السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (35) - سورة البقرة 118-121

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين،

قول الله -تبارك وتعالى- {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[البقرة:118]، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}[البقرة:119]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الذين لا يعلمون وهم العرب المشركون، ومعنى أنهم لا يعلمون ليسوا أهل كتاب، ولا هم على دين وهداية من الرسل، وإنما هم جُهَّال ليسوا على علم، قالوا {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، لولا هلَّا كلمنا الله -تبارك وتعالى-، يريدون أن يسمعوا كلام الله -تبارك وتعالى- كفاحًا، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} منه، وقولهم هذا يدل على كفرهم وعنادهم وعلوهم في أنفسهم، فإن الرب الإله العظيم خالق السماوات والأرض، محتجبٌ عن عباده بكبريائه وعظمته -سبحانه وتعالى-، ثم أنه قد أقام لعباده من الآيات الدالة عليه آيات عظيمة، فوجود الإنسان أعظم آية، وجودك أنت أعظم آية لله -تبارك وتعالى- آيةٌ عظيمة، بل كل ذرة في كيانك؛ خلية في كيانك هي آية من آيات الرب -تبارك وتعالى-، ثم كل ما حولنا في السماوات والأرض، النبات آية، الحيوان آية، البحر آية، البر آية، الجبال آية، السحاب المسخَّر بين السماء والأرض آية، هذه المعايش وهذه الأرزاق وهذا الإرفاق هذه آية، هذا التوازن القائم في الكون آية، آيات السماوات لا تحصى، ولا يمكن للبشر أن يبلغوا علمها وأن يحيطوا بها، فكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، فآيات الله -تبارك وتعالى- في الخلق لا يمكن أن يحيط بها عقل الإنسان، ولا أن يعدها العاد، ولو تكلف إنسانٌ أن يحصر حياته في معرفة دقائق آية واحدة من الآيات، كنبتة واحدة من النبات، أو جزء واحد من أجزاء الإنسان، لأفنى عمره كله ولم يصل إلى بديع، وأسرار ما ركز الله -تبارك وتعالى- فيه.

انظر في وقتنا الحاضر آخر ما توصَّل إليه الناس، شيء من علم هذه الخلية، مكونات الخلية البشرية مما تتكون، الخلية وجدت أنها عبارة عن مجرة هائلة، فيها من الموجودات والمخلوقات والحياة والاتصالات والأسرار، شفرة الإنسان، بصمته الوراثية، أمور تحير العقل، وهي جزء دقيق لا يمكن أن يرى بالعين المجردة -الخلية-، فالإنسان أكثر من ستة مليارات من الخلايا، كل خلية تحمل جميع صفاته الوراثية، فهذه آيات الرب -تبارك وتعالى-، قد نصبها الله -تبارك وتعالى-، وقد أقامها في كل ذرة من ذرات هذا الوجود، لكن هؤلاء الجُهَّال لا ينظرون إلى هذه الآيات الكونية، وكذلك لا ينظروا إلى آيات الله -تبارك وتعالى- المقروءة، هذا القرآن المنزَّل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- وكله آيات، كل سورة منه تنقسم إلى مجموعة من هذه الجمل، كل جملة آية تدل على أن منزِّلها الله -تبارك وتعالى-، كذلك مع أجراه الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صلوات الله والسلام عليه- من الآيات، المعجزات العظيمة الكبيرة، سواءً كان من خوارق العادات، أو كان من أخباره بالغيوب المستقبلة التي تقع، كما أخبر غيوب؛ الغيوب السابقة التي يخبر بها كما هو عند اليهود والنصارى، وهو لم يقرأ كتابًا، هو رجلٌ أمي، فهذه الآيات كذلك التي جاءت على يدي النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم- لا تحصى كثرة، ولكن هؤلاء لجهلهم كأنهم لم يروا لله -تبارك وتعالى- آية، واستكبروا في أنفسهم، ورأوا أنهم لا يؤمنون إلا إذا خاطب الرب كل أحدٍ منهم.

قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، أي أنهم في الكفر والعناد كسابقيهم، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}، تشابهت قلوب الكفار الذين كفار العرب، وكذلك الكفار؛ كفار الأمم السابقة، تشابهت قلوبهم في الكفر، قال -جل وعلا- {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، بينَّا الآيات سواء كانت الآيات الكونية المنظورة، أو الآيات هذه السمعية المنزَّلة على عبده ورسوله محمد، لكن لقومٍ يوقنون، أهل يقين، أهل تصديق، إذا صدَّق أيقن، أما المكذِّب الذي من صفته التكذيب، فإنه لا يمكن أن يستفيد بهذه الآيات، لأنه يأتيه الصدق فيرده، فيبقى على عماه.

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، إنَّ الله –تبارك وتعالى- أرسلناك أي يا محمد هذا من آية الله -تبارك وتعالى- أن يرسل هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- وتأييده بما أيد به، ونصره الذي هو معجزة، خرق للعادة أن يخرج رجل أمي في هذا البلد الصغير مكة، ثم يُنزِل الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن، الذي نزل بعلم الله -تبارك وتعالى-، والذي يعجز كل البلغاء والفصحاء أن يأتوا بسورةٍ من مثل سوره، ثم يعجز كل الحكماء بأن يأتوا بشيء من الحكمة التي فيه، والعلم الذي فيه، ثم إن الله -تبارك وتعالى- ينصره هذا النصر المبين، وهو ناشئٌ في أمة جاهلة أمية، تنظر إليها جميع الأمم بعين الاحتقار والازدراء، فيجعل الله –تبارك وتعالى- أمته خير أمم الأرض جميعًا، فالنبي آية من أعظم آيات الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أي يا محمد، {بِالْحَقِّ}، هذا الإسلام دين الحق، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، بشيرًا؛ البشارة هي الإخبار بما يسر، أي تخبر الذين يؤمنون بك بكل مسرة، وبكل خير لهم في الدنيا والآخرة، ونذيرًا؛ النذارة هي الإخبار بما يسوء تحذير، والنبي نذير للعالمين، ينذرهم بعقوبة الله -تبارك وتعالى- إن اختاروا الكفر على الإيمان.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، ولا تسأل عن أصحاب الحجيم؛ لا يسألك الله -تبارك وتعالى- عن أصحاب الجحيم النار، لِما لم يهتدوا، فإن هدايتهم وإضلالهم إلى الله –تبارك وتعالى-، هذا من تصريف الرب في عباده وفي خلقه، وليس من شأن الرسول أن يهدي أحدًا، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فالهدى لله -سبحانه وتعالى- وليس لرسوله، الهدى فعل الله -تبارك وتعالى-، وإنما النبي المأمور به أن يكون بشيرًا ونذيرًا -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم أخبره الله -تبارك وتعالى- هنا بما يقطع أمله في هداية هؤلاء المعاندين من اليهود والنصارى، وكذلك في أن يتَّبع طريقهم وملتهم، فإنهم أهل أهواء ولن يرضوا إلا من اتَّبع هواهم، قال -جل وعلا- {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[البقرة:120]، يخبر -سبحانه وتعالى- رسوله أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه، إلا إذا اتَّبع ملتهم، وهنا ذكر ملتهم؛ ملة اسم جنس، أي ملة كلٍّ، فاليهود لن يرضوا عن النبي إلا إذا كان يهوديًا مثلهم، والنصارى لن يرضوا عنه إلا أن يكون نصرانيًا مثلهم، قال الله هنا ملتهم لم يقل دينهم، وذلك أنهم أهل ملَّلٍ شتى، فكلٌ منهم مفترق في الدين، فاليهود يفترقون في دينهم ويكفروا بعضهم بعضًا، فهم ملَّلٌ شتى، والنصارى كذلك ملَّلٌ شتى، وكل ملة تكفِّر الأخرى، فهنا {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ملة كلٍّ، فالنصارى أيضًا لا يرضوا عنك حتى تكون نصراني، من الفرقة التي يدعون إليها، حتى مجرد أن يكون نصرانيًا لا يقبلوا هذا، حتى يكون من فرقتهم وملتهم، وهذا تيئيس، أولًا إخبار بمقصد هؤلاء، وتيئيسٌ للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنّ هذا الخطاب هو للنبي، والمقصود أمته، فالنبي لا يمكن أن يتَّبع اليهود والنصارى، وإنما خُطِبَت الأمة في شخص النبي لتحذر هذا ولتعلم، أن هذا هو عمل اليهود والنصارى، أنهم لا يمكن أن يرضوا عنهم إلا إذا اتبعوا طريقتهم وملتهم.

قال -جل وعلا- {قُلْ} أي قل لهم، {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، إن هُدى الله؛ هدى الله هنا دينه، شرعه، ما أنزله هو الهدى، أي هو الهدى الحقيقي، فهدى الله -تبارك وتعالى- هو الهدى الحق، أي صراطه ودينه وشرعه هو الذي يجب أن يتَّبع، وهذا هو الهدى، أما كل فرقة وملة تدعوا إلى ملتها وهواها، الذي اخترعته بأنفسها، فهذا لا برهان عليه، ولا دليل عليه، بل هدى الله طريقه ودينه هو الهدى الحق، ثم قال -جل وعلا- {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}، هنا قال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، ما قال ولئن اتبعت ملتهم، وذلك إنما كل ملة إنما هوى، أي كل فرقة من هذه الفرق افترقت في الدين، إنما هي هوى، -أهواء- فالفرق أهواء، ومعنى أنها أهواء أي كلٌ قد اختار واخترع طريقة في الدين بهواه، رأها عند نفسه حسنة فاتبَّعها، ومن هذا سمى علماء الدين في الإسلام أهل البدع، سموهم أهل الأهواء، أهل الأهواء لأن بدعهم إنما هي ناشئة من الهوى، فليست ناشئة من الدين، وإنما هي من الهوى، فالبدع التي ظهرت في الإسلام كالخروج والقول بالقدر والجهمية والرفض والإرجاء، وما تفرَّع من هذه البدع الكبرى، نجد أنها أهواء، فهنا أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه هؤلاء اليهود والنصارى أهل أهواء، وليسوا أهل دين من الله -تبارك وتعالى-، قال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، بعد الذي جاءك من العلم، هذا القرآن المنزل إليك، وهو لا شك أنه نزل بعلم الله -تبارك وتعالى-، وهو من عَلِمَهُ أتاه العلم اليقيني أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى- ودينه، من بعد ما جاءك من العلم بالله –تبارك وتعالى- وبرسالاته وبدينه.

ولو فُرض هذا {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}، يتخلى الله -تبارك وتعالى- عنك، ولا يكون لك من الله ولي، الولي؛ الولي الناصر والمحب، ولا نصير ينصرك، أي أن الله -تبارك وتعالى- يتخلى عنك، وذكرنا أن هذا التحذير من الله -تبارك وتعالى- لرسوله، إنما هو تحذير للأمة، لأهل الإسلام، والنبي معلوم أن النبي -صلوات الله عليه وسلم- لا يتبع هوى اليهود والنصارى، ولا يقع في نفسه هذا الأمر، لكن هذا تحذير للأمة، حُذِرَت في شخص النبي -صلوات الله عليه وسلم-، أن هذا خطاب إذا كان يوجه للنبي فطبعًا غيره بطريق الأولى والأحرى، والخطابات على هذا النحو كثيرة، التي توجه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كقول الله -عز وجل- {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65]، {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66]، ومعلوم أن الأنبياء معصوم من الشرك، لكن هذا إذا كان موجه للنبي بأنه لو أشرك -لو أشرك- لو فُرض أنه وقع منه هذا، فإنه حَبِط عمله، فغيره بطريق الأولى لو وقع منه الشرك فلا شك أنه لا تُقال عثرته عند الله -تبارك وتعالى-، فقول الله {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} أي يا محمد، يا أيها المخاطب {أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:121]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، الذين آتيناهم الكتاب ومسَّكناهم به، سواءً كان هذا الكتاب جنس الكتاب، جنس الكتاب التوراة الإنجيل القرآن، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}، التلاوة تطلق على القراءة، وكذلك الاتِّباع، فهم يقرءونه ويتبعوه ما فيه حق التلاوة، لأن القراءة لا تكون حقًا إلا إذا كان صاحبها مؤمنًا بها، عاملًا بما فيها، {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}، ليس المقصود هنا إقامة حروفه، وإنما كذلك القيام بمعانيه، والقيام بأوامره، بهذا الذي يتَّبع الكتاب، ويقرأ الكتاب ويتلوه حق تلاوته، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، أولئك أي الذين يقرءون الكتاب حق تلاوته يؤمنون به، والإيمان إنما هو تصدق، وعملٌ بمقتضى هذا التصديق.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، مَن أي أحد، يكفر به؛ يكفر بالكتاب المنزَّل على محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فلا شك أنه خاسر، والخسران ليس خسران جزئي، وإنما خسران كل شيء، أن يفقد نفسه، {........ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15]، فأولئك هم الخاسرون على الحقيقة، خسران كل شيء، يخسر ماله، بعد الموت طبعًا يفقد كل شيء، وإذا كان في الآخرة ليس هناك شيء مما أنفقه نافعه عن الله -تبارك وتعالى-، الكافر ما ينفعه شيء، ثم يخسر نفسه بأن يوردها النار عياذًا بالله، بهذا هو الخاسر على الحقيقة، فهولاء الذين زعموا أنهم أهل الدين وأهل الجنة، وأنهم أهل رضوان الله -تبارك وتعالى-، وأنهم أهل الحق، وأنهم هم السائرون في طريق الاستقامة، ده من هؤلاء اليهود الذي ادعوا هذه الدعاوي والنصارى، ومشركو العرب كذلك الذين ادعوا أنهم أهل محبة الله، وأهل دينه، وأهل رضوانه، وأن النبي صابئ وخارج عن هذا الدين، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الذين أخذوا القرآن فآمنوا به، واتبعوه حق الاتِّباع، فهؤلاء هم أهل النجاة، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} بالقرآن،  {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

ثم ردَّ الله -تبارك وتعالى- في ختام هذا الحديث الطويل مع بني إسرائيل، رد الله -تبارك وتعالى- عليهم ما بدأوه من المناداة لهم، أن يدخلوا في الدين، مرةً ثانية قال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47]، نداءٌ أخير في ختام هذا الفاصل الطويل مع اليهود، يا بني إسرائيل، يا أولاد يعقوب،  {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، اذكروها؛ الذكر هنا أن تستحضر، أن يعلم مقدار هذه النعمة، أن يشكر المنعم -سبحانه تعالى-، لأن هذا كله مقتضى الذكر، كلٌ مقتضى الذكر أن تعلم أنها نعمة الله -تبارك وتعالى-، أن لله -عز وجل- هو الذي أجراها عليهم، أن يشكروا ربهم -سبحانه وتعالى- على هذا، أن يُقدِّروا هذه النعمة، أن يعملوا بمقتضى هذه النعمة، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47]، فضَّلهم الله -تبارك وتعالى- على عالم زمانهم، بالهداية إلى الدين، بأن جعل منهم أنبياء ورسل، وجعلهم ملوكًا، وملكَّهم في الأرض، وجعل النبوة تتناسل في نسل إسحاق فإسرائيل، وكل الأنبياء الذي جاءوا إلى عيسى -عليه السلام- كلهم من أولاد يعقوب.

ثم بعد ذلك جعل الله -تبارك وتعالى- النبوة في أبناء إسماعيل، في محمدٍ -صلوات الله والسلام عليه-، {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، وقد ذكرنا أن تفضيلهم على العالمين، ليس تفضيلًا على العالمين بإطلاق، بل إن الله -تبارك وتعالى- فضَّل محمد وأمته على سائر أمم الهداية، فالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل من جميع الرسل والأنبياء بلا شك، بل هو سيد ولد آدم -صلوات الله والسلام عليه-، وأفضل من كل أنبياء بني إسرائيل، ثم إن أمته خير أمة للهداية، قال -تبارك وتعالى- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .......}[آل عمران:110]، فهم خير أمم العالمين ممن سبقهم من الأمم السابقة كلها، فإن الله -تبارك وتعالى- ورَّثهم الدين، جعلهم ورَّاث للدين، وورثهم الكتاب، وجعل فيهم الأنبياء، ولكن الله -تبارك وتعالى- جاء برسول هو خير الرسل، وجاء بأمة هي أفضل منهم ولا شك، وأفضل من كل أمم الهداية بإطلاق.

لكن الله يذكِّرهم نعمته السابقة عليهم، فيقول {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47]، أما هؤلاء الذين كفروا بعيسى فليسوا داخلين في هذا الخطاب، ليسوا فضَّال، لم يفضلهم الله على العالمين، والذين كفروا بمحمد بل هؤلاء كفار، مجرمون خارجون عن هذا، وإن الله -تبارك وتعالى- يبين فضله على بني إسرائيل، الذين توارثوا الكتاب وكانوا على الهداية.

ثم قال -جل وعلا- {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، تحذيرٌ منه -سبحانه وتعالى- عن الموقف يوم القيامة، قال {وَاتَّقُوا يَوْمًا}، اجعلوا وقاية بينكم وبين العذاب في هذا اليوم، اتقِ اليوم؛ ليس اليوم هنا أنه الزمان الذي يُتقى، وإنما ما في هذا اليوم، أي اتقوا ما يكون في هذا اليوم، {وَاتَّقُوا يَوْمًا}، هذا اليوم وصفه الله قال {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، لا يمكن أن تجزي نفس عن نفس شيئًا، وهذا هو عِلَّة ضلال بني إسرائيل، أنهم ظنوا أن صلاح آبائهم نافعٌ لهم مع كفرهم، وهذا من الباطل، قالوا نحن أولاد إبراهيم، وأولاد إسرائيل، وقد بارك الله -تبارك وتعالى- إبراهيم، وبارك إسرائيل، ونحن مباركون ببركة هؤلاء الآباء، وكلنا داخلون الجنة من أجل ذلك، وهذا من الباطل، فإنه {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، أي نفس لا تجزي مهما كانت ولو نفس رسول ونفس نبي أو نفس ملك لا تجزي عن نفس كافرة، جاءت إلى الله –تبارك وتعالى- كافرة أن تجزي عنها شيئًا، بل هذه النفس الكافرة لا شفاعة لها، ولا حميم لها، ولا صديق لها، ولا مُعين لها يوم القيامة، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، أي في هذا اليوم العصيب العظيم،  {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ}، أي هذه النفس الكافرة التي تأتي لا يقبل منها عدل، العدل ما يعادل ذنبها تفتدي به، كأن تدفع فدية تعادل الخطيئة التي أخطأتها، فهذه كذلك لا تقبل، طبعًا لو كان لها، لأنه الكافر لا يكون له أصلًا يوم القيامة مال يفتدي به، لكن لو فرض أنه كان له مال ليفتدي به، يقول له الرب -تبارك وتعالى- للكافر، أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ أي من هذا العذاب عندما يرى العذاب، فيقول إي والله يا رب أفتدي به، لو أملك الآن مثل الأرض ذهب أدفعه لأنجو، فيقال كذبت، قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك، ألا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا، فأي عدل، أي قيمة يمكن أن يُقَوَّم بها الذنب حتى تفتدي به، ليس هناك قيمة، ولو وجدت فإنها لا تقبل.

{وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}، الكافر لا تنفعه شفاعة يوم القيامة، فالملائكة والشافعون لا يشفعون إلا بإذن الله -تبارك وتعالى-، ولا يشفعون إلا لمن رضي الله -تبارك وتعالى- عنه، والله لا يرضى عن الكافر، ما يرضى عنه، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254]، هم الذين ظلموا أنفسهم، وكان هذا الأمر أن لا تكون لهم شفاعة ولا ديَّت، ألا من جرَّاء فعلهم، {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فأي شفاعة لا تنفع، لو جاء إبراهيم نفسه فشفع في كافر فلا تقبل، كم في الحديث الصحيح «أن إبراهيم يلقى أباه آذر يوم القيامة، وقد سُربل أذر بسربال من قطران، وعلت وجهه غبرةً وقترة، فيقول إبراهيم لأبيه آذر، يا أبتي ألم أقل لك لا تعصني، فيقول له الآن لا أعصيك، فينادي إبراهيم ربه، ويدعوا ربه ويقول ربي لقد وعدتني ألا تخذني يوم يبعثون، وأي خذيٍ أكبر من أبي الأبعد، فينادى أي إبراهيم، يقال له يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين» هذا حكم سبق من الله -تبارك وتعالى- وقول منه، وقول الله لا يبدَّل، لا يبدَّل القول لدي، فإذا حكم الله -تبارك وتعالى- بأنه لا يدخل الجنة كافر، فلا يدخل الجنة كافر، ولو كان ما كان، فيقال يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين، وانظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بذيخٍ ملطخ بالدماء، فيؤخذ من قوائمه ويلقى في النار.

فلا مجال لأن تنفع نفسٌ نفسًا، فهذا نوح يقول {........ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود:45]، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود:46]، وأيضًا قال -تبارك وتعالى- {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10]، {وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، ما أحد ينتصر من الله -تبارك وتعالى-، وينتصر على الله -تبارك وتعالى-، فالله منفذٌ وعيده في أهل معصيته، ولا رادَّ للعقوبة التي ستنالهم يوم القيامة، هذا تحذير من الرب -تبارك وتعالى- لليهود، ويقول لهم قدِّروا هذا اليوم الذي تقفون فيه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، ما تستطيعون أن تنجو من الكفر بشيء.

نقف عند هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.