{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وسيدًا للناس أجمعين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}[الإسراء:45]، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}[الإسراء:46]، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الإسراء:47]، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الإسراء:48]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد حجب الكفار، هؤلاء المعاندين الذين لا يؤمنون بالآخرة، حجبهم عن فهم الحق، وأنه إذا قرئ عليهم هذا القرآن الواضح البيِّن كتاب الله -تبارك وتعالى-، البيِّن الواضح الذي الهدى والنور كلامه، وهو بلسان هؤلاء العرب، لكنهم لما كان لا يؤمنوا بالآخرة ونسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- بملزوم إنكارهم للآخرة؛ نسبوا له -تبارك وتعالى- اللعب والعبث، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن جعل بينهم وبين هذا القرآن حجاب؛ لا يفقهوه، قال {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}[الإسراء:45]، حجاب يسترهم عن الفهم ويحول بينهم وبين هذا القرآن.
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، جعلنا؛ الجعل هنا التصيير، على قلوبهم؛ والقلب هو محل الفهم، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، الكن هو الظرف والحصن والحفظ الذي يستكن فيه الإنسان ويحفظ فيه، فكل ما يكن الشيء يعني يحفظه ويغطيه ويحميه هذا الكن، ومنه المغارات التي تكون في الجبال فإنها أكنان جمع كن، وذلك أنه من دخلها إستكن وأكنته وحفظته من المطر ومن الريح ومن الحر، فجعل عليها أكنانًا يعني أغلفة تحفظها وتمنع وصول الحق إليها، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، يعني حتى لا يفقهوه، هذي عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- على هذا، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، يعني جعلنا في آذانهم وقر، الوقر؛ الثقل، يعني كشيء من المعدن رصاص أو غيره إذا وضع؛ قفلت الأذن بهذا، فإنها لا تخترقها الأصوات، {........ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}[الإسراء:46]، انظر كراهيتهم للحق، وليس للحق أي حق؛ أكبر حقيقة، أكبر حق وأظهره وأبينه وهو أن الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى- خالق هذا الخلق كله، لكنهم يفرون من هذه الحقيقة التي هي أظهر الحقائق ظهورًا، لا أظهر منها ولا أعظم منها ولا أكبر منها ولا أجلى منها ولا أبين منها، أن الله هو خالق الخلق -سبحانه وتعالى-، وأن هذا الوجود كله لا وجود له إلا بوجود خالقه -سبحانه وتعالى-، إلا أن الله موجود هو الذي أوجده ولا بقاء له إلا بإبقاء هذا الخالق، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41].
فإعتقاد أن لهذا الوجود إله رب خلقه وأنه هو الإله وحده -سبحانه وتعالى- وأنه لم يشركه أحد في ذلك، وأنه ليس هناك إلهًا أخر خلق شيئًا من الخلق، ما في إله، لا يمكن أن يكون في هذا الوجود إله إلا الله -سبحانه وتعالى-، فليس فيه إلا إله واحد هو الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، مع ظهور هذه الحقيقة التي هي أظهر الحقائق كلها وأجلاها، وأبينها لكل ذي عقل وكل ذي لب، إلا أنهم يفرون منها فرارًا وكراهية وينفرون منها كل النفور، قال -جل وعلا- {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ}، أنه هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، إذا نزل القرآن بتوحيد الله -تبارك وتعالى- وأنه الإله وحده، الخالق وحده، وما دام أنه الخالق والرب وحده فهو الإله وحده، المعبود وحده، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}، ولوا؛ يعني أنهم هربوا مولين تاركين المكان، على أدبارهم؛ وين الدبر يعني ما يولوا لوجههم هكذا وديَّت، وإنما يرجع؛ القهقرة، يرجع على طول يشوف وين ظهره ثم ولي الأدبار، بعيدًا عن هذا الذي يذكره بهذه الحقيقة التي لا أبين منها ولا أظهر، ثم التي يتربت عليها كل الخير في من إعتقدها وسار فيها، لا إله إلا الله، ويترتب عليها كذلك كل الشر في من عاداها وتركها، فإن من لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- لأنه الواحد الأحد فإن الله -تبارك وتعالى- قد أوجب له النار والعذاب، انظر هذه الحقيقة التي هي أجلى الحقائق والتي هي أنفعها على الإطلاق، وأكبرها نفعًا وحاصلها أعظم حاصل في النهاية، ومخالفتها يترتب عليها أعظم الشرور ومع هذا من هذه الحقيقة يفرون، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ}، فرجعوا على طول، يعني يبحث وين؟ على مؤخرته ويهرب بعيدًا عن هذا الحق، {نُفُورًا}، نفورًا؛ كراهية وإبتعاد، فسبحان الله هذا لو لم يكن من دليل على أن الله -سبحانه وتعالى- هو الإله ولو يكن من دليل على وحدانية الله -تبارك وتعالى-، وأنه الرب الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلا هذه لكفت؛ لكفت هذه دليل، فإن هؤلاء البشر أهل عقول وأهل حجى، وكان بعضه يعني يقول عقله يزن الجبال، من رجاحته ومن فهمه وتقديره للأمور وعلمه ومع هذا انظر إلى منتهى السفاهة، يصدر منه منتهى السفاهة ومنتهى الجهل في أن يترك أعظم الحقائق ويولي نحو الشرك ونحو الكفر الذي يترتب عليه كل المضرات كلها، فهذا لا يمكن أن يكون إلا قد فعل به أمر؛ طمست بصيرته، وهذا هو فعل الله -تبارك وتعالى-، فلو لم يكن دليل على أن الله -تبارك وتعالى- هو الإله وحده إلا طمس بصائر هؤلاء، وإبعادهم عن الحق على هذا النحو وإعمائهم عن هذا الأمر الواضح البيِّن، لو لم يكن هناك دليل إلا هذا لكفى هذا، فلا شك أن هذه آية عظيمة، كفر هؤلاء وعنادهم ونفرهم ونفورهم من هذا الأمر الواضح البيِّن، هذا دليل على أن الله -تبارك وتعالى- يضل من يشاء -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ}، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، {أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ}، يستمعون به هذا القرآن، بعضهم كان يروح يسمع، كان يذهب سرًا والنبي يقرأ القرآن فيقوم يقعد في الليل يسمع ديَّت، وكان بعضهم يذهب كذلك وأبو بكر يتلوا فيسمع، كانوا يسمعون القرآن لكن لا يسمع القرآن ليهتدي، يسمعه ليستهزئ به، يبحث له عن شيء يقوم يسخر بيه، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ........}[الإسراء:47]، إذا يستمعون إليك؛ يعني يا محمد، كانوا أحيانًا يستمعون إليه، وإذ هم نجوى؛ يتناجوا، يعني في الوقت الذي يستمعون إلى هذا القرآن الواضح البيِّن، الذي يرشد إلى الصراط المستقيم ويبين الحق، وهذا الصراط إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى جنته ورضوانه بيان كامل، لكن ما حكمهم بعد ذلك، {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، الله يقول إذ يقول ما قال يقولون، قال إذ يقول الظالمون؛ لأن مقالتهم لا تصدر إلا عن ظالم بالفعل وضع الأمر في غير محله، يقولون {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، بالحصر، فهذا حكمهم على النبي -صل الله عليه وسلم-، هذا آخر ما تصولوا به من حكم على النبي، إن تتبعون؛ يعني في من يتبع هذا، {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، هذا محمد في ظنهم أنه قد غلب على عقله وأنه قد سحر، وأن الذي يقول به إنما هو من تأثير هذا السحر، فجعلوا هذا القرآن الحكيم المنزل من الرب الإله العظيم العليم، الذي هو محكم في كل آياته، في تفصيل كل شيء، يهديهم إلى الصراط المستقيم، ينهاهم عن كل شر وإثم، يعرفهم كل هذه الحقائق، أنه كلام صادر من مسحور، مغولوب على عقله، قد لعب الجن بعقله وسحروه وجعلوه يهذي بهذا، فجعلوا القرآن نوع من هزيان يقوله مسحور، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، يعني هذا هو؛ ليس له إلا هذا، مال له إلا وصف؛ إلا هذا الوصف.
قال -جل وعلا- {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الإسراء:48]، انظر؛ هذا يعني توقيف من الرب -تبارك وتعالى- على هذه الحقيقة؛ حقيقة ضلال هؤلاء وكيف ضل هؤلاء، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ}، يعني يا محمد، الأمثال، هذا المثل الذي ضربوه للنبي أنه مسحور، وقبله قد ضربوا له أنه مجنون، قالوا هذا مجنون، هذا مسحور، هذا كذاب، تتنزل عليه هذه الأقاويل، قالوا {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، فهذه الأمثال الذي ضربوها للنبي، أنه كذاب، مجنون، رجل مسحور، فضلوا؛ طبعًا إذا جعلوا هذا مثل النبي أنه رجل قد غلب عليه السحر؛ والسحر بطريق الجن، وأن هذا القرآن وهذا الذي جاء به نتيجة هذا، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ........}[الإسراء:48]، الباطلة الضالة الكاذبة، فضلوا؛ لهذا، وذلك أنه خلاص ما دام أنه إعتقد هذا الإعتقاد في النبي فيتصرف بعد ذلك التصرف النابع من هذا الإعتقاد، فمادام إعتقد أنه مسحور إذن لن يؤمن به، سيتهزئ به، لن يتبعه، لن يسمع منه، سيترك كل شيء، فضلوا عن الحق {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}، خلاص لا يستطيعون سبيلًا إلى الهدى؛ سيسير في الضلال، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الإسراء:48].
ثم قال -جل وعلا- {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:49]، هذي كذلك إعتقاد من إعتقاداتهم الباطلة، إنكارهم للبعث بكل سبيل، وقالوا؛ أي هؤلاء الكفار، مشركي العرب، المنكرين للبعث، {........ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:49]، سؤال أ؛ همزة إستفهام، يراد به الإستبعاد والإستغراب والإستهجان من هذه المقالة، {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا}، كنا بعد الموت يبلى اللحم ويبلى هذا ويفضل عظام، ورفات؛ الروفات هي بقايا الجسم بعد تحلله وديَّت، اللي هي هذه البقايا التي تبقى من الميت، رفات الميت يعني عظامه الدقيقة المختلطة بهذه الأرض، {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}، أ؛ بهمزة الإستفهام، مبعوثون؛ نحيا مرة ثانية، ونخلق خلق جديد مرة ثانية ونعود إلى الحياة مرة ثانية، قالوا هذا طبعًا للنبي -صلوات الله والسلام عليه- على سبيل الإستبعاد والإستهجان لما يقول وإستنكار أن يكون هناك القول بالبعث، يرونه أنه قول خارج عن العقل وخارج عن المنطق وأنه لا أحد يستطيع أن يعيدهم إلى الحياة مرة ثانية، فاستعظموا على الرب -تبارك وتعالى- هذا وأن هذا لا يكون.
قال -جل وعلا- لهم مبطلًا إعتقادهم الباطل بطريقة تحطم هذا الباطل الذي قالوه، قال {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}[الإسراء:50]، كونوا حجارة أو حديدًا مش عظام ورفات، بل لو كنتم عظام وحجارة أو حديد، {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}، أو أي خلق مما يكبر في صدوركم، تقولونه وتستعظمون أن يخلقه الله -تبارك وتعالى- ويعيده مرة ثانية، مش عظام ورفات أي خلق، أي شيء يعني غير الحديد والحجارة، {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا}، من الذي يعيدنا إلى الحياة؟ {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، الذي فطركم؛ يعني الذي خلقكم الخلق الإبتدائي، أول ما خلقتكم هذا ديَّت، هو الذي يعيدكم، فإن من يصنع شيئًا يقدر على إعادته إذا تحطم هذا، إذا كان هو صنعه من لا شيء فلا شك أنه إذا تحطم يستطيع أن يعيده، هذا في البشر فكيف بالرب -سبحانه وتعالى-، والرب -جل وعلا- هو خلقكم ولم تكونوا شيئًا، هل كنتم كان لكم وجود؟ خلقكم من لا شيء، وبدأ خلقكم من نطفة؛ نطفة ماء، ثم بعد ذلك في تدرج إلى أن سواكم، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:12]، {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13]، {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14]، فهذا الذي خلقكم على هذا النحو وفطركم على هذا النحو من البداية يستطيع أن يعيدكم مرة ثانية، فهذه المعادلة هي مثل حقيقة الرياضيات والحساب، واحد وواحد يساوي إثنين، الذي بدأ الخلق يستطيع إعادته مهما كان هذا الخلق، مهما كان مادة الخلق هذا فإنه يستطيع أن يعيده مرة ثانية الله -سبحانه وتعالى-، {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وطبعًا هذا يعني حجة قاهرة كما قال -جل وعلا- {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ........}[الأنبياء:18]، خلاص المجادل والمعاند والذي إعتقد هذه العقيدة الباطلة خلاص ضحدت عقيدته بالقوة؛ ماتت، لا جواب، لا يستطيع أن يجيب بعد ذلك أي جواب، فالذي خلق الخلق في المرة الأولى إذا إنتهى هذا الخلق بالموت يستطيع أن يعيده مرة ثانية، هل في هذا شك؟ فهذه قاعدة كأنها قاعدة الحساب والرياضيات؛ واحد وواحد يساوي إثنين، فلما لم يجدوا شيء قال -جل وعلا- {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ}، قال -جل وعلا- {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ}، ينغضون إليك؛ النغض اللي هو التحريك، يعني يحركونها حركة إستهزاء وإستهجان، {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ}، متى هو؛ ليس سؤالًا عن الوقت ليستفهموه، ولكن يريدون بهذا السؤال الإستبعاد والإستهجان وأنه لا يكون.
{........ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}[الإسراء:51]، قل عسى أن يكون قريبًا؛ تهديد ووعيد لهم أن يكون هذا قريب، فإنه إذا ماتوا خلاص، وعمر الإنسان قصير مهما بلغ، إمتد عمره كام؟ ستين، سبعين سنة، هذا أعمار هذه الأمة، وقد يعاجله الله -تبارك وتعالى- بالموت والهلاك كما عاجلهم بالقتل، من قتل من المستهزئين في مكة ومن قتل منهم في بدر، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}، والبعث سيكون بعد ذلك قريب؛ هو قريب، قال {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}، هذا يوم القيامة، {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}، يوم يدعوكم بالأرض قوموا فيقوموا، هذه الدعوة قد جاء بأنه نفخ في الصور، الله -تبارك وتعالى- يأمر نافخ الصور؛ الملك الموكل بالصور، فينفخ نفخة واحدة فديَّت {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، إذا الفجائية بهذا النفخ، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13]، {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، زجرة واحدة؛ نفخة واحدة من الصور، {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، أي يقوموا من بطن الأرض إلى ظاهرها على طول؛ ظاهر الأرض، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}، تستجيبون؛ بالخروج من قبوركم مستجيبين لله -عز وجل- رغمًا عنكم بحمده، فهو الرب المحمود -سبحانه وتعالى- على كل أفعاله -جل وعلا-، وهذا البعث يحمد الله -تبارك وتعالى- عليه لأن هو الرب الإله الحكيم العادل -سبحانه وتعالى-، فلا يمكن أن يخلي عباده في هذه الدنيا فقط، لا يثيب المطيع على طاعته ولا يعاقب المجرم على إجرامه ومعصيته، كيف يكون هذا؟! لا يمكن أن يكون هذا، فلا يمكن {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}[التين:7]،{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين:8]، فأحكم الحاكمين لابد أن يبعث هذه الأجساد؛ هؤلاء الموتى من قبورهم، ليأخذ كلٌ جزائه وتتم العدل الإلهي على أكمل صوره في هذا اليوم العظيم.
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:52]، تظنون؛ تعتقدون، إن لثتم في الدنيا إلا قليلًا، وهذا حالهم يوم القيامة كما قال -تبارك وتعالى- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ........}[الروم:55]، ويقول -جل وعلا- {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه:99]، {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}[طه:100]، {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه:101]، {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102]، {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103]، يتخافتون بينهم؛ يعني يقول بعضهم لبعض في الخفاء من الأخرين، {........ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103]، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه:104]، لم نلبث إلا يوم واحد فقط، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112]، {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:113]، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ........}[المؤمنون:115]، هكذا بس تعيشوا في الدنيا تأكلون وتشربون وتمرحون وتقتلون وتسفكون و ...، على هذا النحو، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116]، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ........}[الإسراء:52]، أي في الأرض، {إِلَّا قَلِيلًا}، في الحياة.
ثم بعد هذا، هذي بُيِّن هنا هذه العقائد الفاسدة لهؤلاء المشركين وضحدت ضحدًا، وجه الله -تبارك وتعالى- خطاب لأهل الإيمان، خلاص دول يعني خلاص هؤلاء يعني فرغ منهم، هذي طريقتهم وهذا ضلالهم وهذه نهايتهم، إذن إنتوا يا أهل الإيمان، ما طريقكم؟ قال -جل وعلا- {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، هذا كذلك وصية من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، وهي برده إكمال وتتميم للحكمة العالية التي وجه الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين إليها، بدءًا بقوله -جل وعلا- {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ........}[الإسراء:22]، قال {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، يعني في قولهم بعضهم لبعض لابد أن يتخيروا من الكلام أحسنه عندما يخاطب بعضهم بعضًا، التي هي أحسن في كل شيء، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ........}[الإسراء:53]، إن الشيطان ينزغ بينهم؛ النزغ هو يعني الدفع بالشر بينهم، فربما كلمة لم يتخيرها صاحبها يوجهها إلى أخيه فيدفع الشيطان بها إلى صدر الأخر ويكبرها عنده، فيحصل التنازع والخصومة بين العباد المؤمنين، {........ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، إحذروا الشيطان فهو عدو بيِّن العداوة، وهو كأنه جالس للإنسان عند كل شيء، فإذا لم يتحرز منه ويتحصن منه المؤمن في كل شيء فإنه يمكن أن يأخذه إلى الشر بأي سبيل؛ بكلمة يقولوها لم يتبين فيها، لم يتخيرها لأخيه فالشيطان يكبر هذه الكلمة عند أخيه، ويقول له ما قال كذا إلا ليريد بك كذا وكذا فعند ذلك تحصل الفرقة والخصومة، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53].
ثم قال -جل وعلا- {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}[الإسراء:54]، بيان من الله -تبارك وتعالى- وخطاب من الرب -جل وعلا- لعباده، قال {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}، فحقيقة قلب الإنسان وحقيقة عمله وهل هو مهتدٍ أم غير مهتدٍ؟ هل هدايته نابعة من القلب وما ظهر على جوارحه من العمل الصالح هو نابع من هداية حقيقية أو غير ذلك، فالله -تبارك وتعالى- هو أعلم به، يعني الذي يقيمك ويعطيك حقك وصفتك الحقيقية هو الرب -جل وعلا-؛ إذن راقب ربك، راقب ربك -تبارك وتعالى- فإنه هو العليم بخلقه -سبحانه وتعالى-، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}، أما أن تظن أنه الوصف الذي ستأخذه والدرجة التي ستأخذها والمنزلة التي ستأخذها إنما هو بكلام الناس أو برايك أنت عن نفسك... لا، وإنما الذي سيحكم عليك؛ على صلاحك أو غير صلاحك، هداك أو غير هداك، إنما هو ربك -سبحانه وتعالى-، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}، ثم {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}، مصائركم إليه، مصائر العباد كلها إليه، والحكم في العباد كلهم إلى خالقهم وربهم -سبحانه وتعالى-، إن يشأ يرحمكم؛ بالهداية، بالتوفيق، بالنجاة من السيئات، بالحفظ عن الشيطان، كل هذا من معاني الرحمة، أو إن يشأ يعذبكم؛ عذاب العقوبة، من أول هذا هو بالإضلال، فمن أضله الله -تبارك وتعالى-، من أبعده عنه، من سلط عليه الشيطان، هذا هو عذاب لأن مؤدى ذلك بعد هذا إلى عقوبته -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، ثم قال –جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}، والنبي -صل الله عليه وسلم- ليس وكيلًا على الناس، أي وكيل متوكل بشئونهم وهو الذي يحكم عليهم... لا، حكم العباد إلى الله -تبارك وتعالى-، وإنما النبي -صل الله عليه وسلم- هادي ومبشر ونذير، وبعد ذلك في النهاية هو عند الله –تبارك وتعالى- شهيد على من أرسل إليهم، شهيد لأهل الإيمان بالجنة وعلى أهل الكفران بالنار، ولكنه ليس هو المتوكل بشئون الناس يعذب هذا ويعاقب هذا ويحاسب هذا... لا، هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}، متوكل بشئونهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- هو المتوكل بخلقه –جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا- {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}[الإسراء:55]، ونقف هنا وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.