الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (349) - سورة الكهف 19-26

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}[الكهف:19]، {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:20]، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:21]، {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ}، أنه أيقظهم الله -تبارك وتعالى- ولم يجعل هذا باقي إلى يوم القيامة، وإنما ليكون هناك تسائل بينهم ولتتضح هذه الآية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقدرته -سبحانه وتعالى- على البعث، ليكون دليل وكرامة لهؤلاء وكذلك دليل لقومهم عندما يعثروا عليهم ويعلموا حقيقة الأمر، {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ}، ليسأل بعضهم بعضًا عن الوقت الذي قد قضوه في نومهم، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ}، قائل من هؤلاء قال لإخوانه كم لبثتم؟ أي في نومنا هذا، {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، إتفقت كلامهم على أنه يوم، أنهم ناموا نومة طويلة يوم أو بعض يوم، أنه يعني لم يكتمل يوم كامل، أنهم رأوا أن الشمس مازالت ...، قيل أنهم ناموا في أول النهار ورأوا أن الشمس مازالت في السماء لم تغرب، عند ذلك قالوا لما اختلفوا {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، الله -تبارك وتعالى- أعلم بالوقت الذي لبثناه، لكن مستقر في أنفسهم أنما هو يوم أو بعض يوم فقط، قالوا {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}، قاموا جوعى وأرادوا بعد ذلك الآن أن يأكلوا، قالوا إبعثوا أحدكم؛ واحد منا يذهب مو أكثر، بورقكم هذه؛ الورق الفضة، معهم نقود كانوا قد أخذوها معهم، قالوا يذهب واحد إلى المدينة؛ أي التي خروجوا منها، {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}، يبحث لنا عن طعام زكي؛ يعني طيب شهي، الزكاء يأتي ...، الزكاة تأتي بمعنى الطيبة وتأتي بمعنى الزيادة كذلك، ويبدو أنهم يحاولون المجيء بالطعام الذي تشتهيه نفوسهم؛ الطيب، {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}، برزق منه؛ طعام منه، ثم {وَلْيَتَلَطَّفْ}، يعني ليكن لطيفًا عندما يذهب إلى المدينة وعندما يرجع، لا يجعل أحد يحس به أو يتتبعه حتى لا يعرف أحدًا بمخبأهم هذا وبمكانهم الذي آووا فيه، وذلك أنهم يعلمون أنه إذا عثر عليهم فإنه لا مجالهم لهم، إما أن يرجعوا للكفر وإما أن يقتلوا، {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، لا يشعر أحد من أهل المدينة به أو بمكاننا.

ثم بينوا السبب في هذا قالوا {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ}، إنهم؛ يعني قومهم الكفار، إن يظهروا؛ يعلموا، ظهور العلم والمعرفة بهم، عليكم يرجموكم؛ يقولوا مؤمنين خرجتم عن دين قومكم فعند ذلك يرجمون، وهذا هو أشنع ...، يعني يختاروا لكم هذه القتلة الشنيعة وأشنع قتلة هو أن يضربوكم بالحجارة حتى الموت، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ}، أو أن تنسلخوا من دينكم هذا وتعودوا إلى ملتهم؛ ملة الشرك والكفر التي هم عليها، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، يعني لو عدتم إلى ملتهم فلا فلاح لكم أبدًا، لأنكم ستكونون كفار، تموتون على الكفر، والكافر لا فلاح له؛ لا يفلح.

قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}، بهذه الطريقة عثر القوم عليهم، وهذا أمر طبعًا معلوم، تفصليه معلوم، طواه الله -تبارك وتعالى- لأن تفصيله معلوم، رجل يذهب إلى مدينة قد غاب عنها ثلاثمائة سنة وتسع سنين بالقمرية، بعد هذه الأجيال لا شك أن كل شيء فيها قد تغير، المباني تغيرت والناس تغيروا وكل أمر ليس هو ديَّت، فيبقى ديَّت وين أنا ديَّت، لا شك أنه يقول لنفسه أين أنا؟! إيش اللي صاير؟!  ليست الطرق هي الطرق ولا المدن هي المدن ولا الناس هم الناس ولا شيء أبدًا، لا شيء من الذي كان يعرفه هو الذي يعرفه، وطبعًا إذا دخل ويخرج فضته والفضة هذي وين مضروبة هذي، من ثلاثمائة سنة مضروبة، فطبعًا التاجر الذي يرى هذا سيتعجب أشد العجب، وين قد ذهب الذي ضربوا هذه الصكة منذ سنين طويلة، على طول سيشيع الخبر هنا وهنا، سيعرف هذا الرجل، سيركض إلى المكان، سيتبعونه، سيذهب ديَّت، فلابد أن يعرف الناس خبرهم وهذا مراد الله -تبارك وتعالى-، في أن يطلع هؤلاء الناس على حقيقة هؤلاء بعد هذه السنين الطويلة ليكون عبرة لهؤلاء وعبرة لأولئك، قال –جل وعلا- {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}، يعني بهذه الطريقة عندما ذهب واحد منهم ليشتري، أعثر الله -تبارك وتعالى- عليهم، أعثرنا عليهم قومهم بعد أن طبعًا الجيل الأول الذي إختفوا فيه أعيتهم الحيل في أن يجدوا أبنائهم، هؤلاء الذي إختفوا وينهم؟ ما إستطاعوا أن يصلوا إليهم قط، وقد حماهم الله -تبارك وتعالى- في مكانهم الذي كانوا فيه، قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، ليعلموا؛ الجميع، أن وعد الله حق؛ وعد الله -تبارك وتعالى- بالبعث حق وأنه لابد أن يكون، وكذلك وعده -سبحانه وتعالى- باللطف بعباده المؤمنين حق، فإن الله -تبارك وتعالى- قد لطف بهؤلاء وحفظهم هذه المدة الطويلة من الزمن بهذا الحفظ، ثم أيقظهم الله -تبارك وتعالى- ليطلعهم على جلية الأمر ويتحققوا من موعود الله -تبارك وتعالى-، وبالتالي خلاص إنتهى الأمر، لا يصبح لهم بعد ذلك رغبة في حياة، لأنهم لن يعيشوا مع هؤلاء فيقبض الله -تبارك وتعالى- أرواحهم، ليقلهم بعد ذلك -سبحانه وتعالى- إلى جنته.

{لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}، وأن الساعة؛ يوم القيامة، سماه الله -تبارك وتعالى- بالساعة لأن لها ساعة محددة، لا ريب فيها؛ لا شك فيها، لابد أن تكون، فالرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي قدر أن يحفظ هذه الأجساد هذه المدة الطويلة، ويحفظها بكامل حواسها، حتى إن هؤلاء الفتية عندما قاموا لم يشعروا بأدنى تغير، لا في بشرتهم ولا في شعورهم ولا في أظافرهم ولا في أحوالهم ولا في هيئاتهم، بل الأمر عندهم كان كأنها نومة خفيفة ناموها، فهذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- هو القادر على كل شيء، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}، ثم قال -جل وعلا- {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}، عند ذلك لما الناس شافوهم وتحققت لهم الآية بدأوا يتنازعوا الأمر فيما بينهم؛ ماذا نصنع بهؤلاء، {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، إبنوا عليهم بنيان؛ سدوا الكهف وإقفلواه، لقد ماتوا الآن فإتركوهم على حالتهم وإبنوا عليهم بنيان، إحموا هذا المكان وهذا ربهم أعلم بهم، اتركوهم لله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل على أن الناس؛ يعني هولاء الجيل غير الجيل السابق، وأن هذا جيل من الناس المؤمنين، {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، قال -جل وعلا- {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، لكن قال الذين غلبوا على أمرهم؛ اللي هم لعلهم هم أهل المتنفذون في المكان، الملوك، الوزراء، غيرهم، الذين لهم الأمر قالوا لا؛ سنتخذ مسجد عليهم، سنبني مسجد عليهم، يعني نجعل مكانهم هذا مكان عبادة فيجعلون هم في مكان، ثم يحاط هذا المكان ونتخذ هذا المكان مسجد للعبادة، لا شك أن ليس في هذا دليل على أنه ...، يعني على أن الصالح إذا مات يبنى على قبره مسجد، فإن الله -تبارك وتعالى- قد نهى عن ذلك في كل الشرائع.

كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «لعن الله اليهود والنصارى، إتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، يعني أن الله -تبارك وتعالى- لعنهم بهذا، إذ إتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وجاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما حكت هذا قالت ((يحذر ما صنعوا))، يعني يحذرون النبي -صلوات الله عليه وسلم- صنيعهم، فبناء المساجد على القبور محرم في كل الشرائع وليس في شريعة نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- فقط، بل في كل الشرائع حرم الله -تبارك وتعالى- ذلك وإنما هذا وقع بفعل الضلال، وإنما هذا وقع بفعل الضلال في الأقوام، كما وقع قبل هذا في قوم نوح بضلال الناس، فإن ود ويسوع ويغوث ويعوق ونسر وهي آلهة قوم نوح إتخذوها من هذا، كما قال إبن عباس -رضي الله تعالى عنه- ((كان بين آدم ونوح عشر قرون على التوحيد، ثم أنهم لما مات فيهم هؤلاء الرجال الصالحين ود ويسوع ويعوق ويغوث ونسر قال لهم الشيطان أنصبوا لهم أنصابًا حتى إذا رأيتموها إشتقتم إلى العبادة، ثم لما تقادم العهد عبدت من دون الله -تبارك وتعالى-))، وكذلك وقع الشرك كذلك في النصارى على هذا النحو، بأنه كان إذا مات فيهم الرجل الصالح وضعوا له ...، صوروا له هذه الصورة وهو في الكنائس، وكذلك أقاموا الكنائس على قبره، وفي الحديث أن أم حبيبة -رضي الله تعالى عنها- وأم سلمة ذكرتا للنبي -صل الله عليه وسلم- كنيسة قد رأتاها في أرض الحبشة، ووصفوا ما فيها من الصور، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا له هذه الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»، فدول أشر الخلق، أشر من كل يعني حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالله رب السماوات والأرض، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، فالشاهد أن قول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، وأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم فعلوا هذا، ليس في هذا دليل على جواز إتخاذ مسجد على قبور الصالحين بل هذا محرم في كل الشرائع.

ثم قال -تبارك وتعالى- تتميمًا لقصة هؤلاء {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف:22]، سيقولون؛ يعني المختلفون في شأن هؤلاء الفتية الذين هلكوا في الدهر الأول هذا، هم لقد كانوا ثلاثة وكلبهم هو الرابع، ويقولون خمسة وكلبهم الذي كان معهم هو السادس، وقال -جل وعلا- {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، وقول الله {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، أن هذا القول منهم إنما هو قول من بعيد، والرجم الضرب بالحجارة؛ بالغيب، فكأنهم يلقون كلامهم بالغيب بدون مشاهدة؛ عكس من يشاهد ويتكلم، فهذا لم يشاهد ولم يطلع على شيء ويقول الكلام، فهذا رجم بالغيب، القول الثالث لهم وهذا هو الصحيح {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، وقول الله هنا {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}، أولًا تثبيت لهذا القول ونسبة العلم إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}، وقد قال إبن عباس -رضي الله تعالى عنه- في تأويل هذه الآية ((أن من القليل هم سبعة وثامنهم كلبهم كما حكى الله -تبارك وتعالى- القول الثالث))، قال -جل وعلا- {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}، المراء اللي هو الجدال فيهم، إلا مراءً ظاهرًا؛ يعني في ظاهر الأمر، الأمر لا يحتاج إلى التشدد في إثبات الحق في هذا، فإنهم إذا كانوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة الأمر هذا الخلاف فيه هين، هم فتيه لكن الحقيقة هم فتيه آمنوا بربهم، زادهم الله -تبارك وتعالى- هدى، أو الكهف على هذا النحو كان من رحمة الله -تبارك وتعالى- بهم، أما العدد نفسه فليس وراء العلم به طائل كثير، {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، لا تستفتي أحدًا منهم في هذا الأمر، فإنهم يرجمون ويتكلمون في هذا الأمر رجمًا بالغيب؛ دون علم ومشاهدة، الذي يعلم هذا على الحقيقة هو الله -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}[الكهف:23]، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[الكهف:24]، هذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله وهو خطاب للمؤمنين جميعًا، ألا يتكلم أحد منهم وأنه سيفعل شيء غدًا إلا أن يعلق هذا بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ}، أي شيء، {........ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}[الكهف:23]، إني سأفعل هذا الشيء غدًا، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، علق الأمر بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، إذا شاء الله -تبارك وتعالى- فعلت وإذا لم يشأ الله -تبارك وتعالى- لم أفعل، لأن العليم بالأمر المستقبلي هو الله -تبارك وتعالى-، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، اذكر الله -تبارك وتعالى- إذا نسيت تعليق الأمر بالمشيئة، فإذا ذكرت شيء قلت سأفعل شيء غدًا كذا ولم تقل إن شاء الله، وتذكرت بعد ذلك أنك لم تستثني ولم تقل إن شاء الله فقل، كما قال إبن عباس -رضي الله تعالى عنهما- ((ولو بعد سنة))، يعني ولو ذكرت بعد عام فقل إن شاء الله، فقل إن شاء الله لكن من حلف طبعًا يحنث، من حلف أنه سيفعل كذا يعني غدًا ثم لم يفعل فإنه يحنث لا شك؛ وعليه كفارة اليمين، لكن يقول إن شاء الله إستدراكًا لما يقع من المخالفة والإثم في هذا الأمر يقل إن شاء الله، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}[الكهف:23]، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، أي نسيت أن تعلق الأمر على المشيئة، {........ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[الكهف:24]، وقل عسى؛ وهذا ترجي، {أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}، أن يجعلني مقارب للحق في هذا ديَّت، وأن يرشدني -سبحانه وتعالى- إلى القيام بهذا الأمر على نحوه.

وقد جاء في الحديث أن سليمان إبن داود -عليهما السلام- قال «لأطوفن الليلة على مئة إمرأة، تلد كل واحدة منهن فارسًا يقاتل في سبيل الله ولم يستثني»، لم يقل إن شاء الله، يقول نبينا فلم تلد إلا إمرأة واحدة منهن شق إنسان؛ شطر إنسان، يعني ناقص؛ إنسان ناقص، شطر نصف إنسان، يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «والله لو قال إن شاء الله»، لو قالها هذا النبي إن شاء الله «لقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون»، كان جميعهم قاتل في سبيل الله لو أنه قال إن شاء الله، قيل أن سبب نزول هذه الآية في وسط سياق قصة أهل الكهف، أنه لما قال للكفار...، أراد الكفار أن يختبروا النبي -صل الله عليه وسلم- وسألوه عن فتية هلكوا، قالوا أخبرنا في فتية هلكوا في الدهر الأول كان لهم شأن، فأخبرنا عن شأنهم؟ فقال أخبركم غدًا على أن الوحي يأتيه ولم يقل إن شاء الله، فإستلبث الوحي لذلك خمسة عشر يومًا، ثم نزل الوحي بعد ذلك، وكأن هذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- ألا يقول لشيء سأفعله غدًا إلا أن يعلق الأمر بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}[الكهف:23]، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[الكهف:24].

ثم قال -جل وعلا- {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}[الكهف:25]، هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- بالمدة التي مكثها هؤلاء الفتية المؤمنون في الكهف الذين آووا إليه، وأنهم جلسوا ثلاثمائة سنة وإزدادوا تسعًا، قيل أن هذه الثلاثمائة وتسعًا إنما هي بالسنين القمرية، وإلا فهم ثلاثمائة سنة بالسنين الشمسية والفرق بين كل ثلاثين سنة شمسية يقابلها عام كذلك يعني تزاد عام في السنين القمرية، نسبة واحد إلى ثلاثين، {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}[الكهف:25]، {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}، كذلك أنسب العلم في كل هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، {لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، غيب السماوات والأرض الذي يغيب عن الخلق يعلمه الله -تبارك وتعالى-، لأن الله لا غيب عنده، الله لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى- من كل خلقه، {........ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، فلا غيب على الله، الله ما عنده غيب، ما عنده شيء يغيب عنه ولا مثقال ذرة، وله غيب السماوات والأرض؛ غيب بالنسبة للمخلوقات، فالملائكة لا يعلمون كل الموجودات، في أشياء كثيرة غايبة عليهم، والبشر لا يعلمون إلا في الحدود الضيقة التي يعيشون فيها والتي أعلمهم الله -تبارك وتعالى- إياها وما وراء هذا غيب، فالله كل الغيب الإضافي بالنسبة للخلق يعلمه الله -تبارك وتعالى-، {لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، -سبحانه وتعالى-، {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}، يعني ما أسمعه وما أبصره -سبحانه وتعالى-، يعني أنه السميع لكل خلقه، ما يغيب عن الله -تبارك وتعالى- صوت ولا حس ولا خبر، وكذلك بصره -سبحانه وتعالى-، {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}، يعني بصره قد وسع كل الموجودات، وسمعه -سبحانه وتعالى- قد وسع كل الموجودات، فلا يغيب شيء عن سمعه ولا عن بصره -سبحانه وتعالى-.

{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ}، ما لهم؛ للخلق كلهم، من دونه؛ دون الله، من ولي؛ ناصر، لا ناصر لأحد من دون الله -تبارك وتعالى- ولا أحد أبدًا، لا أحد ينصر أحدًا دون الله -تبارك وتعالى-، {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}، لا يشرك الله -تبارك وتعالى- في حكمه أحدًا، حكمه الكوني القدري وحكمه -سبحانه وتعالى- الشرعي الديني، فالله لا شريك له في حكمه، لا يشرك في حكمه أحدًا، الله -تبارك وتعالى- يحيي، يميت، يعز، يذل، يغني، يفقر، يهدي، يضل، كل الحكم في هذا كله إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالهدى والضلال والغنى والفقر والصحة والمرض والحياة والموت والحركة والسكون والضحك والبكاء، كل هذه الأحكام الكونية القدرية هي لله، ولا يوجد مع الله -تبارك وتعالى- من يشاركه شيء في حكمه الكوني القدري، فما شاء الله وحده كان وما لم يشأ لم يكن، وكل صاحب مشيئة إنما هي مشيئته خاضعة لمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ........}[الإنسان:30]، فكل صاحب مشيئة إذا شاء؛ الإنسان يشاء، الملك الجن يشاء، كل مشيئة ذي مشيئة أيضًا هي خاضعة لمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، فالذي يشائه الله -تبارك وتعالى- هو الذي يكون والذي لا يشائه لا يكون، فحكم الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري لا شريك له وكذلك حكمه الشرعي الديني، في أنه يحل من يشاء، يحرم ما يشاء، يشرع لعباده ما يشاء، لا أحد يدخل في التشريع الشرعي الديني مع الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يشرع لعباده من الدين ما شاء، كما قال -جل وعلا- {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ .........}[الشورى:13].

والفرق بين الحكم الكوني القدري أن الحكم الكوني القدري لابد أن يقع، وأما حكم الله -تبارك وتعالى- الشرعي الديني فممكن الناس أن يخالفوه ويشرعوا لأنفسهم هذا ديَّت، فهنا تجاوزوا الحكم الشرعي الديني الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- ويعاقبون عليه، ولكنهم لا يجاوزون هذا إلا بحكم الرب الإله -سبحانه وتعالى- الكوني القدري، فأيضًا هو واقع فيما أراده الله -تبارك وتعالى- وشائه كونًا وقدرًا، فكل المعاصي التي يعصى بها الرب -تبارك وتعالى- هي خروج عن شرعه الديني، لكنه واقع بأمره الكوني القدري -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16]، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ}، وقال -تبارك وتعالى- {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، فكله واقع بمشيئته الكونية القدرية -سبحانه وتعالى-، فالله لا يشرك في حكمه أحدًا، قال -جل وعلا- {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ........}[الكهف:26]، ما أعظم بصره -سبحانه وتعالى- وسمعه الذي وسع كل الموجودات، {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}، لا يشرك الله -تبارك وتعالى- أحدًا في حكمه، لا الكوني القدري ولا الشرعي الديني -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27]، واتل؛ إقرأ، {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، الذي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليك من كتاب ربك، أوحي إليك؛ والذي موحي هو الله –تبارك وتعالى- ويأتيه الوحي عن طريق جبريل من الله -جل وعلا-، من كتاب ربك؛ هذا القرآن، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، لا يستطيع أحد أن يبدل كلمات الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد حفظها عن التبديل والتغيير {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، وكذلك أحكام الله -تبارك وتعالى- لا تتبدل، فما حكم به في الكفار واقع وما حكم به في أهل الإيمان واقع، وكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه من هذه الأحداث أنها تكون لابد أن تكون كما أخبر بها الرب -تبارك وتعالى-، فيه جنة، فيه نار، فيه يوم قيامة، فيه حساب، فيه إدخال لهؤلاء، كل هذه الأحكام التي حكم الله -تبارك وتعالى- بها، كلمات الله -تبارك وتعالى- لا يستطيع أحد أن يبدلها وأن يغير أحكام الرب -تبارك وتعالى-، {........ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27]، لن تجد من دون الله ملتحدًا، الملتحد؛ الملجأ، الملجأ والحماية، يعني لن تجد لك حماية تحميك من دون الله -تبارك وتعالى-، هذا إذا قصرت في شيء مما أمرك الله -تبارك وتعالى- به، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ........}[المائدة:67]، فلا ملتحد؛ لا ملجأ للنبي ولا لغيره أحد من دون الله -تبارك وتعالى-.

نقف عند هذا، نستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.