{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف:78]، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}[الكهف:79]، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}[الكهف:80]، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}[الكهف:81]، {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف:82]، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}، كلام الخضر -عليه السلام- لموسى بعد أن سأله أو قال له في المرة الثالثة {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، في شأن الجدار فقال له هذا فراق بيني وبينك، وذلك أن هذا هو نهاية الشرك الذي كان بينهما، فقد كان الخضر -عليه السلام- قد إشترط على موسى أنه إذا صحبه ليتعلم منه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له ذكرًا منه، وقد وافق موسى على هذا الشرط، وقال له {........ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف:69]، لكن الأعمال التي عملها الخضر -عليه السلام- وكانت في ظاهرها أمر مخالف للشرع، مخالف للحكمة والعقل في ظاهر الأمر، لم يستطع موسى أن يصبر عليها واحدة واحدة، فعندما رأه يخرق السفينة لهؤلاء المساكين الذين أحسنوا إلى موسى -عليه السلام- والخضر ونقلوهما إلى الضفة الثانية بدون نول، ثم إن الخضر -عليه السلام- عمد إلى السفينة فظل يخرقها، فلم يستطع موسى أن يصبر وقال له {........ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف:71]، ثم ذكره {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:72]، فكانت الأولى من موسى نسيان، {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف:73]، ثم كانت الثانية صعبة جدًا وذلك أن الخضر -عليه السلام- مر على روضة يلعب فيها أطفال، نادى طفل منهم وأخذه إلى ناحية ثم إقتلع رقبته، لو رأسه وخلعها، فلما رأى موسى هذا الأمر لم يستطيع أن يصبر كذلك، وقال له {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}، تقتل نفس دون أن تقدم نفسك للقصاص وها ديَّت، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، فذكره {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:75]، فقال له {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}[الكهف:76]، ولما نزلا في هذه القرية البخيلة؛ البخل أهلها، والتي حاولوا أن يستطعموا أهلها، إستطعموا أهلها بمعنى أنهم طلبوا منهم الطعام ضيافة، فأبوا أن يضيفهما، ثم إن موسى لما وجد جدارًا مائلًا يريد أن ينقض وضع الخضر -عليه السلام- يده على الجدار فأقامه كما كان معتدلًا، فقال له {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، يعني تعامل هؤلاء البخلاء بهذا الإحسان، فعند ذلك قال له الخضر -عليه السلام- {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}، إنتهى الشرط وإنتهت المهلة التي لك، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}، يجب أن نفترق، ثم أخبره بأنه سيبئه بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا، الأمور التي لم تستطع صبرًا عليها سأنبئك بتأويلها.
قال {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}، وهذا يدل على أنهم مساكين، لا شك أن المسكين هو الفقير، كذلك محتاج، ولهم هذه السفينة وهي رأس مالهم يعملون لها ويتأكلون منها، قال {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، أردت أن أجعلها معيبة، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، ورائهم ملك؛ ملك ظالم، يأخذ كل سفينة؛ أي صالحة، إذا يمر فإذا مر على سفينة صالحة جيدة فإنه يغتصبها ويجعلها له، فلو أنه مر حراسه شرطة هذا الملك والسفينة كانت بحالتها الطيبة فإنهم سيصادرونها، ويتركون هؤلاء المساكين هذا مصدر رزقهم، فكان العيب هذا وإن كان هذا ضرر جزئي لكنه دفع ضرر أكبر لهم، فهذا لا شك أنه من النفع لهم، وبهذا يكون الخضر قد أحسن إليهم إحسانًا عظيمًا، لأن لو هذا الأمر موكول إلى الإنسان نفسه لفعل هذا الفعل، يعني صاحب السفينة ممكن أن يلجأ إلى هذا الفعل نفسه؛ يعيب سفينته حتى لا تؤخذ منه غصبًا، فقد أحسن إليهم وقد أطلعه الله -تبارك وتعالى- على ذلك الغيب، وهو أن جند الملك الظالم على وشك أن يصادروا سفينته، فكان هذا الفعل الذي فعله إنقاذًا لهم وإحسان لهم ولكنه جاء في صورة الإساءة، وذلك أن الخلفية غير معلومة، يعني ما هو وراء هذا الأمر الظاهري كان غير معلوم، لكن الله –تبارك وتعالى- أطلع الخضر على ذلك ففعل هذا.
ثم قال له {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، هذا إبن لرجل صالح، مؤمنين؛ أبوه وأمه مؤمنين، قال {........ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}[الكهف:80]، خشينا؛ يتكلم عن نفسه، خشيته المستقبلة أن يرهقهما، يعني إذا كبر وأصبح كبير وله قوة أن يرهق والديه طغيانًأ عليهما وعقوقًا لهما وكفرًا وجحودًا، كفر بالله -تبارك وتعالى- وكفر يتعدى إلى هؤلاء الوالدين فيكون نكد ومصيبة لهما.
قال {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}[الكهف:81]، فكان قتل هذا الغلام رحمة للجميع، رحمة للغلام لأنه قتل دون البلوغ، وهذا طريق له لدخول الجنة فأنقذ، وأنه في علم الله -تبارك وتعالى- لو كبر لكان كافرًا، الأمر الأخر هو أنه رحمة للوالدين، فإن قتله قبل أن يصبح كافرًا عاقًا طاغيًا رحمة عظيمة جدًا، رحمة للوالدين لأنه أولًا رحم إبنهما بالقتل ورحم هم من أن يكون لهم هذا نكدًا ومصيبة في هذه الحياة، فكان فعل الخضر وهو بأمر الله -تبارك وتعالى- فعل عظيم جدًا، فعل كله رحمة؛ رحمة من الله -تبارك وتعالى- بهذين الأبوين الصالحين المؤمنين.
قال له {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}، يملكه؛ يملك هذا الجدار غلامين يتيمين، الغلام من يكون دون البلوغ أو ناهز البلوغ، يتيمين؛ اليتيم من مات أبوه دون البلوغ، في المدينة؛ التي نزلوا فيها، مدينة البخل هذه، {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، كان تحت هذا ديَّت كنز على عادة الناس في هذه الأزمان، أنهم كانوا يكنزون ذهبهم في جرار ويضعونها في الجدران وتحت الجدار، يبنى عليها حتى يكون هذا مغيبًا عن اللصوص، {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، كان أبو هذين الولدين صالحًا، {فَأَرَادَ رَبُّكَ}، وهنا نسب الإرادة إلى الله -تبارك وتعالى- لأن هذا خير، ففي حال قضاء الشر نسب هذا الخضر إلى نفسه وفي حال قضاء الخير نسبه إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا من الأدب مع الله -تبارك وتعالى-، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}، يعني الغلامين، {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}، بأنفسهما، ولو ظهر هذا الكنز عندما يقع الجدار وهم غلمة ضعاف؛ غلامين ضعيفين، لا يستطيعان أن يردا طمع الطامعين ربما يطمع فيهم الأقربون، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}، ثم قال له {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، كل هذا قد كان رحمة من الله -تبارك وتعالى-، رحمة من ربك لهؤلاء المساكين الذين أنقذت سفينتهم، ولهذين الأبوين الصالحين الذين أنقذهم الله -تبارك وتعالى- من طغيان إبن كان سيسبب لهم بلاءًا عظيمًا جدًا، ورحمة من الله -تبارك وتعالى- لغلامين يتيمين أبوهم رجل صالح، حفظ الله -تبارك وتعالى- صلاح هذا الأب في ذريته، فصان لهم كنزهم حتى يستخرجوه بأنفسهم عندما يكونا قادرين على حمايته، {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، كل هذا الفعل فعل رحمة.
ثم قال له {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، يعني ما فعلت الذي فعلت من هذه الأمور عن أمري، فإن هذا الأمر هذا فيه غيب إضافي وغيب لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، فالسفينة والملك الذي كان ورائها يريد أن يغتصبها من الغيب الإضافي، وهذا لا شك أنه كرامة من الله -تبارك وتعالى- أن يطلع عبده على ذلك، وكذلك الكنز الذي تحت الجدار من الغيب الإضافي، من أين للخضر أن يعلم هذا كان أبوهم صالح وكان حاطط وضع مالًا تحت هذا الجدار، ثم قتل الولد من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، فإن كون عندما يكبر هذا الإبن هذا في الغد وفي المستقبل سيكون كافرًا طاغيًا، هذا أمر لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، لا يعلم ما في غد إلا الله -جل وعلا-، وكل هذا قد أعلمه الله -تبارك وتعالى- لهذا العبد الصالح، وهو الخضر -عليه السلام-، قال {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، وإنما كل ذلك كان بأمر الله -تبارك وتعالى-، ثم قال {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، طبعًا لما أوِّل، تأويله؛ تفسيره، فسرت العمل المبهم للخضر بل الذي كان في ظاهره منكر، فهي كل الأعمال التي عملها أعمال منكرة أو في غير محلها في ظاهر الأمر، لكن في حقيقة الأمر إنما هي من أعمال الرحمة، ومن أعمال الخير والإحسان، قال له {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، أي عندما غاب عنك لم تستطع أن تصبر على ذلك عندما غاب عنك حقيقة الأمر، لكن طبعًا بعد أن بيِّن له حقيقة الأمر أصبح الأمر واضحًا، وأصبح الفعل الذي فعله الخضر -عليه السلام- فعلًا صحيحًا موفقًا، بل هو من الإحسان والرحمة.
يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن الخضر -عليه السلام- بعد أن أتم ذلك أرى موسى عصفورًا على نهر؛ يشرب من النهر، فقال له يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، هذي ختام الدرس، ختام الدرس الذي أخذه موسى -عليه السلام-، وهو أن علم كل عليم لا شيء في علم الله -تبارك وتعالى-، شيء قليل جدًا، فعلم موسى الذي علمه الله -تبارك وتعالى- إياه علم عظيم محيط، أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه التوراة، على هذا العلم العظيم، أطلعه هذا ديَّت، حتى قال موسى عندما سئل قال عندما قيل له هل هناك في الأرض من أهو أعلم منك؟ قال لا، قال هذا على علمه أنه ليس في هذه الأرض كلها فيما يعلم أنه ليس هناك من هو أعلم منه، رسول من أولي العزم، يقود أمة إلى الله -تبارك وتعالى-، ينزل عليه التوراة، يكلمه الله -تبارك وتعالى-، قال لا، فالله -تبارك وتعالى- قال له عندي عبد قريب منك، في مجمع البحرين هو أعلم منك، فقال أي ربي أرنيه، ثم كان أن أراه الله –تبارك وتعالى- وبيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه أطلع الله -تبارك وتعالى- هذا العبد على شيء من علم الله -تبارك وتعالى- لم يطلع عليه موسى، بل إن موسى لم يطق صبرًا في التصريف الذي تصرف به الخضر بأمر الله -تبارك وتعالى- في هذا الشأن، فالدرس أن علم الله -تبارك وتعالى- محيط بالأشياء كلها، وأن كل ذي علم أنما هو جزء لا يمكن أن يقارن بعلم الرب -سبحانه وتعالى-.
الأمر الأخر وهذه في سياق هذه القصة التي يقصها الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة، بيان رحمة الرب -تبارك وتعالى- وحسن صنيعه بعباده المؤمنين، انظر تصريف الرب -سبحانه وتعالى- لهم، العمل الذي عمله الخضر مع أصحاب السفينة ومع هذا الغلام الذي قتله رحمة بوالديه، ومع الجدار الذي بناه رحمة بالولدين اليتمين وحفظًا لجميل الرجل الصالح الذي حفظ الله -تبارك وتعالى- له، جعل له هذا أثر هذا الصلاح هنا في حفظ ولديه، كل هذا من فعل الله -تبارك وتعالى-، هذا فعل الله، فهذا أمر الله -تبارك وتعالى- للخضر أن يفعل ذلك، انظر الرب الإله ملك السماوات والأرض، الذي لا إله إلا هو، المتصرف في هذا الكون، الذي يأخذ السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى ويجعل الخلائق كلها على إصبع، ويحركهن ويقول أنا الرب أنا الملك أين ملوك الأرض، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، هذا الرب العظيم خالق السماوات والأرض، الذي وسع كرسيه السماوات والأرض، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، حفظ السماوات والأرض، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، هو -سبحانه وتعالى- مع ذلك يعلم خلقه بالتفصيل، وتصل رحمته في الأمور تفصيلية إلى عباده المؤمنين، ده الرحمة العامة الكبيرة، رحمة الهداية والتوفيق، انظر عناية الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، وكيف أن الله -تبارك وتعالى- هيأ لهم سبب من الأسباب ينقذ الله -تبارك وتعالى- فيه سفينتهم، وعناية الرب -تبارك وتعالى- بهذين الأبوين المؤمنين، كيف أن الله حفظ لهم الإيمان وأزاح عنهم شرًا من الشرور العظيمة، هو في صورة خير الشر، لأن هذا ولد من أولادهم، فلذة كبد لهم، لكنه سيكون منه شر مع ديَّت، الله -تبارك وتعالى- أزاح هذا من طريقهم؛ رحمة منه -سبحانه وتعالى-، انظر عناية الرب -تبارك وتعالى- بغلامين يتيمين، يهيء الله -تبارك وتعالى- لهم من يحفظ لهم كنزهم حتى يقوموا، هذه أعمال الرب -تبارك وتعالى- وعنايته -سبحانه وتعالى- بخلقه، ربَّ أشعس أغبر مدفوعًا عن الأبواب لو أقسم على الله لأبره، انظر كرامة المؤمن عند الله -تبارك وتعالى- ومنزلته، وعناية الرب -سبحانه وتعالى- به ورحمته له وكلائته له -سبحانه وتعالى-، وتصريف بالمقادير رعاية لعبده المؤمن، وهو الله الإله الكبير العظيم -سبحانه وتعالى-، فكما أنه -سبحانه وتعالى- انظر العقوبة والتهديد والشدة والبطش الشديد وأخذه الكفار بهذا العقوبات المؤلمة في الدنيا والآخرة.
تتمت هذه الآيات {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}[الكهف:59]، الله ختم الفاصل السابق قال {وَتِلْكَ الْقُرَى}، انظروا، {........ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}[الكهف:59]، ثم قال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}[الكهف:60]، فكأن الله –سبحانه وتعالى- ينقلنا نقلة من صنيعه -سبحانه وتعالى- بالكفار، وكيف إستئصل الله -تبارك وتعالى- أرضهم وديارهم وأهلكهم هذا الهلاك، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}[الكهف:59]، وانظر بعد ذلك كيف يعتني الرب -تبارك وتعالى- ويتعاهد عباده المؤمنين، انظر هذي صورة يعني صورة تفصيلية عملية لعناية الرب -سبحانه وتعالى- ببعض ضعاف أهل الإيمان مما لا يؤبه لهم، إيش مساكين يعملون في البحر، رجل وإمرأته مؤمنين وعندهم ولد هذا ديَّت، لكن يمكن كانوا فرحانين به ويظنوا فيه الخير لكن فيه شر فربنا يزيح لهم هذا الشر، ويقول إبن عباس((أبدلهم الله -تبارك وتعالى- خيرًا منه؛ جارية))، الله -تبارك وتعالى- رزقهم بعد أن حكم بقتل هذا الغلام بجارية تكون خيرًا لهم، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}[الكهف:81]، يكون أقرب إلى الإيمان وأحسن في ديَّت ويصل هذا الرحم، يصل هذا الرحم في أمه وأبيه، هذا كله عناية، نقول القصة جائت هنا لبيان عناية الرب -سبحانه وتعالى- ورعايته لعباده المؤمنين بهذا التفصيل، وفي هذه القصة العظيمة التي قال فيها النبي -صل الله عليه وسلم- «ليت موسى صبر حتى يحدثنا»، يعني ليت موسى على أعمال الخضر هذه، أعمال ظاهرة يعني لا شك شديدة في ظاهرها عند الذي لا يعرف بواطنها، ولكنها عندما تعرف الحقائق تبدل، فليت موسى صبر حتى يحدثنا، يحدثنا الخضر ونطلع على ما عنده من هذه أسرار قضاء الله -تبارك وتعالى- وتدبيره العظيم -جل وعلا سبحانه وتعالى-.
ثم نقلة بعد ذلك في هذه السورة إلى لون أخر من تصريف الرب -تبارك وتعالى- مع ملك من الملوك، الملوك الكبار الذين ملكوا هذه الأرض، قال -جل وعلا- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:83]، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف:84]، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:85]، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}[الكهف:86]، {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}[الكهف:87]، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}[الكهف:88]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:89]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}، قيل إن هذا من الأمور التي سألت قريش رسول الله -صل الله عليه وسلم- عنها، إختبارًا للنبي هل هو نبي أم لا؟ وهذا كان بإرشاد اليهود، قال سلوه عن رجل ملك؛ ملك شرق الأرض وغربها في الزمن الأول، ما قصته وما شأنه، فكان هذانزول هذه الآيات جواب من الله -تبارك وتعالى- لهذا السؤال، تأييدًا لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك هنا بيان لحكمة الرب -تبارك وتعالى- وصنيعه، فهذا صنيع الرب -سبحانه وتعالى- فيما مضى؛ فيما قصه الخضر، وهذا صنيع الرب -تبارك وتعالى- مع بعض من مكنهم الله -تبارك وتعالى- في الأرض، هذا ملك نبي ممكن؛ مكنه الله -تبارك وتعالى-، وانظر سيرته الصالحة وتصريفه العظيم وما أيده الله -تبارك وتعالى- به من القوة والتوفيق ووضع كل أمر في نصابه، والخير الذي أجراه الله -تبارك وتعالى- على يديه، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}، ذي القرنين؛ صاحب القرنين، القرن معروف وهو شيء يكون له شيء مقارن له، كما نقول عقد القران لأنه جمع بين الرجل والمرأة في قران واحد، وتسمى أيضًا جدائل المرأة قرون المرأة، لأنها مقترنة بعضها مع بعض، فإما أن يكون له جديلتين على هذا النحو، قال -جل وعلا- {........ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:83]، سأتلوا عليكم ذكرًا منه، يعني ذكر من ذكره بعض أخبار هذا الملك الصالح، {........ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:83].
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ}، يخبر -سبحانه وتعالى- مؤكدًا أن الله -تبارك وتعالى- مكن له في الأرض، قال إنا؛ الله يحدث عن نفسه -سبحانه وتعالى-، مكنا له في الأرض؛ والتمكين في الأرض هو تقويته وتثبيته فيها، وذلك بأن يكون له جيش قوي، نظام قائم من حكم راسخ، وزراء ومعاونون وأمة قائمة، إمكانيات من المال والعتاد قوي، فهذا التمكين في الأرض، يعني ليس طارئًا خفيفًا تتناوشه الأحداث من كل جانب... لا، بل هو حاكم وله من أدوات الحكم ما يثبت ويقوي حكمه ويمكنه في الأرض، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف:84]، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:85]، من كل شيء؛ مما يحتاجه الحكام والأقوياء، سبب، في الجيش، في العيون، في القوة، في الآلة، في الأدوات، وسنرى أنه قد مكن بأشياء من الأدوات لا يوجد نظيرها لليوم في حياة الناس، فإن السد الذي بناه على الصورة التي بناه بها لا يمكن؛ يعني ليس لهذا البناء نظير، ولا يمكن هناك أدوات وآلات يملكها الناس في وقتنا الحاضر تبني مثل هذا السد على النحو الذي بناه، فقال -جل وعلا- {........ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف:84]، من أسباب القوة، سواء قوة بناء، قوة جيش، قوة مال، قوة بصيرة، بسط يده على مملكته، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:85]، يعني سبب يتبعه سبب أخر، فكل سبب من هذه الأسباب كذلك يكون ينشئ أسبابًا أخرى من أسباب القوة، فعند ذلك كأنها تتعدد له الوسائط والأسباب التي تقوي ملكه وتشد هذا الملك.
قال -جل وعلا- {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، مغرب الشمس ومشرق الشمس حسب المكان، فإن الأرض الآن نقسمها إلى الشرق وهي الجهة التي تبدأ نظر الناس في شروق الشمس منها، والغرب؛ غرب الأرض، ووسط الأرض، فمغرب الشمس يعني في غرب الأرض، {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، وجد أن الأرض هناك التي هي أرض في غرب الأرض جهة غروب الشمس، {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، العين إما عين ماء حمئة؛ يعني أرض منتنة، لعلها من السباغ والأراضي ديَّت، الحماء اللي هو المتخمر المنتن، {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا}، عند هذه في غرب الأرض، {........ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}[الكهف:86]، يعني هذا وحي الله -تبارك وتعالى- إليه، بأنه قد أطلق الله -تبارك وتعالى- يده في هؤلاء الأقوام، قال له إما أن تعذب؛ أن تعذب فيهم، من الظالمين الخارجين عن الطاعة والنظام، وإما أن تتخذ فيهم حسنًا؛ أن تحسن إليهم وأن تعاملهم بالإحسان، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- أطلق يده وتركه يتخذ السياسة التي يراها حسنة في معالجة هؤلاء القوم.
نقف -إن شاء الله-، أدركنا الوقت ونعود -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.