الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (358) - سورة الكهف 100-110

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}[الكهف:98]، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}[الكهف:99]، {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}[الكهف:100]، {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}[الكهف:101]، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}[الكهف:102]، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}[الكهف:103]، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:105]، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}[الكهف:106]، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}، قول ذي القرنين -عليه السلام- النبي الصالح؛ الملك الصالح، الذي حدثنا الله -تعالى- من قصته ما حدث هنا، وأنه ملك شرق الأرض وغربها وأن سيرته كانت على السيرة المحمودة، وكان آخر فعله الصالح هو ما بناه من السد الذي فصل به بين يأجوج ومأجوج وبين الأخرين، وقد ذكرنا في الدرس الماضي أن يأجوج ومأجوج هم من بني آدم، وأنهم مفسدون كما وصف الله -تبارك وتعالى- هنا من أخبارهم عن هؤلاء القوم، وأن إفسادهم الأعظم سيكون قرب قيام الساعة وأنهم علامة من علامات الساعة الكبرى، اللي هم خروجهم؛ خروج يأجوج ومأجوج، وهنا أشار ذو القرنين فقال بعد أن بنى السد بهذا البناء العظيم من هذه السبيكة من الحديد والنحاس، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}، لم يفتخر بأنه هو الذي بنى وهو الذي فعل، وإنما ذكر هذا لله -تبارك وتعالى- تواضعًا لله، شأن عباد الله -تعالى- الصالحين ممن مكنهم الله في الأرض، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ........}[الكهف:98]، وهو وعده -سبحانه وتعالى- بالآخرة، جعله؛ جعل هذا السد، {دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، بالقيامة.

قال -جل وعلا- {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ........}[الكهف:99]، هذا تعقيب على كلام ذي القرنين، أن الله -تبارك وتعالى- يترك يأجوج ومأجوج بعد ذلك يموجون في الأرض، يعني تأتي موجاتهم موجة إثر موجة، كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- عن خروجهم، وأنهم إذا خرجوا لا يستطيع أحد أن يقف في وجههم، وأن المؤمنين في هذا الوقت يكونون مع عيسى إبن مريم -عليه السلام-، يكون قد نزل عيسى إبن مريم وقد أجرى الله -تبارك وتعالى- على يديه خيرًا كثيرًا، وأن الله -تبارك وتعالى- يقول له «إنحز بعبادي إلى الطور، فإني مخرج عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم»، فينحاز عيسى إبن مريم والمؤمنون معه إلى الطور؛ طور سيناء، ويبقوا محصورين فيها في شدة عظيمة من الدنيا، حتى أن النبي يقول «حتى إن رأس الثور لأحدهم كمئة دينار لأحدكم»، يعني اليوم في حياة النبي -صلوات الله عليه وسلم-، من الشدة التي يلاقونها ومن غلاء الأشياء، فإذا خرج هؤلاء فإنهم لا يبقون أخضر ولا يابس أمامهم، بل إنهم يغورون أحيانًا بعض الأنهار فيشربونها إلى آخر قطرة، كما أخبر النبي أنهم إذا مروا بطبرية شربها الأولون، فإذا جائت الموجات التي بعدهم يقولون قد كان ها هنا ماء، يمرون بموقع طبرية يقولون قد كان ها هنا ماء، ثم إن الله -تبارك وتعالى- بدعاء عيسى إبن مريم –عليه السلام- ومن معه يفزعون إلى الله -تبارك وتعالى-، فيرسل الله -تبارك وتعالى- عليهم النغف، دودة تأتي في أعناقهم؛ أعناق يأجوج ومأجوج، فيموتون فرسًا كنفس واحدة، كأن يموت واحد، هذه الأعداد الهائلة، الملايين الهائلة، تموت كأنها نفس واحدة فقط؛ تموت، يخرج عيسى إبن مريم ومن معه من المؤمنون فيجدون أن الأرض قد ملئت من زهمهم ونتنهم، فيلجأون إلى الله -تبارك وتعالى-، فيرسل الله -عز وجل- طيرًا كأن رؤوسهم يقول النبي الباخاتي، الباخاتي جمع بختي، والبختي هي الناقة الكبيرة، تأخذهم وتلقي بهم في البحر، ثم يرسل -تبارك وتعالى- المطر أربعين صباحًا حتى تصبح الأرض كالزلقة، كالمرآة النظيفة اللامعة، ثم يقال لها أخرجي بركتكي.

الشاهد من حديث يأجوج ومأجوج أنه يخرجون في آخر الزمان، على النحو الذي وصف الله -تبارك وتعالى- في القرآن هنا، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ........}[الكهف:99]، والذي فصله النبي -صل الله عليه وسلم- كما جاء هذا في دواوين السنة، ومنها صحيح الإمام البخاري ومسلم بالتفصيل عن كيفية خروجهم وعن وقت ذلك، وأنه مصاحب لنزول عيسى إبن مريم -صلوات الله والسلام عليه- وكذلك مصاحب للدجال، هذه ثلاث آيات مقترنة بعضها مع بعض، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ........}[الكهف:99]، هذا اللي هو النفخ الثاني في الصور، بعد النفخة الأولى التي يكون في إندثار وإنتثار هذا النظام الكوني، تكون النفخة الثانية {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}، الناس جميعًا، {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}[الكهف:100]، العرض؛ المشاهدة، أنها تبرز لهم ليشاهدوها وهذا لزيادة غم الكفار وهمهم وحزنهم، وأن يقال لهم هذه النار؛ هذا مآلكم ومصيركم، {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}[الكهف:100]، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- السبب في هذا؛ ذنبهم، فقال {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}[الكهف:101]، أعينهم مغطاة عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، وكانوا لا يستطيعون سمعًا؛ كذلك لا يسمعون، لا ينظرون في آيات الله -تبارك وتعالى- ولا يسمعون، صمت آذانهم وعميت أبصارهم عن آيات الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- في ختام هذه السورة مواعظ عظيمة جدًا، وبيان الحكمة من كل ما سبق، قال -جل وعلا- {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ........}[الكهف:102]، أ؛ همزة إستفهام، وهذا السؤال هنا للتوبيخ والتقريع وليس الإستفهام، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، الحسبان هو الظن، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ........}[الكهف:102]، عبادي؛ الذين هم عباد لله -تبارك وتعالى- كعيسى إبن مريم -عليه السلام- والملائكة وكل من عبد من دون الله -تبارك وتعالى-، يعني أيظن هؤلاء الذين يتخذون عبادي من دوني أولياء؛ يعبدونهم، يعطونهم حق الله -تبارك وتعالى-، كما أعطى النصارى حقوق الله -تبارك وتعالى- لعيسى، فقالوا إله من إله، يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وعبدوه عبادة كاملة أنه هو الرب –سبحانه وتعالى-، كذلك فعل مشركوا العرب في الملائكة، فإنهم قالوا بنات الله وجعلوهم جزء لله -تبارك وتعالى-، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وتقربوا إليهم بالأعمال وظنوا أنهم شركاء لله -سبحانه وتعالى-، وكل من إتخذ بعد ذلك ممن سموا بالأولياء وغيرهم، اليهود في عزير، كثير من جهال الناس في بعض من سموهم بالأولياء والصالحين، عبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى- وأعطوا لهم حقوق الله -عز وجل.

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ........}[الكهف:102]، والجواب هنا محذوف لكنه مفهوم، يعني ثم لا يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- ولا يصنع بهم هذا الصنيع... لا، يكون هذا يعني لا يمكن أن يتأتى هذا، أن هؤلاء الكفار يتخذون عباد الله -تبارك وتعالى- الذين هم عباده وليسوا أنداده، ليسوا أندادًا لله -تبارك وتعالى-، ليسوا ند وليسوا شركاء مع الله -تبارك وتعالى-، فيتخذوهم؛ يعبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى-، ولا يعاقبهم الله -عز وجل- على هذه الجريمة الكبرى؛ الشرك به والكفر به -جل وعلا-، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ........}[الكهف:102]، ثم قال –جل وعلا- {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}، يعني هؤلاء قد كفروا بالله -تبارك وتعالى-، وقد أعد الله -تبارك وتعالى- لهم جهنم نزلًا، النزل هو ما يقدم للضيف عند نزوله، وهنا جهنم ليست نزل؛ يعني ليست ضيافة، ولكنها ضيافة لهؤلاء الكفار، قيل هذا إستهزاء بهم فإنها ليست رفق وليست مما يقدم للضيف، العزيز عندك الكريم تقدم له الشيء الكريم، لكن هؤلاء الله –تبارك وتعالى- لأنهم كفروا به -سبحانه وتعالى- فيستهزئ بهم، ويقول ضيافتكم عندي هي هذه، ضيافة الكفار عند الله -تبارك وتعالى- هي جهنم، وهذا من باب الإستهزاء بهم والإحتقار لهم، كقوله -سبحانه وتعالى- {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الانشقاق:24]، والبشارة دائمًا هي الإخبار بما يسر، ولكن أن يكون البشارة بالعذاب الأليم للإستهزاء بهم، {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}، ضيافة، أو نزل؛ النزل مكان النزول، منزل أعدها الله -تبارك وتعالى- بما أعدها فيه من كل ألوان العذاب، من الحيات والعقارب والمقامع من حديد والماء المغلي والزقوم والأشربة المتنوعة في العذاب، كما قال -جل وعلا- {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}[ص:57]، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}[ص:58]، في أخر؛ يعني أشربة أخرى من شكل الحميم والغساق -عياذًا بالله-، فالله يقول لهم أعدها؛ أعدها لهم منزلة، بما أعدها الله -تبارك وتعالى- فيها من ألوان العذاب، {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}، أي أنه جهزت وأقيمت ووضعت وأصبح كل شيء جاهز فيها لإستقبال هؤلاء الكفار، {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}[الكهف:103]، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:105]، {قُلْ}، أي لهم يا نبي الله؛ محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {........ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}[الكهف:103]، دعوة لهم، سؤال يدعوهم، هل تريدون أن ننبئكم؟ ننبئكم؛ نخبركم، بالأخسرين أعمالًا؛ يعني أشد الناس خسارة لأعمالهم، اللي عملوا أعمال كل أعمالهم لا نتيجة لها إلا الخسران، وأصل الخسارة هي نقص مال التاجر، إذا نقص مال التاجر، نقص رأس ماله فهذي هي الخسارة، وهذه الخسارة الحقيقية بقى، الخسارة الحقيقية خسارة هؤلاء الذين خسرت أعمالهم، كل عمل عملوه وأملوا من ورائه الربح والخير فكان من ورائه الضر والشر، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}[الكهف:103].

قال -جل وعلا- {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104]، هذي أكبر خسارة، ضل سعيهم؛ السعي هو السير السريع، والضلال هو الذهاب عن جادة الحق والصواب، فكل من تاه عن الطريق ولم يعرف الطريق الموصل نقول ضل، ويأتي الضلال بمعنى الإضمحلال والهلاك، كقول الكفار {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، ضللنا في الأرض يعني ذبنا وتهرينا وإختلطت أجسادنا بتراب الأرض فأصبحت ضالة فيه؛ ضائعة فيه، {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، يعني أن سعيهم؛ سيرهم ضال، ما هو ماشي إلى القصد وإلى النتيجة التي يرجونها هم منها، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، فهم يسيرون إلى غير الهدف الذي أملوه وطلبوه، وهم في ظنهم أنهم يحسنون صنعًا، وهذا أعظم ضلال أن الإنسان يمشي مغرر به ويؤمل الآمال العظيمة في سعيه؛ من وراء سعيه، ثم بعد ذلك يكتشف أن سعيه قد كان إلى ضلال.

قال -جل وعلا- {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:105]، هذا عمل هؤلاء الكفار، فإن هؤلاء الكفار عملوا ما عملوه وأملوا ما أملوه، منهم من كان يتوقع الخير في الآخرة، ولكن لما كان عمله على الشرك والضلال فإنه يأتي ولا حسنة له يوم القيامة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2]، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3]، {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور:39]، فأعمالهم التي ظنوا أنها نافعة لهم عند الله وأنها مقربة لهم عنده وأنهم بها ينالون الرضوان من الله -تبارك وتعالى-، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- منها عمل، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، والهباء لا يمكن جمعه، فإن الهباء الذي هو رماد النار، الجزيئات الصغيرة من رماد النار إذا إنتشرت في الجو بفعل الريح الشديدة فإنه لا مجال لأن يجمعها جامع بعد ذلك، فالله يقول {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، أين ديَّت؟ فهم لا يقدرون عليه، {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}، لا يقدرون مما كسبوا على شيء أن يحصلوه، أن يحصلوا ثواب وأجر ما إكتسبوه، نتيجة ما إكتسبوه كلها قد ذهب لأن الله -تبارك وتعالى- أبطل أعمالهم، لأنه قام على الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يقول {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ........}[الكهف:105]، الحبط؛ أصل الحبط هو داء يصيب الإبل من كثرة الأكل ومن أكل العشبة السامة، تنتفخ بطونها فتظهر كأنها سليمة سمينة، ولكن يكون هذا الداء في جوفها يعمل عمله ثم إذا بها تسقط فجأة وتموت، وشبه الله -تبارك وتعالى- عمل الكافر على هذا النحو، وأنه يظهر وينتفخ وينتفش ويكون له زينة وزخرف ومظهر، لكنه مظهر كاذب وإذا به بعد ذلك يكتشف أنه لا شيء؛ يسقط، حبطت أعمالهم، قال -جل وعلا- {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، لا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا له معنيين، لا نقيد لهم وزنًا؛ لا نأبه بهم، بمعنى أنهم محتقرون مستصغرون ما يساوون شيء، لا قيمة لهم عند الرب -تبارك وتعالى-، كما في الحديث الصحيح أن النبي قال «يؤتى بالرجل السمين العظيم يوم القيامة»، يعني اللي هو من أهل النار، «لا يزن عند الله جناح بعوضة»، ما يساوي شيء عند الله ولا جناح البعوضة، وكما في الحديث الصحيح أن النبي -صل الله عليه وسلم- «وهو في مجلس من أصحابه مر بهم رجل، فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا؟ فقالوا يا رسول الله هذا رجل حري إن خطب أن ينكح، وإن تكلم أن يسمع له»، يعني أنه من أشراف الناس، قالوا له -صل الله عليه وسلم- هذا رجل من أشراف الناس حري، إذا تكلم يسمع له، وإذا خطب إمرأة يزوج، «ثم سكت النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم مر رجل أخر من فقراء وضعفاء المسلمين، فقال وما كنتم تقولون في مثل هذا؟ فقالوا له -صل الله عليه وسلم- رجل من فقراء الناس، هذا حري إن تكلم ألا يسمع له، وإن خطب ألا ينكح، فقال -صل الله عليه وسلم- لهذا خير عند الله من ملء الأرض من مثل ذاك».

فيخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الكفار {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104]، أنه حالهم يوم القيامة أن الله لا يقيم لهم وزنًا، يمعنى أنهم مستصغرون محتقرون لا قيمة لهم، وكذلك لا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا، وذلك أنه أعمالهم ليست لهم حسنات حتى توزن، وإنما الذي توزن حسناته وسيئاته هو الذي له شيء من الحسنات وله شيء من السيئات، فهذا الذي توزن أعماله، قال -جل وعلا- فيمن توزن أعمالهم {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المؤمنون:102]، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103]، فهؤلاء لا وزن لهم لأنه لا حسنة لهم، أبطل الله -تبارك وتعالى- كل حسناتهم.

قال -جل وعلا- {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}[الكهف:106]، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ}، ذلك؛ المشار إليه هو الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه من مآلهم، النار التي تنتظرهم، إهمالهم وتحقيرهم أنه لا وزن لهم، ثم هذه جهنم، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}[الكهف:106]، يعني بسبب كفرهم، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}، بسبب الكفر والإستهزاء بآيات الله -تبارك وتعالى- ورسله، إنهم إتخذوها هزوًا يعني إستهزأوا بها، وألوان الإستهزاء من الكفار بآيات الله -تبارك وتعالى- ورسله هذا باب واسع من ألوان ذلك، إحتقار الرسل وإستصغارهم ويقال لهم أنتم الذين بعثكم الله، الله ما أرسل رسل، ظن أن غيرهم أولى منهم، هذي أمور كثيرة مما صنعه الكفار في إستهزائهم بآيات الله -تبارك وتعالى- ورسله فكان هذا جزاؤهم.

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- الصفحة المقابلة لهؤلاء؛ الفريق الأخر، هذا فريق السعير؛ الذي يكون هذا مآله عند الله -تبارك وتعالى- من الجحيم، الفريق الأخر قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}[الكهف:107]، إن؛ بالتأكيد، يؤكد الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا}، الإيمان تصديق وعمل بمقتضى هذا التصديق، آمنوا بالله -تبارك وتعالى- الإيمان اللي هو بأركانه الستة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من الله -تعالى-، هذه أصول الإيمان، فقد صدقوا بكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به عن غيبه، الغيب هذا كله آمنوا به على النحو الذي أخبر عنه الرب -تبارك وتعالى-، ثم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، دائمًا يقرن الله -تبارك وتعالى- في الجزاء بين الإيمان والعمل الصالح، عمل الصالحات جمع صالحة، وكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به إنما هو من الصلاح، وعلى رأس ذلك تلاوة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29]، فالأعمال الصالحة على كل حال هي كل شعب الإيمان، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان»، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}[الكهف:107]، جنات الفردوس؛ الفردوس موقع في الجنة، مكان في الجنة، هو أعلى الجنة، كما قال النبي «إذا سألتم الله فإسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن»، وذكر الله -تبارك وتعالى- هنا طبعًا هو الفردوس ليس جنة وإنما جنات، بساتين هائلة عظيمة أعدها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}[الكهف:107]، نزلًا؛ ضيافة لهم، هذه ضيافتهم عند الله -تبارك وتعالى-، ضيافة أهل الإيمان والعمل الصالح أن الله -تبارك وتعالى- هيأ لهم جنات الفردوس نزلًا؛ ضيافة، وكذلك نزلًا؛ منزلًا، هذه منزلهم عند الله -تبارك وتعالى-.

{خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، خالدين فيها؛ ماكثين فيها مكثًا لا ينقطع، كما قال -جل وعلا- {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، فخلودهم فيها خلود ...، الخلود هو المكث الطويل في لغة العرب، وهو أنهم ماكثون فيها مكثًا لا ينقطع ولا ينتهي، {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، يعني تتعلق قلوبهم بها تعلق الملازم للشيء الذي لا يريدوا فكاكًا عنه، لا يريدون عنها حولًا، يعني أنه لا يأتي في قلوبهم أي ضجر أو ضيق أو سئامة أو ملل منها، بل لا يريدون أن يتحولوا عنها أي تحول، وهذا أمر عظيم، وهذا أمر عظيم، فإن المكث الطويل المكث الطويل مثلًا في مكان ما بالنسبة للحياة الدنيا قد يمله الإنسان ويضجره، مهما كان فيه من ألوان الفرح والسرور والحبور قد يضجره الإنسان وقد يسأمه يومًا ما، لكن الله يخبر بأن أهل الجنة لا يسأمون فيها ولا يصيبهم ملل ولا ضجر ولا سأمة، بل يتمسكون بها تمسكًا عظيمًا جدًا ويحبونها من كل قلوبهم، {........ لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، حولًا؛ تحول إلى أي مكان أخر، أن يفكروا في أي مكان أخر أو موقع أخر ليتحولوا عنها.

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف:109]، في ختام السورة أيضًا بيان صفة من صفات الله -تبارك وتعالى-، وهي مناسبة هنا لما جاء من قصة الخضر وموسى -عليه السلام-، الخضر الذي أعطى موسى هذا الدرس العظيم جدًا، وقال له يا موسى -في نهاية الدرس- لما أراه عصفور يشرب من البحر فقال له ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر؛ أي بشربه من البحر، {قُلْ}، لهم، {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}، البحر؛ بالألف واللام كل بحار الأرض، مداد؛ المداد الحبر الذي يكتب به، لكلمات ربي؛ الله -تبارك وتعالى- هو الذي أحاط علمًا بكل شيء، -سبحانه وتعالى- المحيط علمه بكل شيء، علمه لا يحد، فلو أن الله -تبارك وتعالى-، لو أن هذا البحر أصبح مدادًا ليكتب علم الله وكلماته -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {لَنَفِدَ الْبَحْرُ}، تنتهي، ينتهي مداد البحر، {قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}، قبل أن تنفد كلمات الله، وذلك أنها علمه -سبحانه وتعالى- الذي لا ينتهي ولا كفء له وليس له حد ينتهي إليه، {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، ولو جئنا ببحر أخر مثل هذا البحر، بل لو كان هناك سبعة أبحر يمدون هذا البحر وأكثر من ذلك، فإن علم الله -تبارك وتعالى- لا ينفد وكلماته لا تنتهي -سبحانه وتعالى-، لنفد البحر؛ إنتهى، {........ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف:109]، سبحانه سبحان الرب العظيم الذي أحصى كل شيء علمًا -سبحانه وتعالى-، والذي لا يحد علمه حدود -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ}، أي قل لهم يا محمد، يا أيها النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، إنما؛ بالحصر، إنما أنا بشر مثلكم؛ أي أيها الناس، يوحى إلي؛ مثلكم في البشرية، فهو ولد كما ولد البشر ويموت كما يموت البشر، ويمرض وتعتريه كما تعتري البشر من المرض ومن النوم ومن كل شئون البشر، من الطعام والشراب وقضاء الحاجة كله، فالنبي -صل الله عليه وسلم- بشر كالبشر تمامًا، وليس من جنس أخر من أجناس الخلق كالملائكة، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، ولكن الله -تبارك وتعالى- إصطفاه وميزه عن سائر البشر وعن سائر من لم يوحى إليه، قال {يُوحَى إِلَيَّ}، يعني ميزه الله -تبارك وتعالى- بالوحي {يُوحَى إِلَيَّ}، فإصطفاه الله -تبارك وتعالى- بالوحي والرسالة التي أنزلها عليه -سبحانه وتعالى-، ومضمون هذا الوحي {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، هذا المضمون والنهائي لما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، يوحي إلي أنما إلهكم؛ أيها الناس، معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه إنما هو إله واحد، ليس لكم إله غيره، وذلك أن هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع وليس هناك ثمة واقع غيره، ليس لكل المخلوقين إله إلا إله واحد وهو الله -سبحانه وتعالى-، الذي لا ينازعه أحد ولا شبيه له ولا ند له ولا ولد له ولا كفء له، فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى- وهو على كل شيء وكيل، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فكل ما سواه مخلوق، مربوب، مقهور، لا يملك لنفسه نفع ولا ضر، وكل الأمر إليه -سبحانه وتعالى- وبيده الملك كله -سبحانه وتعالى-، فإذن هو الإله وحده لا إله إلا هو لجميع الخلق -سبحانه وتعالى-، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.

ثم قال -جل وعلا- {........ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، يرجوا لقاء ربه؛ يرجوا ما عند الله، هذا يعني بعث للهمم وتوجيه للأنظار والقلوب، إلى هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء –سبحانه وتعالى-، يملك الدنيا والآخرة، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، ويجد عنده الفوز العظيم والجائزة الكبرى، إذن {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}، فهذا الذي يرجوا لقاء الله –تبارك وتعالى- والذي يريد لقاء من؟ لقاء ربه -سبحانه وتعالى- {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، عند ذلك ينال ما ينال من هذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}[الكهف:107]، وكذلك مفهوم هذا ما دام أنه يرجوا لقاء الله ويطمع فما عنده -سبحانه وتعالى-، ويطمع في السعادة الأبدية والخلود الأبدي فإذن كذلك لابد أن يخاف هذا الرب -سبحانه وتعالى-، لأنه كذلك يؤاخذ بالذنب ويعاقب به، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، يرجوا ما عنده -سبحانه وتعالى- من الخير، يرجوا الخلود والبقاء السرمدي في النعيم، وكذلك يحذر ما عنده -سبحانه وتعالى- من العذاب الأليم، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}، وهذه الأعمال الصالحة قد بينها الله -تبارك وتعالى-، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل إلا العمل الخالص له -سبحانه وتعالى-، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، سواء كان من هذه المخلوقات المعبود من دون الله -تبارك وتعالى-، وكذلك لا يجعل هناك رياء يرائي به الخلق في عمله لله -تبارك وتعالى-، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له، فمن صلى أو صام أو زكى أو جاهد في سبيل الله ولكنه أراد مدحة الناس أو معنىً أخر من المعاني غير لقاء ربه وغير ما عند الله -تبارك وتعالى- فإنه لا أجر له، وقد جائت الأحاديث الكثيرة بهذا كقول النبي -صل الله عليه وسلم- «لمن قال يا رسول الله رجل يقاتل بشجاعة ويقاتل حمية بذلك في سبيل الله، فقال من قاتل لتكون كلمته العليا فهو في سبيل الله».

بهذا تكون قد تمت هذه السورة؛ سورة الكهف، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الآيات والذكر الحكيم، وفي الختام أصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.