{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على بعده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}[الإسراء:83]، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء:84]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85]، {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}[الإسراء:86]، {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}[الإسراء:87]، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه إذا أنعم على الإنسان قال {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ........}[الإسراء:83]، وهذا شأن الإنسان الكافر، فإن الله -تبارك وتعالى- ينعم عليه بشتى النعم ولكنه يعرض عن ربه وإلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-، أعرض؛ أي عن الحق، ونأى؛ إبتعد، بجانبه؛ يعني بجانبه عن الحق، وهذا تصوير لنأي الكافر عن الصراط المستقيم وعن دعوة الله -تبارك وتعالى- إليه بالإيمان والعمل الصالح، قال {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}، وإذا مسه؛ والمس هو أدنى الإصابة، الشر؛ أي شر، كان يؤسًا؛ قنوطًا، قاطع الأمل في أن ينتهي هذا الشر منه، وهذا كقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19]، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20]، {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}[الإسراء:83]، ولا يخرج عن هذا الخلق إلا أهل الإيمان، فإن المؤمن إذا أنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بالنعمة فإنه يرد ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، يمتلئ قلبه شكران لله -تبارك وتعالى- وتعظيمًا له، وكذلك إذا مسه شر فإنه يستشرف رحمة الله -تبارك وتعالى-، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله -تبارك وتعالى- قد إختار له الخير بذلك وأنه سيعوضه، وأن الشر ليس هو نهاية المطاف وإنما سيأتي بعده فرج، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5]، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6]، فحال المؤمن غير هذا الحال، الله -تبارك وتعالى- هنا يخبر عن حال الإنسان الكافر {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}[الإسراء:83].
قال -جل وعلا- {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، قل لهم كلٌ؛ أي منَّا ومنكم، يعمل على شاكلته؛ يعمل في هذه الدنيا على شاكلته، على من هم على أشكاله، فأهل الكفر سيعملون عمل الكفار ويقعون على أضرابهم وعلى أشباههم فيه، وأهل الإيمان سيعملون بعمل أهل الإيمان، ويحبون ويصادقون أهل الإيمان ويسيرون في طريق أهل الإيمان، وكما قيل ((الطيور على أشكالها تقع))، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء:84]، فربكم؛ خالقكم ومولاكم ورازقكم ومتولي شئونكم -سبحانه وتعالى- وسيدكم، هو أعلم بمن هو أهدى سبيلًا؛ منا ومنكم، وذلك أن هؤلاء الكفار كانوا مع كفرهم وعنادهم وهذا الله -تبارك وتعالى- قد أتى في هذه السورة بسجل دائم لجرائمهم وقلة عقولهم وذهابهم إلى الشرك مع وضوح التوحيد، ومع هذا الذي كانوا فيه كانوا يظنون أنهم أهل الصراط وأهل الطريق الصحيح، وأنهم هم الذي على المنهج القويم وأن النبي صابئ وخارج عن طريق الحق والطريق القويم، فهنا في هذا الأمر، في نهاية الأمر إلزام لهم بأن يسلكوا المسلك الذي إختاروه وسيعلمون نهاية ذلك، والله -تبارك وتعالى- هو أعلم بمن هو أهدى سبيلًا؛ أي منا ومنكم، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء:84].
ثم قال -جل وعلا- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85]، هذا نوع أيضًا كذلك من أسئلتهم وتعنتاتهم للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، سؤالهم عن الروح؛ حقيقتها، وهنا يصرفهم الله -تبارك وتعالى- عن إجابة هذا السؤال بأن هذا الأمر هو من شئون الله -تبارك وتعالى-، وأنه من العلم الذي إستأثر الله -تبارك وتعالى- به ولا يطلع خلقه عليه، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، حقيقة الروح، وهي هذا السر الإلهي الذي يكون في هذا المخلوق فإذا خرج منه أصبح جثة هامدة؛ يموت، ما هذه الروح؟ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، قال -جل وعلا- {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، من أمر ربي؛ أمر إما أن يكون هنا يعني مفرد الأمور بمعنى أنه من شأن الله -تبارك وتعالى-، أو من أمر ربي اللي هو مفرد الأوامر؛ أي أنها مؤتمرة بأمر الله -تبارك وتعالى-، وهذا وهذا حق فإنها بأمر الله -تبارك وتعالى- تكون خلقًا موجودًا ونفخًا في الجسد وخروجًا منه، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، فالروح من أمره -سبحانه وتعالى- وكذلك من شأنه -جل وعلا-، أي مما إستأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه ولم يطلع خلقه على حقيقتها، {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، يعني إن الله -تبارك وتعالى- لم يؤتي الخلق أو البشر من العلم؛ العلم اللي هو العلم الإلهي المحيط بكل شيء، إلا قليلًا جدًا من العلم هو الذي ديَّت، كما قال -جل وعلا- {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فلا أحد يحيط بشيء من علم الله -تبارك وتعالى- إلا بما شاء الله -تبارك وتعالى- أن يطلع الخلق عليه، ومن فضل الله –تبارك وتعالى- وإنعامه وإحسانه أن جعل هذا الأمر بيده -سبحانه وتعالى-، بل تحدى الله -تبارك وتعالى- الخلق بأن يتحكموا في الروح.
وأخبر -سبحانه وتعالى- قال {........ إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}[الواقعة:86]، {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة:87]، ترجعونها؛ أي الروح إلى الجسد مرة ثانية، فهذا الأمر من شأن الله -تبارك وتعالى- نفخًا في الجسد وإخراجًا منه وتيسيرًا له، هذا أمر وكونهًا وحقيقة كله هذا أمره إلى الله -تبارك وتعالى-، هذا من شئون الرب -جل وعلا-، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ ........}[الإسراء:85]، أي أيها الناس، {مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، علم الله -تبارك وتعالى-، وعلم الله -تبارك وتعالى- قد قرب الله -تبارك وتعالى- لنا معنى هذا العلم، فقال {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ........}[لقمان:27]، فكلمات الله -تبارك وتعالى-، علم الله -تبارك وتعالى- محيط بكل شيء، والإنسان هذا الكيان الذي هو من مادة وروح حتى الجانب المادي لي يستطع الإنسان ليومنا هذا أن يحيط علمًا به؛ بهذا الجانب المادي، وهذا الجانب الأخر؛ الجانب الروحي، الذي لا يقع تحت أي من حواس الإنسان؛ لا نظرا ولا لمسًا ولا شمًا ولا ذوقًا، وإنما يعقل عقل فقط، الروح إنما هي أمر نعقلها بعقولنا ولا ندري كونهها ولا هيئتها ولا كيفية تصرفها؛ فهذا إلى الله -تبارك وتعالى-، فحتى الجانب المادي وهو في كيان الإنسان لم يحط الإنسان علمًا به فكيف بالجانب الأخر؛ جانب الروح، ثم كيف بما هو وراء ذلك من هذا الخلق الممتد الذي لا يحيط به؛ يعني بإمتداده علمًا إلا الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي «والعرش لا يقدر قدره إلا الله» -سبحانه وتعالى-، فالبشر لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، قال {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}[الإسراء:86]، هنا يخبر الله -تبارك وتعالى- أن إنزال القرآن على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- إنما هو فضل من الله -تبارك وتعالى- ونعمة، وأن هذا الأمر ليس إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ليس بإجتهاده وليس بأن هذا أمر كسبي وإنما هذا فضل الله -تبارك وتعالى- وإنعامه، وأنه لو شاء أن يذهب به لذهب، وليس الأمر كما ظن الكفار في أن النبي إنما أتى بهذا القرآن من عند نفسه -صلوات الله وسلامه عليه-، بل هو وحي الله -تبارك وتعالى- أوحاه إليه وليس للنبي دخل في هذا الأمر، يقول الله {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ........}[الإسراء:86]، وذهابه؛ ذهابه من صدر النبي -صل الله عليه وسلم- وإنسائه إياه وإنقطاع هذا الوحي عنه، {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}، ثم لا تجد لك؛ أنت النبي، به؛ بهذا الأمر، علينا وكيلًا؛ أي متوكل لهذا الأمر فيرد هذا إليك، بل هذا الأمر إنما هو لله -سبحانه وتعالى- وحده، وهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن هذا التلقي للوحي؛ تلقي النبي للوحي، إنما هو فضل الله -تبارك وتعالى- وإنعامه على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وليس للنبي في هذا كسب وإنما هو إلى الله.
قال -جل وعلا- {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، يعني إلا رحمة من ربك في أن ينزل عليك في أن ينزل عليك هذا القرآن، وأن يحفظه في صدرك وأن يجعلك تقوم به وأن يجعلك تدعوا به، هذا كله هذا رحمة من الله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}[الإسراء:87]، إن فضله؛ إنعامه وإحسانه وهذا الخير منه -سبحانه وتعالى-، كان عليك؛ يعني يا أيها النبي، كبيرًا؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- إختصه بالنبوة والرسالة والوحي هذ العظيم وبكلامه، كلام الله -تبارك وتعالى- المنزل منه -سبحانه وتعالى- على هذا العبد النبي الصالح -صلوات الله والسلام عليه-، سيد الأنبياء والمرسلين جميعًا، وما هيأ الله -تبارك وتعالى- له من الرفعة في الدنيا والآخرة، فإن الله -تبارك وتعالى- قد تفضل على نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- بفضل عظيم لم ينعم به على أحد من البشر قط، ففضل الله -تبارك وتعالى- على نبيه كبير، يذكره الله بهذا {........ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}[الإسراء:87].
ثم بيان هذا القرآن وعظمته قال -جل وعلا- {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، قل؛ لهم، لئن إجتمعت الإنس؛ أي كلهم، والجن؛ أي كلهم، الإنس؛ بني الإنسان، والجن هم هذا الخلق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- من النار، {عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ}، يعني تعاونوا في هذا الأمر وإجتمعوا على أن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن، قال -جل وعلا- {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}، فإنه لا شك أنه تنقطع قدراتهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن في أي صورة من صور المثلية، يعني في صياغته، في حلاوته، في مستوى أسلوبه هذا العربي، فإنهم قد تحدى الله -تبارك وتعالى- العرب البلغاء بأن يأتوا بسورة من السور من مثل هذا القرآن، فيستحيل للخلق جميعًا أن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن، {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، أي معين، هذا يعني هذا ويساعده ويصوغوا مثل هذا القرآن فإنه لن يفعلوا ذلك، {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، وهذا في الصياغة وفي الأسلوب، أما في المعاني وفي الهداية فهذا هم أبعد من هذا بعدًا عظيمًا جدًا، فإن هذا القرآن نزل بعلم الله -تبارك وتعالى-، علمه بالخلق والناس -سبحانه وتعالى- وعلمه بالطريق الموصلة إليه، وعلمه بكل عقائد البشر وكيفيه ضحدها، فإن هذا القرآن قد تضمن هذه العلوم العظيمة التي يستحيل للبشر أن يتوصلوا إليها، كيف يتوصل البشر مهما كانوا والخلق مهما كانوا إلى معرفة صفات الله -تبارك وتعالى- كما وصف نفسه، وسنن الله –تبارك وتعالى- في الكون والحياة وهذه العوالم التي خلقها الله -تبارك وتعالى- والحق في هذا، طريق الخير، الخلق القويم والحكمة العليا ووضع الأمور كلها في نصابها الصحيح، وكذلك التشريع الصحيح في كل ما شرع الله -تبارك وتعالى- القائم على العدل وعلى الحق وعلى العلم، لا يستطيع البشر، لا يستطيع الخلق بشرًا وجنًا أن يأتوا بمثل هذا القرآن طبعًا في معانيهم أبعد من هذا، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، ظهيرًا؛ مظاهرًا معاونًا.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، ولقد صرفنا؛ نوعنا، للناس؛ اللي هم المخاطبين بهذا القرآن، في هذا القرآن؛ المنزل من الله -تبارك وتعالى-، من كل مثل؛ من كل مثل من الأمثال تقرب له المعنى، فالله ضرب هناك أمثال في هذا القرآن، أمثال لذاته العلية -سبحانه وتعالى- مقارنة بما يعبد من دونه -جل وعلا-، كما قال {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم:28]، الأمثال التي ضربها الله -تبارك وتعالى- للتوحيد والشرك في شتى جوانب هذا الأمر ومسائله، المثل الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للمهتدي والضال، كيف يكون حال المهتدي وكيف يكون هو حال الضال، للحق والباطل، لمن سار على الحق ثم إنتكس ما مثله، فالله ضرب الله -تبارك وتعالى- فيه الأمثال وأبطل كل حجة يحتج بها المبطلون، كل حجج الكفار أيًا كانت أبطلها الله -تبارك وتعالى-، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، ولا يأتونك بمثل في الكفر، {........ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، وضرب الله -تبارك وتعالى- لهم الأمثال في عقائدهم الباطلة ومآلها وكيف تكون، فالله نوع الحديث في هذا القرآن وخاطب عباده -سبحانه وتعالى- بكل أسلوب متنوع، بين التهديد والوعيد والترغيب والترشيد والإيضاح وتقريب المعنى البعيد بالأمور الحسية وضحد الباطل والحث على الخير والتنفير من الشر، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ........}[الإسراء:89]، قال -جل وعلا- {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}، أبوا إلا الكفور يعني هذا خلاص، لم يريدوا تصرفًا وخلقًا لهم إلا أن يكونوا كافرين بهذا القرآن، فهذ من شدة كراهيتهم للحق أنه الكفر به هو الحل الوحيد عندهم، وهو الإختيار الأكيد والإختيار الوحيد الذي إختاروه ولم يرجحوا في إختيار أخر قط، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}، أي بالله -تبارك وتعالى- وبرسالاته وبكتابه.
وهذه بعد ذلك صورة من صور تعنتاتهم، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا}[الإسراء:90]، وقالوا؛ أي الكفار، مشركون في مكة، قالوا للنبي لن نؤمن لك؛ لن التي تنفي الفعل في المستقبل، لن نؤمن لك ونصدقك، {........ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا}[الإسراء:90]، ينبوع تفجره من الأرض ونهر يجري، أرض مكة، {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا}[الإسراء:91]، {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ}، إختاروا النخيل لأنه أفضل الأشجار، {........ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا}[الإسراء:91]، وتستغني بهذا، تعيش في هذه الجنة وهذا البستان وفيه هذه الثمرات فتستغني بذلك عن الصفك في الأسواق وعن تحمل مشاق الكسب، {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ........}[الإسراء:92]، أو تسقط السماء؛ تجعل السماء، كسف؛ قطع، تنزل علينا قطع من العذاب من السماء فتنزل علينا، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}، وهذا إستعجالهم للعذاب على أنفسهم، وكذلك إستكبارهم في أنفسهم أنهم لن يؤمنوا إلا إذا جائهم الرب -سبحانه وتعالى- والملائكة، قبيلًا؛ يعني في مقابلتهم ينظرون إليهم، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}، أي في مقابلنا.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}، أو يكون لك بيت؛ طلبوا الجنة له، أو بيت من زخرف؛ يعني من الذهب، والزخرف؛ الذهب، {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ}، ترقى؛ تصعد، في السماء صعودًا، {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ}، لن نؤمن لديَّت، يقولوا لا ربما تسير أمامنا في السماء فتسحر أعيننا إلا بأن تأتينا بشيء ملموس، {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ}، أي في السماء، {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه}، حتى إذا نزلت من هذا الصعود إلى السماء يكون معك كتاب من السماء نقرأه، وكتاب نقرأه مش مجرد كتاب نراه من بعيد وإنما يفتح أمامنا ونقرأه، هذا هو صورة من صور تعنتاتهم وطلبهم هذه المطالب من النبي -صل الله عليه وسلم-، آيات وقالوا لن نؤمن إلا إذا تحقق لنا هذه الآيات، قال -جل وعلا- {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، قل لهم سبحان ربي؛ تنزيهًا لله -تبارك وتعالى-، تنزيهًا لله عن كل نقص، وتنزيهًا له من هنا تنزيهًا له -سبحانه وتعالى- أن يستجيب لمطالب هؤلاء المجرمين الكافرين لأن هذا إنما يطلبوه على وجه الإعنات والتكبر والعلو {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}، وقال الذي كفروا لن نؤمن ...، فطلبهم أن يروا ملائكة الرب -تبارك وتعالى- وأن يروا الله -عز وجل- إنما هو إستكبار وعلو منهم، وطلبهم أن يكون للنبي -صلوات الله والسلام عليه- هذا الأمر؛ جنة يأكل منها وبستان أو بيت من زخرف، وأن هذا هو في ظنهم هو المتماشي مع العقل والمنطق، إذا ما دام أنه رسول رب العالمين فلابد أن يغنيه عن الكسب، والحال أن رسل الله -تبارك وتعالى- الذين أرسلهم الله -عز وجل- لم يؤتهم مثل ذلك وإنما كانوا بشرًا كالبشر، هذه حكمة الرب -تبارك وتعالى- وهذه الحكمة هي الموافقة للعقل والمنطق، فإنه لو جائهم ملك من السماء يدعوهم فإنهم لا يستطيعون رؤيته، وكذلك لو كان هذا الرسول متميزًا عنهم على هذا النحو أصبح هو في موضع الحسد، ولكانت طاعتهم لهذا النبي إنما هي طاعة لسلطان من سلاطين الدنيا، وليس لرسول هادٍ يهديهم إلى الله -تبارك وتعالى- ويبين لهم الحقائق ويختبرون بالإيمان ديَّت، ثم إنهم سبحان الله -تبارك وتعالى- أن يستجيب لهم لأسئلة التعنت هذه، لأنه لو أنهم لم يؤمنوا بالآيات التي يقترحونها فإن الله -تبارك وتعالى- لابد أن يستأصلهم لأن هذا في مقام التحدي، قال -جل وعلا- {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي}، تنزيهًا لله -تبارك وتعالى- عن كل نقص وشر، {هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، هل كنت أنا إلا بشرًا رسولًا، ليس بيدي أن آتي بآية من هذه الآيات، وإنما كل هذه الآيات إنما هي بيد إلهي وخالقي ومولاي -سبحانه وتعالى- الذي أرسلني، {هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، يعني هذه كل حقيقة النبي -صل الله عليه وسلم-، أنه بشر مثلهم وأنه رسول من الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم حيث يجعل رسالته ويرسل الرسل على هذا النحو الذي أرسلهم عليه، بشر يقاسون الحياة كما يقاسي البشر، يمرضون ويموتون ويكسبون عيشهم كما يكسب الناس من الأمور التي يسرها الله -تبارك وتعالى-، ويجوعون ويحصل لهم وتجري عليهم الأحداث؛ أحداث هذه الحياة، من الخير والشر والضر والنفع {........ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، هذه فتجري عليهم ما يجري على البشر من هذه الأحداث، وهم رسل الله -تبارك وتعالى- المؤيدين بالمعجزات من الرب -تبارك وتعالى-، أعطى الله -تبارك وتعالى- كل رسول ما على مثله آمن البشر، ، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}[الإسراء:94]، هذه حجة ومصيبة كل الذين كفروا من الأمم السابقة، الذي صرفهم عن الإيمان أنه قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا؟ سؤال للإستنكار عندهم، يسنكرون هذا ويستبعدون أن يتخذ الله -تبارك وتعالى- بشرًا رسولًا منه -سبحانه وتعالى- إلى الناس، قال -جل وعلا- {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا}، الناس السابقين، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}، من الله -تبارك وتعالى-، الهداية جائتهم وهي عليها الدليل القائم، {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}، قال -جل وعلا- {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}[الإسراء:95]، {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ}، لو أن الأرض تسكنها الملائكة، يمشون عليها مطمئنين لأنهم هذه أرضهم وهذا مكانهم وساكنون فيها، قال -جل وعلا- {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}، فإنه لابد أن يأتيهم من هو من جنسهم يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، فالبشر لأنهم بشر فإن الله -تبارك وتعالى- إختار رسول منهم، يعرفوه، يعرفوا مخرجه، مدخله، أنه منهم، يكلمهم بلغتهم فيعرفون صدقه، أما إذا جائهم من هو من غير جنسهم؛ ملك يأتي البشر، كيف يعرفون أن هذا ملك وأنه جاء برسالة، كيف يختبرون أمره، يصبح أمره بعيد عليهم، ثم إن ملك إلى الناس لابد أن يختلف الأمر عليهم، والملائكة لا يقوى البشر على رؤيتهم ومخالطتهم، {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}[الإسراء:95]، ثم قال -جل وعلا- {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:96].
وعودة إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.