الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (359) - سورة مريم 1-13

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {كهيعص}[مريم:1]، {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم:3]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم:4]، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[مريم:5]، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:6]، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:7]، {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم:8]، {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم:9]، سورة مريم سورة مكية، وقد جاء في الصحيح أن جعفر إبن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- في وقت هجرته، يوم كان مهاجرًا إلى الحبشة، وكان على رأس المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة.

بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة؛ سورة مريم، بهذه الحروف المقطعة الخمسة {كهيعص}[مريم:1]، وقد سبق أن ذكرنا ما قاله أهل العلم في تفسير وبيان هذه الحروف، وأن أفضل ما قيل في ذلك أن هذه الحروف هي تنبيه وذكر من الله -تبارك وتعالى- للعرب المكذبين لهذا القرآن، أن هذا القرآن هو من هذه الحروف التي يتكلمون بها فإن كانوا يشكون فيه فلياتوا بكتاب مثله، يؤلفوا من هذه الحروف ومن هذه الكلمات من اللسان العربي الذي يتكلمون به قرآنًا يعارضون به هذا القرآن، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لو إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وقال {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]، {كهيعص}[مريم:1]، تنبيه وذكر لتسمية لهذه السورة على هذا النحو، وإخراج للقرآن في صورة لم تعهد قط، كذلك في كلام البشر ليكون هذا أيضًا من باب الإعجاز.

{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا، ذكر الله والله -تبارك وتعالى- في القرآن يخبرنا أن هذه السورة نزلت ذكر من الله -تبارك وتعالى-، لعبده زكريا النبي الصالح من أنبياء بني إسرائيل، ذكر رحمة الله -تبارك وتعالى- له وذلك ليتعظ المؤمنون، وليعلموا كيف يعامل الله -تبارك وتعالى- أوليائه من الأنبياء والمرسلين، وكذلك من الصديقين والصالحين، فهذه سنة الله وطريقته –سبحانه وتعالى- في معاملة عباده المؤمنين، ثم في ذكر شأن زكريا وكيف أن الله -تبارك وتعالى- أعطاه الولد على كبر سنه، وعلى كون إمرأته عاقرًا لا تلد، فكانت آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقرر الله -تبارك وتعالى- بهذا ذكر مريم -عليها السلام-، وكيف أن الله -تبارك وتعالى- قد خلق منها عيسى إبن مريم -عليه السلام- دون والد، ليكون هذا آية وهذا آية وهذه آية مقارنة لهذه الآية، وكان يحيى الذي ولد من أبوين لا تتأتى منهم الولادة، فأمه عاقر وأبوه قد بلغ من الكبر عتيًا، وقد كان هذا خلق يدل على قدرة الله –تبارك وتعالى-، وهذا عيسى إبن مريم -عليه السلام- قد أوجده الله -تبارك وتعالى- بلا ذكر؛ بلا رجل، ليكون كذلك آية من آيات الله -تبارك وتعالى- وكانت هاتان الآيتان مقترنتان، فإن عيسى -عليه السلام- ويحيى إبنا خالة، كان الحمل بهما في وقت واحد، وجائت هذه ثم تلاها هذه، والسورة كلها سورة مريم إنما هي في عمومها خطاب من الله -تبارك وتعالى- للنصارى، الذين غلوا في عيسى حتى قالوا إنه إبن الله، أو إنه الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، بل إفتروا ليس غلوًا فقط بل إفتراء، يعني بدأ الأمر بغلو شيئًا فشيئًا ثم بعد ذلك إفتروا الكذب على الله -تبارك وتعالى-، فقالوا إنه الله أو إنه إبن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا، وربك هنا الخطاب للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وفي إضافة النبي إلى الله -تبارك وتعالى- وأن الله -تبارك وتعالى- ربه، هذا كذلك تحبيب وبيان أن هذا صنيع ورحمة الله -تبارك وتعالى- في أوليائه، فكذلك القياس على هذا أن يكون صنيع الله -تبارك وتعالى- في أوليائه وفي رسله وفي نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- من جنس هذا الصنيع والجميل، إذ هو الرب الإله –سبحانه وتعالى- الذي إصطفى هذه الصفوة من خلقه هؤلاء الأنبياء والرسل -صلوات الله والسلام عليهم أجمعين-.

{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، ذكر الله -تبارك وتعالى- زكريا هنا بهذا الوصف أنه عبده، وهذه أعلى مراتب البشر، هذا أعلى منزلة ممكن أن يصلها الإنسان أن يكون عبدًا لله -تبارك وتعالى-، عبد لله -تبارك وتعالى- بإختياره وإصطفاء الله -تبارك وتعالى- له وإجتبائه له، وأن يرقيه في سلم العبودية ليكون في النهاية العبد الحقيقي لله -تبارك وتعالى-، زكريا بالقصر وزكريا بالمد، نبي عظيم من أنبياء بني إسرائيل؛ من أواخر أنبيائهم، فإن إبنه  يحيى هو النبي وكان مقارنًا في نفس الوقت مع عيسى إبن مريم، وعيسى هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وبنوا إسرائيل أولاد يعقوب كانت تسوسهم الأنبياء، كان من فضل الله -تبارك وتعالى- عليهم أن النبوة لا تنقطع منهم، بل كان النبي يتولى المهمة؛ مهمة البيان والإرشاد والدين، وتلقي الوحي من الله -تبارك وتعالى- وتعليم القوم، وكذلك المهمة السياسية؛ يسوس بني إسرائيل، فشئون دينهم وشئون دنياهم موكلة إلى الأنبياء، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «كانت بنوا إسرائيل تسوسها الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي»،.

{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم:3]، يعني أذكر إذ نادى ربه؛ نادى زكريا ربه، نداءً خفيًا؛ ناداه دعاه، دعا الرب –تبارك وتعالى- وذكر هنا بصورة النداء لأنه أمر كأنه خارج من القلب وبرفع صوت إلى ربه -سبحانه وتعالى-، ولكنه كان نداءًا خفيًا أي بعيدًا عن الناس، فإنه إستصرخ الله -تبارك وتعالى- وناداه ودعاه بصوت، ملتجئ إليه وداخلًا عليه -سبحانه وتعالى- وملحًا عليه في هذا الأمر، اللي هو أمر يراه أنه من الأمور المصيرية الهامة لبني إسرائيل من بعده، حرصًا منه -عليه السلام- على قومه أن يضلوا من بعده وأن يتولاهم غير الأكفاء، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم:3]، بعيدًا عن الناس وهذا هو الصورة الصحيحة للدعاء، كما قال -سبحانه وتعالى- {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55]، تضرعًا؛ تذللًا، وخفية؛ عن الناس، بينكم وبين الله -تبارك وتعالى- ليكون هذا هو الأدعى إلى الإخلاص، وأدعى إلى إستجابة الرب -سبحانه وتعالى-.

{قَالَ}، أي زكريا -عليه السلام-، {........ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم:4]، وصف حاله لله –تبارك وتعالى- متذللًا متمسكنًا له، {قَالَ رَبِّ}، يعني يا ربي، {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}، الوهن؛ الضعف، يعني ضعف عظمي وذلك بكبر السن، فإن العظام تصيبها الوهن والهشاشة والضعف، {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، إشتعل الرأس شيبًا؛ يعني إنتشر فيه الشيب كإنتشار النار في الهشيم، والعرب تشبه سرعة إنتشار الشيب في الشعر بسرعة النار في العشب، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، أي إمتلأ رأسي بالشعر الأبيض، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، قد عودتني دائمًا أي ربي أني لا أشقى بدعائك، ما دعوتك إلى إستجبت لي، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، قط بل أي كنت دائمًا لي حفيًا مستجيبًا لدعائي.

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[مريم:5]، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}، على قومه؛ على بني إسرائيل، يحمل هم قومه في حياته وبعد مماته، خفت الموالي؛ من يتولى الأمر من بعدي، خفتهم على القوم وذلك أنه لم يرى فيمن يخلفه في الدين رجلًا كفئًا، لينبئه الله -تبارك وتعالى- ويتولى القوم من بعده، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}، ثم قال {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}، ذكر حاله في الطلب فإنه يطلب ولد وذكر حاله أن إمرأته عاقر؛ يعني لا تلد، لم يسبق لها ولادة وليس من شأنها أن تلد لأنها عاقر، والعاقر هي المرأة التي لا يتأتى منها إنجاب الولد، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:6]، فهب لي من لدنك؛ من عندك، الوهب؛ العطاء، يعني أعطني عطاءً من عندك؛ هبة من عندك، من عندك لأنك أنت وحدك القادر على هذا الأمر، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}، ولي؛ ولي لي، ناصر، معين، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ........}[مريم:6]، يرثني؛ العلم والنبوة، يعني يرث هذه النبوة ويرث هذا العلم ويرث ميراث آل يعقوب، آل يعقوب؛ يعقوب إسرائيل –عليه السلام-، وآله؛ هؤلاء الأنبياء الذين تناسلوا منه، وقد كان من رحمة الله -تبارك وتعالى- ببني إسرائيل أن جعل النبوة مستمرة فيهم، تحقيقًا لدعوة إبراهيم -عليه السلام- الذي قال لما قال له الله -تبارك وتعالى- {........ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، فقد دعى الله -تبارك وتعالى- أن يجعل من ذريته من يورثه الله -تبارك وتعالى- إمامة الدين، فأخبره الله -تبارك وتعالى- أن الظالمون لا ينالون عهد الله -تبارك وتعالى-، يعني أن أولياء الله -تبارك وتعالى- المخلصون منهم ينالون عهد الله، وقد كان فإن الله -تبارك وتعالى- جعل في بني إسرائيل النبوة متعاقبة، كما مضى من حديث النبي -صلوات الله والسلام عليه- «كانت بنوا إسرائيل تسوسها الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي»، فهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بهم التي جحدوها فيما بعد.

{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:6]، يرثني هذا النبي؛ العلم والدين والنبوة، ويرث من آل يعقوب؛ ولا شك أن من قال من المفسرين بأنه طلب من يرث ماله، يرثه وراثة مال فلا شك أن هذا أمر مستنكر وبعيد، إذا لا يتأتى من النبي أن يكون خائفًا على ماله أن يأخذه عصبته، فالمال إذا لم يكن هناك من الصلب يذهب إلى العصبة، يعني أن يخاف من أن يأخذه عصبته؛ أقاربه، فيدعوا الله -تبارك وتعالى- بهذا الدعاء ويلح عليه بهذا النداء ليرزقه ولد حتى يحوز ماله، الأنبياء بعيدون عن ذلك، ثم إن زكريا -عليه السلام- لم يكن أصلًا ذا مال، بل كان كما جاء في صحيح الإمام البخاري أنه كان رجلًا نجارًا يأكل من عمل يده، فكان يشتغل بالنجارة ويأكل من عمل يده -عليه السلام-، والأنبياء على كل حال لا يورثون، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»، فما يتركه النبي من ماله من المال فهو صدقة، ولا يأخذه ورثته، فلا شك أن دعائه هنا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ........}[مريم:6]، يرث النبوة والعلم والدين، {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}، إجلعه رب؛ إجعل يا ربي هذا الذي تهبني إياه، هذا الولد الذي تهبني إياه إجعله رضي؛ مرضي، من أهل الرضا، ترضى عنه وترضى عنه الخلائق، {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.

قال -جل وعلا- مستجيبًا لدعاء عبده زكريا، قال {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:7]، يا زكريا؛ ناداه الله -تبارك وتعالى- بإسمه، {إِنَّا نُبَشِّرُكَ}، إنا؛ الله -سبحانه وتعالى-، نبشرك؛ البشارة الإخبار بما يسر، وهذا خبر سار لزكريا -عليه السلام- بشارة عظيمة، {بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى}، سماه الله -تبارك وتعالى- بهذا الإسم، يحيى من الحياة، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، سميًا؛ يأتي السمي يعني من إتسم بإسمه، إن هذا الإسم يحيى لم يتسمى به أحد قبله، ويحيى يتضمن معاني الحياة، فهو لا يموت وهو طفل بل يظل حتى يبلغ هذا المبلغ؛ النبوة وتحمل الأمانة والقيام بها، كذلك يحيى الحياة حياة الدين، فإن الذي يأخذ الدين حي وغيره ميت، وهذا أحد الأوجه في تفسير في قول أهل العلم تفسير سميًا، أي من يتسمى بمثل هذا الإسم يحيى، أو السمي بمعنى المسامي، اللي هو الذي يساميه بمعنى الذي يشبهه وكافئه، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، أي من يشبهه أو يدانيه، وهذا لا شك أنه ليس على إطلاقه فإنه قد سبق يحيى –عليه السلام- من الأنبياء العظام والرسل الكرام من هم أعلى منه مكانًا، كإبراهيم -عليه السلام- وموسى وأبوه زكريا وكذلك إسحاق ويعقوب، فإنه قد سبقه مجموعة كبيرة من الرسل والأنبياء الذين هم لا شك أنه أعلى مكانًا وأفضل من يحيى -عليه السلام-، ولكن قد يكون هنا أنه ليس له سمي من هؤلاء، أن الله -تبارك وتعالى- قلده وحمله الأمانة وهو صبي، فآتاه الحكم وهو صبي صغير، فلم يكن له مساميًا ومشابهًا له في هذا الأمر، بل الرسل كانت تأتيهم النبوة وهم فوق الأربعين، لكن الله -تبارك وتعالى- بالنسبة ليحيى قال بأنه قد أعطاه الحكم صبيًا، أو أنه ليس له سمي فيمن سبقه من البشر كلهم، بأنه يولد من أم عاقر ومن أبٍ شيخٍ كبير قد رق عظمه وليس فيه مادة الإنجاب، فيكون هذا ليس له سمي في هذا الشكل، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:7].

قال أي زكريا وقد جائته البشرى وجائه هذا الخبر وجائه هذا الأمر وهو على خلاف الإلف وخلاف العادة، وخلاف سنة الله -تبارك وتعالى- الجارية في الخلق؛ السنة العامة، {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}[مريم:8]، قال؛ أي زكريا -عليه السلام-، متعجبًا وسائلًا ومستفهمًا من الرب -تبارك وتعالى- كيفية حصول هذا الغلام، {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}، كيف سيكون لي غلام؟ {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}، إمرأتي عاقرة في الأصل لا تلد، {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، يصف حاله، يعني متعجبًا وسائلًا ومستفهمًا من الرب -تبارك وتعالى-، كيف سيكون له هذا الولد؟ وليس مستبعدًا هذا الأمر وأنه لا يكون، لكنه كالمتحرق والمتشوق لأن يكون أن يخبره الله -تبارك وتعالى- بكيفية وجود هذه المعجزة التي ستكون.

{قَالَ}، له الرب -تبارك وتعالى- {........ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم:9]، {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ}، كذلك؛ كهذا القول الذي سمعته، قال الله -تبارك وتعالى- وإذا قال الله فإنه قوله لا يرد -سبحانه وتعالى-، حكم؛ هذا حكم منه -سبحانه وتعالى-، {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ}، خالقك، وفي قول الله -تبارك وتعالى- ربك تذكير له بأنه هو ربه وهو مخلوق خلقه الله -تبارك وتعالى- ولم يك شيئًا، {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، هو؛ هذا الأمر، على الله -تبارك وتعالى-، علي هين؛ ليس أمرًا صعبًا ولا ديَّت، {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، قد خلقتك من قبل؛ يعني يا زكريا، ولم تك شيئًا؛ وهذا أبلغ، وهذا أبلغ في المعجزة أن الإنسان مخلوق من لا شيء، من قبل أن يكون شيئًا ثم إن الله -تبارك وتعالى- خلقه، فهذا أب موجود وأم موجودة وكونها عاقر وهذا كبير، ممكن أن يوجد الله -تبارك وتعالى- فيهم مادة الولد ويكون الولد، فمن خلق من غير شيء لا شك أنه في النظر أصعب أن يكون الوجود من لا شيء خير وجود من شيء غير صالح يصلح، يعني يصلحه الله -تبارك وتعالى-، {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}.

{قَالَ}، أي زكريا -عليه السلام-، {رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً}، رب؛ يعني يا ربي، اجعل لي آية؛ اجعل لي علامة على أن هذا الخبر سيتحقق، كأن هذا من زكريا -عليه السلام- تشوف وشغف وإشتياق لحصول هذا الأمر، فطلب من الله -تبارك وتعالى- آية بأن هذا سيتحقق له، {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً}، أي علامة منك –سبحانك- على أن هذا الأمر سيتحقق لي، {قَالَ}، أي له الله -تبارك وتعالى-، {........ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم:10]، علامة هذا الأمر أنه سيتحقق كما أخبرك الله -تبارك وتعالى-، جعل الله علامة في نفسه أن {........ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم:10]، يعني حال كونك سويًا؛ مستوي الخلق، تمام من غير علة، لكن تحجب وتمنع عن الكلام، فيمنع لسانه عن كلام الناس مع أنه ليس به علة من البكم، بل هو متكلم ولكنه في هذه الثلاثة الأيام لا يستطيع أن ينطق وأن يكلم الناس، {........ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم:10]، حال كونك سوي.

قال -جل وعلا- {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:11]، بعد أن بشر زكريا –عليه السلام- النبي بهذه البشارة، وبعد دعائه للرب -تبارك وتعالى- وتضرعه له وطلبه هذا، وإخبار الرب -تبارك وتعالى- بأن هذا سيكون وأنه قد حقق أمنيته وطلبه، وأعطاه الله -تبارك وتعالى- الآية الدالة على أنه بالفعل الأمر هذا لابد أن يكون، عند ذلك خرج على قومه؛ أي من بني إسرائيل من المحراب، المحراب؛ الخلوة التي كانوا يختلون فيها لعبادة الرب -تبارك وتعالى-، من محرابه؛ من خلوته التي هي مخصصة للعبادة، {........ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:11]، طبعًا لا يستطيع النطق وهنا بدأ يستخدم الإشارة، الوحي هو الإخبار والإعلام بطريق خفي، فأوحى إليهم؛ أوحى إلى قومه، يعني كلمهم بالرمز وبالإشارة، سبحوا؛ الرب -سبحانه وتعالى-، كان يقول لهم الرب الذي في السماء إلهجوا بتسبيحه وحمده -سبحانه وتعالى-، فإنه سيوجد آية عظيمة من آياته وهي أنه سيخلق وسيوجد منه ومن زوجته  العاقر ولد.

ولنا عودة -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.