{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن إهتدى بهداه وعمل بنسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:76]، {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[الإسراء:77]، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}[الإسراء:80]،{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن عناد هؤلاء الكفار ومحاولتهم صرف النبي -صل الله عليه وسلم- عن الدين بكل سبيل، فمن ذلك محاولتهم بالترغيب واستمالة النبي إلى موقفهم بكل سبيل، كما قال -جل وعلا- {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}[الإسراء:73]، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}[الإسراء:74]، وذلك عندما عرضوا عليه أن يجعل لهم مجلسًا خاصًا وأن يخاطبهم، وأن يطرد هؤلاء المؤمنين من الضعفة والمساكين عنهم، وقالوا لا نجلس مع أرقائنا وعبيدنا، وأظهروا له من أنواع المودة ليستدرجوه، محاولين أن يستدرجوا النبي -صل الله عليه وسلم- إلى مواقفهم بهذا النوع، وقد ثبت الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلوات الله والسلام عليه- وقال له {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، وقال له {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، فهذا في جانب محاولتهم إستمالة النبي -صل الله عليه وسلم- وإخراجه عن الطريق الصراط الذي رسمه الله وشرعه الله -تبارك وتعالى- له.
الأمر الأخر محاولتهم إزالة النبي من الوجود وإخراجه من مكة والوقوف في وجه دعوته بكل سبيل، قال -جل وعلا- {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ........}[الإسراء:76]، {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ}، إستفزاز النبي -صل الله عليه وسلم- وهو بالضغط عليه، بالتعذيب، بالأذى الذي ناله -صلوات الله والسلام عليه-، فقد إتهموه بكل أنواع الإتهامات، أنه مجنون وأنه ساحر، أنه إفترى هذا الذي جائه وآذوا أصحابه وشتتوهم في البلدان، قال -جل وعلا- {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}، يخرجوك منها؛ من أرض مكة، قال -جل وعلا- وإذن لو أنهم هذا {لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}، يعني أنهم لو فعلوا هذا بالنبي وأخرجوه رغمًا عنه من أرض مكة وإضطروه للخروج لأزالهم الله -تبارك وتعالى- من الوجود، وإذًا لا يلبثون خلافك؛ يعني في مكانك في مكة، إلا قليلًا؛ إلا وقتًا قليلًا.
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ........}[الإسراء:77]، يعني هذي سنة الله -تبارك وتعالى- في كل الرسل، أنه إذا وضعهم الكفار في الموضع النهائي وقالوا لهم إما أن تسكتوا عما جئتم به وإلا أهلكناكم أو عذبناكم، فعند ذلك يكون الإستئصال لهم من الله -تبارك وتعالى-، {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[الإسراء:77]، يعني أن سنة الله -تبارك وتعالى- وعادته في عقوبة الكفار وأنهم لو تحدوا رسولهم ومنعوه من الرسالة أو أخرجوه من قريته، فإذن لابد أن يهلكهم الله -تبارك وتعالى-، كما قال قوم لوط له {........ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167]، ولما كانوا معه على هذا النحو؛ إما أن ينتهي وإلا أن يخرجوه من الأرض، فعند ذلك أتى الأمر الإلهي بإزالتهم من الوجود، وكذلك قبله قوم نوح الذين قالوا له {........ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116]، فعند ذلك دعى الله -تبارك وتعالى- فكان ما كان، أنجاه الله -تبارك وتعالى- وأهلك الظالمين، وهكذا كل الرسل، قال –جل وعلا- {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}، أي يكون مع هؤلاء المجرمين من كفار قريش وكفار العرب؛ يكون معهم ما كان من الأمم السابقة، فإن الله -تبارك وتعالى- يهلكهم، لذلك يسر الله -تبارك وتعالى- لنبيه أن يخرج بنفسه مهاجرًا إلى الله -تبارك وتعالى- من أوساط هؤلاء الكفار، وألا يكون هذا الأمر بإخراج منهم؛ أن يخرجوه أو يسكتوه، فيكون إهلاك؛ يكون يعني هلاك لهم، قال -جل وعلا- {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[الإسراء:77].
بعد هذا وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- عناد الكفار، هنا وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب لنبيه -صلوات الله والسلام عليه- ليستقيم على أمره وليجتهد في عبادة ربه، وكذلك في العبادة الواجبة عليه وعلى سائر المسلمين، ووجه الله -تبارك وتعالى- إلى كذلك نافلة، أوجبها عليه -سبحانه وتعالى- من قيام الليل لتكون هي المعراج له إلى المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، قال -جل وعلا- لرسوله {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، أمر من الله -تبارك وتعالى- بإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، ودلوكها اللي هو زوالها عن كبد السماء وتنحيها إلى جهة الغرب، وهذا آذان وقت الظهر ثم يأتي بعده وقت العصر، ووقتهما واحد وهو عندما يصبح ظل كل شيء مثله، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ........}[الإسراء:78]، غسق الليل يبدأ بغروب الشمس هذي صلاة المغرب، وغسق الليل اللي هو عندما تأتي ظلمة الليل وهذه عندها نهاية الغسق وبداية الشفق؛ هذه صلاة العشاء، فهذه صلاة الليل؛ المغرب والعشاء، ثم قال –جل وعلا- {........ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، سمى الله -تبارك وتعالى- صلاة الفجر قرآن الفجر لما شرع فيها من إطالة القراءة، وهذا وقت الفجر اللي هو وقت إنشقاق النور وظهوره في الأفق، قال -جل وعلا- معقبًا على هذا -جل وعلا- {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}، تشهده الملائكة، هذا أمر محضور؛ محضور تحضره الملائكة، وهو كذلك أفضل الأوقات كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، فيعرج الذين باتوا فيكم»، اللي هو من صلاة الفجر، «فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ يقولوا يا ربي أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون»، فالملائكة تشهد هذه الصلاة، والله -تبارك وتعالى- الشهيد على عباده في كل وقت، وهذه شهادة خاصة من الرب -تبارك وتعالى-، يعني إعلموا أن الله -تبارك وتعالى- وملائكته يشهدون هذه الصلاة المحتفى بها والمعتنى بها، {........ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، فهذه ثلاث أوقات؛ صلاة الظهر والعصر هذي وقتهم واحد وهو بعد دلوك الشمس وتحولها إلى الغرب، وصلاة المغرب والعشاء اللي هو غسق الليل؛ بداية الغروب ونهاية الشفق، ووقت صلاة الفجر، ولذلك يجمع بين صلاة العصر وصلاة الظهر، شرع النبي الجمع في السفر، وأما في الحضر فإن النبي -صل الله عليه وسلم- قد بيَّن وقت هذه ووقت هذه، وقد جاء في الصحيح الصلاة بين هذين الوقتين لما جاء جبريل وعلم النبي مواقيت الصلاة على أنها خمس، وحافظ النبي -صل الله عليه وسلم- على أن يصلى الصلوات الخمس كل صلاة في وقتها، إلا ما جائت به الرخصة من جمع الصلاتين النهاريتين الظهر والعصر في وقت إحداهما؛ في وقت الظهر أو في وقت العصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما كذلك، فقد جمع النبي العشاء إلى المغرب وجمع أحيانًا المغرب إلى العشاء -صلوات الله والسلام عليه-، وأما الفجر فإنها صلاة مستقلة تصلى في وقتها فقط، ولا تجمع مع غيرها، فهذه أمر من الله -تبارك وتعالى- بإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، وهي أشرف ما وضع الله -تبارك وتعالى- للبشر من العمل، الصلاة غير موضوع، وأعظم الصلوات هي الصلوات المفروضة الخمس، والتي فرضها الله -تبارك وتعالى- على نبيه في السماء يوم عرج به -صلوات الله والسلام عليه-، وقال له الله -تبارك وتعالى- «إني إفترضت عليك وعلى أمتك خمس صلوات في اليوم والليلة».
ثم بعد ذلك هذي صلاة النافلة، قال -جل وعلا- {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ}، التهجد هو ترك الهجود، والهجود هو النوم، وأن تترك الهجود للصلاة، به؛ بالليل، يعني في أوقاته، {نَافِلَةً لَكَ}، النافلة اللي هي الزيادة عن الفريضة؛ زيادة على هذه الصلوات الخمس، وقول الله -تبارك وتعالى- لك ليدل هذا على أن فرضية هذا إنما على النبي وحده -صلوات الله والسلام عليه- وليس على سائر الأمة، وهذا طبعًا بعد نزول سورة المزمل التي كان فيها صلاة الليل على الجميع، كما قال –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، وهذا وإن كان الخطاب موجه للنبي اللي هو المزمل -صلوات الله والسلام عليه- الذي سماه الله يا أيها المزمل، إلا أن الخطاب للنبي إذا لم يكن فيه ما يدل على الخصوصية فإنه عام للأمة كلها، ولذلك قام النبي وقام معه المؤمنون بهذا الأمر الإلهي، حتى أنزل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في ختام هذه السورة؛ ونزل آخرها بعد ثمانية أشهر، اللي هي قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، علم أن لن تحصوه؛ يعني أن تصلوا طيلة عمركم في الليل كما أمركم الله –تبارك وتعالى- من ثلثي الليل إلى ثلثه، أقل شيء الثلث وأكثر شيء ثلثين، {........ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المزمل:20]، فهذه الآية اللي هي آخر سورة المزمل أنزلها الله -تبارك وتعالى- بعد ثماني أشهر من فرض صلاة الليل على المسلمين، وهنا في تذكير الله -تبارك وتعالى- لرسوله وأمره له بقيام الليل أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه لك، يعني هذي خاص بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ويبقى في حق الأمة يبقى مستحبًا، ولكن قول الله للنبي {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، وعسى من الله -تبارك وتعالى- لا شك أنها للتحقيق، إذا قال الله عسى أن يصنع بك كذا هذا لا شك أنه أمر محقق، غير عسى بالنسبة للبشر، يعني إفعل كذا عسى أن آتيك غدًا يعني هذا للترجي، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن لا يرجوا أحدًا، بل إذا قال الله -تبارك وتعالى- عسى فإنها حتمًا للتحقيق، {........ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79].
يبعثك ربك مقامًا محمودًا؛ فسر هذا المقام المحمود بأنه المقام الذي يقوم به بين يدي الله -تبارك وتعالى- مستشفعًا للعباد ولأمته -صل الله عليه وسلم- بدخول الجنة، فإن الناس تفزع من هول الموقف يوم القيامة فيلهمون أن يستشفعوا غلى الله -تبارك وتعالى-، فيلهمون أن يذهبوا إلى آدم ويعتذر لهم آدم يقول أنا قد عصيت ربي، لست لي إلى هذا الأمر، يقول لهم هل أخرجكم من الجنة إلا معصية أبيكم، نفسي نفسي نفسي ...، إذهبوا إلى غيري، إذهبوا إلى نوح فيذهبون إلى نوح ثم بعد ذلك نوح يعتذر، ثم إلى إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، ثم في النهاية إلى عبد الله ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، فعند ذلك يقول النبي أنا لها، ويقوم النبي -صلوات الله والسلام عليه- فيسجد تحت عرش الله -تبارك وتعالى- ويدعوا، يقول النبي «يلهمني الله -تبارك وتعالى- من تسبيحه وتحميده أشياء لا أعلمها الآن، ثم يقال يا محمد إرفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع، فأقول يا ربي أمتي أمتي، فيقال له أدخل ما لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن في الجنة، وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب»، وهكذا يأتي بعد ذلك دخول أهل الجنة، فهذا المقام المحمود بين يدي الله -تبارك وتعالى- والذي يحمده عليه المؤمنون من كل الأمم، وذلك أنه الوحيد الذي إستشفع لهم عند الله وقبلت شفاعته من الرب الإله -سبحانه وتعالى-، الذي قال له «يا محمد إرفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع»، كذلك من المقام المحمود الذي إدخره الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلوات الله والسلام عليه- المنزلة في الجنة، وقد بيَّن هذا الحديث قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إذا أذن المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة والفضيلة، فإن الوسيلة درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو»، فهذي الله -تبارك وتعالى- جعل في الجنة منزلة؛ مكانة في الجنة، جعلها الله لعبد واحد فقط من عباده -سبحانه وتعالى-؛ من كل أولاد آدم، لا يبلغها إلا واحد والنبي قال أرجوا أن أكون أنا هو، أرجوا أن أكون أنا الذي يفضلني الله -تبارك وتعالى- بهذه المنزلة العالية في الجنة، التي لا يبلغها ولا ينزلها إلا عبد واحد من عباد الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أنه هو رسولنا محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، فكان قيام الليل هو المعراج إلى هذه الرفعة والرضوان من الله -تبارك وتعالى-، أمره الله بالصلوات الخمس وأمره -سبحانه وتعالى- بقيام الليل، ليبلغ عند الله -تبارك وتعالى- هذه المنزلة العظيمة، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79].
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}[الإسراء:80]، توجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يدعوا بهذا الدعاء الجامع، ربي؛ يعني يا ربي، {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}، فيكون كل مدخل للنبي إنما هو مدخل صدق، فكل دخول له يكون إلى الخير وإلى مدخل الصدق، فالصلاة والصيام والزكاة والحج والبر كلها مداخل صدق إلى العمل الصالح، {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، وأخرجني من كل أمر في مخرج صدق، فأي خروج وأي دخول يعني أي دخول في عمل وأي خروج منه إنما هو حسب الأمر الإلهي؛ كما أمر الله -تبارك وتعالى- وكما شرع، فيكون مدخل النبي ومخرجه -صلوات الله والسلام عليه- إنما هو في الحق الذي أحقه الله -تبارك وتعالى-، {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}، إجعل لي من لدنك؛ من عندك، سلطانًا نصيرًا؛ أنصر به، سواء في جدال مع الكفار، في إقامة حجة، في أي أمر أن أكون مؤيدًا من عندك بسلطان، سلطة وقوة وأمر قاهر ينصره الله -تبارك وتعالى- به، واجعل لي من لدنك؛ من عندك، سلطانًا نصيرًا.
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ........}[الإسراء:81]، جاء الحق؛ خلاص إذا جاء الحق زهق الباطل، جاء الحق؛ هذا فينزول هذه الرسالة على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وما أتى في هذا هو الحق، وزهق الباطل؛ طبعًا هذي الجملة جملة خبرية وهي في نفس الوقت دعاء، وهي خبر يراد به البشرى وأنه قد جاء الحق وزهق الباطل، الزهوق؛ الموت، كما قال -جل وعلا- {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، وزهق الباطل؛ إضمحل ومات، {........ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، هذه طبيعته لا يمكن يبقى، الباطل لا بقاء له؛ بل هو زهوق، إذا جاء الحق على طول إضمحل وإنتهى، فكأن مجيء الحق هو قتل للباطل وهذا قد كان، فإنه عندما جاء الحق بدعوة هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن الباطل الذي كان قائم على طول ذهب، وأما إذا تأخر الحق ولم يأتي فإن الباطل ينتفش ويكبر، وفي بيان زهوق الباطل ضرب الله -تبارك وتعالى- مثل بهذا وقال {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم:26]، فالباطل لا قرار له كالشجرة التي يكون لها جذر صغير على وجه الأرض، فبمجرد أن تجتث ولو بالقدم؛ لو بقدم الماشي، إجتثها إجتثت وإنتهت، أما الحق فإنه راسخ رسوخ الجبال، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- مثل لرسوخ الحق برسوخ النخلة في الأرض، كما قال -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:24]، {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ........}[إبراهيم:25]، والله بكل شيء عليم، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ}، هذا الذي وحي الله -تبارك وتعالى- ودينه الذي نزل على النبي، {........ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- هذه الكلمة يوم دخل مكة منتصرًا فاتحًا، في السنة الثامنة من هجرته -صلوات الله والسلام عليه-، أخذ الرمح وكان وهو يطوف يضرب الأصنام التي كانت فوق الكعبة فتسقط مهشمة، ويقول {........ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، جاء الحق بهذا التوحيد والدين وعبادة الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله، وزهق الباطل؛ عبادة هذه الأصنام، التي عبدها عابدوها فوقعت على وجوهها منتهية، وقال -جل وعلا- {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، هذا بيان لهذه النعمة العظمى، بعد أن وجه الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين إلى الصلوات الخمس وإلى قيام الليل، وأن الحق قد جاء والباطل قد زهق، بيَّن أن هذا القرآن؛ هذا هو سبيل الهداية وطريقها، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ........}[الإسراء:82]، القرآن؛ كلام الله -تبارك وتعالى-، سمي قرآنًا لأنه المقروء؛ الذي يقرأ، ما هو شفاء؛ شفاء من هذه الأدواء العظيمة، أولها داء الكفر والشك والشرك هذه أدواء العظمى، فكل ما يصيب القلب من هذه الأمور العظيمة التي تقتله وتمرضه لا شك أنه شفاء منها؛ لمن قبل هذا الشفاء، فكل من يقبل هذا الحق ويأخذه فإنه يبرأ من كل هذه الأمراض، ما هو شفاء ورحمة لكن للمؤمنين؛ المؤمنين به، يعني من يصدقون هذا القرآن وأنه كلام الله حقًا وصدقًا فإن الله -تبارك وتعالى- يزيل منهم كل هذه الأمراض التي تكون في قلوبهم، من الشك والشرك والكفر والنفاق وسوء الأخلاق وذلك بالتوجيه الصحيح، أولًا أن القرآن برهان من الله -تبارك وتعالى-، لم يترك شيئًا مما يحتج به الكفار من دينهم الباطل إلا وقد دمغه وبيَّن بطلانه، كما قال -جل وعلا- {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ........}[الأنبياء:18]، قال {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، وكذلك المواعظ التي فيه؛ مواعظ أهل الإيمان، والتذكير بيوم القيامة والتذكير بهذا والتذكير بمآل الإنسان، وكذلك وعد الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين بالجنة والرضوان، وحثهم على فعل الخير لينالوا ما ينالوا مما عند الله -تبارك وتعالى-، كل هذا يشفي القلب، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124]، برحمة الله وبفضله وإنعامه وموعوده، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، {قُلْ هُوَ}، أي القرآن، {........ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44]، قال -جل وعلا- {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، لا يزيد القرآن الظالمين إلا خسارًا، الظالم وهو الذي وضع الأمر في غير محله، الظالم لنفسه بالجحود والنكران والكفر، فالذي جعل محل التصديق ...، الذي كان يجب التصديق وأخذ كلام الله -تبارك وتعالى- على محمل الجد وأنه الصدق والخير، لكنه ظلم نفسه فرفض هذا القرآن، فهذا لا يزيده القرآن إلى خسارًا، وذلك أنه خلاص يزين له الشر، يستهزئ بآياته، كما هو الشأن في الكفار المعاندين فإنه لم يزدهم سماعهم للقرآن وبراهينه وحججه إلا إنطماس في بصائرهم وبعد عن الحق، كما قال الله -تبارك وتعالى- في اليهود والنصارى المكذبين {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، فيزدادون طغيانًا وكفرًا بالذي أنزل من الله -تبارك وتعالى-؛ وكان هذا حال المنافقين، كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124]، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82].
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من عباده المؤمنين، وأن نزداد بكتابه إيمانًا وبرهانًا ويقينًا، وأن يجعله الله -تبارك وتعالى- شفاءً لما في صدورنا، نستغفر الله ونتوب إليه، ونقف عند هذا والحمد لله رب العالمين.