الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (336) - سورة الإسراء 24-31

 

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين، المرسل رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23]، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25]، هذه الآيات من سورة الإسراء في هذا السياق الذي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيه مجموعة من الأوامر والنواهي والمواعظ لعباده المؤمنين، يهديهم بها -سبحانه وتعالى- إلى التي هي أقوم، جاء في هذا في نفس السورة التي يقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9]، الله -تبارك وتعالى- هنا أتى بهذه المجموعة العظيمة من الأوامر والنواهي والمواعظ والوصايا التي يهدي الله -تبارك وتعالى- بها عباده إلى الطريق المستقيم؛ القويم، بدأها الله -تبارك وتعالى- بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها أيضًا -سبحانه وتعالى- بالتوحيد والنهي عن الشرك، فإن التوحيد هو ملاك الأمر كله، عبادة الله وحده لا شريك له والبداية والنهاية.

بدأها الله -تبارك وتعالى- بقوله {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:22]، ثم قال {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، لتعبدوه وحده فهو وحده المستحق للعبادة، إذ هو رب العالمين خالق الخلق أجميعين المتصرف فيهم، ليس له شريك في شيء من الملك -سبحانه وتعالى-، ولا يستحق أن يسمى إله وأن يكون إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، وكل ما أدعيت له الألوهية في غيره فهو باطل، كل من عبد غيره وجعله إله وصرف له شيء من العبادة التي لا تجوز إلى لله باطل، لأنه وضع الشيء في غير محله، ظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فلا يستحق الألوهية إلا هو -سبحانه وتعالى-، ثم وصى بالوالدين قال {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، أحسنوا بالوالدين إحسانًا، {........ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23]، خص فترة الكبر بأن المؤمن عليه أن يعتني بهم عناية خاصة، وألا يتضجر منهما ولا يتأفف من حالهما، وأن يقول لهما قولًا كريمًا في كل الأحوال، قال {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، تضجر، {وَلا تَنْهَرْهُمَا}، النهر كما ينهر ويزجر الصبي الصغير إذا فعل ما يعيب ولا يحسن فإننا ننهره ونزجره ليستقيم، أما الأبوين فلا، لا مجال لأن يربيان وأن ينهرا وأن يؤمرا في حال الكبر، الحال التي يكون فيها حال فقد الذاكرة وبداية الخرف أو الخرف وفعل ما يقبح، لكن لا ينهران بتاتًا، {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]، خفض الجناح المقصود ألا يرفع يده عليهما بسب أو شتم أو نهر أو زجر... لا، وإنما خفض الجناح هنا قال الله -تبارك وتعالى- جناح الذل، يعني أن تكون معهم حال كون العبد مع سيده؛ ذليل لهما، أن تذل لهما وتخضع لهما وتعاملهما بمنتهى التواضع، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ........}[الإسراء:24]، نابعك ودافعك هذا أن ترحمهما، يعني من الرحمة وهما قد وصلا لهذه الحالة من الكبر، {........ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]، أدعوا لهما كذلك الرب -سبحانه وتعالى- بأن يرحمهما الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، قال كما ربياني صغيرًا دين، أنت تفعل هذا دينًا عليك فإنهما قدر رحماك، وربما بكت الأم وبكى الأب عندما أصابك مكروه، كأن يصيبك أنت وأنت صغير فيبكيان لذلك ويشقيان لأجلك ويرحماك ويقوما بخدمتك صغيرًا، الخدمة التي هي تطهيرك وتنظيفك وإزالة النجاسة عنك وإلباسك وإطعامك وشرابك وحملك و ...، فكانت ثمة منهما فيما سلف منهما لك أمر عظيم جدًا من العناية والرحمة وديَّت، فكما ربياك وأنت صغير فاذكر هذا، اذكر هذا والذي تفعله الآن إنما هو أداء للدين الذي عليك نحو الوالدين، {........ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24].

ثم قال -جل وعلا- {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25]، هذا وعظ عظيم جدًا، أي فليعلم العبد أن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما في نفسه مو فقط عمله الخارجي الظاهري، ما يظهر على أعضائه... لا، بل ما في نفسه، ما توسوس به نفسه فربه -سبحانه وتعالى- أعلم به، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25]، إن تكن عبدًا صالحًا؛ يعني مريدًا للخير، فاعلًا له، ساعيًا فيه، فإنه إذا فعلت شرًا بعد ذلك وأوبت إلى الله -تبارك وتعالى- ورجعت إليه فإنه غفار -سبحانه وتعالى-، بعكس أن يكون الإنسان خبيث القلب، خبيث النفس، فهذا ديَّت حتى وإن أظهر شيئًا من الصلاح في الظاهر فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم حقيقته، أما إن كنت يعني من العباد الصالحين الذين هم صلحت قلوبهم ونفوسهم، فإذا صدر منك ما يخالف هذا الصلاح ورجعت إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله –تبارك وتعالى- يقبل ذلك، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ}، للرجاعين والتوابين، فالأواب آب يئوب بمعنى رجع يرجع، الرجاع إلى الله -تبارك وتعالى- يعني الذي يرجع عن ذنبه ويؤوب إلى ربه -سبحانه وتعالى- فإن الله غفور له، والمغفرة بمعنى الستر والمسامحة، يزيل هذا الذنب ويسامحه -سبحانه وتعالى-، وهذا من رحمته -جل وعلا-، وقد يكون من معاني هذه الآية في هذا الموقع أن الإنسان إذا صدر منه شيء لوالديه ونحو ذلك، مما هو منافٍ لأمر الله -تبارك وتعالى-، منافٍ للخلق ومنافٍ للأدب معهم، ولكنه ظهر في حال غضب أو في حال حنق أو نحو ذلك، ثم رجع إلى الله -تبارك وتعالى- وتاب عن فعلته وأصلح هذا فإن الله -تبارك وتعالى- يكون غفورًا له.

ثم قال -جل وعلا- {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء:26]، هنا جاء بعد الأمر بالوالدين الأمر بالإحسان لهؤلاء، أولا ذوي القربى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى}، ذا القربى؛ صاحب القرابة، وصاحب القرابة يعني من له قرابة معك بعد الوالدين، الإخوة والأخوات ثم يأتي بعد ذلك الأخوال والخالات والأعمام والعمات، وهكذا أدناك أدناك، فكل هذه الدائرة المحيطة بالإنسان ممن يمتون إليه عن طريق الأم أو عن طريق الأب ها دول ذوي قرابته، قال حقه؛ أعطيه حقه، حقه هنا الحق الذي أوجبه الله -تبارك وتعالى-، وقد أوجب الله -تبارك وتعالى- الصلة؛ صلة الأرحام، ها دول يعني من الأرحام يجب أن تصلهم لا تقطعهم، الصلة ضد القطيعة؛ قطيعة الرحم، والصلة تكون بالسلام والتزاور والمساعدة والمعاونة والمشاركة في أفراحه وأطراحه والمساعدة، كل ما يدخل هنا في معنى الصلة، وقد بيَّن النبي أنه ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها، فليست فقط من يكافئك من إخوانك ومن عماتك ومن أخوالك وخالاتك، يعني يحسنوا إليك فتقابل إحسانه بإحسان... لا، وإنما يجب أن تؤدي حقه من الصلة حتى وإن قطعك، وإن قطعك، هذي هي الصلة المطلوبة.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، الذي أحقه الله -تبارك وتعالى- له، {وَالْمِسْكِينَ}، المسكين هو الفقير، والمسكين من المسكنة وكأن من إفتقر يصبح ضعيف الحركة كأنه ساكن؛ من السكون، فكأن هذا إشتقاق المسكين، وهو الفقير المحتاج والذي لا يفطن له في الغالب، وهذا حاله أشد من الفقير المستعلن، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ليس هذا المسكين بالدوار الذي ترده اللقمة واللقمتان»، يعني الذي يدور على الناس ويطلب، وإنما المسكين رجل لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، فهذا الذي يسميه الناس بالطرار الذي يطر ويظهر ويعرض وجهه للناس ويسأل، هذا قد يكون فقيرًا ولكنه المسكين مستور، المسكين فقير ولكنه مستور الحال، ولعل في تخصيص الله -تبارك وتعالى- له بالذكر هنا، لأنه أشد فقرًا وأشد حاجة من الفقير المستعلن، {وَابْنَ السَّبِيلِ}، إبن السبيل المسافر الذي إنقطعت نفقته وليس معه ما ينفقه ليصل إلى بلده، وقد يكون غنيًا في مكانه وبلده ولكنه كان مسافر إنقطع في السفر، كضاعت نقوده، ذهب ديَّت، أصابت جائحة وهو في سفره فإنقطع، فهذا المسافر يكون في حاجة شديدة إلى من يعينه ومن يساعده،{وَابْنَ السَّبِيلِ}، وسمي إبن السبيل لأنه كأن السبيل أصبح اللي هو الطريق أصبح أباه لملاصقته ولزومه، الطريق الذي هو فيه اللي هو السفر، ثم قال -جل وعلا- {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، ولا تبذر؛ التبذير مأخوذ من البذر، وكأنما الفلاح عندما يأتي للزرع يقوم يأخذ بذور كثيرة وينثرها في الأرض، ينثر من البذر أكثر مما قد يحتاجه ثم يستغني بعد ذلك عن بعض النبات ويجعل بعضه، هذا حال الفلاح عندما يبذر بذره في الأرض، استعير هذا المعنى لمن ينفق النقود بغير عد ويتلفها هنا وهناك دون أن تكون له مقاصد محددة من كل درهم أو دينار يؤديه، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، تبذيرًا ما، قد يكون هذا {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} هذا نهي عن التبذير في أي وجه من الوجوه، وقد يكون هنا وهو في آخر هذه الآية مخصوص بالتبذير في إعطاء هؤلاء، يعني إذا كان لهؤلاء فلا تعطي لهؤلاء إلى القدر الذي هو من القصد، ومما يقيم حاجة هذا الإنسان، ولا تعطه فوق حاجته وفوق مقاصد العطاء، وقد يكون {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} في أي شيء، يعني على نفسك، على أهلك، على أي أمر من الأمور، لا تضع دينارًا ولا درهمًا في غير محله، بل ينبغي أن يكون إنفاقك قصدًا، كما وصف الله -تبارك وتعالى- عباده؛ عباد الرحمن، قال {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، فهم مستقيمون، أهل إستقامة وأهل إعتدال في النفقة، فلا هم مسرفون مبذرون ولا هم بخلاء مقترون، وإنم هم وسط يقدرون النفقة ويسيرون بالإعتدال، والإعتدال هو بمعنى الإقتصاد، مقتصد، معتدل، له قصد وله هدف ولا يمنع المال عن حقه الصحيح ولا يبذره تبذيرًا، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}.

ثم في {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} جاء الله -تبارك وتعالى- بجملة بيان أن الله -تبارك وتعالى- يكره التبذير، قال {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء:27]، المبذر أخ للشيطان، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ}، يعني المتلفين في مالهم والنفقين في غير يعني بزيادة الحاجة وفي غير فائدة وفي غير معنى، وطبعًا يدخله أول ما يدخله في الحرام، فإن إنفاق المال في الحرام هو أعظم التبذير، ويليه الإنفاق في الحلال بزيادة عن الحد المطلوب، ويليه كذلك يعني إعطاء في وجوه الخير لكن على وجه الزيادة التي لا معنى لها، أن يزاد وإن كان في هذه الأبواب من أبواب الإنفاق المستحب، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء:27]، ومعنى أنه إخوانهم يعني أخوة تلازم وديَّت، والشيطان متمرد عاتي بعيد عن أمر الله -تبارك وتعالى-، والشياطين هنا شياطين الجن البعيدين عن أمر الله -تبارك وتعالى- والذين يأمرون بكل شر، ومن أمرهم بالشر أمرهم بالتبذير، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء:27]، هذا حال الشيطان مع الله -تبارك وتعالى- منذ الأب الأكبر اللي هو إبليس، كفور لله -تبارك وتعالى- فقد كفر بنعمة الله -تبارك وتعالى- عليه، ولم يقم بما أمره الله -تبارك وتعالى- به وبقت هذا الكفران فيه، ومن كفرانه أمره أوليائه بمخالفة أمر الله -تبارك وتعالى-، ومن مخالفة أمر الله هو وضع المال في غير محله وفي غير نصابه تبذيرًا، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}[الإسراء:28]، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}، تعرضن عن هؤلاء الذين أمر الله -تبارك وتعالى- بإعطائهم، اللي هم ذوي القربى والمساكين وإبن السبيل، إما تعرضن عنهم لأنه ليس عندك من المال ما تعطيهم، يعني جائوك وجاء الطلب إليك في وقت ليس في يدك ما تعطيهم، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ........}[الإسراء:28]، تنتظر فرج الله -تبارك وتعالى- وإحسانه لك وعطائه لك، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، فاصرفهم عنك وردهم عند الطلب؛ عندما يطلبوك، بالقول الميسور الطيب، كالقول رزقك الله -تبارك وتعالى- من غيري، ليس عندي الآن ما أعطيه، لو كان عندي الآن شيء أستطيع أن أساعدك به لساعدتك في هذا الوقت، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ييسر لك الأمر وأن يرزقك، فيكون هناك قول ميسور يرده به، فمفهوم هذا يعني لا تردهم الرد السيء، فلا أنت ساعدتهم ولا أن رددت ردًا طيبًا عليهم، بل إذا لم تملك ما تعطيهم إياه وكنت تنتظر عطاء الرب -تبارك وتعالى- لك فإذن ردهم بالقول الميسور، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}[الإسراء:28].

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:29]، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}، هذه صورة من صور ومثل يضربه الله -تبارك وتعالى- لحال البخيل، فإن البخيل الذي لا ينفق كأن يده مربوطة إلى عنقه، ومن ربطت يده إلى عنقه وغلت فإنه لا يستطيع أن يخرج شيئًا، لأن اليد المغلولة إلى العنق ومربوطة فيه كيف إذا قيل له أنفق إيش لون ما يستطيع، مربوطة ما يقدر يفكها ويخرج مالًا ليعطيه، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}، هذا تصوير بحال البخيل الذي لا ينفق، والذي كأنه قد ربطت يده إلى رقبته، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ........}[الإسراء:29]، تبسطها؛ تفتحها وتنفق، كل البسط؛ البسط كله، بمعنى أنك لا تبقي شيئًا معك إلا دفعته وأنفقته، {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، يعني أبسطها البسط اللي هو فيه إعتدال وقسط، قال -جل وعلا- {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، يعني إن فعلت هذا قعدت ملومًا محسورًا، فتقعد؛ يعني إذا ذهب ما عندك كله جلست ملومًا، ملوم من نفسه فقد يتلاوم أنه ضيع ماله وأنفقه، ومحسور من التحسر، التحسر على الحالة التي وصل إليها بعد أنفق ماله وأتلف ماله.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:30]، إن ربك؛ الله -سبحانه وتعالى-، وإضافة النبي هنا إلى الله –تبارك وتعالى- إضافة تشريف، أضافه إضافة تشريف وبيان هذا فعله -سبحانه وتعالى- رب محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ}، يبسط؛ يوسعه -سبحانه وتعالى- لمن يشاء، لحكم يريدها الله -تبارك وتعالى-، وقد يكون هذا البسط لمؤمن وقد يكون لكافر، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، ويقدر؛ القدر هو التضييق، يعني يضيق -سبحانه وتعالى- كذلك على من يشاء لحكم عظيمة من حكم الرب –جل وعلا-، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، إنه؛ الله -سبحانه وتعالى-، {كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، فمن هذه الحكم أن هناك من أهل الإيمان لا يصلح له إلا الفقر ولو أغناه الله -تبارك وتعالى- لبغى وطغى وخرج عن جادة الحق والصواب، ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى، يعني من عباد الله -تبارك وتعالى- من يعطيه الله -تبارك وتعالى- ويوسع عليه، لأن هذا خير به وأرفق به ويحميه الله –تبارك وتعالى- من ...، يعني ربما أنه لو ضييق عليه لخرج، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- في من يعطيهم أحيانًا «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي من مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار»، فالله -سبحانه وتعالى- بعباده خبير بصير -سبحانه وتعالى-، وقد يضيق على من يضيق من عباده المؤمنين ليرفع درجاتهم وليحفز هممهم ويجعل شغلهم بما عند الله -تبارك وتعالى- أولى بما يشغلهم به في هذه الدنيا، لله -تبارك وتعالى- حكم عظيمة في القدر على من يشاء والتوسعة على من يشاء -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، والخبرة هي خاصة العلم، يعني العلم بالأمور الخفية، فنقول خبير، فنقول عليم وخبير فالخبير هو العليم بما يخفى، فالعليم بما يخفى -سبحانه وتعالى- من شئون عباده الله عليم به –سبحانه وتعالى-، وكذلك بصير وكل ما يفعله العباد هو تحت بصره -سبحانه وتعالى-، لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى- شيء.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء:31]، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، وكانت العرب تفعل هذا وتخص البنات كثيرًا، أنهم يقتلون الأولاد خوف الفقر، الإملاق هو الفقر الشديد، وهذه طبعًا جريمة عظيمة جدًا، كما في الحديث الصحيح سئل النبي -صل الله عليه وسلم- حديث عبد الله إبن مسعود «أي الذنب أكبر؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت ثم أي؟»، ماذا بعد هذا بعد الشرك؟ «قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك»، فقتل الولد مخافة أن يطعم مع أبيه هذي تصوير يعني جريمة كبرى، أنك تقتل هذا الصغير هذا تخاف أن يشاركك الطعام ويشاركك الرزق، والحال أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقه وإياك، وأنت يرزقك كذلك وإياه، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزق هذا وهذا، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، الخشية هي الخوف من المستقبل، يعني خائف من المستقبل أن يصيبه الفقر إذا كثر عياله، قال -جل وعلا- {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، نرزقهم؛ هؤلاء الصبية الصغار، وإياكم؛ كذلك الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقكم، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}، إن قتلهم؛ قتل هذه الذرية، كان خطئًا؛ خطيئة، كبيرًا؛ كبيرة جدًا، وإذا كانت الجاهلية الأولى تقتل بعد الولادة فإن الجاهلية الحديثة تقتل قبل الولادة، وتقتل قتل ذريع، فإن الذي يقتل الآن من الذرية خوف الفقر قتل ذريع، كما هو الآن في بلدان كثيرة من بلدان العالم من الكفرة، يقتل الآن الملايين المملينة في الحمل ويقتل كذلك بعد الولادة، وكذلك للأسف حتى عند كثير من المسلمين القتل هذا، أنه تحمل المرأة ثم يخشى أن يكون له أولاد كثيرون فيقتل ويجهض هذا الجنين وهذا قتل، وهذا قتل، بعد أربعين يوم قتل، لأن هذا نفخ للروح كما في الحديث «إذا مر على النطفة أربعون يومًا أتاها ملك فنفخ فيه الروح، وقال أي ربي أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما أجله؟»، فيكتب هذا، فهذه نفس من النفوس فإذا قتلها الإنسان، إذا قتلها الأب أو قتلتها الأم خوفًا من أن يصبح هذا إنسان ويأكل معهم ويشاركهم الحياة، وأنهم لأجل الفقر فعلوا هذا فهذا قتل، فقتل الذرية خطء عظيم، هذا عدوان كبير وقد جاء بعد الشرك بالله كما مضى في حديث إبن مسعود -رضي الله تعالى عنهما-، قال قلت «يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك»، فهنا الله -تبارك وتعالى- ينهى عن قتل الأولاد، قال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء:31].

نقف عند هذه الآية ونكمل -إن شاء الله- في حلقة آتية، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.