{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:15]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16]، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:17]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18]، {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19]، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:21]، هذه مجموعة من المواعظ والحقائق يسوقها الله -تبارك وتعالى- لهذا الإنسان، فيقول -جل وعلا- {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، حقيقة قاطعة أن هدى المهتدي نفع ذلك سيرجع عليه، فليعلم هذا، يعني ليعلم المخاطب الإنسان بأنه إذا إهتدى فإن أثر هذه الهداية ونفع هذه الهداية عائد عليه، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بنفع هذه الهداية، اللي هي الإستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى-، أن يحيا الحياة الطيبة، أن ينجيه الله -تبارك وتعالى- من الشيطان؛ من أعدى أعدائه، أن يحفظه، أن يواليه -سبحانه وتعالى-، أن يكون ولي لله، أن يأخذ الله -تبارك وتعالى- بيديه -سبحانه وتعالى- حتى ينجيه من كل هذه المهالك، كأن ينجيه الله -تبارك وتعالى- من النار، أن يفوز برضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، فالآثار العظيمة المترتبة على الهداية، آثار عظيمة وكلها راجعة إلى هذا الإنسان، والله –تبارك وتعالى- غني عن عبادة العباد -سبحانه وتعالى- فهو الرب المحمود لذاته -سبحانه وتعالى- بذاته.
{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، لا يضر الله، من ضل عن الطريق وحاد عن طريق الرب -تبارك وتعالى- فإن أثر هذا ومغبة هذا وظلمة هذا عليه، نكالًا وعذابًا في الدنيا وفي الآخرة، وتفصيلة هذا طويلة، منها قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}[طه:125]، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:126]، فله الشقوة والعذاب في الدنيا والآخرة وهذا عليه، ولا يضر الله -تبارك وتعالى- شيئًا، ثم {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، حقيقة، حقيقة ديَّت، أن الله -تبارك وتعالى- لن يحمل إنسان ذنب إنسان أخر، لا بالأمر الإلهي الكوني القدري ولا يستطيع أحد أن يحمل ذنب الأخر مهما كان وليًا له، فكل من هو ولي للأخر ما يحمل شيء من ذنبه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]، {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35]، {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36]، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، فالأولياء يوم القيامة أعداء ولا يمكن لناس أولياء في الدنيا ماتوا على الكفر وعلى الشرك بالله -تبارك وتعالى-، أن إنسان يشفق على أخر ويحمل شيء من ذنوبه، وكذلك إذا كان من أهل الصلاح فإنه لا يحمل شيئًا من ذنب الأخر، وإن كان إبنًا له أو كان أبًا له أو كان حبيبًا له ما في، لا تحمل وازرة وزر أخرى، كل واحد سيتحمل ذنبه بنفسه، بس، وازرة؛ فعلة الذنب، لا تحمل ذنب أخرى وإنما كل إنسان سيحمل وزره هو.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، لن نعذب إلا بعد الرسول الذي يأتي لتكون هناك حجة رسالية؛ البلاغ المبين، فهذا ليكون هناك قطع العذر، كما قال –جل وعلا- {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ........}[النساء:165]، فبعد الرسل ما يكون لهم حجة، أما إذا كان ما أرسل لهم رسل وما عرفوا الحق وما عرفوا دين الله -تبارك وتعالى- فقد يحتجون، ويقولون يا ربي ما عرفنا طريق ولا عرفنا ما الذي تريد بنا ولذلك لم نعبد لأنه لم يأتنا خبر منك، فإذا جاء الرسول إنتهى لقطع العذر، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16]، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:17]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}، إذا أراد الله -تبارك وتعالى- هلاك قرية فإنه لا يمكن أن يهلكها إلا إذا إرتكبت من الذنوب والمعاصي ما تستحق به ذلك، فلا يهلكها هكذا رأسًا وهي صالحة، وما كنا مهلكي القرى وأهلها مصلحون بل لابد أن يكون هناك فساد، قال -جل وعلا- {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}، اللي هو الأمر الكوني القدري أن هذا لابد أن يكون، أنه لابد أن يكون، فأمر الله -تبارك وتعالى- هو أمره الكوني القدري أن هذا لابد أن يكون في ملكه -سبحانه وتعالى-، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}، وقال مترفيها؛ أهل الترف، اللي هم أهل الغنى والمنعمون بشتى صنوف النعم فإنهم يحولون هذه النعم إلى معاصي الله -تبارك وتعالى-، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}، فسقوا؛ الفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، فعند ذلك يحق عليها القول {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}، القول؛ قول الله -تبارك وتعالى- بالتدمير، قال -جل وعلا- {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، تدمير؛ تحطيم، والدمار هو الخراب، يعني خربها الله -تبارك وتعالى- ودمرهاعلى رؤوس أصحابها، كما فعل بقوم نوح وبعاد وبثمود وبقوم فرعون، كل الذين كذبوا الرسل دمرهم الله -تبارك وتعالى- وأهلكهم، {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
قال -جل وعلا- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ........}[الإسراء:17]، كم؛ التكثيرية العددية، يعني قرون كثيرة، دمرهم الله -تبارك وتعالى- وأهلكهم، من القرون جمع قرن، والقرن هم مجموعة الناس الذين يعيشون مقترنين في وقت واحد والصحيح أنهم مئة عام، لأن الأرض تقريبًا تغير من عليها كل مئة سنة، كل مئة سنة تقريبًا على يبقى على ظهر الأرض ممن هو عليها أحد، إذا أخذنا مئة سنة كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «أرأيتم عامكم هذا أو سنتكم هذه فإنه لا يبقى على الأرض بعد مئة عام ممن هم عليها اليوم أحد»، من الذين موجودين كلهم على سطح الأرض بعد مئة سنة لا يبقى أحد منهم، هذا العمل اللي هو شوف هذا الأرض تأكل كل هؤلاء الموجودين يكونون في بطنا وينشأ خلق جديد، لا ينتبه الإنسان لهذا لأن التساقط في الأرض تساقط يومي، والنبات من الحياة نبات يومي موجود، ولذلك لا يرى الناس هذا ولكن يعني قرون كثيرة تطويها هذه الأرض في سيرها، والتدمير اللي هو التدمير الكلي أو التدمير الجزئي {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ........}[الإسراء:16]، يعني أصبح قول الله -تبارك وتعالى- عليها حقًا بالدمار، فإن الله -تبارك وتعالى- قد صدر منه القول -سبحانه وتعالى- بتدمير القرى الظالمة، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، الله -سبحانه وتعالى- بالمرصاد لكل المتجبرين العاتين الفاسقين عن أمره -سبحانه وتعالى- أن يدمرهم، قال -جل وعلا- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ........}[الإسراء:17]، من بعد نوح إلى بعثة النبي -صل الله عليه وسلم- قرون كثيرة أهلكها الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد ذكر أنه أهلك عاد الأولى وثمود فما أبقى وقوم فرعون أهلكهم الله -تبارك وتعالى-؛ فهذه قرون، وقرى لوط وأصحاب مدين كل ها دول هذي أمم أهلكها الله -تبارك وتعالى-، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ........}[الإسراء:17]، قال -جل وعلا- {........ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:17]، كفى به؛ بيان أنه الرب الإله الخبير البصير بذنوب عباده -سبحانه وتعالى-، فهو العليم علم تام، خبرة؛ الخبرة هي العلم التام الخفي بكل أعمالهم، يعني ما أسروه وما أظهروه، وأنه البصير -سبحانه وتعالى- بذلك ولذلك لم يعاقبهم -سبحانه وتعالى- إلا بعد ما إرتكبوا من الذنوب ما إستحقوا به هذا الهلاك، {........ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:17].
ثم قال -جل وعلا- انظر هذه المعادلة قال -جل وعلا- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18]، {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19]، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، معادلة، هناك صنفان من الناس لا ثالث لهما، صنف يريد هذه العاجلة وصنف يريد الآخرة، الذي يريد العاجلة له جزاء محتوم والذي يريد الآجلة له كذلك جزاء محتوم، قال -جل وعلا- {مَنْ}، من الناس بصيغ العموم، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}، العاجلة هي الدنيا، لأنها معجلة قبل الآجلة والآجلة المؤخرة اللي هي يعني الدار الآخرة؛ الجنة، يريدها هنا يعني يريدها قصدًا ونية وعملًا وحياة، خلاص جعل همه وحياته هي الدنيا، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}، ما الذي يترتب على هذا؟ ما هو المحتوم؟ قال -جل وعلا- {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، عجلنا له؛ يعني في هذه العاجلة، في هذه الدنيا، ما نشاء؛ لا يأخذ من رزق ولا من خير إلا ما شائه ربه له -سبحانه وتعالى-، فلا يأخذ شيئًا رغمًا عن الله -تبارك وتعالى- ولا بغير أمره ولا بغير مشيئته، بل بما كتبه الله -تبارك وتعالى- وما قسمه له، ثم كذلك لمن نريد؛ أن نرزقه وأن نعطيه في هذه الحياة، فليس كل من أراد الدنيا وسعى لها سينال ما تمناه وما أراده... لا، وإنما ما أراده له الله -سبحانه وتعالى- وليس ما أراد هو لنفسه، قال لمن نريد أن نعطيه فقد يركض خلف الرزق ويركض الرزق أمامه لا يحصله، ويتمنى من الدنيا ما يتمنى ويعيش فقيرًا معدمًا، فلا يعطيه الله، لا يعطى إلا ما كتبه الله -تبارك وتعالى- له، وليس كل ما يتمناه أهل الدنيا يدركونه، بل قد يجعل الله -تبارك وتعالى- البعض يدركونه والبعض لا يدركونه، فالأمر والمشيئة في هذا القضاء الدنيوي والعطاء الدنيوي إليه -سبحانه وتعالى- لا إلى غيره، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، قال -جل وعلا- {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}، هذا الجزاء، فلا يأخذ من الدنيا إلا ما كتبه له الله -سبحانه وتعالى-، ثم يكتب له الله خلاص جهنم يدخلها رغمًا عنه، هذا أمر الجعل هنا جعل إلهي، هذا جعل إلهي، صير الله -تبارك وتعالى- له الأمر هذا تصيير كوني قدري جزاء لابد أن يناله، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ}، هذا السجن العظيم، يصلاها؛ يذوق حرها، يذوق نارها، مذمومًا؛ مذموم من كل أحد، مذموم أولًا من نفسه هو، يعني هو يذم نفسه فيسخط عليها، ويقول لو كنت أعقل، لو كنت أبصر، ما وصلت إلى هذا، كما في قول الله -تبارك وتعالى- عنهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:10]، قال -جل وعلا- {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:11]، مذموم ممن معه، كل الذين في النار يذم بعضهم بعضًا، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}.
مذموم من الشيطان الذي قادم إلى هذه النار، فإنه يقول لهم {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، أنتم السبب في هلاككم ما كان لي من سلطان عليكم، أنتم الذين سرتم خلفي بلا عقل وبلا فهم، {........ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]، فحتى شيطانه وإبليسه الذي أغواه يذمه ويعيبه أنه وصل النار، ثم كل أهل النار وكل الملائكة يلعنونهم ويسبونهم، فإن الملائكة يقولوا لهم {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى ........}[غافر:50]، فما كان ديَّت، {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}، ولا يأخذون من ملائكة العذاب إلا كلام الذم والتقريع لهم، فهم مقرعون مذمومون من كل أحد، الله -تبارك وتعالى- ساخط عليهم، يقرعهم بالكلام الذي يزيدهم حسرة إلى حسرتهم كقوله -سبحانه وتعالى- {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112]، {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:113]، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، وعندما يقولون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107]، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108]، {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109]، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110]، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون:111]، فيقرعون ويذمون ويستهزأ بهم ويسخر بهم من كل أحد، فالكافر مذموم مقهور؛ مذموم حتى من نفسه.
{يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}، الدحر هو الذي يذهب إلى هذا الشر والعذاب رغمًا عنه، نقول أنه إندحر الجيش بمعنى أنه ألجأه الجيش الأخر وهزمه وأزاله عن مواضعه، كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال –جل وعلا- {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}[لقمان:24]، نضطرهم؛ يعني أنهم يدحرون ويلجأون إلى العذاب العظيم رغمًا عنهم، فإنهم ينبعثون من قبورهم رغمًا عنهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}[يس:52]، ثم يساقون {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه:108]، ويساقون؛ يساقون إلى النار سوق، أولًا الملائكة محيطة بهم من كل مكان ويساقون إلى النار سوق ويدخلونها رغمًا عنهم، يدخلونها بالدز والدفع، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، يعني يدزون دز، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، أو يؤخذون من الموقف سحبًا من نواصيهم أو سحبًا من أقدامهم، كما قال -تبارك وتعالى- {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، يؤخذون بالنواصي، الناصية؛ مقدم شعر الرأس، أو بالأقدام يقدم فيدحرون دحر، فهذا الدحر أنهم يلجأون إليها إلجاءًا ويحشرون على هذا النحو، كما أيضًا من صور الحشر قال {........ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}[الإسراء:97]، فإذن هذه صور الإندحار صور شديدة، فالله يقول {........ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18]، هذا صنف وهذا حكم الله -تبارك وتعالى- في كل من جعل همه أن يعيش في هذه الدنيا وللدنيا فقط، وليس له بالنسبة للآخرة مقصد ولا نية ولا هدف ولا غاية، تركها خلف ظهره وإنشغل بهذه الدنيا لا يريد إلا هي؛ فهذا مصيره.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19]، من أراد الآخرة؛ اللي هي جنة الله -تبارك وتعالى-، أراد الآخرة؛ أن ينجوا من عذاب الله -تبارك وتعالى-، أن يدخل جنة الله -عز وجل-، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}، هذه الآخرة أمل وأمل بعيد ونظر وتحتاج سعي، تحتاج أن تسير نحو هذا الأمل بسعي، السعي هو المشي السريع، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}، وهنا كلمة سعيها كلمة عظيمة جدًا، لأن إضافة السعي هنا إلى الآخرة يشمل معاني عظيمة جدًا، فسعي الآخرة سعي عظيم هو العمل بكل طاعة الله -تبارك وتعالى-، والإنتهاء عن كل ما يسخط الرب -تبارك وتعالى-، فهذا كله من سعيها، فمن سعي الآخرة أن تراقب الله -تبارك وتعالى- وأن تعمل ما ألزمك إياه وأن تنتهي عما نهاك عنه، فيدخل فيها كل الأوامر والنواهي، يدخل فيها بقى من سعي الآخرة أن يصلي الصلاة في أوقاتها، أن يصوم الصوم المفروض الذي فرضه الله -تبارك وتعالى- عليه، أن يحج مرة في العمر، أن يبر والديه، أن يصدق الحديث، أن يصل الرحم، أن أن ...، من كل ما فرضه الله -تبارك وتعالى-، كذلك أن ينتهي عما نهاه الله -تبارك وتعالى- عليه، بدءًا من كلمة الكفر والشرك إلى آخر همزة ولمزة من معاصي الرب -تبارك وتعالى-، فالذي يفعل هذا؛ سعى للآخرة سعيها قال -جل وعلا- {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، حال كونه مؤمنًا، وهو مؤمن جملة حالية، يعني لابد أن يكون يسعى هذا السعي وهو مؤمن بالله –تبارك وتعالى-، يعمل هذا العمل لأنه مؤمن بالله، يخاف الله، يرجوا الله -تبارك وتعالى- بكل معاني الإيمان، قال -جل وعلا- {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، فأولئك؛ وجاء هنا الإشارة إليهم بصيغة البعيد تنويهًا بشأنهم ورفعًا لهم، {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، سعيهم الذي سعوه مشكور؛ مزادًا فيه، الشكر هو الزيادة، يعني أنهم يهم بالعمل يقوم الله -تبارك وتعالى- يكتب له العمل بالنية كامل، ثوابه يعطيه الله -تبارك وتعالى- ثواب هذا العمل كاملًا بمجرد الهم؛ أنه بس نواه، فإن عمله كتبه الله -تبارك وتعالى- كأنه عمله عشر مرات؛ فيعطيه جزائه عشر مرات، وقد يضاعفه الله -تبارك وتعالى- إلى سبعمائة ضعف، وقد يضاعفه إلى أكبر من هذا، فهم أن يتصدق بدينار ولم يتصدق كتب له الدينار، ما دام كان عنده هذه النية وهي موجودة ولكن ما وجد هذا الدينار ولذلك ما تصدق به؛ كتب له الدينار، حصل الدينار وتصدق به يكتب عشرة، كأنه تصدق بعشر دنانير، يعني جملة الأجر الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- على هذا الدينار يوم القيامة فكأنه تصدق بعشر دنانير كاملة، ثم يضاعفها الله -تبارك وتعالى- إلى سبعمائة ضعف لبعض الناس.
ثم يضاعفها لأكثر من هذا كما قال -جل وعلا- {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، فهذا يأتي فيجد التمرة كالجبال من الأجر، وذلك أيضًا أنه من المضاعفة أن الصدقة بالذات الله -تبارك وتعالى- لا يجازي العبد عليها في يومها -سبحانه وتعالى-، بل يجازيه بعد أن ينميها، كما قال -صل الله عليه وسلم- «إن الله يربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوة»، إيش لون الإنسان يعتني بالمهر الصغير؛ صاحب المهر، يطعمه، يسقيه، يدربه، يغسله، ينظفه ديَّت، لما يرجوا من فائدته ومن ثمرته، النبي يخبر بأن الله -تبارك وتعالى- صدقة العبد، إنسان تصدق بدينار فالله ينميه، يثمره له ليوم القيامة حتى تصبح هذه التمرة كالجبال؛ جبال من التمر، يعني نماها الله -تبارك وتعالى- كأنه ديَّت، انظر ما ديَّت، التنمية مثلًا ممكن الإنسان يحصل في السنة اللي عنده دينار بيستثمره ممكن الدينار يجيب دينار يبقى كسب مية لمية، ثم بعد ذلك بعد سنة أصبح مئة دينار يثمرهم هذي، مائة دينار إذا جابوا مية لمية مثل السنة اللي فاتت أصبحت المائة دينار أصبحت مائتين دينار، ثم المائتين بعد هذا إذا ثمروا يصبحوا أربعمائة دينار، ثم إذا ثمروا سنة بعد ذلك صاروا ثمانمائة دينار، ثم صاروا ألف وستمائة دينار ثم ...، فلو كان المئة سنة بتصير ملايين الملايين، دينار واحد أصبح ملايين الملايين من الدنانير، الله يحاسبه بعد ذلك على هذا، الله -جل وعلا- الرب الإله الغني العظيم الكريم يحاسب العبد بعد ذلك على أنه مش تصدق بتمرة فأخذ كأنه تصدق بتمرة، كأنه تصدق بهذا الجبل من جبال التمر بعد أن نماه الله -تبارك وتعالى- له، فهذا انظر {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، مضافًا له، مزادًا فيه، مو هو العمل الذي عمله في الوقت الذي عمله، بل زاده الله -تبارك وتعالى- ونماه هذا في باب الصدقة، كذلك في باب الصلاة، في باب الصوم، في أي باب من الأبواب بهذه، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الله كتب الحسنات والسيئات فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة»، فهذا من رحمة الرب -تبارك وتعالى-، قال فأولئك؛ وأولئك هنا بالإشارة للبعيد، {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، مشكورًا؛ مزادًا فيه.
ثم قال -جل وعلا- {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، كلًا؛ أي من رواد الدنيا وأهلها وطالبيها وكذلك أهل الآخرة الذين عملوا لها {نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ}، فالذين أرادوا الدنيا؛ أخذوا منها من عطاء الله، والذين أرادوا الآخرة وأخذوا منها أخذوا من عطاء الله -تبارك وتعالى-، كلًا نمد هؤلاء؛ أهل الدنيا، وهؤلاء؛ أهل الآخرة، {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}، فالله هو الذي يعطيهم -سبحانه وتعالى-، {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، وما كان عطاء ربك؛ لخلقه -سبحانه وتعالى-، محظورًا؛ أي أنه ممنوعًا، ما حدا يقدر يمنع عنك عطاء الله -تبارك وتعالى-، لا أحد يمنع عطاء الله -تبارك وتعالى- وإعطائه، سواءً أو لأهل الآخرة {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:2]، -سبحانه وتعالى- فإنه الرب المجازي الذي له الدنيا والآخرة والذي يعطي -سبحانه وتعالى- من يشاء ويمنع من يشاء، فالعطاء له والمنع له -سبحانه وتعالى-، فهو الرب العظيم الإله الذي لا رب غيره ولا إله سواه -سبحانه وتعالى-.
نقف عند هذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، سيد الأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين.