الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:96]، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}[الإسراء:97]، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:98]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:99]، بعد هذا ضحد الله -تبارك وتعالى- لشبهات هؤلاء الكفار وبيان تعنتاتهم، جاء الأمر الإلهي لرسوله -صل الله عليه وسلم- أن يقول {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ........}[الإسراء:96]، لا نحتاج مع شهادة الله -تبارك وتعالى- إلى شهادة أحد غيره، فالله -تبارك وتعالى- شهيد، هو الشاهد والمراقب -سبحانه وتعالى- لما أقول وأعمل وهو المراقب لأعمالكم وأقوالكم كذلك، فإن كنت كما تدعون أني أكذب عليه وأنني أتيت بهذا الدين ليس منه -سبحانه وتعالى- وأني مفترٍ على الله -تبارك وتعالى- فإن الله -جل وعلا- هو الذي سيحاسبني في ذلك، وأنتم بفعلكم هذا؛ بكفركم وعنادكم وردكم لهذا الحق، فالله -تبارك وتعالى- شهيد عليكم وهو الذي سيتولى عقابكم على هذا الأمر، هذه الآية فيها تخويف وإنذار لهؤلاء الكفار المعاندين المشركين، لكن يبقى العناد هو العناد والكفر عند أهل الكفر هو الإختيار الذي إختاروه، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ........}[الإسراء:96]، تسليم الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- وأنه المطلع على عباده، وأنه هو الحسيب على الأمر كله -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، إنه -سبحانه وتعالى- كان بعباده؛ جميعهم، خبيرًا؛ الخبرة هي أخص العلم، يعني العليم بخفايا أمور عباده -سبحانه وتعالى-، البصير لكل أعمالهم -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}، وهذا بيان أن الهدى هدى الله -تبارك وتعالى-، ومن يهد الله؛ إلى الحق، هذا هداية توفيق، فهو المهتد؛ فهذا هو الذي يهدى من يختار الله -تبارك وتعالى- هدايته، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}، وأما من يضلهم الله -تبارك وتعالى- لهم أولياء يهدونهم ويرشدونهم إلى الطريق المستقيم دون الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء سيعاقبون بجنس عملهم، قال {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، الحشر؛ الجمع، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يجمعهم ويدفعون إلى نار جهنم على هذه الصورة، على وجوههم؛ يسيرون على وجوههم وليس على أرجلهم، وذلك أنهم كانوا في الدينا منتكسين، كانوا أبدًا هم منتكسون رؤوسهم هي التي في أسفلهم وأرجلهم في أعلى، فكانت تكون العقوبة لهم على هذا النحو، وقد قال أحد الصحابة للنبي كيف يحشرون على وجوههم؟ قال -صل الله عليه وسلم- «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه وأن يحشره على وجهه»، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا}، مثل ما كان أعمى في هذه الدنيا، وبكمًا؛ يعني لا يتكلمون، كما كان حالهم أنهم بكم عن الحق؛ لا ينطقون بحق، وصمًا؛ يعني آذانهم لا تسمع، لأنهم كانوا هكذا في الدنيا، {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، مأواهم؛ دارهم ومستقرهم، المأوى في اللغة هو ما يلجأ إليه الإنسان للراحة والهدوء وهذا الذي سيكون عليه، أما بالنسبة للآخرة مأوى أهل الإيمان الجنة، فهذه جنة المأوى، هذا الإستقرار ديَّت، ولكن مأوى الكفار يعني مستقرهم وبقائهم إنما هو في النار -عياذًا بالله-، {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، دارهم ومستقرهم ومكان قرارهم فيها، جهم هذا السجن العظيم الذي جمع الله -تبارك وتعالى- فيه كل ألوان العذاب، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، خبت؛ يعني خففت نارها، وبدأت تخف النار زادهم الله -تبارك وتعالى- سعيرًا واشتعالًا فيها، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، فتظل في اشتعال دائم -عياذًا بالله-.
قال -جل وعلا- {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ}، ذلك؛ هذا الجزاء السيء لهم الذي هو من جنس أعمالهم، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}، كفروا بها؛ الكفر عرفوها ولكنهم ستروا هذا وجحدوه، لم يؤمنوا به مع وضوحه وعلمهم أنها من الله -سبحانه وتعالى-، {........ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:98]، هذه مقالتهم، {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا}، بعد ما يبلى اللحم عندما يموتون، ورفاة؛ الرفاة هي بقايا العظام، {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}، إستبعاد عندهم، أنبعث من جديد وننشأ خلق أخر من جديد، وهذا الإستبعاد دليل قلة العقل وقلة المنطق، فقط إنما يدفعون هذا بالمكابرة، وإلا فإن بداهة العقل تقول بأن من يؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقهم، فإنه هو القادر على أن يعدهم إذا ماتوا، وهم كانوا يؤمنون بهذا، هو كانوا يؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقهم وخلق هذه السماوات والأرض، إذن لما يستبعد، لما يستبعد أن يعيد الله -تبارك وتعالى- هذه الأجساد بعد أن تموت.
قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ........}[الإسراء:99]، أولم يروا هذا؛ يعلموا هذا، وإنما هذا من العلم البدهي الذي لا يحتاج إلى إجهاد، فهي قضية بدهية مثل قضايا المنطق؛ واحد وواحد يساوي إثنين، فهذي ما ديَّت، فالذي خلق هذه السماوات والأرض وهم يقرون بهذا؛ بأن الله خالق السماوات والأرض، كيف يعجز عن خلق ما هو دون هذا الخلق، فإن خلق الإنسان أقل من خلق السماوات والأرض، كما قال -تبارك وتعالى- {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر:57]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ........}[الإسراء:99]، ألم يعلموا هذا؟ فهذا أمر في متناول كل عقل يفكر، قال -جل وعلا- {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ}، أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأن لهم أجل لا ريب فيه؛ لا شك فيه، أجل لنهاية هذه الحياة وأنه لابد أن تنتهي إلى وقت، وأن يقوم الناس لرب العالمين ليأخذ كلٌ جزاء عمله، قال -جل وعلا- {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا}، فأبى؛ الإيباء هو الإمتناع، الظالمون؛ وصفهم الله -تبارك وتعالى- بالصفة اللائقة بهم هنا، وأن الذي حملهم على هذا التكذيب إنما هو الظلم، إلا كفورًا؛ يعني تركوا كل خيار إلا خيار الكفر، هذا فقط الإختيار الوحيد لهم أن يكفروا بما أنزل الله -تبارك وتعالى-، {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا}، إمتنعوا عن أي طريق أخر إلا طريق الكفر.
قال -جل وعلا- لهم {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا}[الإسراء:100]، قل لهم {........ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا}[الإسراء:100]، الله -تبارك وتعالى- هو الرب الإله الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-، وخزائنه؛ خزائن رحمته لا تحصى ولا تعد، ومن خزائن رحمته أنه لابد أن يجزي أهل الإيمان على إيمانهم، فإن أهل الإيمان الذي قاموا به؛ قاموا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبدوا الله -تبارك وتعالى-، كيف لا يجازيهم الله -تبارك وتعالى- على إيمانهم وعملهم الصالح، {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ........}[الإسراء:100]، إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق؛ أمسكتم أن تنفقوا هذه الخزائن، {خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا}، الإنسان الكافر، فلو يملك الإنسان الكافر هذه خزائن رحمة الرب -تبارك وتعالى- فإنه لا ينفقها ولا يسديها لأنه قتور، أما الرب الإله الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى- فإنه لا شك أنه خلق الخلق، وأنه لابد أن يجازي المحسن -سبحانه وتعالى- بإحسانه، وأهل الإيمان قد قاموا بالإحسان وعطائهم عند الله -تبارك وتعالى- ولابد أن يعطيهم الرب -جل وعلا- جزاء أعمالهم، {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا}[الإسراء:100].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}[الإسراء:101]، شبه الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء المكذبين المعاندين الرادين لرسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- من هؤلاء مشركي العرب بحال قوم فرعون، فإن أولئك كذلك قوم فرعون آتتهم الآيات البينات على يد موسى الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، ولكنهم ردوها وجحدوا بها مع علمهم بأنها آيات الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، أتاه الله -تبارك وتعالى- تسع آيات بينات، هذه الآيات التسعة أولًا عصاه التي يلقيها فتصبح حية، ويده السمراء التي يضعها في جيبه ثم يخرجها فتصبح بيضاء من غير سوء؛ مخالفة لسائر الجسم في التو واللحظة، وما أرسله الله -تبارك وتعالى- من العقوبات على أهل فرعون، كما قال -جل وعلا- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، ثم فلق البحر؛ إنفلق البحر وأمام قوم فرعون، فهذه الآيات قد ديَّت، والرجز الذي ...، العذاب الذي ألقاه الله -تبارك وتعالى- على قوم فرعون كذلك، فهذه تسع آيات بينات جاء بها موسى النبي الرسول -صل الله عليه وسلم- إلى قوم فرعون؛ ومع ذلك لم يؤمنوا، والآية الأخيرة من هذه التسع وهي إنفلاق البحر آية عظيمة، كما قال -جل وعلا- {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:63]، ومع ذلك يأتي فرعون يقف على شفير البحر على هذا النحو ويرى هذه الآية على هذا النحو، وقد ضرب الطريق لبني إسرائيل وهم يمرون فيه؛ طريق يابس في أسفل البحر، {........ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى}[طه:77]، ويقف فرعون بجنوده على هذه الآية العظيمة التي لو رأها أقسى القلوب لإنفطر وبكى ووقع ساجدًا لله -تبارك وتعالى-، ولكن هذه القلوب المظلمة التي لا يدخلها أي نور وقفت أمام هذه الآية وجحدت هذا، وظنت أن هذا من جملة السحر الذي سار فيه موسى، ونزلوا في البحر متبعين لقوم فرعون ليلحقوا بهم حتى يرجعوهم مرة ثانية، فلم تفد فيهم هذه الآيات، وبعض هذه الآيات كانت آيات عظيمة جدًا كالدم، الله يقول {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ ........}[الأعراف:133]، الدم؛ تأتي المرأة أو يأتي الرجل يأخذ الماء من النهر؛ من قوم فرعون، فإذا أخذه في إنائه تحول إلى دم عبيط؛ دم خالص، وبنوا إسرائيل يغترفون من نفس الماء ويذهبوا به إلى بيوتهم ماء خالص، وتقول الإسرائيلية للفرعونية صبي لي من جرتك، فتصب لها من جرتها، الإسرائيلية تصب من جرتها للمرأة من قوم فرعون، فتصبه من جرتها ماءً فإذا نزل في جرة الفرعونية يصبح دمًا عبيطًا، ومع ذلك لم يؤمنوا بهذا، فالله -تبارك وتعالى- يصور جحود الكافر وأن قلبه مليء ظلمة، وأنه لا يدخل النور إليه مهما رأى من آيات الله -تبارك وتعالى-.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}[الإسراء:101]، يعني مع مجيء هذه الآيات هذا فرعون يقول لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورًا، فيظنه ديَّت، وهو كاذب بهذا وهو يعلم بأن هذا ليس بحال المسحور الذي غلب على عقله وغلب على نفسه، بل هو رسول الله -تبارك وتعالى- حقًا وصدقًا وهذه هي آيات الله، ولذلك يخاطبه موسى فقال؛ يقول له قال؛ أي موسى لفرعون، {........ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء:102]، يقول له لقد علمت حقًا هذا في قلبك وديَّت، ما أنزل هؤلاء؛ أي الآيات علي ما هي من عندي، {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ}، أنزلها الله -تبارك وتعالى- بصائر؛ يعني لتبصروا، لتعلموا أنها آيات الرب -تبارك وتعالى- ولتتخذوا الطريق إلى الله، لكنهم أبوا إلا العمى، وأبوا إلا الكفر والعناد، ثم قال له {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، أنا أظنك مثبور؛ هالك، أن الله -تبارك وتعالى- سيهلكك مع بقائك على هذا الكفر، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، الثبور هو الهلاك.
قال -جل وعلا- {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ ........}[الإسراء:103]، فأراد؛ أي فرعون، أن يستفزهم؛ أي بني إسرائيل، من الأرض؛ من أرض مصر، قال -جل وعلا- ، {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}، فأغرقناه؛ هذي النهاية، {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}، ممن مالئوه وشايعوه على هذا الكفر والعناد، وكأن الله -تبارك وتعالى- بهذا يحذر هؤلاء الكفار المعاندين للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- من أن يكون مصيرهم نفس المصير، هذا هو المصير والمآل، {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}[الإسراء:103].
{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ ........}[الإسراء:104]، وقلنا؛ أي الرب الإله -سبحانه وتعالى-، من بعده؛ من بعد هلاك فرعون، لبني إسرائيل؛ أولاد يعقوب الذي أرسل فيهم موسى -عليه السلام-، {........ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}[الإسراء:104]، اسكنوا الأرض؛ وسكنى الأرض هنا أرض فلسطين، فهي الأرض المقدسة التي وعدهم الله -تبارك وتعالى- إياها، كما قال -جل وعلا- عن قول موسى {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:21]، {........ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}[الإسراء:104]، إذا جاء وعد الآخرة؛ عند الله -تبارك وتعالى-، جئنا بكم لفيفًا؛ يعني جماعات جماعات، يؤتى بهم للحشر يوم القيامة.
ثم قال -جل وعلا- {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}، بالحق أنزلناه؛ أنزلنا هذا القرآن بالحق، يعني أنه متضمن للحق من الله -تبارك وتعالى- في كل ما جاء به القرآن، أخباره صدق وأحكامه عدل، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}، وبالحق نزل؛ وأنه نزل بالحق، فنزوله على النبي -صلوات الله عليه وسلم- حق، وذلك ليخرج الله -تبارك وتعالى- به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور، كما قال -جل وعلا- {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وقال -جل وعلا- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2]، {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3]، وقال أيضًا -جل وعلا- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فنزل نزول القرآن حق لهذه الأهداف العظيمة والغايات العظيمة، إخراج من شاء الله -تبارك وتعالى- من الظلمات إلى النور، وإقامة الحجة من الله -تبارك وتعالى- على عباده، وأن ينقسم الناس بإيزاء هذا القرآن إلى مؤمن وكافر، وأن يكون مآل أهل الإيمان إلى الجنة ومآل الكفار إلى النار، فالقرآن جاء نذارة وبشارة، {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الإسراء:105]، هذي مهمتك، ما أرسلناك إلا مبشرًا لأهل الإيمان بأن هذه بشرى لهم من الله -تبارك وتعالى-، أنهم إن أطاعوا الرب وساروا في سبيله فطريق الخير وطريق الفلاح في الدنيا والآخرة، بشارة من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، ونذيرًا لأهل الكفران، فالقرآن كذلك ...، فالنبي -صل الله عليه وسلم- نذير لمن يكفر به، لمن يكفر بطريق الرب -تبارك وتعالى- أنهم إنتظروا العقوبة، انتظروا عقوبة الرب -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة.
ثم قال -جل وعلا- {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}[الإسراء:106]، وقرآنًا؛ هذا القرآن، سماه الله -تبارك وتعالى- قرآنًا لأنه أعظم ما يقرأ وما قرئ في السماء بأيدي الملائكة، {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:11]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12]، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13]، {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14]، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15]، أي يقرأونها، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، وقرآن يقرأ في الأرض، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]، كتاب كما قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث «لا يمحوه الماء، تقرأه نائمًا ويقظان»، فهذا الكتاب العظيم القرآن الذي يقرأ، وقد قرأه الأجيال تلو الأجيال يقرأونه متقربين به إلى الله -تبارك وتعالى-، نورًا وهدى من الله -تبارك وتعالى-، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}، فرقناه؛ جعلناه مفصل، ويفرق بين الحق والباطل، وكل معنى من المعاني قد فصل عن المعنى الأخر حتى يوضح كل معنى عن المعاني ولا تختلط الأمور بعضها ببعض، بل هو فرقان كما سماه الله -تبارك وتعالى-، فرقان يفرق الله -تبارك وتعالى- به بين الحق والباطل، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ........}[الإسراء:106]، يعني جعله الله -تبارك وتعالى- متنزل على نجوم، آية تأتي أحيانًا تنزل بضع من آية، مجموعة آيات أحيانًا، سورة أحيانًا، ثم على الأحداث التي تنتاب المسلمون، كل حدث، كل شبهة ينزل من الله -تبارك وتعالى- عليها أمر، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ........}[الإسراء:106]، ثلاثة وعشرين سنة؛ ثلاثة وعشرين سنة والقرآن يتنزل على عبد الله ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ........}[الإسراء:106]، وهذا له حكم عظيمة جدًا، هو أن يثبت الله -تبارك وتعالى- به قلب النبي وقلب المؤمنين عند تنزله يعني في وقت تنزله، لأن هذا يكون القرآن جديد، يعني آيات جديدة نازلة من السماء، كذلك كلما أتى الكفار بشبهة أنزل الله -تبارك وتعالى- فيها ما يضحدها، وكذلك كلما تهيأ المسلمون لحكم أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا الحكم من السماء، فيتدرج الله -تبارك وتعالى- بهم صعودًا في طريق الحق والخير، كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ........}[الفرقان:32]، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33]، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ........}[الإسراء:106]، على مكث؛ هذا الوقت، ثلاثة وعشرين سنة اللي هي عمر النبي الرسالي، {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}، نزلناه تنزيلًا؛ يعني مقطعًا على هذا النحو من الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}، هذا ختام هذه السورة ديَّت، إنما هو تمسيك لهم بالطريق الذي إختاروها، {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}، النتيجة يعني عاقبة هذا الأمر لكم، فإن آمنتم فهذا طريق الفلاح وطريق الخير، وإن كفرتم فعلى أنفسكم سيكون الكفران، {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}[الإسراء:107]، {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}[الإسراء:108]، {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}، هذا أولًا دعوة لهم وفيها مفاصلة وفيها بيان أن الأمر في النهاية عائد نفعه إليهم، وكذلك الخسارة والدمار عند الكفر ستعود عليهم كذلك، ثم بيان أن الصفوة من خلق الله -تبارك وتعالى- هم الذين سيسارعون للإيمان به، {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ}، أوتوا العلم من قبله؛ من قبل تنزل هذا القرآن، أوتوا العلم من أهل الكتابين؛ أهل التوراة والإنجيل، {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}، إذا تلي عليهم هذا القرآن علموا أنه آيات الله -تبارك وتعالى- فخشعوا لله وخافوا به، فإنه يخرون للإذقان سجدًا، ومعنى يخرون يسقطون، يسقطون وهم واقفون خرورًا مرة ثانية كما يقع شيء السقف فيخر على الأرض، {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}، الأذقان تكون للأرض، سجدًا؛ على وجوههم سجدًا.
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}[الإسراء:108]، يقولون سبحان ربنا؛ تنزيهًا لله -تبارك وتعالى-، {........ إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}[الإسراء:108]، يعني قد كان وعد ربنا مفعولًا، وقد وعد الله -تبارك وتعالى-؛ وعد أهل الكتاب في كتابهم، أنه سيرسل المخلص النبي العظيم الذي يخلص الأمم جميعًا بدين الله -تبارك وتعالى-، فهذا المخلص محمد إبن عبد الله -صل الله عليه وسلم- المخلص الذي كان ينتظره اليهود كما جاء في كتابهم، وينتظره النصارى ببشارة عيسى -عليه السلام-، {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}[الإسراء:108]، {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ........}[الإسراء:109]، أن وجدوا بغيتهم ووجدوا أملهم، هذا المخلص قد جاء محمد إبن عبد الله -صل الله عليه وسلم-، {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}، يزيدهم هذا القرآن خشوعًا ورجوعًا إلى الله -تبارك وتعالى-.
نقف عند هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين.