت الأبواب فلا تفتح بعد ذلك -عياذًا بالله-، فهي سجن يحصرون فيه حصرًا ولا يستطيع أحد منهم أن يخرج، كما قال -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ ........}[الحج:22]، من غم؛ الشدة والكرب الهائل، يدفعهم إلى أن يحالوا الخروج فيعادوا فيها وذلك بالمقامع الحديد، {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، المعنى الثاني للحصير مأخوذ من الحصير اللي هو الفراش، الذي يفرش من فراش القش فإنه هذا حصير، {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، يعني فراش، فراش مفروش لهم ويكونون على هذه النار يتقلبون عليها أبدًا -عياذًا بالله-.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9]، {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإسراء:10]، هذا تنويه وإشادة من الرب -تبارك وتعالى- بهذا القرآن المنزل على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، يقول الله –جل وعلا- {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ}، والإشارة بهذا لأنه قريب، أصبح هذا القرآن بأيدي الناس، نازل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو قريب لهم، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ}، الذي تقرأونه منزل من الله -تبارك وتعالى-، {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، في كل شيء، يهدي في كل أمر إلى التي هي أقوم، أفضل طريقة، أفضل شيء، ففي الحلال والحرام التي هي أقوم، فلا يحرم الله -تبارك وتعالى- إلا الخبائث ويحل الطيبات كلها، فهذا في باب التحليل والتحريم، في باب العقود التي جعلها الله -تبارك وتعالى- عقود للناس ليتم إجتماعهم على أفضل نسق، عقد زواج، عقود الميراث، عقود الهبة، عقود البيع، البيع بشروطه كيف أحله الله -تبارك وتعالى-، التجارة، الإجارة، كل العقود والتشريع الذي فيها قد وضعه الله -تبارك وتعالى- على أحسن طريقة قويمة، كذلك في كل شأن من شئون الحياة، في الطهارة، في التجمل، في الهداية لشئون الفطرة، كله على النحو القويم، فكل شئون الدنيا قد بينها الله -تبارك وتعالى- وأقامه على أقوم طريق لعباده المؤمنين، فتشريع الله -تبارك وتعالى- تشريع سمح طيب، كما قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال النبي «بعثت بالحنيفية السمحة»، فالحنيفية السمحة البعيدة عن كل تضييق وعن كل ما كان على من قبلنا من الآصار والأغلال كله قد نفاه الله -تبارك وتعالى- بهذه الشريعة الطيبة السمحة الذي نزل بها هذا القرآن.
وكذلك يهدي للتي هي أقوم من الطرق، فهذا القرآن جاء ليبين صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم الواصل إليه، فجاء بالوصف الكامل التفصيلي لمعاني الإيمان؛ الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبرسالاته، وكل أمور الغيب وصفها الله -تبارك وتعالى- وأعلمنا بها على أكمل الأوصاف وأحسنها، ليكون الإيمان جليًا واضحًا لا لبس في أي شيء ولا غموض في أي شيء، وكذلك شئون العبادات، قد أقام الله -تبارك وتعالى- شأن العبادة المنزلة في هذا القرآن على التي هي أقوم، صلاة وصيامًا وزكاة وحجًا، فأقام الله -تبارك وتعالى- للمسلمين شئون العبادات بصورة قويمة عظيمة جدًا، خمس صلوات في اليوم والليلة مع طهاراتها ليكون العبد دائم الذكر للرب -تبارك وتعالى-، ونظمت في هذه الأوقات {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، فنسقت بين صلوات نهارية وصلوات ليلية بصورة عظيمة جدًا، وما وضع لها من أحكام تجعل هذه العبادة في أعلى المنازل من حيث عبادة الرب -سبحانه وتعالى-، سواء في الشروط التي إشترطت لها من الطهارة البدنية والطهارة المكانية وطهارة الثوب، ومن الإتجاه لقبلة واحدة يتجه لها الجميع في وقت واحد ومن مشروعية الجماعة لها والإمامة لها، ومن جعل خمس صلوات في اليوم والليلة، صلاة أسبوعية، صلاتان سنوية هي العيدين، أمور عظيمة جدًا، كذلك الصوم وأحكامه العظيمة وأنه شهر واحد في السنة وبهذه الأحكام التي كان بها، والحج بصورته التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة وأنه مرة في العمر، وفيه ما فيه من الحكم ومن المنافع العظيمة، الزكاة وهي هذا الأمر الذي لا يشق على أحد بل هو من العفو، فهو بنسبة واحد إلى أربعين، إثنين ونصف في المائة ولا تؤخذ إلا بعد نصاب معين، وهذا النصاب ما دونه كافي أن يكون الإنسان غنيًا في ديَّت، فلا تكون على ظهر غنى وتتوزع على هذه المصارف التي هي منافذ لذوي الحاجات والمنافع العظيمة، القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل شأن من الشئون، في كل شأن من الشئون فهو الدين الكامل الصافي النقي، الشريعة السمحة الطيبة التي بعث بها خاتم الرسل والأنبياء –صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9].
لنا عودة إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.