الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (337) - سورة الإسراء 32-39

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدناونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقو الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء:31]، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء:32]، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء:33]، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34]، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[الإسراء:35]، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء:37]، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38]، هذه الآيات في سياق الأوامر والنواهي من الحكم العظيمة والحكمة العليا والطريق القويم، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، التي شرع الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، قال -جل وعلا- {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، هي من الله -سبحانه وتعالى- عن قتل الأولاد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى وكذلك الجاهلية الحديثة، خشية إملاق؛ خوف الإملاق الفقر الشديد، وكان هذا من عادة العرب من الفقر وكذلك يعمدون إلى قتل الإناث خوف العار والفضيحة، كما صور الله -تبارك وتعالى- حالهم عند مجيء الأنثى؛ يعني ولادة الأنثى، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:58]، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل:59]، فكانت هذا حالهم في قتل أولادهم وذريتهم على هذا النحو، وهذا من أعظم الذنوب كما في الحديث «قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم اي؟ قال أن تزاني حليلة جارك»، وهذا الحديث هنا مطابق لهذه الآيات في باب هذه النواهي، فإن الله -تبارك وتعالى- بدأ في النهي بالشرك بالله -تبارك وتعالى-، ثم جاء هنا قال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ........}[الإسراء:31]، توجيه من الله -تبارك وتعالى- أن رزق الذرية ورزق الآباء كله من الله -تبارك وتعالى-، فإن الله خالق الخلق وخالق الرزق كله ومسديه ومجريه ومييسر أسبابه -سبحانه وتعالى-، وكل هذا ليس بقدرة العبد وفعله وإنما هذا صنع الله -تبارك وتعالى- وفعله وتوفيقه وإعانته، لولا الله -تبارك وتعالى- لم يرزق أحد شيء ولا شربة ماء، لا يستطيع الإنسان أن يهيئها وأن يوجدها لنفسه، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}، خطيئة عظيمة قتل الأولاد، وكما سمعنا من قول النبي «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك».

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء:32]، الزنا معروف وهو الإستمتاع بالأجنبيه بما لا تحل بأي صورة من صور الإستمتاع أعلاها الفرج، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله كتب على إبن آدم حظه من الزنا، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفم يزني وزناه القبل، والأنف يزني وزناه الشم، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»، فهذا كله من ألوان الزنا بكل هذه الحواس، قال أيضًا في الحديث «واليد تزني وزناها البطش»، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، قول الله -تبارك وتعالى- ولا تقربوا ما قال ولا تزنوا دليل على التحريم، يعني المقدمات التي يمكن أن تقدم إلى الزنا، كما جاء في الحديث زنا النظر، زنا الشم، زنا السمع، كذلك ما هو الأفعال التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى الزنا، كخلوة الرجل بالأجنبية، سفر المرأة دون محرم، خروج المرأة وهي سافرة، كل هذا إنما هو من المقدمات التي قد تؤدي أو من الأمور التي قد تؤدي إلى الزنا، ولذلك جاء الإسلام بتحريم كل الذرائع التي يمكن أن تكون باب إلى الزنا، قال –جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، ثم قال {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}، غليظ، يعني أمر غليظ في الإثم والقبح، قبيح، شديد القبح، {وَسَاءَ سَبِيلًا}، ساء سبيلًا؛ ساء طريقًا، وذلك أنه الزنا ليست شروره وجريمته عند حد الفعلة، وإنما يترتب عليها كذلك أمور بعد ذلك، تنجيس الفراش، ما يصيب من حول الزاني والزانية من تضرر سمعة الأهل والأقارب، ما يأتي بعد ذلك قد يكون من أولاد الزنا وإنتشارهم في المجتمع، وإدخال المرأة من ليس بإبن لزوجها أن يكون إبنًا لزوجها، وهذا يكون دخول أجنبي أو أجنبيه في أخرين يتوارث معهم ويطلع على عوراتهم فهو سبيل سيء، يعني إذا مشي الإنسان في هذا الطريق فإنه يتبعه أمور كثيرة من المفاسد، إلى أن تنتهي بتدمير المجتمع كله وديَّت، طريقة للدمار، بعد ذلك إذا كثر هؤلاء الأولاد كثر الفساد، أولاد الزنا، إنحط المجتمع، لم تقم علاقات المودة والمحبة التي بين الأهل والأقارب، فتبقى الأم ممقوته عند أولادها، الخائنة ممقوته عند زوجها وعند أهلها، الخائن كذلك، عند ذلك لا يبقى معاني للبنوة والأمومة والأبوة والعمومة والخئولة، هذا خلاص إذا إختلطت الأنساب لا يمكن الحكم بأن هذا إبن هذا وهذا خاله وهذا عمه، فتموت صلات الرحم والقرابة، وتحل محلها معاني أخرى من معاني الفردية والأنانية وتغليب الشهوة، وأن يكون كل إنسان وحده فقط همه شهوته وتموت دواعي المحبة والمودة بين الأهل والأقارب والعائلة؛ تنتهي هذه، فقول الله -تبارك وتعالى- {وَسَاءَ سَبِيلًا}، هذا طريق سيء، طريق لابد أن يؤدي إلى مفاسد وشرور عظيمة.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، نهي من الله -تبارك وتعالى- عن قتل النفس التي حرم الله، ثم إستثنى الله -جل وعلا- فقال إلا بالحق، والنفس التي حرمها الله -تبارك وتعالى- أولًا هي النفس المؤمنة، كل مسلم/ مسلمة شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله عصم دمه وماله، فالعدوان عليه عدوان على نفس محرمه، حرم الله -تبارك وتعالى- قتلها، ثم قال إلا بالحق وإلا بالحق في شأن المسلم في ثلاث أحوال، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا يحل دم إمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، فهذه هي الثلاث فقط التي يحل قتل ديَّت، القصاص؛ يقتل إذا قتل، وإذا زنى وهو محصن يرجم، وإذا ترك دينه وبدل دينه يقتل، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «من بدل دينه فاقتلوه»، كذلك النفس التي حرم الله -تبارك وتعالى- إلا بالحق النفس التي أخذت أمان من المسلمين فهذي تعصم، اللي هو أهل الذمة وأهل العهد، فأهل الذمة وأهل العهد الذين لهم عهد وزمه عند المسلمين فهذا لا تقتل، وقتل الذمي وقتل المعاهد إنما هو قتل نفس حرم الله -تبارك وتعالى- قتلها بهذا عهد الأمان الذي ناله هذا.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، من قتل مظلومًا؛ يعني عدوان، واحد قتل عدوان وظلم، قال –جل وعلا- {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ}، أوليائه يعني أولياء الدم، اللي هم أولياء الدم قد يكون الأب وقد يكون الأبناء، الإخوة، اللي هم أقرب الناس لهذا المقتول ظلمًا، سلطانًا؛ سلطانًا شرعيًا وسلطان كوني قدري، أما السلطان الشرعي فإن الله -تبارك وتعالى- قد أمر بالقصاص، أمر بالقصاص أمر شرعي، وأمر المؤمنين بأن ينفذوه، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وكذلك في قوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ........}[البقرة:179]، وكذلك جعل الله -تبارك وتعالى- له سلطان كوني قدري من أقداره -سبحانه وتعالى-، يعني قوة قاهرة وأمر ديَّت وإعانة منه –سبحانه وتعالى- لولي الدم أن يأخذ حقه من هذا الذي قتل وليه، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، إعانة منه -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}، فلا يسرف في القتل؛ والإسراف في القتل إما بمجاوزة الحد في نوع القتل للقاتل، كأن يقتله ويمثل به وديَّت... لا، إنما القصاص أن يقتل بمثل ما قتل به، أو يسرف في القتل في أن يقتل غير القاتل أو أن يقتل زيادة عن القاتل، فإذا قتل غير القاتل كأن يقتل أخ القاتل، يقتل أخاه أو عمه أو أقاربه أو أحد من أهله، كما هو الشأن في أعمال الثأر، فإنهم يثأرون الذي يثأر قد يثأر ليس من القاتل، إن لم يدرك القاتل أدرك أبا القاتل أو أدرك أخاه، أدرك إبنه، أدرك عمه، فيقتله، فهذا إسراف ومجاوزة الحد في القتل، قال {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}، إنه كان منصورًا إذا سار في الطريق الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- وهو أن يقتص من القاتل، {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}، لابد أن ينتصر، جاء أن إبن عباس -رضي الله تعالى عنهما- إستدل بهذه الآية على أن الحرب بين علي إبن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وبين معاوية إبن أبي سفيان، ستنتهي بإنتصار معاوية إبن أبي سفيان وذلك أن معاوية إنما كان يطالب بدم عثمان إبن عفان -رضي الله تعالى عنه- الذي قتل مظلومًا، وقد قال -تبارك وتعالى- {........ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء:33]، وهذا على كل حال إستنباط إستنبطه من هذه الآية.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34]، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}، نهي من الله -تبارك وتعالى- عن قربان مال اليتيم، اليتيم هو الذي مات أبوه ومازال دون البلوغ، فإذا وصل إلى البلوغ تخرج عنه صفة اليتم، وكما قال كما في الحديث «لا يتم بعد إحتلام»، فاليتم إلى فقط إلى الحلم، إذا بلغ الحلم، بلغ الإحتلام، (( لا يوجد صوت حتى الدقيقة 15.36)) في التجارة حتى ينمى، فهذا عمل خير لليتيم مع ضمان أصل المال، مع الذي يفعل هذا لابد أن يضمن أصل المال إذا أراد أن ينمي ماله، كذلك أن ينفق عليه بالمعروف، ينفق عليه ديَّت من ماله بالمعروف، ثم ينظر هل عزله وحده مع الإنفاق عليه من ماله أفضل أو كونه يختلط الخلطة والشركة مع غيره أفضل؛ يفعل الخير، فإن كان في عزله وحده مع الصرف عليه من ماله أفضل له فيفعل هذا، وإن كان أن يشارك أولاد مثلًا الكفيل القائم على هذا اليتيم اللي هو الوصي عليه، فإذا شاركه؛ شارك أولاده معه في طعامهم وشرابهم ونحو ذلك وكان ديَّت، والله يقول {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، إذا خالطت ماله مع مالك فيكون هناك الشريك الأخ يعني يصبح ديَّت، مو إنه خلاص إذا كان يتيمًا وصغيرًا فلا بأس بأن يجار عليه في المال... لا، فهنا قال الله -عز وجل- {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، لا تقرب ماله إلا بالأمر الذي فيه مصلحة وإحسان لهذا اليتيم، أما أن تأكله قبل أن يكبر، أما أن يكون هو في الجانب الضعيف وإذا ذهب مالهم فلا أحد يطالب به وأن القائم عليه هو المتولي أمره... لا، فهنا فإن الخصم هنا خصمك هو الله -تبارك وتعالى- الذي ينهاك عن هذا.

وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ........}[الإسراء:34]، حتى يبلغ أشده؛ وأشده هنا البلوغ والرشد، كما قال -تبارك وتعالى- {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، فإذا بلغ النكاح ثم كذلك يختبر هل هو راشد في تصرف المال وحفظة ومعرفة قيمة المال أم لا؟ فإذا كان ((لا يوجد صوت حتى الدقيقة 18.35)) يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فعند ذلك يسلم ماله ويكون هو المتصرف في ماله، ثم قال -جل وعلا- أيضًا {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- أيضًا بالإيفاء بالعهد، وأوفوا؛ الوفاء والتوفية هو الفعل للشيء وافيًا، وافيًا يعني كاملًا، والعهد كل إتفاق بين طرفين، إتفاق ملزم بين طرفين يجب أن يوفي كلٌ بما عاهد عليه، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}، يعني فيما بينكم، كل ما عاهدت عليه أخاك المسلم في عهد من العهود، في سلم، في حرب، في بيع، في تجارة، في غير ذلك ديَّت، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، إن العهد؛ ما تبرموه بين أنفسكم من عهود ومواثيق، هذه مسئولًا يعني العبد عنه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، سيسأل هل وفى الذي تعاقد عليه وتعاهد عليه أم لا، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}، أوفوه؛ يعني أدوه وافيًا، الكيل معروف، إذا كلتم؛ إذا كلتم يعني لغيركم فوفوا الكيل، بتبيع أنت البائع وأنت الذي تكيل لغيرك فأوفه، أوفي الكيل عندما تبيع لغيرك، {إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}، والوزن يجب أن تزن بالقسطاس المستقيم، القسطاس؛ الميزان العادل الذي ليس فيه غش، فيميل تميله ديَّت بخيانة... لا، لابد أن يكون ميزانًا صالحًا مستقيمًا، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}، الميزان العادل المستقيم الذي تتساوى عن الفراغ تتساوى كفتاه، ولا تكون حاطط له ثقل، حاطط له خيط، نحو ذلك يميله ديَّت، {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، ذلك؛ يعني إذا فعلتم هذا فهذا خير، خير لكم؛ أخير، وأحسن تأويلًا؛ أحسن تأويلًا أحسن مآلًا، المآل له أحسن، يعني إذا بعت ووفيت حق المشتري ووزن له بالميزان الصحيح فهذا ما يئول إليه خير، أولًا من تراضي الطرفين، من عدم التنازع، من صفاء القلوب، من البركة للبائع والمشتري، كل هذا يترتب عليه خير في النهاية، والعكس ديَّت، أما إذا كان فيه خيانة وفيه ديَّت فأولًا هذا تسوء سمعة البائع، المشتري ديَّت، ربما يحصل تنازع، تعارض، تضارب، فتن، يفسد أحوال الناس، يفسد السوق، ينزع الله -تبارك وتعالى- البركة، فالوزن، الوفاء بالعهد وتوفية المكاييل والموازين، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، مآلًا في الأحوال.

{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، هذا نهي عظيم من الله -تبارك وتعالى-، تقف؛ تتبع، قفا جاي من القفا، اللي هو كأن الذي يسير في قفا إنسان يتبعه، لا تقف؛ لا تتبع شيء، ما ليس لك به علم؛ يعني لا تتحرك ولا تحكم إلا بعد أن يكون لك علم بذلك، لا تحكم بظن، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، تقفوه؛ تتبع هذا الأمر، تعتقد بأن هذا الأمر أمر قائم على الظن، فعند ذلك مثلًا تسب أو تشتم أو تعادي أو تفعل أي تصرف بعد ذلك من التصرفات بناءً على الظن يكون هذا عمل قائم؛ أقمته على الظن... لا، ليكن الأمر علمًا أولًا ثم بعد ذلك تتبعه، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، هذه كلها منافذ المعرفة وأدوات المعرفة، الأدوات التي يعرف بها الإنسان، أعلاها السمع وأولها لأن الإنسان عن طريق السمع يعلم ما يلقى إليه من علوم البيئة الخارجية عن طريق السمع، والبصر فيما يبصره، والفؤاد؛ القلب، الذي يترجم ويحلل ويعقل ما يأتيه عن طريق السمع وعن طريق البصر، فهذه كلها أنت مسئول عنها، مسئول عن سمعك يجب أن يكون منضبط وتسمع الحق ولا تتبع بسمعك هذا إلا الحق، أما أن تسمع شيء وتقلبه إلى معنى أخر وتقول سمعت ولم تسمع، وكذلك رأيت ولم ترى، وكذلك عقلت هذا الأمر وعندي يقين به وليس عندك يقين، كل هذا أنت ستسأل عما تنسبه إلى سمعك وإلى بصرك وإلى فؤادك، {كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا}، ولا تمشي في الأرض؛ يعني مشي الفرح المرح الفخور بنفسه المعجب بذاته، فهذا المرح، لا تمشي هذه المشية، لأن هذه مشية البطر والمتكبر يبغضها الله -تبارك وتعالى-، الله يبغض المتكبرين والبطرين والمتعالين، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا}، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء:37]، الإنسان مخلوق ضئيل بالنسبة إلى مخلوقات ضئيلة أمامه عنده خلقها الله -تبارك وتعالى-، الأرض التي تمشي عليها هي أعظم منك وأكبر منك وأقوى منك، وأنت مهما كنت لا تستطيع أن تخرق هذه الأرض لأنها كتلة عظيمة بقوتها وديَّت، فاعلم أن هذه الأرض التي خلقها الله -تبارك وتعالى- هي أعظم منك خلقًا، وكذلك هذا الجبل الذي تراه هو أعظم منك خلقًا، ولا تصل أنت يا أيها الإنسان بحجمك هذا الصغير هذا الجبل المتطاول، يعني تطامن، يعني ما أنت في خلق الله -تبارك وتعالى-؟ أنت مخلوق صغير وبالنسبة لغيرك ضعيف وضئيل وقليل الحيلة ولست أقوى من هذه؛ فلما تتكب! لأي شيء يتكبر الإنسان! الإنسان لو ينظر إلى حقيقة نفسه وحقيقة خلقه يجد أنه لا مجال له لهذا الكبر، فهذه بدايته من هذه النطفة القذرة، ونهايته بأن يلقى جيفة في حفرة من حفر هذه الأرض، وهو بينها يحمل في أحشائه وفي بطنه فضلاته الكريهة، فهو بهذا ديَّت، الأرض التي يسير عليها هي متفضلة عليه لو كان ديَّت، هي التي تحمله، منها طعامه، هي التي تأويه، هي التي تمتص قذارته بعد ذلك عندما يموت، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25]، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26]، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا}[المرسلات:27]، هذا من فعل الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان مهما كان ليس بهذه ...، علام تتكبر! أيها الإنسان علام تتكبر! وكل خلق الله -تبارك وتعالى- فيما حولك هو أكبر منك وأعظم منك، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء:37].

ثم قال -جل وعلا- {كُلُّ ذَلِكَ}، الذي وصانا الله -تبارك وتعالى- به من أول هذا السياق في هذه السورة العظيمة؛ سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل، من أول قول الله -تبارك وتعالى- {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:22]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، أشار الله -تبارك وتعالى- إلى كل هذا الذي ذكره قال {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38]، كان سيئه؛ يعني الأمور السيئة التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها، عند الله -تبارك وتعالى- مكروهة؛ يكرهها الله، الكراهة هنا ليست هنا الكراهة الإصطلاحية في الفقه وإنما هي كراهة تحريمية، كل شيء يكرهه الله -تبارك وتعالى- فلا شك أنه قد حرمه، هذا أمر لا يحبه الله -تبارك وتعالى- ويكرهه ويبغضه، وطبعًا يبغض الفعل ومن يفعل هذا يبغضه الله -تبارك وتعالى-، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38]، وقال كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا.

ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:39]، ذلك؛ الذي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}، الحكمة العالية جدًا، العلم الكامل الذي يجعلك تضع الأمور كلها في نصابها، فهذه أوامر ونواهي تؤهل فاعلها إلى أن يكون حكيمًا يضع الأمور كلها في نصابها، هذه الحكمة العليا التي يرشد إليها الرب -سبحانه وتعالى- ليكون الإنسان المثال والنموذج الكامل الطاهر النظيف؛ ذكي النفس، ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذه المواعظ بمثل ما بدأها به، فقال {........ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:39].

ولنا عودة -إن شاء الله- إلى هذه الآية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.