الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (340) - سورة الإسراء 55-59

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}[الإسراء:54]، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}[الإسراء:55]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا}[الإسراء:56]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57]، {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء:58]، هذا الفاصل من قول الله -تبارك وتعالى- {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}[الإسراء:54]، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}[الإسراء:55]، هذا جاء هنا هذا الفاصل في بيان توجيه الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين إلى أن يقولوا التي هي أحسن في خطابهم بينهم، وهذا توجيه بعد تلك التوجيهات التي مضت في هذه السورة من قال الله -تبارك وتعالى- {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:22]، إلى قوله -جل وعلا- {........ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:39]، هذا كذلك توجيه في قمة الآداب وفي الحكمة العليا أن يمتثل المؤمنون في خطابهم بين بعضهم البعض بالتي هي أحسن، تخير أفضل ما هو أحسن من الكلام، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}، وهذا قد ينزغ بكلمة، كلمة قد تخرج من الإنسان لأخيه لا يريد بها شرًا فينزغ بها الشيطان، يطيلها ويجعلها سهم في قلب أخيه فيحصل التنازع بينهم، لذلك أمر الله -تبارك وتعالى- بتخير أحسن العبارات في خطاب بعضنا بعضًا، {وَقُلْ لِعِبَادِي}، ونسب الله -تبارك وتعالى- هؤلاء العباد إليه تشريفًا لهم وتعظيمًا، {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا في كل قول وخاصة فيما بينهم، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، وهذا يعني من عداوته أنه جالس للإنسان عند كل لفظ وكل لكلمة يقولها فيحولها إلى ...، قد يحول هذه الكلمة إلى خصومة بين مؤمن ومؤمن.

ثم قال -جل وعلا- {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}، لا تزكين نفسك، الله -تبارك وتعالى- هو أعلم بالعباد -سبحانه وتعالى-، ولا يحتاج الله -تبارك وتعالى- أن يعلمه أحد من خلقه بخلقه -جل وعلا-، هو أعلم بعباده كلهم، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}[الإسراء:54]، فهو المتصرف في خلقه -سبحانه وتعالى- وهو المتوكل بخلقه، ولم يجعل أحدًا من عباده وكيلًا على أحد بما فيهم الرسول، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}، المتوكل بشئونهم فتجازي هذا أو تعاقب هذا وإنما هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى-، وبالتالي فالله -تبارك وتعالى- يضع كل أمر في نصابه، من إستحق الهدى هداه ومن إستحق الضلالة أضله، له الأمر -سبحانه وتعالى- والحكم في عباده، له الأمر من قبل ومن بعد والحكم في عباده -جل وعلا-، {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}، بالهداية والتوفيق والإرشاد، {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}، بالإضلال وبالتخلية للشيطان، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}.

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، فالله -تبارك وتعالى- أعلم بخلقه كلهم، من في السموات من الملائكة وغيرهم ومن في الأرض، وهذا يؤدي إلى التسليم لله –تبارك وتعالى- في كل أمر وأن الإختيار لله -جل وعلا-، وهو العليم بعباده -سبحانه وتعالى-، المهتدي على الحقيقة والضال على الحقيقة والمزكى على الحقيقة، هذا كله الحكم في ذلك كله إلى الله، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، ثم قال -جل وعلا- {........ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}[الإسراء:55]، هذا من حكمته -سبحانه وتعالى- أنه لم يجعل النبيين في طبقة واحدة؛ وإنما فضل بعضهم على بعض، ففضل أولي العزم من الرسل على غيرهم، وقيل أن أولي العزم من الرسل هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلوات الله والسلام عليه-، وفضل الخليلان؛ إبراهيم -عليه السلام- الذي جعله الله -تبارك وتعالى- للناس إمامًا {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، هذا أعظم درجة من درجات القرب من الله -تبارك وتعالى-، وكذلك نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- كما في الحديث «ولكن صاحبكم خليل الرحمن»، يقول النبي «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا»، يعني أخالِلُه؛ صديق يبلغ محبته درجة الخلة، قيل الخلة هي تخلل محبة الحبيب في داخل القلب، هذا بالنسبة للبشر، وبالنسبة لله –تبارك وتعالى- منزلة عظيمة وقرب عظيم من الله -تبارك وتعالى-؛ الخلة منه -جل وعلا-، فهو يحب ويخالل من عباده من يشاء، والخليل إبراهيم خليله ومحمد -صل الله عليه وسلم- خليله، يقول النبي «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لإتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم -يعني النبي نفسه- خليل الرحمن»، فأفضل الرسل الخليلان، ولا شك أن محمدًا -صل الله عليه وسلم- هو أفضل وأعلى منزلة من إبراهيم -عليه السلام- وإن كان أباه وإن كان قدوة، لكن الله -تبارك وتعالى- فضله على سائر الأنبياء والمرسلين بمفضلات كثيرة، ومن هذا أن الله -تبارك وتعالى- جعل له المقام المحمود الذي هو منزلته في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله؛ هو -إن شاء الله- نبينا -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال النبي –صل الله عليه وسلم- «فإن المقام المحمود أو الدرجة العالية الرفيعة منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو»، كذلك المقام المحمود الذي يقفه يوم القيامة، حيث يفضي كل الرسل والأنبياء بعد ذلك ويسندون الأمر إليه ليقوم هو بالمهمة العظمى؛ وهي الشفاعة لله -تبارك وتعالى-، يعني يشفع للعباد كلهم بين يدي الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء وإدخال أهل الجنة؛ الجنة، وهذه مهمة يتأخر عنها كل الرسل والأنبياء بدءًا بآدم -عليه السلام- إلى عيسى آخر نبي؛ الذي ليس بينه وبين محمد نبي، كلهم يقولون نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري، ويوكل إلى غيره إلى أن ينتهي الأمر إلى محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولذلك كان سيد أولاد آدم، كما قال -صل الله عليه وسلم- «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، فهو سيد ولد آدم -صلوات الله والسلام عليه-، فالله -تبارك وتعالى- فضل بعض النبيين على بعض، هذا تفضيل منه -سبحانه وتعالى- كما قال -جل وعلا- {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، يعني من كلمه الله، {........ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253]، فالرسل فضل الله -تبارك وتعالى- بعضهم على بعض، الأنبياء فضل الله -تبارك وتعالى- بعضهم على بعض، {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}، إختصاص، داود نبي وملك فضله الله -تبارك وتعالى- طبعًا بالنبوة، بالملك، بالحكمة التي علمه إياها، بكثير من المفضلات ومن ذلك قال {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}، والزبور مكتوب يكتب، هو مكتوب أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه، وهو كتاب ليس كتاب أحكام وإنما كتاب مواعظ ورقائق وحكم، وأتاه الله -تبارك وتعالى- له مع ما كان له من الصوت الحسن، وكان إذا قرأ داود زبوه المنزل إليه من الله -تبارك وتعالى- كان يخشع لصوته كل شيء ممن حوله، فالجبال تردد معه والطير تأتي فتصف إذا ديَّت، تصف بأجنحتها فوقه تردد معه، {........ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:10]، أوبي معه؛ رجعي معه، في ترجيعه "أه أه أه" في القراءة مع طول؛ ده الترجيع، فترجع معه الجبال وترجع معه كذلك الطير، فهذا منحة ومنة من الله -تبارك وتعالى-، قراءة هذا الزبور المنزلة إليه من الله -تبارك وتعالى- بهذا الصوت الجميل الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- إياه، فهذا فضل الله وعطائه لهذا العبد الصالح داود -عليه السلام-، {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}.

ثم بعد ذلك كهذا وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب مرة ثانية إلى المشركين؛ مناقشًا إياهم في عقائدهم الباطلة، قال -جل وعلا- {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا}[الإسراء:56]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57]، قل لهم {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}، ادعوهم؛ اطلبوا منهم ما تطلبونه، والذين زعمتم؛ الزعم هو القول الذي لا دليل يقوم عليه، هذا الزعم في كلام العرب، فهم زعموا أن الملائكة شركاء لله -تبارك وتعالى-، زعموا أنهم بناته -تعالى الله عن ذلك- وأنهم يعبدون وأنهم يتقرب بهم إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذه الآلهة؛ إتخذوهم آلهة من دون الله -تبارك وتعالى-، وإتخذوا غير الملائكة آلهة أيضًا من دون الله، فالله يقول لهم ادعوهم، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}، أي من دون الرب الإله الذي له الملك كله -سبحانه وتعالى-، {........ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا}[الإسراء:56]، لا يملك هؤلاء الذين تدعونهم كشف الضر، كشفه؛ رفعه عنكم، إذا وقع بكم ضر من مرض أو من محنه أو من جدب أو بلاء أو غير ذلك لا يملكون أن يكشفوا هذا الضر عنكم، ولا تحويلًا؛ تحويل البلاء، يعني مو كشفه ورفعه نهائيًا وإنما تحويله إلى أقل منه، يعني إلى شيء أخر، إلى أمة أخرى، إلى مكان أخر، لا يملكون هذا، فالكل غير الله -تبارك وتعالى- عاجز أن يصنع بنفسه وأن ينفع غيره إلا بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، فها دول لا يستطيع هؤلاء أن ينفونكم دون الله -تبارك وتعالى-، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}، أي آلهة تدعى من دون الله -عز وجل- {........ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا}[الإسراء:56].

ثم قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}، يعني أولئك الذي يدعونهم الكفار من دون الله -تبارك وتعالى-، فالذين يدعون؛ هذه جملة الصلة، أي لهؤلاء المدعويين؛ الآلهة التي ظنوهم آلهة، الملائكة وغيرهم الذين يدعونهم من دون الله، قال -جل وعلا- {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، يعني هم ساعون، يبتغون؛ يريدون، إلى ربهم؛ خالقهم وإلههم ومولاهم الله -جل وعلا-، الوسيلة؛ يعني السبيل والطريق الموصل إلى مرضاة الله -تبارك وتعالى-؛ الواسطة، يعني يتخذون كل الأعمال والأقوال ويسارعون في كل أمر يصل بهم إلى مرضاة الرب -تبارك وتعالى-، {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، السبب، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، يعني يتنافسون في القرب من الله -تبارك وتعالى- ويتسابقون لهذا، صورة من صور هذا التسابق؛ تسابق الملائكة إلى مرضاة الرب -تبارك وتعالى-، ما قاله النبي يومًا عندما صلى وسمع رجلًا يقول بعد ركوعه "سمع الله لمن حمده"، قال النبي فسمع ذلك القائل يقول "ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، فالنبي لما صلى قال من الذي قال آنفًا "ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، فقال أحد الصحابة أنا يا رسول الله ولم أرد إلا الخير، يعني هذا ذكر ذكرت به الرب -تبارك وتعالى- لا أريد به إلا الخير، فقال النبي لقد رأيت بضعة عشر ملكًا يبتدرونها إلى السماء أيهم يوصلها، يقول النبي رأيت بضع عشر ملكًا كلٌ يريد أن يسبق الأخر إلى السماء ليوصل ذلك إلى الرب -تبارك وتعالى-، ولا شك أن الرب أعلم منهم بما قال العبد ولكن هذه من الملك، الله -تبارك وتعالى- هذا ملكه وأقام الملائكة فيما شاء أن يقيمه فيه، ومما شاء أن يقيمه فيه أن يسمعوا الذكر وأن يرفعوه للرب -تبارك وتعالى-، وكذلك يكتبوا أعمال العباد ويرفعونها لله، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار»، يتعاقبون هؤلاء وراء هؤلاء، «يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم»، اللي هم بعد الفجر، فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- «كيف تركتم عبادي؟ فيقولوا يا رب أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون»، يعني أتيناهم عندما أتيناهم ها دول عباد أهل الصلاة وهم يصلون؛ يعني صلاة العصر، وتركناهم وهم يصلون؛ يعني صلاة الفجر، فهذا شهادة لهم، الرسول يقول فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم؛ هو أعلم بعباده -سبحانه وتعالى-، وكذلك يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن لله ملائكة يتبعون الذكر في الأرض»، يتبعون الذكر، «كلما رأوا قومًا يذكروا الله -تبارك وتعالى- جلسوا إليهم حتى يبلغوا أحيانًا العنان»، يعني السحاب من تجمعهم حول هذا الذكر، ثم إذا أتوا الله -تبارك وتعالى- يقولوا يا ربي ...، يعني يقول لهم ما يقول هؤلاء؟ يقولوا يا ربي يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، فيقال ديَّت، ويدعونك، قال بما يدعوني؟ قال يدعونك يعني يطلبون جنتك ويخافون عذابك، فقال هل رأوا جنتي؟ قالوا لا يارب، فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- كيف لو رأوها؟ قالوا يكونون لها أشد طلبًا، قال ويدعونك عن النار؛ عن عذابك، قال هل رأوا ناري؟ فيقولون لا يا رب، قال كيف لو رأوها؟ قالوا يكونون أشد منها فرارًا، فيقول الله -تبارك وتعالى- أشهدكم أني قد غفرت لهم، يعني هؤلاء القوم الذين شهد الملائكة لهم على هذه الشهادة، ونقلوا للرب -تبارك وتعالى- هذه الصورة من عملهم والله أعلم بالجميع -سبحانه وتعالى-، فيقول إشهدكم بأني قد غفرت لهم، فيقول ملك يا ربي فيهم فلان رجل خطاء، يعني في فلان كان موجود في الحلقة رجل خطاء وإنما ليس منهم، فيقول الله -تبارك وتعالى- هم القوم لا يشقى جليسهم، هم القوم؛ القوم الحقيقيين، قوم الله -تبارك وتعالى-، لا يشقى جليسهم، يعني من صاحبهم ولو ساعة، هذي بركة صحبتهم يدخل معهم وينال الجائزة التي نالوها، إذا وزعت الجائزة وقت توزيع الجائزة، هذي توزيع جائزة من الله -تبارك وتعالى- شهادة أن الله -تبارك وتعالى- قد غفر لهم فتشمله كذلك، رحمة من الله -تبارك وتعالى- وبركة بحضور هؤلاء الصالحين.

الشاهد من كل هذا أن الملائكة الذين يدعونهم الكفار هم ساعون جادون يعني هؤلاء الملائكة في القرب من الله -تبارك وتعالى- والزلفى منه ومتسابقون في هذا، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ........}[الإسراء:57]، يرجون رحمة الله -تبارك وتعالى-، يتمنونها، يطلبونها، يطمعون فيها، {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، ويخافون من عذاب الله كذلك، فهم راغبون لله راهبون منه هؤلاء الملائكة مع عظمتهم ومع قوتهم ومع ما آتاهم الله -تبارك وتعالى-، ثم قال الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، قال {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، إن عذاب ربك؛ هذا عذاب شديد، كان محذورًا؛ لكن من ذوي الألباب، من ذوي العقول، ممن يقدر هذا العذاب، والملائكة يقدرون هذا العذاب فهم في خوف دائم، كما قال الله عنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فهم يخافون الله -تبارك وتعالى- لعلمهم اليقين بقدرته العظيمة وكذلك عذابه الشديد -سبحانه وتعالى-، فهم يعلمون هذا ويقدرونه، وأما الجهلة من البشر والجن فإنه لا يخافوا ديَّت {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، حقيقيًا هذا يجب حذره ولكن من هؤلاء، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.

ثم قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء:58]، {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ}، كل قرية، وهذا تأكيد في عموم شمول هذا الحكم كل قرية، {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ}، يعني لن توجد قرية ما، إلا نحن؛ الله -تبارك وتعالى- الرب، {مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا}، إما الإهلاك بالإستئصال والنهاية أو يعذبها الله -تبارك وتعالى- عذابًا شديدًا؛ بأي صورة من صور العذاب، الفتن الداخلية التي تأكل بعضهم بعضًا، القحط الشديد، المرض، غير ذلك من الآفات، كما قال -جل وعلا- {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}، قال {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}، هذا الحكم الإلهي الكوني القدري قد سطره الله -تبارك وتعالى- في الكتاب، ولا شك أن هذا إنما هو واقع كذلك بعدل الله -تبارك وتعالى-، وبأنه لا يظلم أحدًا -سبحانه وتعالى-، وأن هلاك هذه القرى إنما هي بظلمها {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}، وهذا بيان أن هذه القرى يعني هذه المدن يعني هذه الأمم أنها سيقع منها الكفر، الفسوق، العصيان، ثم بعد ذلك يوقع الله -تبارك وتعالى- بها بأسه -جل وعلا-، كما قال -سبحانه وتعالى- في أول السورة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16]، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ}، يعني إل نزول القرآن،  {........ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:17]، فهذا إخبار الله -تبارك وتعالى- عن سنته السابقة في خلقه سابقًا في تدمير القرى الظالمة، ثم هذا في المستقبل قال -جل وعلا- {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، هذا من نزول القرآن إلى يوم القيامة، {........ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء:58]، ويدخل في هذه القرية كل قرية أنَّا يقع فيها هذا.

حتى المدينة المنورة التي هي من آخر قرى الإسلام تدميرًا، يكون هذا كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها، هذا في آخر الزمان»، يبقى القلة من المؤمنين فيأرزون إلى المدينة، والأرز هو السعي بشدة، وكأن هذا هو المعقل الأخير من معاقل الإسلام، إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها، إذا شافت الحية خطر فإنها تسعى سعي حثيث حتى تدخل الجحر الذي تظن أنها تأمن فيه، فكذلك حال أهل الإسلام، ثم مع ذلك تخرب قبل الساعة كما جائت الأحاديث بذلك، منها خرابها في فتنة الدجال، إذ يخرج سبعون ألف منها يلحقون بالدجال بعد أن يحصل فيها زلازل شديدة وكذا، يخرج للدجال خروج كثير، ثم كذلك أنها تخرب، أخبر النبي أنها تخرب قبل يوم القيامة؛ قبل الصاعقة، كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- «إن آخر من يصعق راعيان من مزينة ينعقان بغنمهما»، يأتيان يعني ليبيعانها إلى المدينة، يقول النبي «فيجدانها خرابًا ليس فيا إلى العوافي»، يعني ليس في المدينة ...، يجدون المدينة قد خوت ما في أحد من أهلها، وليس فيها إلا العوافي، العوافي اللي هي هذه السباع وما يعيش في البر من ديَّت، يعني يبقى فيها الحيات والعقارب والسباع وغير التي فيها، وتلحقهم عند إذا وصلوا الثنية؛ ثنية الوداع، تلحقهم الصاعقة فيقعان لوجههما، فهذا كله دليل على أن القرى حتى بما فيها المدينة وكذلك مكة كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- عن خراب الكعبة، وأخبر بأنه يخربها ذو السويقتين من الحبشة، السويقتين يعني الساقين الرفعين، يقول كأني به يعني بمعوله أو بفأسه فوق الكعبة يهدمها حجرًا حجرًا، فهذه القرى والمدن العامرة في الأرض تخرب قبل يوم القيامة، وقد رأى الناس كيف منذ نزول القرآن إلى هذا الوقت كيف دارت الحوادث ودمر الله -تبارك وتعالى- مدن كثيرة وأمم كثيرة بظلمهم وكفرهم، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ........}[الأنعام:65]، فالله -تبارك وتعالى- قد تكفل وأنذر بعقوبة كل من ينحرف عن طريقه وينثني ويبتعد، وإذا كثر الخبث عم البلاء، كما قال النبي «ويل للعرب من شر قد إقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلق النبي -صل الله عليه وسلم- بين أصبعه السباحة والمسبحة والإبهام، فقيل له يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم، إذا كثر الخبث»، فإذا كثر الخبث يأتي الهلاك، وكذلك ما أخبر النبي –صل الله عليه وسلم- مما يكون قبل الساعة من الهرج، قال النبي «يفشوا الزنا، يكثر النساء وتقل الرجال ويكثر الهرج، قيل يا رسول الله وما الهرج؟ قال القتل القتل، القتل القتل»، فتحصل أمور عظيمة من أمور الفساد في الأرض أخبر عنها النبي -صلوات الله عليه وسلم- وجاء بها، وهذا كله تفسير لهذا الوعيد الإلهي {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء:58].

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}[الإسراء:59]، كل هذا السياق في تهديد ووعيد هؤلاء الكفار المعاندين المكذبين بهذا القرآن والصادين عن سبيل الله، وهذه الآيات نزلت آيات مكية ينذر الله -تبارك وتعالى- فيها هؤلاء الذين وقفوا ضد هذه الدعوة، فيخبرهم -سبحانه وتعالى- بأنه قال –جل وعلا- {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ}، كم إقترحوا هؤلاء الكفار، {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، فإن الأولون إقترحوا آيات على رسلهم وأنها إذا جائتهم آمنوا، ثم لما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- ما إقترحوا من الآيات كذبوا، إذن لا يكون إلا الهلاك، مادام أنه قد إقترحوا شيء ليؤمنوا ثم يعطيهم الله -تبارك وتعالى- هذا الشيء وهذه الآية فيكذبوا؛ لا يبقى إلا أن يستأصلوا، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ}، أي في هذه الأمة على النحو الذي يقترحه الكفار، {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، بعد أن جائتهم، ثم قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}، هذا مثال، هذا مثال فإن ثمود؛ قبيلة ثمود العربية، قد طلبت ناقة من الجبل، أعطاهم الله -تبارك وتعالى- ما طلبوه ثم ظلموا بها، جحدوها، لم يؤمنوا، ثم قتلوها في نهاية المطاف، قال -جل وعلا- {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وما نرسل بالآيات؛ بهذه الآيات التي نحذر بها، وكذلك هذه الوعيد، إلا تخويفًا؛ لعلهم يخافون ويرعون ويتجهوا إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-.

نعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.