الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (355) - سورة الكهف 60-78

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد؛ المبعوث رحمة للعالمين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}[الكهف:60]، {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}[الكهف:61]، {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}[الكهف:62]، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}[الكهف:63]، {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}[الكهف:64]، {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف:65]، روى الإمام البخاري -رحمه الله- من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال «قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فقال له قومه -أي بنوا إسرائيل- يا موسى هل في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال لا ولم يستثني، فأوحى الله -تبارك وتعالى- له أن لي عبدًأ بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال أي ربي أرنيه»، وذلك أنه إشتاق عندما علم أن هناك في الأرض رجل هو أعلم من موسى إبن عمران -عليه السلام-، رسول الله -تبارك وتعالى- وكليمه والمنزل عليه التوراة وهو من أولي العزم من الرسل، فأراد أن يتعلم منه رغم جلالة قدره، لكن لما علم أنه أعلم منه أراد أن يراه وأن يتعلم منه، فقال أي ربي أرنيه؛ يعني دلني عليه، فقال الله -تبارك وتعالى-، أوحى إليه الله «خذ حوتًا في مكتل؛ مقطف، فإذا فقدته فثم»، إذا فقدت هذا الحوت فاعلم أنه في هذا المكان، فأخذ موسى غلامه يوشع -عليه السلام- وذهب في إبتغاء أن يلتقي موسى بهذا العبد الصالح أو النبي الصالح.

قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}[الكهف:60]، مجمع البحرين؛ إلتقاء البحر العذب الذي يصب في البحر المالح، قال له الله -تبارك وتعالى- فثم، أو أمضي حقبًا؛ قال هذا ديَّت عزيمة موسى، ولو مضى عليا وقت طويل وجهد عظيم لابد أن ألتقي بهذا العبد، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}[الكهف:61]، لما بلغا هذا المكان وكان موسى قد آوى هو ويوشع يناما عندها؛ إستراحا عندها، ثم بعد ذلك كان معهم هذا الحوت في المكتل، ثم قاما من هذه الصخرة وسارا في الطريق، ثم قال موسى بعد هذه المسير من بعد هذه الصخرة قال موسى لفتاه آتنا غدائنا، يعني حضر الغداء لنأكل {........ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}[الكهف:62]، والغداء هو الطعام الذي يؤكل في الصباح؛ في الغدو، فقال له أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة التي إسترحنا عندها ونمنا عندها فإني نسيت الحوت، نسيه أن يحافظ عليه، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}، وإتخذ سبيله الحوت الذي كان في هذه المكتل قفز من مكتله ودخل إلى البحر، وترك يقول النبي -صل الله عليه وسلم- أنه ترك جريته في الماء مفتوحة كالطاق، فتعجب يوشع من هذا الأمر وهو الذي رأى هذا، رأى أن الحوت عندما دخل في البحر ترك جريته ورائه مثل الطاق خلفه، فكان هذا عجبًا ليوشع، قال له {........ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}[الكهف:63]، إتخذ هذا الحوت سبيله في البحر عجبًا، عجبًا وذلك أنه ترك ما خلفه مثل السرب؛ مثل الطاق خلفه.

قال -جل وعلا- {فَلَمَّا جَاوَزَا}، يعني جاوزا الصخرة، {........ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}[الكهف:62]، يعني سفرنا هذا الطويل الذي سافرناه قد تعبنا فيه تعبًا شديدًا، {قَالَ أَرَأَيْتَ}، يعني أخبرني، {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ}، يعني نسب النسيان إلى الشيطان والشيطان دائمًا هذا فعله في الشر في بني آدم، {أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}، فقال له موسى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}، هذا هو بغيتنا من هذا السفر الطويل؛ أن يضيع منا الحوت في هذا المكان، لأنه هو العلامة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- له ليجد عندها هذا العبد الصالح والنبي الصالح الذي أراد موسى أن يلتقي بها، قال {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}، هو هذا الذي كنا نريد؛ ضياع هذا الحوت في هذا المكان، فطبعًا قال -جل وعلا- {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}، ارتدا على آثارهما؛ آثار الأقدام في الطريق، قصصًا؛ يقتصان أثرهما ليعودا مرة ثانية إلى الصخرة التي من عندها هرب الحوت إلى البحر، قال -جل وعلا- فارتدا؛ أي الإثنين، على آثارهما؛ في الأرض اللي هو مكان المشي، قصصًا؛ يقصان الأثر ليصلا إلى الصخرة مرة ثانية.

قال -جل وعلا- {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف:65]، عندما وصلا إليه يخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن وجدا رجلًا مسجدًا في بردته، يعني مضجع ونائم تحت هذه الصخرة، فقال له موسى السلام عليكم فقال له أن بأرضك السلام، فقال له موسى أنا موسى، فقال له موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، ثم قال له موسى إني أريد أن أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا، قال -جل وعلا- {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا}، وجدا عبدًا عند هذه الصخرة، والله -تبارك وتعالى- سماه عبد وهذا تشريف له، لأن منزلة العبودية هي أشرف المنازل من الناس من العبيد لدى الله -تبارك وتعالى-، من شرفه الله -تبارك وتعالى- وجعله عبدًا له، قال {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا}، أي الصالحين، {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا}، آتيناه؛ أعطيناه، رحمة من عندنا؛ رحمة من عند الله -تبارك وتعالى-، علم من علمه، وحي مما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، هدى مما يهدي الله -تبارك وتعالى- به أنبيائه وعباده الصالحين، {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، علمناه من لدنا؛ من عندنا، علمه الله -تبارك وتعالى- علمًا من لدنه، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أطلعه على كثير من الغيب الذي عند الله -تبارك وتعالى-، الغيب الإضافي والغيب كذلك الذي إستأثر الله -تبارك وتعالى- به، الغيب الإضافي في أن يعلم ما وراء المشاهدة من ما خفي وهو أمر موجود، وكذلك يعلم في علم المستقبل؛ يعني علمه الله -تبارك وتعالى- الشيء في المستقبل، كما سيأتي من قتله لغلام لأنه لو كبر سيكون مجرمًا فاسدًا يرهق أبويه بالكفر، فعلمه الله -تبارك وتعالى- وأطلعه الله -تبارك وتعالى- على كثير من غيبه -سبحانه وتعالى-، وعلمناه من لدنا؛ من عندنا علمًا.

{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66]، وهنا يظهر أدب موسى -عليه السلام- ورغبته في الخير، وتلطفه ليقبل تلميذ عند هذا العبد، فيقول له هل أتبعك؟ ويعرض هذا بسؤال ولا يعرضه بصيغة أمر ولا بصيغة جزم، هل أتبعك؛ أكون تابعًا لك، على أن تعلمني مما علمت رشدًا؛ لأتعلم مما علمك الله -تبارك وتعالى- من أمور الرشد، فيبين له أنه رشيد أولًا وأنه أهل لأن يتعلم وأن موسى كذلك يريد أن يكون طالبًا وتلميذًا عنده، قال {........ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66]، فقال له ذلك العبد {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:67]، قال له إنك؛ وهكذا بالتأكيد، {........ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:67]، لن تستطيع أن تصبر معي في طريقي، فإن العلم الذي أطلعه الله -تبارك وتعالى- عليه من أمور الغيب هو يتصرف في الأمور بما أطلعه الله -تبارك وتعالى- عليه، ولا يستطيع من يصاحبه أن يصبر على ما قد يفعله مما يراه مخالف لظاهر الأمر ولما يتبدى، لأنه لا يعرف الأمر الخفي وراء ذلك، قال له {........ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:67]، {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[الكهف:68]، وهذا سؤال كذلك في نوع من تهويل الأمر وبيان أن موسى لن يكون أهلًا لأن يصبر معه في هذا الطريق، قاله {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[الكهف:68]، كيف تصبر على أمر لم تحط علمًا به وخُبرًا به وخَبرًا به من أمر مغيب عنك، وهذا فيه كأن فيه من الرد على ما قاله موسى إني أعلم يعني لا أعلم في الأرض من هو أعلم مني، فيوجد من هو أعلم منه ومن لا يستطيع موسى أن يصاحبه، لما عند هذا العبد من علوم لا يستطيع موسى أن يصلها ولا أن يصبر عليها، قال له {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[الكهف:68].

وموسى العازم على مصاحبة هذا العبد الخيِّر الصالح والتعلم منه وكيفية العلم الذي عنده، {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ........}[الكهف:69]، قال ستجدي إن شاء الله؛ وعلق الأمر بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، وهذا هو الأدب الإلهي الذي أدب الله -تبارك وتعالى- به عباده الصالحين، أن يعلقوا كل أمر قادم بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف:69]، ولا أعصي لك أمرًا؛ ما تأمرني به ستجدني عنده تمامًا فإني أريد أن أتعلم، وهذه صفة من يعني الحقيقة أعطى وصف من يريد أن يتلقى العلم الحقيقي من أهله؛ ممن هو أهله، هذا هو الموقف من رسل الله وأنبياء الله -تبارك وتعالى-، كما أمر الله -تبارك وتعالى- عن الرسول أن نأخذ منه ولا نجادله ولا نرد الأمر، ولا نسأله عن أمر قبل أن يعلمنا -صلوات الله والسلام عليه-، {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف:69].

عند ذلك بدأ الخضر -عليه السلام- في اشتراط ما يشترطه على موسى، {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:70]، يعني قال له تصحبني لكن بهذا الشرط، {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي}، إن شئت أن تتبعني، {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ}، لا تسألني عن تصرف وفعل أفعله، {........ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:70]، حتى أحدثك أنا؛ أكون أنا المتحدث من نفسي، وأخبرك أني لما فعلت هذا الأمر ولما تركت هذا الأمر، {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}، منه؛ من هذا الأمر، فهذا كان شرطه عليه ألا يسأله عن أمر وعن تصرف من التصرفات يتصرف به، إلا أن يخبره الخضر بالسبب والعلة والكيفية التي تصرف بها في هذا الأمر، وموسى وافق على هذا لأنه راغب في أن يطلع وأن يتعلم وأن يرى الخير.

قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا}، وقول الله فانطلقا بالتثنية للخضر وموسى -عليه السلام- يدل على أن يبدوا أن موسى -عليه السلام- صرف غلامه، وبقي هو في خدمة وفي صحبة هذا العبد الصالح، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا}، ولم يقل فانطلقوا لأنه لو قال فانطلقوا ممكن يدخل يوشع إبن نون مع الأمر، وإنما أصبحت صحبة يوشع إلى الوصول إلى هذا العبد، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف:71]، يخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنهم لما جاء إلى شاطئ البحر أشار الخضر إلى سفينة، فركب هو وموسى -عليه السلام- وحولهم إلى الجهة الأخرى، يعني عبروا في السفينة إلى الجهة الأخرى، ثم لما أرادا أن يدفعا الأجر لم يأخذوا منهم أجر لأنهم عرفوا الخضر، كانوا يعرفون الخضر يعني يبدوا أنه من أهل المكان، ويعرفونه بأنه عبد ورجل صالح وكعادة هؤلاء الخيرين ألا يأخذ أجر من هذا العبد فقال له ديَّت، فحملوهم بغير نول ولم يأخذوا منهم أجرة على حملهم في السفينة، ولكن موسى رأى أن الخضر تحول إلى جانب أخر من السفينة، وبدأ يعمل بقدوم أو جاكوش أو نحو ذلك ويخرق ويعمل خرقًا في السفينة، وهنا رأى موسى أمر من العجب، أناس قابلوهم بهذا الإحسان فحملوهم في السفينة ولم يأخذوا أجرة منهم، ثم يأتي الخضر ويكافئهم هذه المكافئة التي رأها أنها مكافئة ظالمة؛ فيخرق سفينتهم، فكأنه قابل الإحسان بالإساءة وهذا لا يتأتى، هذا أمر غريب في الشريعة ولا يتأتى، كيف تقابل من أحسن إليك هذا الإحسان بهذه الإساءة، فقال له موسى قوم حملونا بغير نول تعمد إلى سفينتهم فتخرقها، قاله ناس حملونا في السفينة بغير أجرة ثم أنت الآن تذهب إلى سفينتهم فتخرقها، أمر عجيب طبعًا، أمر لا يصبر عليه، وموسى لم يصبر على هذا الأمر.

فعند ذلك ذكره الخضر -عليه السلام- بشرطه الذي اشترط عليه ديَّت، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}، قال؛ أي موسى -عليه السلام-، {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، ويبدوا أنه لم يدلهم على مكان الخرق وإنما خرقها وتركها، {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، ديَّت يسيرون بسفينة مخروقة ومخزوقة فإنه قد يقعون في الغرق فتكافئهم بهذه المكافئة، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، قاله لقد جئت شيئًا إمرًا فيه يعني أمر فيه تأمر وخروج عن جادة الحق وعن الصراط السوي، فكيف تقابل الحسنة بالسيئة على هذا النحو، ذكره الخضر وقال له {........ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:72]، يعني أنا ما قلت لك أنك لن تستطيع أن تسير معي في هذا الطريق، وكذلك قد خالف الشرط فإني قد قلت لك لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا، فموسى هنا خالف الشرط بمخالفتين؛ الأمر الأول أنه أنكر عليه هذا الأمر، والأمر الثاني في أنه خالف شرطه في أن لا يسأله أي سؤال حتى يحدث له ذكرًا منه، فموسى الذي غضب من هذه الفعلة ورأها أنها مخالفة للحق ولكن ذكره بما اشترط على نفسه، وذكره بأن هذا كذلك هو العبد الذي قال له الله -تبارك وتعالى- إنه عبد هو أعلم منك يا موسى، قال؛ أي موسى -عليه السلام- للخضر، {........ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف:73]، لا تؤاخذني؛ يعني هذه المؤاخذة بما نسيت، فإني نسيت شرطي وإن العمل الذي عمله في الحقيقة يذهب اللب، {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، قاله لا ترهقني من أمري عسرًا؛ فإن هذا الفعل الذي فعله جعله ...، فقد رأه أنه مخالف للحق تمامًا، يعني لا تعسر علي على هذا النحو وترهقني من أمري هذا في شأني معك في أن أكون تابعًا لك ومتعلمًا منك عسر شديد؛ فتؤاخذني بالأمر الذي نسيته.

قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا}، أي في مسيرتهما، {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ}، قال النبي -صل الله عليه وسلم- أن موسى والخضر جائا إلى روضة يلعبوا فيها أطفال، فنادى الخضر غلامًا من الغلمان وأخذه ثم فتل رأسه ورقبته فإقتلعها، وهنا رأى موسى شيء أفظع وأكبر من قضية السفينة، طفل لم يبلغ الحنث بعد ثم يعمد إليه الخضر فيقتلع رأسه على هذا النحو، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ}، قال؛ أي موسى له -عليه السلام-، {........ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[الكهف:74]، {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}، زكية؛ طاهرة طيبة، الزكاة هي الطهر والطيبة، لم تفعل الإثم بعد، ولم يكتب الله -تبارك وتعالى- عليها شيئ من الإثم لأن الإثم لا يكتب إلا بعد بلوغ سن البلوغ، وهذا لم يبلغ الحنث بعد، وبغير نفس؛ بغير أن تقدم نفسك للقصاص، يعني القتل يحتاج إلى من قتل متعمدًا فيقتل، قال {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، لقد جئت بهذا الفعل شيئًا نكرًا؛ منكرًا، منكر عظيم جدًا، وقتل النفس التي حرم الله -تبارك وتعالى- لا شك أنها في كل شرائع الدين أمر عظيم جدًا وأمر منكر كبير، وكان إنكار موسى عليه في هذا الأمر أشد من إنكاره عليه في خرق السفينة.

فعند ذلك قال له الخضر {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:75]، ذكره مرة ثانية بشرطه الذي اشترطه عليه، وبأن موسى قد اشترط على نفسه أن يستجيب لهذا الشرط وألا يسأل، وقال له ألم أقل لك؛ مرة ثانية، إنك؛ بالتأكيد، لن تستطيع معي صبرًا، فعند ذلك كأن موسى -عليه السلام- خجل من سؤاله المرة الثانية ومن إعتذاره مرة ثانية للنسيان، فقال له {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي}، أنت في حل بعد هذا، يعني إذا وقع مني بعد ذلك التعدي بالسؤال لك عن شيء بعد هذا فلا تصاحبني، فأنت حل من صحبتي، {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}، قد بلغت عذرًا من لدني في أني لم أستطع بالفعل أن أصبر معك في طريقك الذي تسير فيه.

قال -جل وعلا- وكأن الخضر -عليه السلاح- قبل عذره في ذلك فانطلقا في مسيرتهما، {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الكهف:77]، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}، نزلوا بقرية من القرى، والقرية؛ المدينة التي يقرى فيها الضيف ويجد الإنسان فيها من يضيفه ويقضيه، ولكنهم أغراب ونزلوا إلى القرية {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}، مما يدل على أنهم من أهل البخل الشديد وغلظة القلوب، فإن ضيوف ينزلون بساحتهم ولا يجدون من القرية كلها من يضيفهم ومن يكرمهم، فما وجدا شيء، قال الله فأبوا؛ والإيباء الإمتناع، مما يدل على أنهم طلبوا أيضًا الضيافة ولم يجدوها {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}، قال -جل وعلا- {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}، وجدوا جدار مائل وأنه خلاص أصبح هذا الجدار على وشك أن ينقض فيسقط، وقول الله -تبارك وتعالى- يريد نسبة الجدار إلى الإرادة ونسبة الإرادة إلى الجدار؛ يريد أن ينقض، يدل على أن الجمادات لها إداركات وأن الذي يقع من الجماد بسقوط من علٍ أو بإنقضاض أو بكذا إنما ليس أمرًا عفويًا إجباريًا، وإنما فيه إرادة للجماد، وقد نسب الله -تبارك وتعالى- يعني هذه نسبة الإرادة إلى الجماد هذا تدل على أنه له إدراك، يريد أن ينقض؛ يقع، فأقامه؛ قال النبي -صل الله عليه وسلم- جاء الخضر بيده فوضعها على الجدار فإعتدل الجدار في مكانه، يعني أنه أقام الجدار بلمسة من يده فعاد الجدار كما كان، وهنا رأى موسى -عليه السلام- أمر هنا ينقض ما فعله الخضر -عليه السلام- في أول الأمر، فإن في أول الأمر قابل إحسان الناس؛ اللي هو إحسان أصحاب السفينة بالإساءة، هذا في ظاهر الأمر بأن خرق لهم السفينة، وهنا قابل إساءة هؤلاء القوم البخلاء ديَّت، قابل إسائتهم بالإحسان إليهم في أنه عدل هذا الجدار الذي يريد أن ينقض، فقال له موسى {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، يعني إن الإحسان لهؤلاء القوم البخلاء ليس وضعًا للأمر في مكانه، فلو شئت لأخذت أجرًا في مقابل إصلاحك وتعديلك لهذا البناء.

عند ذلك وجد الخضر -عليه السلام- أنه قد وفى بشرطه مع موسى، وأنه موسى لن يستطيع أن يصبر في هذا الطريق، فقال له الخضر عند ذلك {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}، هذا يعني بسؤالك هذا الثالث بعد نسيان المرة الأولى والمرة الثانية، وهذي المرة الثالثة التي اشترط على نفسك خلاص قاله {........ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف:78]، قاله هذي الحادثة خلاص تفرق بيني وبينك لأنه إنتهى العهد الذي بيننا والمشارطة التي كانت بيننا؛ أنت لم تقم بالشرط وهذه النهاية، يجب أن نفترق عند هذا، ثم قال له {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، سأنبئك بتأويل؛ تأويل تفسير، بيان الحق في كل هذا الذي لم تستطع عليه صبرًا، ثم شرع -عليه السلام- يسرد له ما كان من هذا الشأن، فقال له {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}[الكهف:79].

وإن شاء الله نعود إلى سرد بقية هذا الأمر وهذه القصة في الحلقة الآتية، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.