الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (348) - سورة الكهف 5-18

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]، {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، يطمئن الله -تبارك وتعالى- رسوله -صل الله عليه وسلم- ويهدئ من حزنه وألمه الشديد على كفر من يكفر بهذه الرسالة، فيقول له الله -تبارك وتعالى- {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، باخع نفسك؛ قاتل نفسك، أسفًا على آثارهم؛ على آثار القوم الذين ولوا الأدبار وتركوا دين الله -تبارك وتعالى-، وجائتهم هذه الرسالة من الله -تبارك وتعالى- ولكن صموا الآذان وغطوا العيون وعميت القلوب وإنطلقوا بعيدًا عن هذه الرسالة، والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد أنزل كتابه نذارة للعالمين، قال -جل وعلا- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}، فالكتاب نزل على الرسول -صلوات الله عليه وسلم- لينذر النبي بهذا الكتاب بأس شديد من لدن الله -تبارك وتعالى-؛ من عند الله، بهذا البأس والشدة؛ العقوبة المتوقعة لهؤلاء الكفار في الدنيا والآخرة، {........ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2]، {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3]، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4]، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ}، فنذارة القرآن نزل لنذارة العالمين على وجه العموم وهؤلاء على وجه الخصوص، وهم الذين شتموا الرب -تبارك وتعالى- وسبوه وقالوا إتخذ الله -تبارك وتعالى- ولدًا {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4]، وهؤلاء هم اليهود في عذير، النصارى في المسيح -عليه السلام-، مشركوا العرب كذلك في قولهم الملائكة بنات الله، فالله قد تتهدد هؤلاء وتوعدهم وأخبر أنه قد أنزل الكتاب على عبده محمد، لينذر هؤلاء على وجه الخصوص بعد إنذار العالمين على وجه العموم، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4].

قال -جل وعلا- {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}، كلمات قالوها بلسانهم دون أن يكون لهم علم بهذا، وكيف يكون لله -تبارك وتعالى- ولد وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد -سبحانه وتعالى-، {وَلا لِآبَائِهِمْ}، كذلك علم بها وإنما تناقلوا هذا عن آبائهم دون أن يكون لهم أدنى آثارة من علم في هذا الأمر، قال -جل وعلا- {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}، كبرت؛ يعني كلمتهم هذه، كلمة تخرج من أفواههم فقط وكأنها لا تخرج من قلوبهم لأنهم يقولون ما لا يعقلون، يقولون ما لا يعقلون، قال -جل وعلا- {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، افتراء على الله -تبارك وتعالى- وكذب في نسبتهم ما نسبوه إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى-، ثم هدأ الله -تبارك وتعالى- من روع نبيه ومن حزنه الشديد على هؤلاء القوم، الذين تأتيهم الهداية واضحة على هذا النحو ويصرون على الضلال ويسيرون عكس إتجاه الطريق الصحيح، قال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، أي لعلك قاتل نفسك أسفًا؛ يعني من شدة الأسف، والأسف والحزن الشديد لا شك أنه يؤدي إلى القتل ويؤدي إلى أن يموت الإنسان كمدًا وهمًا وغمًا، فالله يقول ديَّت، {........ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6].

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أن هذا الذي وقع من هؤلاء إنما وقع بمشيئته، قال {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]، {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، إنا؛ الله -تبارك وتعالى-، تكلم عن نفسه -سبحانه وتعالى- مؤكدًا هذا، {جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}، صيرنا هذا الذي على الأرض زينة لها، فقد ملأ الله -تبارك وتعالى- الأرض بالبهجة والزينة والجمال والشهوات العظيمة، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ........}[آل عمران:14]، فهذه الحياة؛ الحياة الدنيا، قد ملأها وزخرها الله -تبارك وتعالى- بهذه المشتهيات وهذه الزينة وهذا المتاع، زينة في المراكب والمناكح والمآكل والمشارب والمسارح، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]، يعني الغاية من هذه؛ من خلق الله -تبارك وتعالى- هذا، أن يبتلي عباده أيهم أحسن عملًا، أي الناس أحسن عملًا ولا يكون العمل حسن إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده وعبادته -سبحانه وتعالى-، وأخذ ما يؤخذ من هذه الدنيا وفق مراده ووفق أمره ووفق مشيئته -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، هذا في نهاية المطاف، في آخر الأمر يكون دمار هذه الأرض، وخراب وإنفراط عقد هذه السماوات، وذلك بالنفخ في الصور إيذانًا بإنتهاء هذه الأرض، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2]، {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3]، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4]، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5]، فهذا ديَّت، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1]، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، فيخبر -سبحانه وتعالى- بأنه قال {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، الصعيد اللي هو وجه الأرض، والجرز؛ الأرض الجافة الذي ليس فيها شيء، يعني أن كل هذه الزينة والمتاع من الأبنية والبساتين والأنهار وما فيها، كل هذا سيأتي وقت يجعله الله -تبارك وتعالى- صعيدًا جرزًا.

ثم بعد ذلك جاء الجواب فيما كان الكفار قد سألوه للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقد جاء في السيرة أن مشركي العرب لما إحتاروا في أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، واستفتوا اليهود قالوا لهم أنتم أهل كتاب وأنتم ديَّت، خرج فينا رجل يقول كذا وكذا وكذا ...، فقال سلوه عن أشياء إن أجابكم عنها فهو نبي، سلوه عن الروح وسلوه عن فتيه كان هلكوا في الدهر الأول؛ كان لهم شأن، وهذا كان عند اليهود خبر في كتابهم عن هذا، قال إن أجابكم فهذا يكون رسول، فسألوا النبي عن هؤلاء الفتية، فالنبي قال لهم كما جاء في السيرة أجيبكم غدًا ولم يستثني؛ لم يقل إن شاء الله، فإستلبث الوحي عليه خمسة عشر يومًا ثم بعد ذلك نزلت هذه السورة، قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، يعني هل ظننت أن أصحاب الكهف ...، الكهف هو المغارة التي تكون في الجبل، والرقيم؛ الرقيم قال إبن عباس -رضي الله تعالى عنهما- هو من النقش، الرقم هو الكتابة، قيل أنه بعد أن عثر أهل القرية على هؤلاء الفتية الذين كانوا قد إختفوا هذا الزمان الطويل كما سيأتي في القصة، أنهم كتبوا بعد ذلك على البناء الذي بنوه كتبوا رقموا تاريخهم وأحوالهم ووضعوها على باب كهفهم، وباب هذا المسجد الذي بنوه عليهم في نهاية المطاف، {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، أنهم عجب من آيات الله -تبارك وتعالى-، وآيات الله -تبارك وتعالى- كلها عجيبة، فإن الله -تبارك وتعالى- يخلق ما يشاء مما يشاء ويبدل في الخلق ما يشاء، فالله خلق الإنسان من طين هذه الأرض، وهذا عجب أن من الطين يجعله الله -تبارك وتعالى- ويسويه بشر سوي، ثم من عجائب خلق الإنسان أن خلق الله -تبارك وتعالى- حواء من ضلع؛ الضلع الأيسر من أضلاع آدم، خلق الله -تبارك وتعالى- سائر الذرية من هذا الأمر العجيب كذلك، من النطفة؛ ماء الرجل وبويضة المرأة، هذا أمر عجيب ما كان شيئًا ثم أنشأه الله -تبارك وتعالى- نشء أخر، الخلق كله عجيب ثم أنه يجري على عادة وسنة، والله -تبارك وتعالى- يخرق هذه العادة وقتما يشاء -سبحانه وتعالى- وكيف ما يشاء، فمعلوم مثلًا سيأتي من أعاجيب أمر هؤلاء الفتية أولًا كيف أن الله -تبارك وتعالى- حماهم عندما آووا إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله حماهم من قومهم، كذلك كيف أن الله -تبارك وتعالى- جعلهم يرقدون ثلاثمائة سنة كاملة وتسع من السنين القمرية، ولم يأكل هذا أجسادهم ولم يتغير فيهم شيء، وعندما قاموا من نومهم كأنهم لم يمكثوا إلا يوم أو بعض يوم، حتى أن بعضهم يقول كم لبثتم؟ أي في هذا النوم، يقول لبثنا يومًا أو بعض يوم، لم يتغير منهم شيء، لا طالت شعورهم ولا طالت أظافرهم ولا تغير شيء من أبدانهم قط، فأمرهم لا شك أنه كان عجبًا وكله من آيات الله -تبارك وتعالى-، أي العلامات الدالة على قدرته -سبحانه وتعالى- وكذلك على إنعامه وإحسانه وإفضاله -جل وعلا-، قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، يعني مما يتعجب منه.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في قصتهم، قال {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}، أوى؛ إلتجأ، الفتية؛ دل على أنهم مازالوا في مقتبل العمر، كانوا في مقتبل العمر فتية بعد البلوغ، إلى الكهف؛ هذه مغارة في الجبل بعيدًا عن قومهم، {........ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، إلتجأوا إلى الله -تبارك وتعالى-، تركوا قومهم وكان قومهم كفار عباد للإصنام والأوثان، وأرشد الله -تبارك وتعالى- وهدى هؤلاء الفتية إلى الله -تبارك وتعالى-، وعلموا أنهم إذا إطلع قومهم على دينهم فإنهم لابد أن يقتلوهم فالتجأوا بعيدًا، خرجوا من هذه القرية والتجأوا إلى مغارة بعيدة؛ كهف بعيد في الجبل، وقالوا داعين الله -تبارك وتعالى- ربنا؛ يعني يا ربنا، {آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}، آتنا من لدنك؛ من عندك، رحمة؛ تشمل كل أنواع هذه الرحمة، حماية من قومهم، بقاء لهم، تثبيت على الإيمان حتى يلقوا الله -تبارك وتعالى-، كل معاني الرحمة التي يحتاجونها وهم في هذا الموقف الصعب العصيب، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، هيئ لنا من أمرنا هذا الذي ديَّت، اللي هو أمرهم يعني توجههم إلى الدين وتمسكهم به ومفارقة أهلهم ووطنهم، رشدًا؛ أرزقنا الطريق الراشد ليس طريق الغواية وثبتنا على ذلك، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}.

قال -جل وعلا- {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، الضرب هنا جاء بمعنى الختم، كأن الله -تبارك وتعالى- سكر آذانهم، قال {........ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، عدد كبير من السنين وديَّت، والضرب على الآذان لأن الأذن هي الوسيلة التي يتصل بها النائم بالعالم الخارجي عن طريق السمع، البصر يكون معطل والقلب يكون غافل فهذه وسائل المعرفة، والأذن هو الذي يكون على إتصال، فالإنسان لو صات صوت أو صرخ صارخ فإنه يدخل الأذن ويستيقظ الإنسان، فالله -تبارك وتعالى- سكر آذانهم وذلك حتى يمتنعون عن العالم الخارجي فينامون، قال -جل وعلا- {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11].

قال -جل وعلا- {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، ثم بعثناهم؛ بعثهم الله -تبارك وتعالى-، والبعث هو أنه أيقظهم بعد رقدتهم هذه الطويلة، {........ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، حتى إذا اختلفوا فيهم فيشوف هؤلاء؛ يعني اللي هم هذا الحزب المؤمن هذا، أو الحزب؛ حزب قومهم الكفار، أحصى؛ أحصى ما لبثوا أمدًا، والعلم هذا إنما هو ظهوره على الواقع وليس أن الله -تبارك وتعالى- سيعلم أمرًا لم يكن يعلمه، بل الله -تبارك وتعالى- يعمل ما سيكون كيف يكون -سبحانه وتعالى-، بل هو الذي قضاه وقدره -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}، نحن؛ الله -تبارك وتعالى-، {نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}، طبعًا هذه القصة تناقلها الناس فيها تزيد وفيها تنقص وفيها ديَّت، كعادة البشر لا يضبطون مثل هذه الأحداث ويدخل فيها الوهم والزيادة والخطأ وغير ذلك، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يقص نبأهم بالحق، خلاف ما يتناقله الناس عن هؤلاء، نحن نقص؛ الله -تبارك وتعالى-، {........ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]، أولًا الحكم في هؤلاء أنهم فتية؛ شباب، آمنوا بربهم؛ آمنوا بالله -تبارك وتعالى- ربهم خالقهم -سبحانه وتعالى-، وزدناهم هدى؛ زادهم الله -تبارك وتعالى- هداية وهذا من فضله وإحسانه، فإنه إذا توجه المؤمن للإيمان زاده الله –تبارك وتعالى-، الله يزيده من هذا من ديَّت، كلما سار خطوة فإن الله -تبارك وتعالى- يزيده خطوات، هذا شأن الرب -تبارك وتعالى- وسنته –سبحانه وتعالى- في عباده، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}، لما آمنوا بربهم زادهم الله -تبارك وتعالى- هدى.

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، ربطنا على قلوبهم؛ الربط معروف وهو الشد، وهنا الربط على القلب بمعنى التثبيت، أن الله -تبارك وتعالى- ثبتهم على الإيمان، في مقابل محنة شديدة؛ محنة يخير فيها الشخص بين الإيمان وبين القتل، يعني إما أن يكفر فيحيا وإما أن إذا إختار الإيمان قتل، فثبتهم الله -تبارك وتعالى- هذا وربط على قلوبهم، {........ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14]، إذ قاموا؛ لله -تبارك وتعالى-، فقالوا ربنا رب السماوات والأرض؛ ربنا الذي يستحق أن نعبده وأن نعتقد أنه ربنا على الحقيقة هو رب السماوات والأرض، خالق هذه السماوات وخالق هذه الأرض، {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}، هذا تأكيد أنهم ثابتون على هذا الأمر، وأنهم لن يغيروا إعتقادهم ويقينهم وإيمانهم هذا، {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}، لن ندعوا لنا إلهًا غير الله، والإله؛ المعبود، يعني لن يكون لنا معبود إلا هو -سبحانه وتعالى-، {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، لو أننا دعونا مع الله -تبارك وتعالى- إلهًا أخر وإتخذنا إلهًا أخر لنا مع الله إذن نكون قد شط بنا القول، والشطط؛ البعد، يعني يكون قد إبتعدنا عن الهداية بعدًا عظيمًا، إبتعدنا ديَّت، {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، يعني قولًا شططًا، والشطط اللي هو البعيد كل البعد عن الهداية.

ثم قالوا {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}، هؤلاء؛ مشيرين إلى قومهم، من آبائهم وإخوانهم وجماعتهم وقبائلهم، إتخذوا من دونه آلهة؛ إتخذوا لهم من دون الله -تبارك وتعالى- آلهة؛ أصنام يعبدونها، {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}، هلا أتوا على هذه الآلهة بسلطان؛ حجة قاهرة بينة، يتمسكون بها تقول لهم أن هذه الآلهة هي آلهة حقيقية تستحق العبادة، قال -جل وعلا- وهذا من قولهم {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، سؤال يراد به التقرير، لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله -تبارك وتعالى-، وقال أن هذه آلهة أو هم شركاء مع الله أو يعبدون مع الله، فهؤلاء الذين قالوا هذه آلهة قد افتروا الكذب على الله -تبارك وتعالى- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}[الكهف:16]، وإذ إعتزلتموهم؛ يعني والحمد لله قد إعتزلناهم الآن وخرجنا بعيدًا عن هؤلاء القوم الكفار المشركين، {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، يعني لا يعبد هؤلاء الفتية إلا الله -تبارك وتعالى-، فإذن فأووا إلى الكهف، المأوى؛ مكان الإيواء والإستقرار والحماية، يعني احتموا بهذا الكهف واسكنوه، {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}، النشر هو التوزيع والزيادة، {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}، فيغطيكم ويجعل الرحمة تلفكم من كل جانب، {........ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}[الكهف:16]، ويهيئ لكم من أمركم هذا مرفقًا؛ ما يرفق بكم، وذلك أن هذا كهف وليس بيت وليس بيتًا وليس متصلًا بالسكان، هم دول المعتزلين فيه بعيد عن العمران، كيف سيعيشون في أمرهم؟ يدبرون حياتهم ومعيشتهم؟ يخافون الطلب؛ والطب في إثرهم، وإن عرف مكانهم أخذوا وقتلوا، إما أن يرجعوا إلى الدين الباطل وإما أن يقتلوا؛ أمر صعب، فهم خرجوا في أمر صعب من أمورهم فلذلك دعوا الله -تبارك وتعالى- أن ينشر لهم من رحمته، وأن يهيئ لهم من أمرهم هذا مرفقًا، يرفق الله -تبارك وتعالى- فيهم بالطريق التي يمكن أن يعيشوا فيها معتزلين بعيدين عن أقوامهم على هذا النحو.

بيَّن الله -تبارك وتعالى- كيف أن الله -تبارك وتعالى- إعتنى بهم وترافق بهم وهيأ لهم أمر عظيم جدًا، قال -جل وعلا- {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ........}[الكهف:17]، {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ}، يعني حال الشروق، {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ}، المكان الذي هم فيه تدخل الشمس وهي مشرقة وتكون على يمينهم؛ على يمين المكان الذي ناموا فيه من الكهف، {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}، ثم إذا تحولت الشمس إلى المغيب كذلك يدخل شعاعها كذلك إلى الجهة الأخرى في ذات الشمال، {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}، في الظل، لا تمسهم الشمس عند شروقها داخلة إلى الكهف وعند غروبها كذلك، يعني تدخل الكهف كذلك عند الغروب، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن جعلهم في هذا المكان، أولًا دخول الشمس فيها مطهر لهذا الكهف، والأمر الأخر كذلك لا يمسهم شمسهم في جلدهم حتى لا توقظهم حرارة الشمس، فهم في الظل والشمس تدخل فتدفئ لهم المكان وتطهره لهم، فهذا رحمة من الله -تبارك وتعالى-، {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}، تزاور؛ تميل، {عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، ذلك؛ تهيئة الكهف على هذا النحو وتهيئة نومهم في المكان الذي ناموا فيه على هذا النحو، من آيات الله؛ العظيمة -سبحانه وتعالى-، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}، من يهده الله -تبارك وتعالى- فهم المهتدي، فهؤلاء لما أنهم نالتهم هداية الله -تبارك وتعالى- فهو هذا المهتدي على الحقيقة، انظر كيف الله -تبارك وتعالى- كيف أخرج هؤلاء الناس من أوساط كفار، ولعل آبائهم وإخوانهم وجماعتهم كلهم كفار، لكن الله -تبارك وتعالى- إختص هؤلاء الفتية وهم فتية لعلهم مازالوا في مقتبل العمر لكن الله -تبارك وتعالى- إختصهم بالهداية، فهذا الأمر إليه -سبحانه وتعالى- {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، من يضلله الله -تبارك وتعالى- فلن تجد له وليًا؛ حبيبًا ناصرًا، مرشدًا؛ يرشده إلى الحق والخير.

ثم قال -جل وعلا- {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}، يعني لو إطلع عليهم أحد فيظن أنهم أيقاظ؛ أنهم مستيقظون، والحال أنهم رقود، ثم قال -جل وعلا- {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}، نقلبهم ذات اليمين وذات الشمال؛ ما قال يتقلبون، وأن هذا الأمر من الله -تبارك وتعالى-، فإنهم في نوم عميق والله -تبارك وتعالى- يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، أو في شبه موت أو موت والله -تبارك وتعالى- يقلبهم هنا ويقلبهم هنا على جنوبهم، قيل إن صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم ذلك حتى لا تأكل الأرض في المدة الطويلة تأكل شيء من أجسادهم عندما يكونون على جنب واحد، {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}، كلبهم؛ نسبه الله -تبارك وتعالى- إليهم، قيل أنه كان لواحد منهم أو أنه إتبعهم في الطريق، رأهم سائرين فإتبعهم في الطريق، المهم أنه كلبهم الذي كان معهم، باسط ذراعيه؛ على عادة الكلب يبسط ذراعيه عند النوم، بالوصيد؛ والوصيد فناء الكهف، الكهف مغارة، يكون فتحة ومغارة في الجبل وأمامه متسع يكون أمام الباب هذا هو الوصيد، وكعادة الكلب أنه ينام عند الباب، فنام الكلب في فنار الكهف وبسط ذراعيه في هذا المكان، {........ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}[الكهف:18]، الله يقول لرسوله لو إطلعت عليهم وهذا لكل أحد لوليت منهم فرارًا، حماهم الله -تبارك وتعالى- بالرعب، ألا يأتي أحد إلى هذا المكان إلا رعب منه، لوليت منهم فرارًا؛ تخاف منهم أشد الخوف، يمتلئ من يأتي إلى هذا المكان يمتلئ بالرعب، ولملئت منهم رعبًا؛ ويمتلئ بمعنى أن الرعب يدخل كل مكان في الجسم، كما هو الشأن في الذي يملأه الرعب حتى أنه لا تبقى شعرة من شعراته إلا وتقف وتقف، وهذا حماية من الله -تبارك وتعالى- لهم أن جعلهم على هذا النحو، في الكهف على هذا النحو الذي تشرق شمسه فتأتيهم، تدخل يمينًا ويسارًا، وكلبهم أمامهم على هذا النحو، وضرب الله –تبارك وتعالى- على أسماعهم فلا يسمعون شيء من العالم الخارجي، فكان هذا تهيئة من الله -تبارك وتعالى- لهم، وقد آووا إلى الله -تبارك وتعالى- {........ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، ونتابع –إن شاء الله- في الحلقة الآتية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.