الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (350) - سورة الكهف 27-31

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، في ختام ما قص الله -تبارك وتعالى- من قصة أصحاب الكهف وجه الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلوات الله والسلام عليه- إلى مجموعة من الحكم والمواعظ، فمن جملة هذا قال -تبارك وتعالى- {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، فهذا هو الكتاب الذي فصل الله -تبارك وتعالى- فيه وحكم فيه الحكم كله، فهذا القصص المختلف فيه والتي إختبروا بها النبي -صل الله عليه وسلم-، قالوا له أخبرنا عن فتية هلكوا في الدهر الأول كان لهم شأن، الله -تبارك وتعالى- أتى بالخبر اليقين في هذا الأمر؛ يقصه الله -تبارك وتعالى- فيه، فكتاب الله -تبارك وتعالى- هو القول الفصل وهو الخبر الصادق، قال {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ}، اي يا محمد، {مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، كتاب شرفه الله -تبارك وتعالى- أنه منسوب إلى الله -تبارك وتعالى- فالله الذي تكلم به، الله علام الغيوب -سبحانه وتعالى- العليم بكل شيء، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، لا مبدل لكلماته؛ كل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به أنه سيكون لابد أن يكون، لا يتبدل شيء ديَّت، فخبر الله -تبارك وتعالى- كله صدق فلا تبديل لكلماته، أخبر عن الجنة وعن النار، عن الكفار، عن المآل، عن قيام يوم القيامة، كل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- لابد أن يكون، لا أحد يستطيع أن يبدل كلمات الله –تبارك وتعالى-، لا تبديل لكلماته، كذلك هذا أيضًا إخبار بأن القرآن هذا لن يتغير ولن يتبدل، وهو محفوظ بحفظ الله -تبارك وتعالى-، قال {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، لا يستطيع أحد أن يبدلها وأن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو يزيد فيه أو ينقص منه، بل حفظه الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}، لن تجد لك أيها النبي ولا أحد من دون الله -تبارك وتعالى- ملتحد، الملتحد من اللحد اللي هو مكان يلحد الإنسان فيه؛ يميل فيه، فيختبئ فيه أو يحمي نفسه فيه من عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، يعني لا ملجأ لك أيها النبي إلا الله -تبارك وتعالى- الذي يجب أن تلجأ إليه، هو ربك، هو إلهك، هو نصيرك، وإقرأ هذا القرآن المنزل لك من الله -تبارك وتعالى-، وطبعًا هذا القرآن حمل ثقيل وعبء عظيم على النبي -صل الله عليه وسلم-، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، فهو صدع بالحق وقول به وإغضاب لكل هؤلاء الكفار الذين يملأون الأرض، الله -تبارك وتعالى- كأنه يثبت نبيه -صل الله عليه وسلم- على القيام بهذا الأمر، وأن يصدع بهذا الحق الذي نزل له من الله -تبارك وتعالى-، {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27].

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يصبر نفسه، ما قال واصبر قاله اصبر نفسك يعني إذا النفس لا تريد يجب أن يثبتها ويرغمها، {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، هؤلاء هم هؤلاء الفقراء المساكين الذين سارعوا إلى الدخول في هذا الدين، أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله أن يصبر نفسه معهم، ومدح الله -تبارك وتعالى- هذه الصفوة المؤمنة التي سارعت إلى الهدى والنور والخير، قال {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، يدعون ربهم بالغداة؛ في الصباح، والعشي؛ المساء، يريدون وجهه؛ الله ما أشرفهم! ما أشرف هؤلاء وما أعلى قدرهم ومنزلتهم، فهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، إذن هم مخلصون لله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء هم أهل الله، هم صفوته، هم أحبابه، فهؤلاء أمر النبي بأن يصبر نفسه معهم، وإن كانوا ما كانوا من الفقر ومن القهر ومن العذاب النازل عليهم من الكفار، قال {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، تعد عيناك؛ تتعداهم إلى غيرهم، {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، تريد هؤلاء؛ أهل الفخامة والوجاهة والجاه والمنزلة من هؤلاء المشركين الذين عندهم هذا، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، لا تطع هذا الذي أغفل الله -تبارك وتعالى- قلبه عن ذكره -سبحانه وتعالى-، هذا الكافر الغافل عن ذكر الله -تبارك وتعالى- الملهي بهذه؛ بدنياه، والمعتز بغروره، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، متبع لما يشتهيه يتبعه.

{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وكان أمره؛ شأنه فرطًا، مفرط في أمره وذلك أن الذي يترك الرب -تبارك وتعالى-؛ يترك دينه ويترك طريق الجنة، وينشغل بهذه الدنيا وذاهب وراء شهواته مضيع، هذا مضيع وضائع وأمره مفروط، والفرط هو الفك والنثر، فهذا أمر يعني ليس أمره محكمًا، فالذي حكم أمره بالفعل هو المؤمن المتقي لله -تبارك وتعالى-، سائرًا هذا سائر في درب السلامة إلى النجاة؛ النجاة من النار ودخول الجنة، أما هذا مفرط، أمامه النار ماشي إليها، الجنة تاركها، متبع لهواه، هذا ضائع، ضائع مضيع، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، في ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عند سعد إبن أبي وقاس -رضي الله تعالى عنه- يقول سعد كنت أنا وعبد الله إبن مسعود ورجل أخر من هذيل وبلال ورجلان، كنا قول ستة نفر وقال الكفار أطرد هؤلاء، يقول جاء بعض الكفار من الوجهاء قالوا للنبي -صل الله عليه وسلم- أطرد هؤلاء ليجترئون علينا، قالوا ها دول أطردهم وإحنا مستعدين نجلس معك، ليجترئون علينا؛ ليجترئ علينا عبيدنا وأرقائنا والضعفة هؤلاء، فإذا جلسنا وإياهم في مجلس واحد إجترئوا علينا، يقول سعد فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله للنبي {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، وذلك أن النبي كان حريصًا على أن يدخل الأغنياء وأهل المكانة والملأ من أهل قريش يدخلوا إلى هذا الدين، لأن بدخولهم للدين دخول لكل من هم تبع لهم إلى هذا الدين، والله -تبارك وتعالى- نهى رسوله -صلوات الله عليه وسلم- أن يتطلع إلى ذلك، كما جاء أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1]، {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2]، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3]، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4]، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5]، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6]، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7]، {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8]، {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9]، {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10]، {كَلَّا}، فالله -سبحانه وتعالى- يأمر رسوله أن يصبر نفسه مع هؤلاء الفقراء المسلمين وضعفتهم، وهؤلاء الذين كان منهم عبيد وأرقاء يستذلون ويستضعفون، أمره الله -تبارك وتعالى- أن يصبر نفسه معهم، قال {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، أي تتعداهم إلى غيرهم، {........ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28].

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}، قل؛ لهم لهؤلاء الكفار، الحق من ربكم؛ هذا الدين هو الحق، وهو ليس مني وإنما هو من ربكم، إلهكم وخالقكم -سبحانه وتعالى-، الله ملك السماوات والأرض، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، الأمر الآن أصبح موجه إليكم، من شاء أن يؤمن بهذا؛ هذا الحق، ما هو من عندي من عند ربكم خالقكم رازقكم والتالي هو الذي بيده كل شئونكم -سبحانه وتعالى-، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، من شاء أن يتخذ طريق الإيمان هذا طريقه، ومن شاء أن يكفر فهذا الطريق، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، يعني ليست مشيئة ...، مشيئة الآن وإختيار، إختاروا أحد الطريقين، لكن إعلموا هذي نهاية الطريق؛ يعني طريق الشر، وهذي نهاية طريق الخير، إنا؛ الرب -جل وعلا-، أعتدنا؛ أعددنا، وجائت أعتدنا بالزيادة في بنية الكلمة لبيان أن هذا معد ومعد، إنا أعتدنا للظالمين؛ وهو ظالم، الذي إختار الكفر على الإيمان ظالم، وضع الشيء في غير محله، ظلم نفسه، نارًا؛ اللي هي نار الآخرة، أحاط بهم سرادقها؛ سجن، السرادق هو الرواق الذي يكون حول الشيء قد أحاط بها من كل مكان نار، لكن هذه النار ليست نار مشتعلة وحولها هواء وفضاء... لا، وإنما سوره كله من نار {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، محصارًا يحصرون فيه، أحاط بهم سرادقها؛ أي من كل الجوانب، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، إن استغاثوا من شدة هذا السجن والعذاب نغيثهم بعذاب أشد، يغاثوا قال -جل وعلا- يستغيثوا؛ يطلبو الماء، يطلبوا الرحمة، يطلبوا الخروج من هذا، يطلبوا فكاك السجن، لكن إغاثتهم بزيادة عذاب، يغاثوا بماء كالمهل؛ ماء لكنه ليس كالماء المعهود في هذه الدنيا وإنما هو ماء كالمهل، ماء العذاب هذا، كالمهل؛ كالمعدن المذاب، كأنه رصاص مذاب أو حديد مذاب، ومعلوم أن هذه المعادن يعني في الأرض هنا لا تنصهر وتذاب إلا في درجات حرارة عالية؛ قد تصل إلى ألف درجة، ألفين درجة، فهذي كذلك، فهذه المعادن ديَّت، الماء؛ ماء الآخرة، هذا ماء أهل النار -عياذًا بالله- كالمهل، ثم قال -جل وعلا- {يَشْوِي الْوُجُوهَ}، الحرارة المنبعثة من هذا الماء تشوي الوجه، يعني إذا أراد أن يشربه شوى وجهه وهذا من الحرارة المنبعثة منه، فضلًا عن أنه لسة ما شربه، أما إذا شربه فإنه يقطع أمعائه -عياذًا بالله-، كما قال -جل وعلا- {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، فهذا يشوي الوجه أولًا، كما يقول بعض أهل العلم بالتفسير أنه إذا قربه من وجهه سقطت فروة وجهه فيه، ففروة الوجه تنقشع من شدة الحرارة وتقطع في هذا الماء الذي هو كالمهل؛ كالمعدن المذاب، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}، قال -جل وعلا- {بِئْسَ الشَّرَابُ}، بئس للذم، لا أقبح ولا أشد نكالًا وعذابًا من هذا الشراب، يسمى شراب لكن هذا شكله وهذا فعله وأثره -عياذًا بالله-، {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، ساء هذا مرتفقًا لهم، يعني هذا هو الإرفاق بهم، هذا الإرفاق، الإرفاق نقول الإرفاق في المجلس، واحد ترفق به تقوم تجلسه على سرير بدل ما يجلس على الأرض، ترفق به تجيب له ماء بارد عندما يكون هو في حرارة، ترفق به فتقوم تجيب له فراش ينام عليه، ترفق به تقوم تجعل الهواء الذي حوله مناسب، إذا كان فيه حرارة تخفف الحرارة عنه، ترفق به تجعله ينظر منظر جميل، فهذه المرافق التي هي رفق بالإنسان، مأكل هني، شراب مريح، فراش مريح، هذا مرتفق لكن مرتفق أهل النار هذا، إذا أخذوا يعني يرفق بهم؛ إرفاقهم إنما هو في إسقائهم مثل هذا الماء، {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، لهم، هذا الذي إختار هذا الطريق.

أما الأخرون الذين إختاروا طريق الرب -سبحانه وتعالى-، قال –جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، هذا طريق الله؛ الإيمان والعمل الصالح، إن الذين آمنوا؛ والإيمان إذا قرن بالعمل الصالح ينصرف الإيمان إلى أعمال القلوب، كما سئل النبي -صل الله عليه وسلم- عن الإيمان فقال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله -تعالى-»، هذي أصول الإيمان، والعمل الصالح اللي هي أعمال الإسلام، أعمال الإسلام وتسمى كذلك أعمال الإيمان اللي هي الأعمال الخارجية، كما سئل النبي عن الإسلام فقال «أن تشهد أن لا إله إلا الله وهذه شهادة باللسان، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلًا»، والأعمال الصالحة كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، كما قال النبي «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، فهذي الأعمال الصالحة؛ بعضها واجب فرض وبعضها مستحب، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات الله يقول {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ودائمًا يقرن الله -تبارك وتعالى- بينهما في الجزاء وأن الجنة تبع لهذا؛ تبع للإيمان والعمل الصالح، ما قال الله -تبارك وتعالى- في أي آية من القرآن إن يعني الإيمان وحده دون العمل منجي ومدخل إلى الجنة، بل يقرن الله –تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف:30]، إنا؛ الرب -سبحانه وتعالى-، الذي لا إله غيره -سبحانه وتعالى- ولا رب سواه، {لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، هذا عامل لله، هذا المؤمن الذي عمل الصالحات عمل لله، والله أخبر بأن هذا مثله كمثل الأجير، الله -تبارك وتعالى- سيعطيه أجره، والذي سيأجر هنا الله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- من صفته -جل وعلا- ومن شأنه أنه لا يضيع أجر عامل، واحد أحسن العمل لا يمكن أن يضيع الله -تبارك وتعالى- أجره، ليس هذا من صفات الله -تبارك وتعالى-، إن واحد يعمل لله ثم الله -تبارك وتعالى- يضيع أجره، يقول له ما عملت أو ينساها أو... لا، بل الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للعامل الذي عمل له لو عمل ذرة من الخير فلن يضيعها له، سيؤجره عليها -سبحانه وتعالى-.

{........ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف:30]، كل من عمل عملًا حسنًا لله -تبارك وتعالى- يأجره الله -عز وجل- عليه؛ ولو كان مثقال الذرة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، ومن أجل هذا النبي -صل الله عليه وسلم- وعظنا في ألا نحتقر أي شيء من الأجر، أي شيء من العمل الصالح لأن لك أجر عليه، قال «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»، لا تحتقر هذا، إذا سلمت ولقيت أخاك إذا كان وجهك باشًا فيه لك أجر بهذا، لا تحتقر هذه لك أجر عظيم بها عند الله -تبارك وتعالى-، والأجر هنا يعني عطاء الله وأجره -سبحانه وتعالى-، وأجر الله بحسب عظمته وحسب غناه -سبحانه وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يفقره عطاء، لا يفقر الله -تبارك وتعالى- عطاء، ولذلك جاء أن أدنى أهل الجنة منزلة، أدناهم منزلة من يقول له الرب -تبارك وتعالى- «ألا ترضى أو أتحب أن يكون لك مثل الأرض وعشرة أمثالها»، والإنسان يفعل شيء، قيل لأبي هريرة ما القيراط يا أبا هريرة؟ يفسر قول النبي -صل الله عليه وسلم- «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شيعها حتى تدفن فله قيراطين»، أو فله قيراطان، فقيل له ما القيراط يا أبا هريرة؟ فقال مثل جبل أحد، وطبعًا هذا لا يقوله أبو هريرة من نفسه؛ هذا من علم الغيب، مثل جبل أحد هذا من الأجر، هذا من الأجر يعني كأنه أنفق مثل جبل أحد من الأجر يعطيه الله -تبارك وتعالى- على ذلك، باب الأجر عند الله شيء عظيم جدًا، والصدقة ينميها الله -تبارك وتعالى- حتى تكون مثل الجبال ثم يأجره الله -تبارك وتعالى- على ذلك، وأجر الله -عز وجل- حسن؛ هو الجنة، {........ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف:30].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أجر هؤلاء ما أجرهم عند الله، قال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}، فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما الخدمة التي بقوا فيها؟ ما الشغل الذي بقوا فيه في هذه الدنيا؟ ثلاثين سنة، أربعين سنة، خمسين سنة من عمره، والأعمال المطلوبة من أعمال الدين ومن الخير تأخذ في اليوم والليلة ساعة؛ ساعة تقريبًا، الصلوات الخمس، صيام شهر في السنة، حج مرة في العمر، زكاة من فضول المال، من كل أربعين دينار؛ دينار، أمور جدًا إذا نظر الإنسان إلى ما كلفه الله -تبارك وتعالى- به يجد أنه عمل قليل جدًا؛ والباقي فسحة، كل ما تشاء مما تشتهي، وألبس ما تشاء، وإفعل ما تشاء، وأحل الله -تبارك وتعالى- الطيبات كما تشتهي في حدود ما شرعه الله -تبارك وتعالى-، بدون إسراف وبدون مخيلة، فيأخذ من الدنيا أكبر حظ ويعمل من الأعمال الصالحة الغير مكلفة، لا تكلف هذا العمل والشيء العسير، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولكن انظر بعد ذلك لأجرها، قال أولئك؛ والإشارة لهم بالبعيد رفعًا لشأنهم، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}، جنات؛ بساتين، عدن؛ إقامة دائمة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}، تجري من تحتهم وهم في القصور الأنهار، الأنهار تجري في الأشجار تجري، هم فوق علياتهم وفي خيامهم العالية تجري من تحتهم الأنهار، كما جاء في الحديث «إن للمؤمن خيمة»، هذي خيمة مش قصر؛ وصف الخيمة، «من لؤلؤة واحدة، طولها في السماء ستون ميلًا»، طول هذي، البشر لا يعرفون لليوم أن يبنوا بناء يصل إلى ستين ميل؛ بل إلى ميل واحد، هذي خيمة واحدة، «للمؤمن في كل جنبة أو في كل ركن منها أهلون»، له أهل هنا وله أهل هنا لا يرى بعضهم بعضًا من هذا الإتساع العظيم، هذه الخيمة اللي هي ليست القصر، فالأنهار تجري من تحتهم؛ من تحت هذه الخيام العظيمة، من تحت هذه القصور، من تحت هذه ... .

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}، يحلون؛ الحلية يعني ما يجعل الإنسان حلوًا، فالإنسان إذا لبس الزينة يصير أحلى مما يكون ليس بزينة، فالله -تبارك وتعالى- يحليهم وهم الرجال من أساور من ذهب، {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}، ثيابهم يعني حلية أهل الجنة من الذكور الذهب، ولباسهم من السندس والإستبرق، السندس اللي هو الحرير الناعم والإستبرق السميك، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، هذا بالنسبة لحلية الرجال، وأما النساء فالمرأة هي بذاتها حلية، يعني بذاتها؛ بذات الخلق، كما قال -جل وعلا- {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، فهذه جسمها يعني كأنه الحلية، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، وقال {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:49]، فهذا حلية الرجال {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، إتكاء؛ اللي هو أن يجلس ويميل يضع يده على التكية، على ما يتكأ عليها، على الأرائك؛ جمع أريكة، وهذه الأرائك منسوجة من الذهب، والفرش التي عليها قال {فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}، {نِعْمَ الثَّوَابُ}، وإتكائهم على الأرائك دليل ما عندهم شغل، لا عمل عندهم، فهم ليسوا أهل مصالح، يكدوا في الزراعة، في الصناعة، في التجارة، في رصف الطرق، في بناء الأبنية... لا، كل شيء معد لهم ومهيأ ولا يعالج أهل الجنة شيء، لا يعالجون زراعة ولا صناعة ولا طبخ ولا نفخ ولا خياطة، ولا أي عمل من هذه الأعمال التي يعالجها أهل الدنيا في الدنيا، الدنيا كلها لابد من معالجة الأمر حتى يصبح مهيأ لديَّت، فلابد تأخذ طعام لابد أن تعالجه لتطبخه، لابد أن تسعى إلى الحصول عليه، تأخذ ثمار لابد أن تصعد لهذه الشجرة حتى تأخذ ثمار، لابد من غسلها، لابد من تقديمها، كل هذا لا؛ ليس في الجنة، في الجنة يرى الثمرة؛ يشتهيها، فتخر على طول؛ الفرع يخر أمامه، يأكل من الشجرة بما يأكل، ثم إذا إنتهى حاجته يصعد صعودًا إلى مكانه، يرى الطير فيشتهيه فيخر مشويًا بين يديه، يأكل منه ما يشتهي ثم يقوم يطير في جنبات الجنة، ينتقل من مكان إلى مكان دون كلفة، ما في؛ ليس في الجنة معالجة شيء، لذلك أهلها إنما هم ديَّت، في شغل باللذائذ، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55]، شغل باللذائذ فقط.

قال {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، قال -جل وعلا- {نِعْمَ الثَّوَابُ}، هذا ثواب الجنة، ثواب على العمل الذي عملوه، وثواب من الله -تبارك وتعالى-، إثابة لهم لهذه الأعمال التي عملوها من الإيمان والعمل الصالح؛ نعم الثواب، أن يكون هذا ثوابهم جنة بهذه الأوصاف، خالدين فيها عدن؛ إقامة دائمة لا تنتهي، ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- إجازة لمدة أسبوع، أسبوعين، ثلاثة، أربعة، في جزيرة قد فيها بستان وفيها مايشاؤون لمدة أسبوع أسبوعين، شهر شهرين، سنة سنتين، ثم إنتهى الأمر، هذه جزاؤهم وإنتهى... لا، وإنما في هذه الجنة المستقرة الباقية على هذا النحو، المتسعة هذا الإتساع العظيم، كما قال -جل وعلا- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، مهيئة، كل شيء فيها مهيأ، حتى الإناء يعني الأواني فيها، الفرش التي تفرش ديَّت، {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}[الغاشية:16]، الزرابي اللي هي البسط العظيمة جدًا مبثوثة تحت الأشجار هنا وهناك، ما في خدمة، ما في شيء يعالج، والخدمة متاع، الخدمة يخدمهم الولدان للإستمتاع، كما قال -جل وعلا- {........ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا}[الإنسان:19]، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، فهذا الله -تبارك وتعالى- يقول في هذا الثواب {نِعْمَ الثَّوَابُ}، الذي يثابه أهل الجنة يعني في ديَّت على عملهم، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}، حسن هذا رفقًا بهم، انظر الرفق الذي يرفقون به مأكلًا ومشربًا ومنكحًا وسرورًا وحبورًا، كل شيء في غاية الإرفاق بهم، عطاء جزيل من الله -تبارك وتعالى-.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.