الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9]، {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإسراء:10]، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}[الإسراء:11]، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}[الإسراء:12]، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- ما عهد إلى بني إسرائيل به في كتابهم وقضاه -سبحان وتعالى- عليهم، إعلامًا لهم وبيَّن أنه قضاء محتوم وهو أنه سيفسدون في الأرض مرتين وسيعلون علوًا كبيرًا، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أخبرهم –جل وعلا- بأنهم إن عادوا إلى الفساد عاد الله -تبارك وتعالى- عليهم، بتسليط الأعداء عليهم، قال {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:8]، وقد خاطب الله -تبارك وتعالى- أمة الإسلام بذلك ليحذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه بنوا إسرائيل من العلو والإفساد في الأرض، فإن سنة الله -تبارك وتعالى- واحدة، فكما أن الله -تبارك وتعالى- سلط على بني إسرائيل عندما أفسدوا وعلوا في الأرض سلط عليهم أعداء لهم، جاثوا خلال ديارهم في المرة الأولى، ودمروا ما علوا تدميرًا في المرة الثانية، ثم إن الله -تبارك وتعالى- بيَّن لهم أن هذه سنة ثابتة، قال {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، إن عدتم إلى الفساد في الأرض عدنا إلى التسليط عليكم، فسنة الله لا تتغير معهم، وهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بأن سنة الله كذلك لا تتغير في أمة الإسلام، كما كانت سنة الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل، فمع الإيمان والعمل الصالح والقيام بأمر الله -تبارك وتعالى- سيكون العز والتمكين، ومع ترك أمر الله -تبارك وتعالى- والإفساد في الأرض والعلو فيها سيكون التسليط من الأعداء عليهم سنة لا تتغير.
أرشد الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك إلى أن هذه القرآن المنزل على عبده ورسوله محمد يهدي للتي هي أقوم في كل شيء، فهو الدين الكامل والشرعة المستقيمة والصراط المستقيم، والشرعة التي نقاها الله -تبارك وتعالى- وجعلها خالصة من كل الآصار والأغلال والأثقال والحرج الذي كان على من قبلنا، الله -تبارك وتعالى- أزال كل ذلك وبعث نبيه -صل الله عليه وسلم- بالحنيفية السمحة والشريعة الكاملة، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}، والخلق القويم والصراط المستقيم في كل شيء، في المعاملات وفي الأخلاق وفي العادات وفي الصفات وفي الهدي وفي السمت كامل، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9]، أنزل الله -تبارك وتعالى- بشارته في هذا القرآن لأهل الإيمان؛ الذين يعملون الصالحات، وجمع الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح لأن هذا هو طريق الفلاح وطريق النجح وطريق الجنة، ليس بالإيمان القلبي وحده فقط بل إيمان القلب؛ عمل القلب، وكذلك عمل الجوارح، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ}، الصالحات جمع صالحة، وهي الأعمال الصالحة، وأشرفها وأعلاها الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج كما هي أركان الإسلام ثم بقية شعب الإيمان، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، فهذه الأعمال الصالحة، يبشرهم الله أن لهم أجرًا كبيرًا؛ أجر من الله -سبحانه وتعالى-، وعندما يعطي الله الأجر فهذا الأجر يكون عظيمًا بعظمة معطيه وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى- المتفضل العظيم، كبيرًا؛ وهذا الأجر هو رضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، والخلود في النعيم الدائم، وهذا أمر عظيم جدًا.
ثم {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإسراء:10]، يعني نزل القرآن بهذا الوعيد للذين لا يؤمنون بالآخرة، كمشركي العرب الذين أنكروا الآخرة إنكارًا كاملًا، وكذلك غيرهم من الأمم والشعوب الكافرة التي وإن كانت تؤمن بالآخرة إلا أن إيمانها بالآخرة ليس على النحو الذي جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- وهو النحو الحق، فإنه إما إيمان بالآخرة ظنوا أنهم مع شركهم وكفرهم بالله -تبارك وتعالى- يدخلهم الله الجنة، أو ظنهم بأن من يعبدونهم إنما يشفعون لهم عند الله -تبارك وتعالى-، فهذا إيمان مخلوط كذل بالآخرة لا يفيد أصحابه، {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ........}[الإسراء:10]، وهو يوم القيامة وجزاء الرب وحسابه للعباد في هذا اليوم، قال -جل وعلا- {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، أعتدنا؛ أعددنا، أنه معد ومهيأ وموجود، عذابًا أليمًا؛ عذاب النار -عياذًا بالله-، لا أشد منه، عذاب مؤلم لأصحابه، فهو عذاب حقيقي يقع على أرواحهم وأجسادهم، وليس كما يظنه الناس عذاب فقط عذاب مؤلم للروح بل عذاب مؤلم للروح والجسد، فهم أهلها يشربون من الحميم، يأكلون من الزقوم، يضربون بالمقارع، يلدغون بالحيات، يذاقون حر النار، النار تشوي جلودهم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، فهو عذاب مؤلم واقع على الأجساد والأرواح كذلك، وهو عذاب مؤلم بكل معاني الإيلام، الإيلام البدني والجسدي والإيلام كذلك الروحي والنفسي، فإنه يعنبون ويؤنبون ويسخر بهم ويستهزأ بهم ويلعن بعضهم بعضًا، فعذاب مؤلم بكل أنواع الإيلام -عياذًا بالله-.
ثم جاء فاصل بعد ذلك في هذه السورة؛ سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل، يبين الله -تبارك وتعالى- فيه كثير من الحقائق المتعلقة بآياته -سبحانه وتعالى-، وقضائه وقدره على خلقه -جل وعلا-، بدأت هذه الآيات ببيان حقيقة الإنسان وأنه مخلوق للأسف ضعيف قصير النفس، إذا أصابه شيء من الشر بدأ يطلب ما هو أشر منه، قال -جل وعلا- {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}[الإسراء:11]، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ}، على نفسه وعلى عياله، {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}، كذلك كما هو يتعجل الخير يتعجل الشر كذلك، وهذا من قصر نفس الإنسان وضيقه ونزقه وعدم تقديره للأمور، فإنه يريد أن يهرب من الحال الذي هو فيه يعني إلى قد يهرب إلى الحال الذي هو أشر إذا ضاق به الحال، وكذلك يستعجل الخير، الخير الذي يمكن أن يأتيه لكنه يتعجله وإذا كان بعيدًا فإنه قد ينصرف عنه إلى العاجل؛ فيؤثر الآجل على العاجل، هذي طبيعة الإنسان وهذي حالة الإنسان، وطبعًا هذا في الإنسان من حيث هو إنسان ثم من حيث هو كافر وأما المؤمن فإنه يخرج عن هذه الحالة، قال -جل وعلا- {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ}، يدعوا الإنسان بالشر على نفسه وعلى أولاده وعلى أهله، {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}، يعني كما كذلك يدعوا ويطلب الخير ولكنه عجول، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}، يتعجل الأمور ولا يتريث ولا ينظر في العواقب، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19]، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20]، {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24]، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26]، {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27]، إلى آخر الآيات، فهؤلاء المؤمنون هم الذي يخرجون عن هذا الهلع والجزع الذي هو من صفات هذا الإنسان، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}[الإسراء:11]، هذي ينبغي أن يفطن إلى هذه الخصلة أو الغريزة أو الخلق أو الصفة التي هي في الإنسان، والتي تبقى فيه مع كفره، ولكنه يخرج منها؛ يعني عن هذه الصفة، بالإيمان يخرج إلى معنى أخر فيكون صبورًا، الإيمان يعلمه الصبر، يعلمه التقوى، يعلمه إنتظار فرج الله -تبارك وتعالى-، يعلمه إيثار الآجلة على هذه العاجلة، فإذا وقع في محنة وفي شر يعلم أن هذا لا يدوم ويطلب أن ينفس الله -تبارك وتعالى- عنه هذا الذي هو فيه من الضيق فتتغير أحواله، تتغير أحوال الإنسان إلى الخير بإيمانه بالله -تبارك وتعالى-، وأما إذا بقي على الشر فهذا يكون حاله {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}[الإسراء:11].
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- بعضًا من آياته -جل وعلا- في الخلق، فقال {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}[الإسراء:12]، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}، للعباد، الليل معروف، النهار معروف، جعلهم الله -تبارك وتعالى- آيتين وهما يتعاوران ويتتابعان على سطح هذه الأرض، آية، هذي آية، الليل آية والنهار آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، آية من حيث القدرة على هذا التغيير، وعلمنا اليوم من هذا التغيير أنه بهذا الحركة العظيمة؛ دوران الأرض، هذه الأرض كلها بمحيطاتها وبجبالها وبسهولها وناسها وعماراتها تدور هذه الدورة الكاملة حول نفسها، حول هذا القطر الكبير مرة واحدة في الأربع وعشرين ساعة أمام هذه الشمس؛ فيحدث من هذا الليل والنهار، هذا أمر قدرة هائلة جدًا للرب -سبحانه وتعالى- أن تدار الأرض على هذا النحو، كذلك آية من حيث النفع العظيم والمناسبة العظيمة للخلق، فالليل مناسب للخلق تمامًا لأنه وقت لراحة المخلوقات، النبات يستريح، الإنسان، الحيوان، كل شيء يهدأ حتى النبات، النبات يضم أوراقه بعضها على بعض ويستريح في ديَّت، فيه راحة في الليل، سكون بجوه المظلم، ببرودته عندما تذهب الشمس، بنسيمه، بسكونه، والنهار بإشراقه بحرارته هذا مناسب تمامًا للخلق، فيه يبدأ بقى إنتعاش ديَّت، الإنسان يصحوا، الحيوان يصحوا، النبات يصحوا، الكل يجد ويجتهد ويعمل للفترة ديَّت، وهذا التغير لليل والنهار هو مناسب لحال هذا الخلق مناسبة عظيمة وواقع مواقعه تمامًا، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-.
وفي هذا من الأسرار والحكم والآيات أمور عظيمة جدًا، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}، للعباد، قال -جل وعلا- {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}، آية الليل هو القمر، هذه هي علامته التي تظهر فيه، يمحوها بالضوء، والمحو هنا مسحها لكنها ليست إزالة فهو موجود، القمر يكون موجود في وسط النهار لكن عندما يأتي ضوء الشمس فإنه يمحوه؛ يغطيه وهو موجود، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}، آية النهار؛ الشمس، جعلها الله -تبارك وتعالى- مبصرة، وذلك أنها خلاص تبصرها العين ويراها الجميع، بمجرد الإشراق إلى الغروب وهي مبصرة، أما القمر لا، القمر لا يظهر في السماء إلا إذا إبتعدت عنه الشمس، بدأت الظلمة عند ذلك يظهر هلالًا ثم يظهر بديَّت إلى أن يكون ربيع إلى أن يكون بدرًا في التمام، ثم يتناقص بعد ذلك في بقية الشهر، فجعله الله -تبارك وتعالى- يكتمل هذا الإكتمال ثم يبدأ في التناقص؛ هذا التناقص، ثم يعود أدراجه مرة ثانية هلالًا وهكذا، قال -جل وعلا- {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، يعني جعل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات والعلامات الظاهرة للشمس والقمر لتعلموا عدد السنين التي تمر عليكم، والحساب تعلمونه، فحسان أن الشهر تسع وعشرين يوم، تسع وعشرين يوم ونصف، ثلاثين يوم، ثم بعده بهذا الشكل نعلم حساب السنوات، حساب الأعمار، حساب التواريخ، فتعلمون الحساب بتوالي الأمر، ويجعل الله -تبارك وتعالى- لكل يوم علامته الظاهرة على هذا النحو، قال {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، وهذا فيه من المنافع أمور عظيمة جدًا، المنافع في الزراعة وفي التاريخ وفي تثبيت الحوادث، فهذا معرفة الأيام والشهور والسنين وحساب الأمر أوضاع الناس كلها تترتب بهذه المعارف، قال –جل وعلا- {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}، وكل شيء فصلناه تفصيلًا بالخلق وكذلك بهذا التفصيل البياني النازل في كتاب الله -تبارك وتعالى-، فصل الله -تبارك وتعالى- لنا آياته وتشريعه وصراطه -سبحانه وتعالى-، وبيان بداية الخلق ونهايته، ففصل الله -تبارك وتعالى- لنا بهذا البيان تفصيلًا كاملًا حتى ديَّت، فمن هذا التفصيل بيان آياته -سبحانه وتعالى- في الخلق لنتعظ، لنعتبر، لنعلم أنه الرب الإله الذي لا يقدر على هذا الخلق إلا هو -سبحانه وتعالى-.
أيضًا ومن آياته -جل وعلا- قال {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، {وَكُلَّ إِنسَانٍ}، كل؛ من ألفاظ العموم، والإنسان؛ كل أولاد بني آدم، من آدم فما بعده، {أَلْزَمْنَاهُ}، الإلزام هو الإمساك والقضاء اللازم الذي لا ينفك، {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، طائره؛ بخته وحظه ونصيبه، أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه وأصبح هذا ملازمًا له يعني أنه مصاحب له لا ينفك عنه، في عنقه؛ العنق معروف، هذا تعبير بياني على أن الإنسان بخته ونصيبه وحظه ملزم له، قد قضاه الله -تبارك وتعالى- وقدره وأصبح لازمًا له لزوم القلادة في العنق التي لا تنفك، الطائر هذا مأخوذ من العرب تسمي البخت تقول على خير طائر، وأصله جاي من التطير، والتطير لمعرفة البخت والحظ والنصيب في المستقبل بالخير والشر، العربي كان إذا أراد أن يعرف ما هو مقدم عليه من أمر، من زواج أو من سفر أو من تجارة أو نحو ذلك من عمل، فإنه يأتي إلى طير واقف على الأرض ويأخذ حجرًا ثم يزجر الطير، فإذا ضربه إما أن يطير الطير إلى يمين الضارب وإما إلى يسار الضارب، فإن طار الطائر على اليمين يستبشر خير ويقول تيامن الطير، إذن هذا من اليمن ومن السعادة ومن ...، خلاص رضي الإله عني وهذا فيه خير، وإذا طار الطائر إلى جهة اليسار -يسار هذا الضارب- يتشائم منه، هذا تشاؤم، سار إلى الشمال والشمال شؤم وشر فيتشائم، فإن كان مقدمًا على سفر يرجع وإن كان مقدمًا على زواج يهول؛ يتركه، وإن كان مقدمًا على تجارة لا يفعلها أو صفقة، فيعود عن الأمر الذي كان قد نواه أو عزم عليه، وغلب هذا التطير أصبح بمعنى البخت، فكانوا أيضًا إذا باركوا في الزواج يقولون باليمن والبركة وعلى خير طائر، على خير طائر يعنون أن في أفضل يعني أن زواجك على أفضل بخت ونصيب، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، طائره؛ حظه ونصيبه وبخته وقدره، هذا ملزم له كلازم القلادة في العنق، {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، مربوط في عنقه فهو مقود بقدره إلى قدره لا ينفك عنه، وبالتالي فالأمر منتهي، يعني كما جاء في الحديث «يا رسول الله أعملنا هذا فيما جرت به المقادير أم أن الأمر أنف، قال بل فيما جرت به المقادير».
فالإنسان يجري في حياته بما كتبه الله -تبارك وتعالى- وسطره في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقنا، فإن الله -تبارك وتعالى- كتب مقادير الخلق، فما من حركة ولا سكون ولا كلمة ولا خطوة يمين أو خطوة يسار ولا رزق أو غيره كل شيء هو مكتوب محسوب، مكتوب في الأذل ويكتب بعد ذلك للإنسان منذ نفخ الروح فيه، كما جاء في الحديث «إذا مر على النطفة إحدى وأربعون يومًا أتاها ملك فقال أي ربي ما عمله؟ ما أجله؟ شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟»، فهذه خلاص، فهذا الأمر يكتب له كذلك منذ ولادته كتابة بعد كتابة، فالأمر لا يتغير، وكما جاء في قول للنبي –صل الله عليه وسلم- «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك»، مثل ذلك أي في مثل ذلك؛ في الأربعين يوم، «ثم يأتيه الملك فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلى ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلى ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فجف القلم بما أنت لاق»، القلم جف بما يسير فيه الإنسان.
فالله يقول {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، نخرج له كتابًا؛ وهذه في صحيفة كل إنسان، الكتاب هو كتاب الأعمال لكل إنسان، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7]، فدول أهل الجنة، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ}، ويقول النبي «تتطاير الكتب فآخذ بيمينه وآخذ بشماله»، يقال له، يخرج له هذا الكتاب وهو كتاب أعماله، كل إنسان يأتيه كتاب أعماله يطير ويأتيه، فيأخذه المؤمن يأتيه إلى اليمين فيأخذه باليمين، والكافر يأتيه إلى اليسار من خلف ظهره فيمسكه بيساره، وكل إنسان ينشر كتابه فيرى صحيفة أعماله حتى يقول الكافر {........ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، فلا همزة ولا لمزة ولا غمزة، كل ما صدر من هذا الإنسان {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، كانا الملكان يكتبان، ما يلفظ من قول؛ أي لفظ يلفظه الإنسان إلا وقد كتب وسجل في هذا، {........ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، منشور؛ مفتوح، ما هو كتاب مقفول مختوم... لا، وإنما هو كتاب على طول منشور مفتوح يفتحه صاحبه ويقرأ ما سطر فيه من أعمال.
ثم يقال له {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، إقرأ كتابك؛ كلٌ هنا يقرأ، كتابك؛ كتاب أعمالك، {........ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، يعني حاسب نفسك الآن على هذا، طبعًا إذا رأى الكافر ما سطر في هذا الكتاب من عمله الذي لا يغادر شيء؛ ما ترك شيء، فكفره وفسقه كله موجود لا يستطيع أن ينكر شيئًا من ذلك، وإن أنكر هناك شهود يشهدون عليه؛ شهود من نفسه، كما جاء في الحديث أن يتمالئون يوم القيامة يقولون لننكر، لندعي أننا لم نفعل شيئًا، ويقولون للرب -تبارك وتعالى- لا نقبل علينا شاهدًا إلا من أنفسنا، فينكرون هذه الكتب ويقولون كتبها ملائكتك ديَّت، فالله -تبارك وتعالى- يأمر أعضائهم أن تشهد عليهم، كما قال -جل وعلا- {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22]، وقال -جل وعلا- {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24]، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25]، فتشهد اليد تقول فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، وتشهد الرجل وتشهد كل عضو من أعضائه يشهد بما فعل، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14].
ثم قال -جل وعلا- {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:15]، هذه كذلك مجموعة من سنن الله -تبارك وتعالى- في الخلق والحساب، قال -جل وعلا- واعظًا عباده {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، من إهتدى وسار في طريق الحق فإن نفع هذه الهداية لنفس صاحبها، فالله -تبارك وتعالى- لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضره كذلك -سبحانه وتعالى- معصية العاصين، فإنه الغني بذاته المحمود بذاته -سبحانه وتعالى-، الذي لا يحصي أحد ثناءًا عليه كما أثنى على نفسه -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الإله الذي لا إله إلا هو الغني عن كل خلقه -سبحانه وتعالى-، فمن إهتدى إلى الحق وسار فيه فإن نفع هذه الهداية وأثرها لنفسه، قال {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، لأن هذا خلاص يكون قد كتب له الله -تبارك وتعالى- له الفلاح والنجح في الدنيا والآخرة، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، من ضل عن الحق فكذلك ضلاله على نفسه، فمغبة وأثر هذا الضلال إنما هي على نفس صاحبها، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، لا تحمل وازرة مذنبة ذنب نفس أخرى، ولو كان أقرب الأقربين، لا الأبو يتحمل عن إبنه ولا الإبن عن أبيه ولا الأخو عن أخيه، الكل؛ كل إنسان إنما يحمل وزر نفسه فقط، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، كذلك فلا عذاب إلا بعد البلاغ.
عودًا -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.