الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (342) - سورة الإسراء 66-75

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[الإسراء:66]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}[الإسراء:67]، {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}[الإسراء:68]، {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}[الإسراء:69]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق؛ سياق سورة بني إسرائيل، السبب الحقيقي الذي جعل الكفار يعاندون في كفرهم على هذا النحو، وهو إتباعهم لهذا الشيطان الذي صدق عليهم ظنه، وقال لله -تبارك وتعالى- في الملأ الأعلى {........ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، وأن الله -تبارك وتعالى- قال له {........ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[الإسراء:64]،{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}[الإسراء:65].

هنا أيضًا إستئناف لضلال من ضل من هؤلاء المشركين وصورة من صور عنادهم وبعدهم عن الحق، وهذه الصورة في إلتجائهم إلى الله -تبارك وتعالى- في وقت الشدة، ونسيانهم ربهم -سبحانه وتعالى- في وقت الرخاء، قال -جل وعلا- {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ........}[الإسراء:66]، ربكم؛ خالقكم رازقكم إلهكم -سبحانه وتعالى-، فهذا تذكير بأن هذه النعمة منه -سبحانه وتعالى-، يزجي؛ الإزجاء هو الدفع بسهولة ويسر، الفلك؛ وذلك بما سخر الله -تبارك وتعالى- به من هذه القوانين والنظم في طفو الأجسام على سطح الماء، وفي هذه القوة التي ...، قوة الريح التي بها تدفع السفن على سطح الماء، فقال -جل وعلا- {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ........}[الإسراء:66]، الفلك؛ السفن، قال -جل وعلا- {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، لتبتغوا من فضله بالسفر والتجارة ونقل البضائع من مكان إلى مكان، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي هيأ ذلك، هيأ البحر لهذا الأمر ووضع هذه القوة؛ اللي هي قوة الريح لدفع السفن، وهيأ الإنسان بما أعطاه من قدرات لصناعة هذه السفن، وهو خالق هذا وهو ميسره -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، إنه؛ الرب -تبارك وتعالى-، في تيسيره لكم وفي تسخيره للبحر على هذا النحو وتسخيره للريح، كان بكم رحيمًا؛ هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده، أن هيأ لهم هذه الوسيلة العظيمة لينقلوا بضائعهم وتجاراتهم وينتقلوا عبر هذه البسيطة.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ........}[الإسراء:67]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ}، الضر؛ الضرر، الإشراف على الغرق إذا هاجت الريح وماج البحر وإغتلم، وأيقن أصحابه أنه لا مخرج ولا منجى من هذا الأمر إلا بالله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، ضل عنهم يعني خلاص نسوا آلهتهم التي يدعونها في اليابسة ولم يلجأوا إلا للرب -سبحانه وتعالى-، الإله الذي يعتقدون أنه لا ينجيهم من هذا المأزق إلى هو -سبحانه  وتعالى-، ويخرجهم من هذا الضرر ومن ظلمات البحر إلا هو، قال -جل وعلا- {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، يعني عندهم يضل هذا؛ ينسون آلهتهم، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}، إذن لما استجاب الله -تبارك وتعالى- دعائكم وإلتجائكم إليه وهذا من رحمته -سبحانه وتعالى- أنه يجيب المضطر، كما قال -جل وعلا- {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ ........}[النمل:62]، فلما نجاكم إلى البر مستجيبًا لتضرعكم ودعائكم إليه -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {أَعْرَضْتُمْ}، أي عن الله -تبارك وتعالى-، والإعراض هو إعطاء العرض وديَّت، كأنه يمر لم يدعوا الله -تبارك وتعالى- عند هذا الضر الذي كان فيه وينسى هذا، قال -جل وعلا- {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}، طبيعة الإنسان هذا، طبيعة الإنسان الكافر، المعرض عن الله -تبارك وتعالى-، كفور؛ شديد الكفر، فإنه هنا الكفر أصل الكفر الستر والتغطية، يعني يستر ويغطي نعمة الله -تبارك وتعالى- ويجحدها وينسى هذا وهذا جحود عظيم، قال -جل وعلا- {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}، جاحدًا ناسيًا لإنعام الله –تبارك وتعالى- وإفضاله، وناسيًا هذا اللجء الذي إلتجأ به إلى الله -تبارك وتعالى- وكيف أنجاه الله -عز وجل-، لكنه ينسى هذا ويكفر نعمة الله -تبارك وتعالى- ولا يشكر الله -تبارك وتعالى- ولا يذكر هذه النعمة لله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ}، هل بالسلامة من البحر يكون الإنسان آمنًا من سخط الله -تبارك وتعالى- وعقاببه؟ هل البقاء على اليابسة أمن من العقوبة؟ فإن هذه اليابسة يستطيع الله -تبارك وتعالى- أن يخسفها، الخسف؛ هبوط هذه الأرض التي تظنوها يابسة، وأنكم في منجى عن هذا أن يصيبكم غضب الله -تبارك وتعالى- وعقابه على اليابسة، {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ........}[الإسراء:68]، من فوقكم وأنتم في البر، فيرسل عليكم حاصبًا؛ عذاب من فوقكم يحصبكم، والحاصب من الحصبة يعني حجارة تنزل عليكم من السماء، {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}، يعني إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يعاقبكم هذه العقوبة، فخسف بكم البر الذي أنتم عليه أو أصابكم من فوقكم، من الذي يتوكل شئونكم ويستطيع أن يدافع عنكم ويدفع عقوبة الله -تبارك وتعالى- عنكم، {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}، وكيلًا يتوكل بكم، يتولى شئونكم ويدفع عنكم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-.

{أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى}، أم هل تأمنون أن يعيدكم الله -تبارك وتعالى- تارة أخرى، يجعل لكم يعني حاجة وديَّت وأمر لابد أن تركبوا البحر مرة ثانية في تجارة أو في غيرها، فيعيدكم بأن تنشأ لكم رغبة وحاجة إلى ركوب البحر مرة ثانية، الذي ظننتم أنكم بعد أن أصابكم الهلاك فيه ودعوتم الله ونجاكم أنه إنتهى الأمر، ممكن أن تعاد فيه مرة ثانية، {أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}، هذه المرة يرسل عليكم قاصفًا من الريح، الريح القاصفة التي تقصف كل شيء، فيغرقكم بما كفرتم؛ أي بكفركم، فإنكم كفرتم بالله -تبارك وتعالى- عندما دعوتموه وأنجاكم، لم تذكروا هذا لله -تبارك وتعالى- ولم تعرفوا نعمة الله عليكم، {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}، ثم إذا حل بكم عقوبة الله على هذا النحو وأغرقكم الله -تبارك وتعالى- {لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}، أي متابع لهذا الأمر ومطالب لكم بتعويض، مطالب لكم بحق هذا الغرق، فإن الله -تبارك وتعالى- أغرقكم -سبحانه وتعالى- بما كفرتم ولا يستطيع أحد أن يرد أمر الله -تبارك وتعالى- عنكم، أو أن يطالب لكم بحق عند الله وليس لهم حق، لأن الله -تبارك وتعالى- إنما أغرقهم -سبحانه وتعالى- بكفرهم، {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]، هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بإنعامه وإفضاله على بني آدم، بني آدم؛ أولاد آدم، آدم النبي -صل الله عليه وسلم- أبو البشر جميعًا، الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض بيديه -سبحانه وتعالى- وجعل كل هذه البشر من ذريته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، تكريم بصنوف عظيمة من التكريم، أول هذا التكريم أنه أمره -سبحانه وتعالى- بالسجود لآدم؛ سجود الملائكة كلهم لآدم، وهذا تكريم لهذا الذرية كلهم في شخص هذا الأب الذي كرمه الله -تبارك وتعالى- هذا التكريم، كذلك من هذا التكريم قبل هذا خلق الله -تبارك وتعالى- آدم من طين هذه الأرض بيديه -سبحانه وتعالى-، ثم خلقه في السماء، ثم إسكان آدم في جنة الخلد وإخباره بأنها له وبعد ذلك لمن أطاع من ذريته، بعد أن أهبطه الله -تبارك وتعالى- إلى هذه الأرض بمعصيته، كذلك من هذا التكريم تكريم الله -تبارك وتعالى- لآدم بأن منَّ عليه بعد المعصية بالتوبة والإستغفار والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك لما أهبط الله -تبارك وتعالى- آدم لهذا الأرض، الله -تبارك وتعالى- سخر له ما في الأرض كلها وسخر له ما في السماء، فالأرض التي جعلها الله ممهدة له، التي أرساها الله -تبارك وتعالى- بالجبال، التي شق فيها الأنهار، التي أنبت فيها النبات، التي أنزل فيها الماء، أمور عظيمة، نعم هائلة من نعم الله -تبارك وتعالى- لا يستطيع البشر أن يحصيها، كلها من إنعام الله -تبارك وتعالى- وإفضاله على أولاد آدم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، بصنوف التكريم، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، هذا من التكريم كذلك أن جعلهم الله -تبارك وتعالى- محمولين على غيرهم، فمحمولين في البر على صنوف الحيوانات ثم بعد ذلك صنوف الآلات، على الإبل والحمير والبغال والخيل، هذه خلقها الله -تبارك وتعالى- لهم كما قال -جل وعلا- {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[النحل:8]، وعلى الأنعام قال -تبارك وتعالى- {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}[المؤمنون:22]، فالأنعام وعلى الفلك كذلك حملنا الله -تبارك وتعالى-، ثم قال ويخلق ما لا تعلمون من هذه الوسائل التي يركب ...، التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مسخرة للركوب، قال {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ}، بالأنعام والآلات، والبحر بهذه السفن، قال -جل وعلا- {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، في المآكل والمشارب والملابس والمناكح، كل هذه رزق من الطيبات، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فضلهم الله -عز وجل- على كثير من خلقه تفضيلًا عظيمًا جدًا بهذه الأنواع من أنواع التكريم، كثير ممن خلقنا ما قال على كل من خلقنا، وذلك أنه قد يكون هناك خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- أفضل من خلق البشر، الصحيح أن الملائكة خلق أعلى أصلًا وأرومة وقيامًا فيما أقامهم الله -تبارك وتعالى- فيه من العمل الصالح، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، وهذا تذكير بهذه النعم، الإنعام العظيم من الله -تبارك وتعالى- وذريته.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بالمآل فقال {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[الإسراء:71]، هذا تكريم بني آدم؛ الكل، هذا للجميع؛ لمؤمنهم وكافرهم، كرمهم الله -تبارك وتعالى- هذا التكريم ورزقهم بهذا الرزق العظيم للجميع، ثم بعد ذلك المآل قال -جل وعلا- {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}، هذا يوم القيامة، كل أناس؛ كل مجموعة من الناس، بإمامهم؛ بإمامهم رسولهم الذي أرسل إليهم ليدعوهم، وكذلك بإمامهم بكتابهم الذي أمروا أن يتبعوه ليكون هذا شاهد عليهم وحكم عليهم، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- في القرآن «والقرآن حجة لك أو عليك»، وقال -جل وعلا- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، وقال -جل وعلا- {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ........}[القصص:75]، فالله -تبارك وتعالى- سيدعوا كل أناس بإمامهم، قال -جل وعلا- {........ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[الإسراء:71]، أي أن الناس ينقسمون إلى قسمين فمنهم اللي هم أهل اليمين من يؤتى كتابه بيمينه، كتابه؛ كتاب أعماله، بيده اليمنى وهذا للتكريم، قال -جل وعلا- فأولئك؛ وذلك بالإشارة للبعيد تشريفًا لهم.

{يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، يقرأون كتابهم؛ قراءة سرور وحبور وفرح بما فيه، كما قال -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19]، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20]، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22]، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23]، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، فهؤلاء أهل اليمين الذي يؤتيهم الله -تبارك وتعالى- عندما تتطاير الصحف يأخذون كتابهم بأيمانهم، {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، أوتي؛ أعطي كتابه بيمنه، {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، الفتيل هو هذا الخيط الرفيع الذي يكون في بطن النواة؛ نواة التمر، النواة يكون عليها غلاف ويكون فيها فتيل؛ خيط عند شق النواة، فهذا لو أنه أدى هذا الجزء اليسير من العمل الصالح؛ من عمل صالح، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يظلمه، بمعنى أنه لا يحذفه ولا يخليه بل يكتبه الله -تبارك وتعالى- له ويحاسبه عليه ويأجره عليه، وهذا من إتمام نعمة الله -تبارك وتعالى- وفضل الله على عباده المؤمنين، أنه لا يضيع لهم مثقال ذرة من الخير، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.

{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}[الإسراء:72]، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ}، أي في هذه الدنيا، أعمى؛ أي عن الحق، عمي عن الحق ولم يره، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى}، تطمس بصيرته كذلك، أعمى عن الصراط إلى الجنة، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}، وذلك أن سبيله -عياذًا بالله- إلى النار، فسبيله ضال ومأخوذ به إلى جهنم -عياذًا بالله-، والعمى هنا عمى القلوب وليس عمى البصر، كما قال -تبارك وتعالى- {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فهذا العمى الحقيقي وإلا فعمى البصر قد يكون مع عمى البصر نور القلب وإشراقه وهدايته؛ فيكون مهدي إلى الصراط المستقيم، وأما من عمي قلبه فإنه لا تفيده أن تكون عيناه مفتوحتان؛ ما ينفعه هذا، لأنه القلب خلاص موصد عن الهداية، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى}، عن الحق، {........ فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}[الإسراء:72].

ثم وجه الله -تبارك وتعالى- للرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وفيها بيان إجتهاد هؤلاء الكفار حتى في صد النبي عن الحق، وفي محاولة صرفه بكل سبيل عن هذا الحق، وهذا كله سياق تعداد جرائم هؤلاء الكفار، انظر عماهم عن الحق إلى هذا النحو، بل إجتهادهم في حرف النبي وصرفه عن الحق، قال -جل وعلا- {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}[الإسراء:73]، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}[الإسراء:74]، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء:75]، فانظر إلى أي حد بلغ إجرام الكفار ومحاولتهم كل المحاولة أن يصدوا عن سبيل الله، حتى أنهم حاولوا هذا مع الرسول الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- وثبته على الدين، قال {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وهذا يبين إلى أي حد هو حرصهم وجدهم وإجتهادهم في تحويل النبي عن طريق الحق، وذلك أنهم كانوا مرارًا ما يأتون النبي -صل الله عليه وسلم- ويقولوا له بس نحن مستعدين أن نسمع إليك ولكن إصرف هؤلاء عنا، كيف نجلس مع عبيدنا وأرقائنا، إدفعهم عنا لجترئون علينا، قالوا يجترئون علينا إذا إستمعنا لك على هذا النحو، وكان هذا نوع من المحاولة مع الرسول -صلوات الله والسلام عليه- ليجذبوه إلى شيء قليل من طرفهم، أن يجلس إليهم، أن يستمع لهم لعلهم أن يهتدوا، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- حريصًا على أن يهتدي الناس بكل سبيل -صلوات الله عليه وسلم-، بل كان يشق عليه أعظم المشقة إنصرافهم عن الحق، كما قال -جل وعلا- له {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وقال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ........}[الإسراء:73]، كما قالوا إإتي بقرآن غير هذا أو بدله، قال -جل وعلا- {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}، يعني لو أنك وافقتهم على شيء مما يدعونك إليه خلاص يتخذونك خليلًا، فيخاللونك ويصادقونك على هذا النحو، والحال أنهم ليست خصومتهم مع الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وإنما مع الحق الذي جاء به النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {........ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]، جحودهم بآيات الله -تبارك وتعالى-، وإلا فإن النبي قبل أن يأتي بهذه الرسالة كان عندهم هو الصادق وهو الأمين ولم يكن هناك خصومة بينهم وبينه، ولذلك كل كراهتهم إنما هو لهذا الحق الذي جاء به بدون أن يحولوا النبي ويصرفوه عن هذا الحق ليكون في النهاية ...، يعني ليتخذوه في النهاية خليلًا لهم {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}.

قال -جل وعلا- {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}[الإسراء:74]، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء:75]، ولولا أن ثبتناك على الحق وألا يتنازل لهم عن شيء حتى مجرد أن يجلسوا معه مجلسًا خاصًا، دون أن يكون معه هؤلاء الذين يحتقرونهم من عبيدهم ومن أرقائهم وممن يستصغرون شأنهم، ما وافقهم النبي -صل الله عليه وسلم- على هذا، وقال له الله -تبارك وتعالى- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، وقال له الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، الأغنياء بهؤلاء الفقراء، {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، قال -جل وعلا- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، فهؤلاء كان هؤلاء الكافر مفتونون يقولون لو كان هذا الدين حقًا وخيرًا ما سبقنا إليه العبيد والأرقاء وهؤلاء بادي الرأي منَّا، الذين لا رأي لهم وديَّت، أما نحن أهل الحجى وأهل العقل كيف نحجب عن هذه، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، قال -جل وعلا- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، قال -جل وعلا- {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}[الإسراء:74]، إذن لو أنك ركنت إليهم في شيء قليل ومثل هذا اللي هو أن يجعل لهم مجلس خاص، أو أن يجعل النبي وجهه لهم ويترك هؤلاء ويطرد هؤلاء الفقراء عنه.

قال -جل وعلا- {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ........}[الإسراء:75]، يعني عذابًا مضاعفًا في الحياة وعذابًا مضافعًا بعد الموت، وذلك أنه كلما شرف الإنسان وعلا قدره كلما كان الذنب أعظم، يصير يتعاظم الذنب بتعاظم المنزلة، كما في قول الله -تبارك وتعالى- لنساء النبي {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[الأحزاب:30]، يضاعف لها العذاب ضعفين للمنزلة والمكانة التي هي فيه، فإنه إذا عوقبت إمرأة من النساء المؤمنات على معصية من المعاصي، فإن هذه المعصية مثلها إذا وقعت نساء النبي الذي لهن ههذ المنزلة فإنها تعاقب ضعفين من عقوبة الأخرى، قال -جل وعلا- {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء:75]، لا تجد هناك من ينصرك علينا، والنبي -صل الله عليه وسلم- حاشاه -صل الله عليه وسلم- أن تذل قدمه، بل هو المعصوم بعصمة الله -تبارك وتعالى- والمؤيد بوحي الله -تبارك وتعالى-، ولكن هذا الخطاب لبيان إذا كان النبي نفسه يخاطب بمثل هذا الخطاب فلا شك أن غيره من طريق الأولى والأحرى، فإن الله -تبارك وتعالى- يؤاخذ بالذنب ويعاقب به، وأنه لابد من الإستقامة على أمره -جل وعلا-.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أيضًا في السياق بيان شدة عناد هؤلاء الكفار ومحاولتهم صرف النبي بالتهديد، يعني أرادوا أن يصرفوه بالوعيد وبالترغيب حتى الترغيب في أنه ممكن يهتدوا وممكن يدخلوا معه في هذا الدين، وهنا كذلك بالتهديد ومحاولة إزالة النبي عن وجه الأرض، وهذا كله السياق في بيان شدة معاندة هؤلاء الكفار للحق، وإصرارهم على ما هم فيه من الشرك والعناد لله -تبارك وتعالى-، وهذا هو صنيعهم مع الرسول -صلوات الله والسلام عليه-.

نكتفي بهذا ونأتي -إن شاء الله- إلى تمام هذا السياق في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.