الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (354) - سورة الكهف 54-60

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[الكهف:54]، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}[الكهف:55]، {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}[الكهف:56]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:57]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد صرف في هذا القرآن الذي أنزله للناس جميعًا من كل مثل، التصريف؛ التنويع، تنويع الخطاب، فهذا القرآن، الخطاب الإلهي؛ خطاب الله -تبارك وتعالى- إلى الناس جميعًا، صرف الله -تبارك وتعالى- فيه من ألوان الخطاب تصريفًا عظيمًا، الوعظ والزجر والتهديد والبيان والإيضاح والترغيب وضرب الأمثال للناس عندما يحثهم على عمل، يببين لهم ما هي نتائج هذا العمل وما الفائدة منه، يضرب لهم أمثال بغيره، ماذا لو فعلوا وماذا لو لم يفعلوا، ويدخل الله -تبارك وتعالى- إلى الناس بهذا الخطاب من كل سبيل يمكن أن يبين لهم الحق، يوضح لهم السبيل، يرشدهم فيه إلى فعل الخير، إلى الإنتهاء عن الباطل، والرب -سبحانه وتعالى- هذا كله من رحمته، فهذا خطاب كريم هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده، أن يبين لهم هذا البيان ويصرف لهم ويعيد لهم القول ويكرره في هذا الكتاب الكريم، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ........}[ص:29]، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ........}[الزمر:23].

انظر في باب الوعد كيف يعد الله -تبارك وتعالى- عباده، فيبين في أنه من ينفق المال فكأنه يقرض الله -تبارك وتعالى- ويتاجر مع الله، سيعطيه الله -تبارك وتعالى- أضعاف ما أخذ، الفرق بين الدنيا والآخرة، ماذا عنده -سبحانه وتعالى- مما أعده لعباده المؤمنين من النعيم والفرح والسرور والحبور، ويصف الله -تبارك وتعالى- الجنة بكل صفاتها؛ أرضها، أنهارها، أشجارها، ثمارها، فرح أهلها، فيعيد هذا القول ويصرفه أنواعًا وتصريفًا عظيمًا، كذلك في الوعيد يصرف الله -تبارك وتعالى- فيه الوعيد ويصرف فيه من القول تصريفًا عظيمًا، التهديد والوعيد والتذكير بمصارع الغابرين وبيان ما سيئول إليه الحال، ووصف النار ووصف شقاء أهلها، إستغاثتهم، شرابهم، طعامهم، صور الإهانة التي يتعرضون لها، ويحذر الله -تبارك وتعالى- من ذلك، وأن الآن ما أمامكم هو الفرصة التي لن تتكرر، فلا رجوع إلى هذه الدنيا مرة ثانية، وكل سبيل يظنه العبد إلى أن يخرج من العذاب الأبدي لن يكون هناك أي باب أخر، فلا شفاعة ولا بيع ولا خلة ولا مهرب ولا مصرف ولا إستجابة لإستغاثة، أمر عظيم جدًا لا شك أن هذا الخطاب الإلهي الكريم؛ القرآن، الله -تبارك وتعالى- قد صرف فيه القول تصريفًا عظيمًا، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ........}الكهف:54]، أي ليتذكروا وليتعظوا ولتظهر لهم الحقائق وليبين لهم سبيل الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، ولكن الإنسان أكثر شيء من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- مجادلة ودفعًا للحق، أكثر شيء يتأتى منه الجدل هذا الإنسان الذي يجادل ربه وإلهه وخالقه -سبحانه وتعالى-، الله خالقه وبارئه ومصوره والمنعم عليه والذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، يخاطبه ويناديه؛ يا عبدي هذا الطريق الصحيح، إياك ثم إياك أن تتنكب هذا الطريق، هذا الطريق فيه فلاحك في الدنيا وفلاحك في الآخرة، ومع ذلك الإنسان يجادل ربه ويخاصمه ويرد آياته -سبحانه وتعالى-، {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}[الكهف:55]، وما منع الناس؛ هؤلاء الكفار المجرمين، أن يؤمنوا؛ بخطاب ربهم -سبحانه وتعالى-، برسل الله -تبارك وتعالى-، أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى؛ عندما جائهم هذه الهداية من الله -تبارك وتعالى- على ألسنة الرسل، {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ}، وهذا الذي يريده الله -تبارك وتعالى- من عباده، الإيمان به -سبحانه وتعالى- والإستغفار وطلب المغفرة منه لذنوبهم ولمعاصيهم ولبعدهم عنه -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}، بالهلاك، {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}، سنة الله -تبارك وتعالى- في الأولين؛ طريقته وعادته -سبحانه وتعالى-، في أن الأولين كذلك الذين سبقوا هذه الأمة؛ أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فإنهم ظلوا في التكذيب حتى أتاهم العذاب من الله -تبارك وتعالى-، هذا حال قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وكل الأقوام الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، ظلوا في عماهم وفي تكذيبهم إلى أن أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأن هؤلاء هم كذلك، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}[الكهف:55]، أن يأتيهم العذاب قبلًا؛ يعني مقابلًا لهم، أمامهم، فعند ذلك يؤمنوا، يعني لا إيمان لهؤلاء الذين عموا عن الحق هذا العمى وجادلوا ربهم هذا الجدال إلى أن يستأصلهم الله -تبارك وتعالى- بالهلاك، كما كان للأمم السابقة أو أن يريهم الله -تبارك وتعالى- العذاب أمام أعينهم، وإن رآهم الله -تبارك وتعالى- العذاب أمام أعينهم لا يفيدهم لأن الإيمان عند رؤية العذاب لا يفيد، الله -تبارك وتعالى- لا يقبل من قوم أن يؤمنوا إذا رأوا العذاب.

قال -جل وعلا- {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}، يعني أن الرسل لم يرسلهم الله -تبارك وتعالى- قاهرين، موكلين بالناس، يرغموهم على الهدى، ولكن أرسلهم الله -تبارك وتعالى- مبشرين أي لمن أطاعه، البشارة؛ الإخبار بما يسر، يعني أن يخبروا بهذه الأخبار السارة من رضوان الله -تبارك وتعالى- ومرضاته وجنته في الآخرة، وكذلك إنجائه لعباده المؤمنين والحياة الطيبة التي وعد الله -تبارك وتعالى- بها من يسير على طريقه، فهم مبشرين لهؤلاء، مبشرين لمن أطاع الله -تبارك وتعالى- بالفلاح في الدنيا والآخرة، ومنذرين؛ مخوفين، منذرين؛ الإنذار هو الإخبار بما يسوء، وهو التخويف والتهديد، فالرسل يبشرون أهل الطاعة وينذرون أهل المعصية، قال -جل وعلا- {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}، هذه عبارة فيها سخرية وإستهزاء بحال هؤلاء الكفار الذي يجادلون بالباطل ليضحدوا به الحق، وكيف يستطيع الباطل أن يضحد الحق، الحق هو الثابت المستقر الذي لا يتبدل ولا يتغير، والباطل هو الذاهب الهالك، وهؤلاء يجادلون بالباطل الذاهب الهالك الذي لا حقيقة له يريدون أن يبطلوا به الحق الثابت، فالكفر بالله -تبارك وتعالى- باطل، الله هو الحق -سبحانه وتعالى-، فالله حق، وعيده حق، وعده حق، الجنة حق والنار حق وصراطه حق والنبيون حق والملائكة حق ولقائه حق -سبحانه وتعالى-، فعندما يأتي إنسان يقول؛ ينفي الرب -تبارك وتعالى-، ويجحده وينفي الجنة وينفي النار وينفي البعث، باطل هذا، هذا كذب، فكيف يغلب الكذب الباطل؛ الحق الثابت المستقر، هذا لا يكون.

{........ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}[الكهف:56]، اتخذوا آياتي؛ هذه الآيات المنسوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، القرآن المتلوا النازل من الله -تبارك وتعالى-، الذي كل جملة منه إنما هي دليل على أنها من الله -تبارك وتعالى-، فهي آيات الله البينات الواضحات التي تدل بكينونتها ووجودها على أنها من الرب الإله الذي لا إله إلا هو، فإنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، فهو كتاب؛ كلام معجز، تحدى الله -تبارك وتعالى- به الأولين والآخرين؛ فهي آياته، لكن هؤلاء اتخذوا آيات الله وما أنذروا؛ والذي أنذروا به، اللي هي هذه النذارة، هذا التخويف، هذه الآيات النازلة من التخويف الإلهي من العقوبة الشديدة؛ عقوبة الرب -تبارك وتعالى- في الدنيا وىالآخرة، اتخذوها هزوًا؛ إستهزأوا بها، فاستهزأوا بآيات القرآن واستهزأوا بوعيد الله -تبارك وتعالى- وتهديده لهم، وكم في هذا من الإجرام ومن الضلال المبين، عبد يتلطف الله -تبارك وتعالى- به وينزل عليه كلامه ويخوفه ويبين له وكذا، ثم يرد ذلك ويستهزئ به ويستهزئ بالوعيد الإلهي الذي يوعد الله -تبارك وتعالى- به الكافرين، ويقول لن يكون أو كما قالوا أبو جهل الزقوم هو تمر يثرب بالزبد، ونحو ذلك بما هدد الله -تبارك وتعالى- به من النار التي عليها تسعة عشر، قالوا نحن نستطيع أن نغلبهم، وأن الشجرة الملعونة في القرآن قالوا الشجر لا ينبت في القرآن، ومثل هذا الإستهزاء الطويل لكفار الأمس وكفار اليوم مازال هذا دأبهم، في ردهم آيات الله -تبارك وتعالى- وإستهزائهم بها، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، لما كانت هذي جريمة كبرى، أكبر جريمة أن عبد تأتيه آيات الله -تبارك وتعالى-، خطابه الكريم، كلامه -سبحانه وتعالى- المباشر له، ثم يستهزئ به، ويأتيه وعيد الرب؛ الرب يخوفه، ويقوله إحذر أمامك كذا وأمامك كذا من العذاب إن أنت تنكبت هذا الطريق، {........ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، يأتيه مثل هذا الخطاب الإلهي الذي فيه هذا الوعيد ومع ذلك يستهزئ به، قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}، سؤال يراد به التقرير ليقال مين أظلم؟ هل هناك أظلم من شخص تأتيه آيات ربه؛ ربه خالقه ورازقه ومولاه، وإلهه الذي لا إله إلا هو، يأتيه الآيات من الله -تبارك وتعالى- ولكنه يعرض عنها؛ فأعرض عنها، أعرض؛ أعطى عرضه عنها، {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، النسيان؛ إهمال وترك، ما قدمت يداه؛ من الجرائم، من الذنوب العظيمة، من الكفر بالله -تبارك وتعالى- والقول على الله بلا علم والتجديف ومحاربة الرسل، نسي كل هذا وأعرض عن آيات الله -تبارك وتعالى- وعن تذكيره وتخويفه، ترك كل هذا، هل هناك أظلم من هذا؟ الجواب طبعًا لا أحد أظلم من هذا، إذن تم هذا الجواب هذا للتقرير، لا أحد أظلم ممن يذكر بآيات ربه ويعرض عنها وينسى ما قدمت يداه.

قال -جل وعلا- مبين، قال {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، هنا يبين الله -تبارك وتعالى- السبب والسر في أن هؤلاء لا يؤمنون مع إتضاح الحجة وهذا الظهور وهذا البيان، أخبر -سبحانه وتعالى- أنه عاقبهم -سبحانه وتعالى- هذه العقوبة العاجلة في الدنيا، قال {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، الكن هو الظرف والحفظ، غلاف على القلب اللي هو محل الفقه والفهم، جعل الله -تبارك وتعالى- عليها كن يمنعها من أن تصل إليها أي هداية، {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، وأن يفقهوه يعني حتى لا يفقهوه، يعني لألا يفقهوه، والفقه هو الفهم؛ الفهم الصحيح، حتى لا يفهموا هذا القرآن، فيقرأ عليه القرآن ويذكر بآيات الله ويخوف بما في الآخرة من العذاب والنكال الشديد، ومع ذلك كأنه لم يتل عليه شيء ولم يقرأ عليه شيء، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، يعني جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الحال كذلك، أعمى قلوبهم؛ جعل قلوبهم في هذه الظروف المقفلة التي لا يصل من خلالها هداية، وكذلك جعل في الآذان وقر؛ ثقل في الأذن يمنعها أن يخترقها صوت فما كأنه يسمع، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى}، إذا دعوتهم يا أيها الرسول إلى الهدى {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}، فمهما دعوتهم بعد ذلك إلى هدى وقد صنع الله -تبارك وتعالى- بهم هذا الصنيع {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}، لن يهتدوا إذًا؛ يعني وهذا صنيع الله -تبارك وتعالى- فيهم، جعل أكنة على القلوب وجعل في الآذان هذا الوقر؛ يعني الثقل والصمم الذي يمنعها من السماع، فإذن لا مجال بعد ذلك ولا سبيل إلى أن يهتدوا أبدًا إلى الطريق.

ثم قال -جل وعلا- {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، وربك؛ يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا إعزاز وإعلاء للنبي محمد -صل الله عليه وسلم-، إذ أضاف الله -تبارك وتعالى- النبي إليه -سبحانه وتعالى-، فقال {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، الغفور؛ مسامح، الغفر هو الستر، يعني الذي يستر ذنوب عباده -سبحانه وتعالى- ولا يحاسبهم بها، وهذا طبعًا برجوعهم عن الكفر والعناد فإن الله -تبارك وتعالى- يسامح -سبحانه وتعالى-، ذو الرحمة؛ ذو صاحب، صاحب الرحمة -سبحانه وتعالى-، فالرحمة صفة من صفاته -سبحانه وتعالى-، وبيَّن هنا كيف تكون مغفرته ورحمته لهؤلاء المجرمين، قال {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}، لو أن الله -تبارك وتعالى- يؤاخذ هؤلاء المجرمين بما كسبوا؛ بكسبهم هذا الخبيث، لعجل لهم العذاب، كان بمجرد الكفر، بمجرد وقوع الكفر منهم وهذا العناد وهذا الإعراض عن آيات الله -تبارك وتعالى-، وهذا الإستهزاء بآيات الله وبوعيده كان يأتيهم العذاب في التو واللحظة، لكن الله -تبارك وتعالى- لا يفعل بهم ذلك، {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}، أي في هذه الدنيا، قال -جل وعلا- {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}، بل لهم موعد؛ في الآخرة، وهذا لن يجدوا من دونه موئلًا، الموئل؛ الملجأ، هو المكان الذي يفر الإنسان إليه ليجد حماية، يعني حماية، ملجأ يلجأ إليه، هذا لن يكون، لن يكون فلهم موعد لهذا العذاب يقع بهم، فالله -تبارك وتعالى- يخبر -سبحانه وتعالى- أنه من رحمته ومغفرته أن يسامح هؤلاء المجرمين ويمد لهم في الأجل، وربما بهذا الإمداد في الأجل أن يرجع منهم من يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، فيقابله الله -تبارك وتعالى- بالمغفرة والمسامحة، ويرحمه -سبحانه وتعالى- وينقذه مما فيه، ولكن مع إستمرار المجرم والعاتي على إجرامه وعتيه ووصوله إلى الآخرة وموته على الكفر فهذا قد جعل الله له العذاب حاضر، فلهم موعد في الآخرة لهذا العذاب لن يجدوا من دونه موئلًا، لن؛ يخبر الله -سبحانه وتعالى- هنا بنفي الفعل في المستقبل، لن يجدوا؛ لن يجد هؤلاء الكفار المجرمون، من دونه؛ من دون هذا العذاب، موئلًا؛ ملجأ يلجأون إليه، وحافظًا يحفظهم ويمنعهم من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}[الكهف:59]، وتلك القرى؛ بالإشارة بالبعيد لهذه المدن العامرة التي عاشت وغنت وكثر أهلها وعمروا، ثروا الأرض وبنوها وعمروا فيها، تلك القرى؛ قوم نوح، قوم فرعون، عاد التي قالوا من أشد منا قوة، ثمود الذي كانوا في ديارهم في بحبوحة عظيمة من العيش، ينحتون الجبال بيوتًا آمنين ويزرعون في الأودية، ولا أمتع منهم بحياتهم، هؤلاء القرى الظالمة الكافرة قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ........}[الكهف:59]، أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، الإهلاك بأن أتاهم العذاب الماحق الذي إستئصلهم وأزالهم عن وجه الأرض، قال -جل وعلا- لما ظلموا؛ بالكفر والعناد ورد رسالة رسله، هذا ظلمهم، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، لكل قرية هلاكها كان في وقت محدد، عندما جاء الوقت المحدد خلاص {........ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34]، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، وهذا تهديد عظيم لهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن من العرب ومن غيرهم أنه ماذا تنتظرون؟ إما العذاب عند الله -تبارك وتعالى- الذي جعل له موعد في الآخرة لن تجدوا من دونه موئلًا، إن أتيتم الله -تبارك وتعالى- وأنتم على الكفر والعناد، وكذلك وإما العذا المستأصل الذي يستئصلكم الله -تبارك وتعالى- به، انظروا في مصارع الغابرين في القرى التي كانت قبلكم كيف أن الله -تبارك وتعالى- أهلكها لما حان موعد هلاكها.

بعد أن ختم هذا الفاصل بهذا الوعيد المفصل الظاهر، وضرب الأمثال بالسابقين على هذا النحو، شرع الله -تبارك وتعالى- في فاصل من هذه السورة العظيمة؛ سورة الكهف، يقص لنا -سبحانه وتعالى- قصة عن موسى وعبد من عباد الله -تبارك وتعالى- هو الخضر، وفي هذه القصة بيان عظمة الرب -تبارك وتعالى- وعلمه وإحاطته بكل شيء، وأنه الرب الإله الذي أحاط علمًا بكل شيء والذي أفاض من علمه على من أفاض من عباده -سبحانه وتعالى-، وأنه يخلق ما يشاء ويختار وأن من عنايته ورحمته -سبحانه وتعالى- ما في هذه القصة من يتيمين في قرية من القرى لا يؤبه لها، يعتني الرب -تبارك وتعالى- فيهم ويجعل من الأسباب ما يحوط به -سبحانه وتعالى- عنايته، وكذلك عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- يحوطه الله -تبارك وتعالى- بعنايته، ويذهب الله -تبارك وتعالى- عنه أذى ممكن أن يصيبه من ولد لو كبر لأرهق أبويه ظلمًا وكفرًا، ومن جماعة مساكين يعملون في البحر تأتيهم عناية الرب -تبارك وتعالى-، الله يعتني بهم -سبحانه وتعالى- ويرشدهم إلى سبب من الأسباب ينقذ به الوسيلة التي يعتاشون بها وهي هذه السفينة، الشاهد أننا سنرى في هذه القصة التي يقصها الله -تبارك وتعالى- هنا ألوان من رحمة الرب -تبارك وتعالى- وعنايته بأوليائه وعباده الصالحين، وأن رحمته قد تتنزل حيث لا يعلم بها إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهذا موسى إبن عمران -عليه السلام- وقف يومًا ما في قومه وخطب فيهم، وقال له قومه أي موسى، يعني أي رسول الله هل هناك في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال لا ولم يستثني؛ لم يقول لا أعلم أو العلم عند الله -تبارك وتعالى-، وكان يظن أن هو رسول في بني إسرائيل وبنوا إسرائيل في الأرض كلها هم على دين الرب -تبارك وتعالى-، وأنه لا يوجد من هو أعلم بالله منه في هذه الأرض كلها، فأخبره الله -تبارك وتعالى- وأوحى له أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، ومجمع البحرين في أرض المصر التي كان يعيش فيها موسى -عليه السلام- في هذا الوقت، وقال له الله -عز وجل- هناك عبد لي لا تعلمه، هو بمجمع البحرين، هو أعلم منك، فقال أي ربي دلني عليه، فقال له خذ حوتًا في مكتل فإذا فقدته فثم؛ أي عند مجمع البحرين.

الشاهد أن هذه القصة تأتي في هذا السياق لبيان عظمة الرب -تبارك وتعالى- ورحمته وعنايته بعباده المؤمنين، وكذلك صنيعه -سبحانه وتعالى- بالكافرين، فهو الرب الإله الذي أحاط علمًا بكل شيء والذي لا يغيب عنه من أعمال عباده شيء -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}[الكهف:60]، {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}[الكهف:61]، {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}[الكهف:62]، يخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- كما جاء في حديث الإمام البخاري «أن موسى وقف خطيبًا في قومه، فقال له قومه بعد ذلك أي موسى هل هناك في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال لا، ولم يستثني، لم يقل يعني الله أعلم، فأوحى الله -تبارك وتعالى- إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك»، ومجمع البحرين هو إلتقاء البحرين، إلتقاء البحر العذب بالبحر المالح، ويبدوا أن هذه الأمر أو هذه القصة وقعت وموسى -عليه السلام- في مصر هو وقومه في زمن الرسالة، قبل أن يخرج هو وبنوا إسرائيل من مصر إلى أرض التيه في سيناء، وإن كان الأمر على هذا النحو فمجمع البحرين هو إلتقاء نهر النيل بالبحر عند مصبه في البحر، فالله قال له إن لي عبدًأ بمجمع البحرين هو أعلم منك، فلما علم بأن هناك في الأرض وفي قريب من البقعة التي هو فيها عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- أعلم من موسى النبي والرسول؛ الذي هو من أولي العزم من الرسل، قال أي ربي دلني عليه، يعني حتى أتعلم منه، فأرشده الله -تبارك وتعالى- وأوحى إليه أن خذ حوت معك، الحوت؛ سمكة في مكتل، المكتل؛ المقطف، فإذا فقدته فثم، إذا هرب منك هذا الحوت فاعلم أنه ثم أن هذا العبد في هذا المكان، وتجهز موسى -عليه السلام- لرحلته هذه إلى مجمع البحرين من المكان الذي كان فيه، وأخذ معه فتاه يوشع إبن نون -عليه السلام- لهذه الرحلة ليكون عونًا له وسندًا لهذه الرحلة.

قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ}، يعني اذكر يا محمد قال موسى الرسول ونبي بنوا إسرائيل -عليه السلام-، لفتاه؛ وهو يوشع، {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}، يعني أن هذه عزيمته وهذه إرادته لن يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، ولو أمضيت في هذا ما أمضيت من الوقت والجهد فإني عازم على بلوغ هذا الأمر، وقد طلبه من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}[الكهف:61].

لأن الوقت أدركنا نعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.