السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (34) - سورة البقرة 113-118

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد والله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[البقرة:113]، هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- بأن اليهود شهدوا شهادة الباطل في النصارى، وكذلك النصارى شهدوا شهادة الباطل في اليهود، ونفى كلٌ عن صاحبه أي صفةٍ من صفة التمسك بشيء من الدين، أو بالخيرية، قال -جل وعلا- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}، فنفوا أن يكونوا على شيء من الدين أصلًا، وذلك أن اليهود كذَّبوا عيسى -عليه السلام-، اعتقدوا أنه ابنٌ لزنا، وليس آية من آيات الله -تبارك وتعالى- خلقه من غير أب، وأنكروا ما جاء به من العجزات، أنكروا رسالته، سعوا في قتله بكل سبيل، واعتقدوا أن كل من اتبعه أنه مهرطقٌ كافر كذاب، ولم يؤمنوا بأن الإنجيل المنزل إليه هو كتاب الله -تبارك وتعالى-، ولذلك نفوا دين النصارى من أساسه، فيرون أنه بدعة مختلقة مكذوبة، لشخصٍ اتهموه بأخس الصفات، وهذا من إفكهم وباطلهم وجحودهم للحق.

هذا الذي قاله كذلك النصارى في اليهود، قال -جل وعلا- {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، فقد اتهموهم كذلك بالمروق من الدين، وأنهم ليسوا على شيء أصلًا من الدين، حتى من اعتقد منهم بالتوراة، ومن كان منهم على هدي الرسل السابقين، فكفَّروهم وأخرجوهم من الخيرية خروجًا كليًا، ولم يشهدوا لهم باستقامة، بل حكموا بأنهم جميعًا من أهل النار، هذا مع ادعاء كلٍ السابق بأنهم من أهل الجنة، كما قال الله -تبارك وتعالى- عنهم، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، فقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا يهودي، وقال النصارى لن يدخل الجنة إلا نصراني، ثم أنظر هكم بعضهم على بعض بعد ذلك، قال -جل وعلا- {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}، أي هؤلاء وهؤلاء يتلون الكتاب، فاليهود يقرءون التوراة كتاب الله -تبارك وتعالى-، وقد جاء عيسى مصدقًا لما في التوراة، ومبشِّرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، جاء حاكمًا بحكم التوراة، جاء مؤيدًا بالمعجزات، وكان على اليهود الإيمان به، وكذلك النصارى يعلمون بأن التوراة كتابٌ منزَّل، وأن من سبقهم على اليهود من الإيمان هم من أهل الإيمان، وليسوا جميعًا خارجون عن الدين، بل منهم مصلحون قبل مجيء عيسى -عليه السلام-.

قال -جل وعلا- {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}، ومع تلاوتهم للكتاب فإنهم شهدوا الشهادة الباطلة، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، والذين لا يعلمون هم العرب، فإنهم كانوا يرون أن اليهود والنصارى ليسوا على دين، وأن دينهم؛ دين الشرك الذي كانوا عليه، هو خيرٌ من دينهم، بل كانوا يرون أن آلهتهم هي خير من عيسى ابن مريم -عليه السلام-، كما قال عنهم -تبارك وتعالى- {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف:58]، قال -جل وعلا- {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، أن هذه الأمم المختلفة في حقيقة الدين حكمها بعد ذلك إلى الله، والله هو الذي سيحكم بين عباده -سبحانه وتعالى-، فيقر الحق الذي كانوا عليه، وينفي الباطل الذي كانوا عليه، ويحاسب كلًّ بحساب دقيق، فلا يظلم لأحدٍ شيئًا من الخير، ويحاسب كل أحدٍ بشره كما جنته يداه، فأمر هؤلاء المختلفين الحكم فيه إلى الله -تبارك وتعالى- لا لغيره -سبحانه وتعالى-، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114]، ومن أظلم؟ هذا السؤال هو للتقرير، والجواب لا أحد أظلم، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، والساعون لأن يمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم هذه الطوائف الثلاث، اليهود الذين سعوا بكل سبيل لإطفاء نور الله -تبارك وتعالى-، المبعوث به نبيه محمد -الله عليه وسلم-، والنصارى كذلك، ومشركوا العرب كذلك، فقد سعى كل هؤلاء لأن يطفئوا نور الله، سعوا لأن يمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، المساجد جمع مسجد، والمسجد مكان السجود، وأعظم هذه المساجد هي المسجد الحرام، والذي بعث فيه نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فكان همُّ هؤلاء أن يمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، يذكر فيها اسمه بالصلاة والتسبيح والذكر، وفي المسجد الحرام بالطواف والسعي، كل هذه مشاعر لذكر اسم الله -تبارك وتعالى- في هذه المساجد.

{وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}، السعي هو المشي الحثيث والجري، والمقصود هنا العمل والجد والاجتهاد في خراب هذه المساجد، خرابها من عمارة أهل الإيمان، وخرابها في البنيان، فسعى في خرابها بكل سبيل، بخرابها من الذاكرين لله -تبارك وتعالى-، وخرابها؛ خراب بنائها، وهذا بيان أن هذه الطوائف التي تدَّعي أنهم من أهل الجنة، بل الجنة لهم من دون الناس، ويدَّعي كلٌ منهم أن دينه خير دين، فاليهود يرون أن دينهم خير دين، والنصارى يرون أن دينهم خير دين، والمشركين كذلك يرون أن دينهم خير دين، هؤلاء هم لا أحد أظلم منهم في الأرض، لأنهم ساعون في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وذلك بصدهم عن سبيل الله، ومنعهم رسالة الإسلام، محاولتهم أن يمنعوا رسالة الإسلام أن تسمو وتنتشر، {أُوْلَئِكَ}، أي هؤلاء الذين لا أحد أظلم منهم، {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}، حكمٌ من الله -تبارك وتعالى- وأمرٌ منه، وتوجيهٌ منه -سبحانه وتعالى-، {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا}، يدخلوا المساجد، {إِلَّا خَائِفِينَ}، أي مستتيرين بكفرهم، خائفين من أهل الإسلام، وهذا الذي فعله الله -تبارك وتعالى- بهم، فإن الله -تبارك وتعالى- مكَّن أهل الإسلام من المساجد، وأعظمها المسجد الحرام، ثم أن هؤلاء لم يقدروا على أن يدخلوا هذه المساجد إلا في حال الخوف من المسلمين، كأن يكون مشرك يستتر ويدخل، أو يهودي أو نصراني يدخل مستترًا، خائفًا من سيف المسلمين، {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}، حكمٌ من الله -تبارك وتعالى- ووعد منه -جل وعلا- أنه قد أنفذ وعده -جل وعلا- في أهل الإيمان.

{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}، حكمٌ من الله -تبارك وتعالى- كذلك، أن هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين في الدينا، حكم الله عليهم في الدنيا بأن يخزيهم؛ يخزيهم بتمكين أهل الإسلام، وبذهاب ريحهم وبذهاب دينهم الباطل، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وينتظرهم في الآخرة عذابٌ عظيم، وهو عذاب النار.

ثم قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:115]، الله -تبارك وتعالى- هو مالك الملك كله، والمشرق والمغرب هذه الجهة، والمشرق والمغرب هي طرفي الوجود، -هذا طرفي الوجود-، فالمشرق في الأرض مكان شروق الشمس والنجوم، والأقمار كلها تظهر من جهة الشرق، وتغرب في الغرب، فالمشرق اسم جنس لكل ما يشرق، والمغرب لكل ما يغرب، الله -تبارك وتعالى- له مشارق الأرض ومغاربها، وله مشارق كذلك الوجود ومغاربه -سبحانه وتعالى-، {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، فأينما تولوا؛ توجهوا وجوهكم في الصلاة، فثمَّ هناك وجه الله -تبارك وتعالى-، بمعنى أن الله –جل وعلا- أينما توجهت في الصلاة فإنك تتوجه إليه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، السموات كلها والأرض كلها في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم، فإن الله -تبارك وتعالى- واسع، قد وسَّع هذا الوجود، ومن صفته أنه الواسع -سبحانه وتعالى-، وأنه عليمٌ بكل أحد، فمهما كان الإنسان في بقعة وفي ركن من أركان هذا الوجود ووجَّه وجهه في أي جهة من الجهات -جهة المشرق أو جهة المغرب- إلى الله ليصلي، فإن الله عليمٌ به، وقد وجَّه وجهه لله -تبارك وتعالى-، والله –تبارك وتعالى- يستقبل العباد بوجهه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا قام أحدكم في الصلاة فإنما ينصِبُ عينيه بين عيني الرحمن، فلا يبصقنَّ تلقاء وجهه»، تلقاء وجهه –سبحانه وتعالى-، فالله يستقبل -سبحانه وتعالى- بوجهه كل متوجهٍ إليه، فكل من توجَّه في صلاته إلى الله في أي ركن من أركان الوجود، فإنه يتوجَّه إلى الرب العظيم الواسع العليم بعباده -سبحانه وتعالى-، وهذه الآية توجيه للعباد بأن الله -سبحانه وتعالى- هو ملك الأرض، وهو المهيمن على هذا الكون، وأن عبده الذي يقوم ليصلي له فإنما يصلي له، وأن الله -تبارك وتعالى- يستقبله بوجهه في أي بقعة من البقاع كان.

ثم قال -جل وعلا- {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}[البقرة:116]، هذه أعظم جريمة يرتكبها هؤلاء؛ هؤلاء الأمم وهؤلاء الطوائف التي تدَّعي كلٌ منها أنهم أهل الجنة، وأنهم أهل الله، {وَقَالُوا} اليهود والنصارى ومشركو العرب، {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، قال -جل وعلا- {سُبْحَانَهُ}، النصارى زعموا هذا في عيسى -عليه السلام-، قالوا إنه ابن الله على الحقيقة، ومشركو العرب قالوا هذا في الملائكة، قالوا إن الله تزوج الجن وولد له الملائكة، قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، واليهود قالوا هذا في العُزَير، كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30]، ومشركو العرب كذلك قالوا أن الملائكة بنات الله، وكانوا يحجون ويقولون لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا تملكه وما ملك، وقال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، جزء منه، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يكون له ولد.

قال -جل وعلا- {سُبْحَانَهُ}، تنزيهًا له -سبحانه وتعالى- أن يكون له ولد، فإن هذا نقص، وذلك أن الله هو الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد وليس له كُفُء، والولد -لو كان له ولد- لكان الولد من جنس أبيه، فالولد جزء من الأب، فيكون مماثل له في صفته في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا........}[الأنبياء:22]، لو كان في هذا الكون إله إلا الله -تبارك وتعالى- لفسد الكون، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42]، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:43]، وهذا ادعاء أن لله ولد شتم للرب -تبارك وتعالى-، كما في الحديث «شتمنى ابن آدم ولا ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فادعائه أن لي ولد، وأنا الواحد الأحد، الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد»، فالله لا كفء له، وليس له ولد -سبحانه وتعالى-، قال {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101]، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يتخذ ولدا.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، بل الحال أن كل من في السموات والأرض هم له، ملكه خلقه، فكل ما سوى الله مخلوق، وكل هذه المخلوقات خلقها الله وحده، بلا مُعين من البشر، ولا مساعد له -سبحانه وتعالى-، بل الله لا ظهير له، الله خالق كل شيء، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22]، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، قال -جل وعلا- {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} مُلك، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، كلٌ أي ما في السموات والأرض، سواء كانت هي عوالم عاقلة، كالملائكة والجن والإنس، أو جمادات أو غير ذلك، كلها قانت كل هذه {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، القانت هو الصامت الخاضع المذلل، فالقنوت هو السكوت والقهر، قنت له بمعنى توفَّر عليه وذلَّ له واستجاب لأمره، كما في قول الله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، أي خاضعين ذليلين قد توفَّرتم عليه، فكلٌ؛ كل هذه العباد قانتٌ لله -تبارك وتعالى- ليس فيها شيء يتأبى على أمره -جل وعلا-، فكيف يكون منها ما هو ابنٌ لله! أو ولدٌ لله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، من صفة الرب -جل وعلا- أنه بديع السماوات والأرض، هذه فعيل بمعنى فاعل أي مبدع، مبدع السماوات والأرض، ومعنى مبدعها أنه أنشأها على غير مثالٍ سابق، فلم يكن لها مثال سابق، ثم إن الله خلق على هذا المثال السابق، كانت موجودة بصورة مثلًا أو بأخرى، وأن الله خلقها على تلك الصورة الموجودة لها، ولكنه أبدعها بمعنى أنه أنشأها بهذا النظام والبناء التي هي عليه، دون أن يكون لها صورةٌ سابقة، أو مثالٌ سابق، تعالى الله عن ذلك، أنه قد يكون قد نقل هذا الخلق، بل هو بديع السماوات والأرض، السماوات كل من علانا، والأرض ما تحتنا، كل هذه الله هو مبدعها بمعنى خالقها على غير مثالٍ سابق، {........ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[البقرة:117]، فالله -جل وعلا- مبدع السماوات والأرض، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}، أي أمر، ومعنى قضاه أي أنهاه وأبرمه، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، يقول لهذا الأمر كُن فيكون، أي الأمر لا يحتاج منه الوجود إلى كُلفَة، وإلى مشقة وإلى معالجة، أي لا يعالج الله -تبارك وتعالى- أمرًا كما المخلوق، فالمخلوق إذا أراد شيئًا فإنما يفكر فيه، ويخطط له ويعمل له ويعالجه، وينجح أحيانًا ويفشل أحيانًا، هذا شأن المخلوق، أما الله -تبارك وتعالى- لا، الله إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كُن بالأمر الإلهي، تكويني كُن فيكون، فيكون كما أراده -سبحانه وتعالى- وكما يشاء الله، ولا شيء يتأبى على الله -تبارك وتعالى-.

كما قال -جل وعلا- في هذا الخلق العظيم، قال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ........}[فصلت:12]، فهذا فعل الله مع مخلوقاته لا يتأبى عليه شيء، كما قال في تفصيل هذه الآيات، يقول الله –تبارك وتعالى- {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9]، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت:10]، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[فصلت:12]، فالله هو العزيز الغالب العليم بكل شيء، خلق خلقه هذا بغير مؤنة وبغير كُلفَة، وحفظه كذلك بغير اكتراث ومؤنة وكُلفَة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، أي حفظ السماوات والأرض، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، ولا يئوده أي يتعبه يكرثه يثقله حفظ السماوات والأرض، علمًا أنه حفظ السماوات والأرض حفظها على ما هي عليه، لا يقدر على هذا إلا الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41].

فإن هذا البناء العظيم المترامي الذي لا يعرف البشر له حد ولا نهاية، والقائم بمنتهى الدقة والحساب، فالشمس والقمر بحسبان، حساب عظيم في دورانها في كل جُرم في فلكه يدور لا يتخلف عشر معشار من الثانية واللحظة، ويمر عليه آلاف وعشرات الألوف وملايين السنين وهو على حاله المنضبط، فهذا صنع الرب -تبارك وتعالى-، صنع الله الذي أتقن كل شيء، فكل هذا الأمر دقيقه ودليله الله -تبارك وتعالى- إذا قضى أمرًا من هذه الأمور، سواء هذه الأمور العظيمة الكبيرة، أو أمر دقيق، كلها فإنما يقولك له كُن فيكون، وهذا الخلق وإبداع السماوات والأرض عمل دائم، عملٌ مستمر في كل لحظة، فإن الخلق في كل لحظة، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}[الرعد:9]، فالأنثى كل أنثى من إنسان وحيوان متى تحمل وكيف تحمل وكيف يصوَّر جنينها، كل هذا فعل الله -تبارك وتعالى-، كما قال عن نفسه -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6]، فهذا من دلائل اسم المصوِّر بس، انظر إلى كل هذه المخلوقات، الله يعطي كل مخلوقٍ صورته، وهو الذي يصوِّره، ولا يساعده أحد -سبحانه وتعالى-.

فالله بديع السماوات والأرض، فكيف يكون أي للإله الذي هذه صفته أن يكون له ولد! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا }، أي أمر من أموره الكونية القدرية، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، بالأمر يكون وليس بأن يعالجه وأن يصانعه وأن يقوم عليه وأن يتعبه ويكرثه، تعالى الله عن ذلك، طبعًا عند العلم بهذا يعلم مقدار الجريمة التي أجرمها الذين نسبوا الولد إلى الله، من اليهود ومن النصارى ومن مشركي العرب، مع ادعائهم العريض بأنهم أحباب الله، وأنهم أهله وأنهم أهل جنته وأهل رضوانه، ثم مع معاداتهم للنبي الحق المرسل من الله -تبارك وتعالى- بالهدى والنور، فيرتكبون كل هذه الجرائم، كفرهم بالله -تباك وتعالى- ونسبتهم الولد إليه، ومضادتهم لرسوله ودينه، ثم ادعائهم مع هذا أنهم أهل الله، وأنهم خاصته وأنهم أهل رضوان.

ثم قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[البقرة:118]، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، والذين لا يعلمون  هم العرب المشركون، لا علم لهم، ليسوا بأهل كتاب، وكذلك قال لكل من لا يعلم الرب -تبارك وتعالى- من أهل هذه الملل، هذا يصدق كذلك الذين لا يعلمون من جهلة ومن جهَّال اليهود والنصارى، {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، أي هلَّا كلمنا الله -تبارك وتعالى-، أي كفاحًا هكذا نسمع كلامه، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، وهذا من عظيم جهلهم بالله -تبارك وتعالى-، فهذا استكبار في أنفسهم وعلو في أنفسهم، وجهل بآيات الله -تبارك وتعالى- التي نصبها في كل مكان، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، مثل هذا القول الذي يدل على تعدي وإجرام واستصغار لشأن الرب العظيم الإله -سبحانه وتعالى-، فبدلًا من أن يسمعوا لرسوله، يسمعوا لكلامه المنزل على رسوله -صلوات الله والسلام عليه- والموجه إليهم، موجهٍ لكل أحد. فالقرآن رسالة الله -تبارك وتعالى- الموجه لكل أحد، بدأوا يستعظمون أنفسهم، ويتمنون أن يكلم الله –تبارك وتعالى- كلًا منهم كلامًا خاصًا، فيكلمهم هم، كل واحد يكلمه الله، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، والحال أن آياته أي آيات الرب -تبارك وتعالى- لا تحصى، وجودهم آية، أنفسهم آية، كل ما يرونه في السماوات والأرض آية، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} في الأمم السابقة، {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على هذا النحو، تشابهت قلوبهم في الكفر، قلوب هؤلاء وهؤلاء متشابهة في الكفر والعناد والتعالي عن أمر الرب -جل وعلا-، قال –جل وعلا- {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أي أن هؤلاء الذين طلبوا أدلة لله -عز وجل-، الله قد بيَّن آياته -سبحانه وتعالى- بما أنزله على رسوله، لكن لأهل اليقين، لمن يصدق فيوقن، أما من كان أداؤه التكذيب يرى الصدق ويرفضه، فهذا لا تنفعه لو جاءته كل آية فإنه لا يؤمن بالله -تبارك وتعالى-.

نقف عند هذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.