الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول
الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}، وإذ أي اذكر
إذ، {ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}،
أي اختبره وامتحنه بكلمات، بأوامر ونواهي، إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء،
كان نشأته في أور الكلدانيين في العراق، وكان من شأنه ما قص الله -تبارك وتعالى-
علينا في كتابه، أن هداه الله -تبارك وتعالى- رشده، وآتاه النبوة، وأعطاه الحجة
على قومه، دعاهم إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، ونبذ ما كانوا
يعبدونه من الأصنام والأوثان، التي جعلوها تماثيل أو أرواحًا للكواكب، قومه
الصابئة، لم يؤمنوا له، فقرر أن يهزهم هزَّةً عظيمة، بتحطيم أصنامهم حتى يرجعوا
إلى عقولهم، حطَّم أصنامهم بعد أن تحايل للوصول إليها، بقوله لهم إني سقيم حتى
يضعوه في بيت الأصنام، ثم لما حطمهم ورأى كفار قومه هذا الأمر الفظيع لهم،
وتحرَّوا الأمر، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ
يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:60]، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ
عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}[الأنبياء:61]،{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا
إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:62]،{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ
كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:63]، {فَرَجَعُوا إِلَى
أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64]، أي كيف نعبد ما لا يسمع
ولا يبصر.
قال-جل وعلا- {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:65]، ثم غلب منهم من تمسك بالقديم، وتمسك بما عليه الآباء
والأجداد، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ
كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68]، قال -جل وعلا- {قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، قصَّ الله -تبارك وتعالى-
علينا هذا شأن إبراهيم، ثم بعد ذلك طرده من بلده، وقول أبيه له بعد نقاشه الطويل،
قال {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، واعتزلهم وخرج
إبراهيم من بلده في أور الكلدانيين إلى فلسطين، فجعلها موطنًا له في الخليل، ثم
إنه نزل مصر في شأن من الشئون، ثم إن الله منَّ عليه بأن وهب هاجر المصرية
القبطية، وهبها ملك مصر لزوجته سارة، ثم وهبتها لإبراهيم، فكان منها ابنه بِكرَّه
إسماعيل-عليه السلام-، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أمر إبراهيم أن يسكنا إسماعيل
وأمه هاجر المصرية أرض مكة -أسكنهما هناك-، ثم لما شبَّ وكبر أمره الله –تبارك
وتعالى- اختبارًا وابتلاءً أن يذبح إبنه إسماعيل، فاستجاب لأمر الله -تبارك
وتعالى-، كما حكى الله -تبارك وتعالى- وقصَّ علينا هذا تفصيلًا، عن هذا البلاء
العظيم، وأنه أسلم لأمر الله، {........ قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ}[الصافات:102]، قال –جل وعلا- {فَلَمَّا أَسْلَمَا}
أي إبراهيم وإسماعيل لله -تبارك وتعالى-، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، {وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ}[الصافات:104]، {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:105]، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}[الصافات:106]، قال -جل وعلا- تعقيبًا على
هذا، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}[الصافات:106]، البلاء البيِّن الواضح، أن
يؤمر عبد لله -تبارك وتعالى- بأن يذبح ابنه، بكرَّه الذي كان في أتم الحلم، كان
إسماعيل حليمًا، كريمًا نحو والده كرمًا عظيمًا، وسيأتي بعض شأنه في ذلك في ثنايا
ما قصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا.
هنا هذه الآية كلها جاءت الآن مازالت سياق
مع بني إسرائيل، بنو إسرائيل أكبر دعاويهم أنهم أبناء إبراهيم، وأن إبراهيم أبوهم،
وأن الله -جل وعلا- لما بارك إبراهيم فإن إبراهيم قد طلب البركة لذريته، وأنها قد
نالت هذه الذرية كلهم، وبذلك تمسكوا بهذا الوهم الذي توهموه، في أن البركة نالتهم
بانتسابهم إلى إبراهيم -عليه السلام-، وأنهم أهل الجنة حتمًا، وأنه مهما فعلوا
من ذنب فإن الله لا يعاقب مذنبهم إلا أيام
قليلة في النار، ثم يخلفهم في النار غيرهم ولا يخلَّدون فيها، وادعوا أنهم على ملة
إبراهيم وعلى طريقته، وأنهم أبنائه على هذا، فجاء القرآن ليبين أن الله -تبارك
وتعالى- كرَّم إبراهيم، وأن من ذريته مؤمنٌ وظالم، وأن الظلمة لا ينالون عهد الله -تبارك
وتعالى-.
قول الله {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} أي اذكروا، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}، أي رب إبراهيم ابتلى
إبراهيم بكلمات، هذه الكلمات أوامر ونواهي، منها ما ذكرناه هنا في إجمالٍ لشيء من
تاريخه وقصته -عليه السلام-، أول ذلك هذا المحنة العظيمة، أن يكون هو المؤمن وحده
في قومٍ كلهم كفار، لم يؤمن معه أحد، ثم بعد ذلك يجمع له قومه ليحرق بالنار، ويقف
صلب شجاع قوي، مؤمن بالله -تبارك وتعالى- متوكلًا عليه، ويقول كلمته "حسبي
الله ونعم الوكيل"، كما قال -صلى الله عليه وسلم- «حسبنا الله ونعم الوكيل،
قال هي كلمة قالها إبراهيم عندما ألقي في النار»، حسبيَّ الله أي يكفيني الله -تبارك
وتعالى-، وقد كفاه الله، بأن قال {قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، فهذا موقفٌ لا يكون يوقف،
لم يقفه أحد قبله، أن يكون هو المؤمن الوحيد، ثم يهدد بالإلقاء في النار، ويبقى
صامدًا مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى- داعٍ إلى التوحيد، ثم بعد ذلك إخراجه من وطنه
وهجرته لله -تبارك وتعالى-، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ
إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، الهجرة وما فيها من المشقة والعنت وفراق الأوطان، هذا كذلك
مما ابتلى الله -تبارك وتعالى- بها، أي رب إبراهيم إبراهيم.
ثم المحنة العظمى، أمره بأن يسكنا زوجه
هاجر وابنها إسماعيل أرضًا قفر، لا أنيس فيها ولا أحد، حتى إن هاجر لما تركها في
هذا المكان، نزل بها من الشام إلى أرض مكة، نادته وقالت يا إبراهيم إلى مَن تتركنا
في هذا المكان، الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء، فلم يرد عليها، ثم قالت له أالله أمرك
بهذا، فأشار برأسه أن نعم، فقد أُمر أن يدع هذه الوديعة في هذا المكان، وأنها
وديعة الله؛ الله يتولاها، وهذا أمرٌ شاقٌ جدًا، أن يترك الإنسان زوجته وأولاده في
قفر، ثم يعود أدراجه، يفعل هذا بأمر الله -تبارك وتعالى- أمرٌ شاقٌ جدًا، وقد
نفَّذ إبراهيم ما أُمر به، ثم لما شبَّ هذا الغلام وكبر وأصبح رجلًا وبلغ مع
إبراهيم السعي، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ}، وهذا الوقت أفضل وقت يكون فيه الغلام محببًا إلى أبيه، فإنه
أصبح كما يقال كتفه بكتف أبيه، مساعدًا له، {فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} السعي في الحياة، {قَالَ
يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، أمرٌ شاقٌ
لكليهما، للوالد والولد، ولكنه امتثل لأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}[الصافات:103]، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ}[الصافات:104].
ثم إنه كان داعيًا إلى الله -تبارك
وتعالى- في كل مواطنه، رحيمًا بالخلق أعظم الرحمة، وتتجلى رحمته في دعائه للرب -تبارك
وتعالى-، وقوله عن الأصنام {رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36]، فدعى لمن عصاه بالمغفرة
والرحمة ولم يدعو عليهم، كذلك مناشدته الملائكة عندما علم وجهتهم في إهلاك قرى
لوط، أي أن يؤخروا الأمر، وأن ينتظروا ولعلهم ولعلهم ...، حتى قال له الملائكة {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[هود:76]، يا إبراهيم أعرض عن هذا أي عن
ثني الملائكة أن يدمروا قرى لوط، قالوا أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك، قد جاء
أمر الله -تبارك وتعالى- بإهلاكهم، ثم يناشدوهم {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ
فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ
الْغَابِرِينَ}[العنكبوت:32]، كان رحيمًا بالخلق -صلى الله وسلم عليه-.
إبراهيم هذا النبي الذي أكرمه الله -تبارك
وتعالى- بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب إلى النبي الخاتم -صلوات الله والسلام
عليه-، كل نبيٍ جاء بعد إبراهيم فإنه من نسله، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}،
كلمات عظيمة، قال -جل وعلا- {فَأَتَمَّهُنّ}، أتمَّهن أي وفَّى ما أمر الله -تبارك
وتعالى- به، كما قال -جل وعلا- في الآيات الأخرى {وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى}[النجم:37]، وفَّى أدى مع أُمر به وافيًّا غير منقوص، لم يتلكأ في أمر من
الأوامر التي أمره الله -تبارك وتعالى- بها فأتمَّهن، قال الله -تبارك وتعالى-
إحسانًا منه إلى إبراهيم، {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا}، إني جاعلك -يا إبراهيم- للناس إمامًا، الإمام هو الفرد المقتدى
به، من معاني الإمام الفرد المقتدى به، أي إنسان يقتدى به، في دينه، في شريعته، في
أخلاقه، في قيامه، في أمره، في نهيه، قدوة للعالمين، قال {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ}، طبعًا في زمانه، وبعد زمانه أن يقيمه
الله -تبارك وتعالى-، فيقيم من ذكراه ومن أعماله نموذج كامل للناس يأتسوا به من
بعده.
فكان من شأن إبراهيم
أراد أن تكون هذه الكرامة كذلك لذريته، {قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي}، أي واجعل من ذريتي أئمة كذلك يكونون أئمة للناس، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، ومن بعضهم، قال -جل وعلا- استجابةً
لدعائه {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}،
لا ينال عهدي بالإمامة، وأن أقيمهم نموذج للناس، وداعين إلى الخير الظالمين، أهل
الظلم، والظلم كلمة كبيرة، أعلى وأكبر الظلم هو الشرك بالله-تبارك وتعالى-، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فالمشركون أي أهل
الشرك الخارجون عن التوحيد، ها دول أهل الظلم لا ينالوا عهد الله -تبارك وتعالى-،
لا يجعل الله -تبارك وتعالى- منهم هداةً ولا أئمة ، فهذه الآية أولًا فيها بيان
بأن الله –تبارك وتعالى- قد اختار إبراهيم، وجعله
إمامًا للناس، وأن دعائه لذريته أن يكونوا أأمَّة، أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه
لن يكون إمامًا ظالمًا من ذريته، وأن الله –تبارك وتعالى- لا يضع الإمامة في ظالم،
هذا رد على اليهود، الذين قالوا نحن جميعًا شعب الله المختار، وأمته المجتباة،
ونحن جميعًا على هذا النحو مهما وقع منهم، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- لا، أنه أهل
الظلم لا ينالون عهد الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة:125]، وإذ جعلنا اذكروا، إذ جعلنا البيت؛ وهو البيت الحرام في مكة
المكرمة، البيت بالألف واللام المعهود العلم على هذا، فهذا بيت الله -تبارك
وتعالى- المعلوم أنه بيت الله لكل الأمم ولكل الشعوب، {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}، مثابة إما مشتق من الثواب، أي مكانًا
يثابون فيه على الأعمال التي شرعها الله -تبارك وتعالى- عند زيارته وعند حجه،
فمكان للثواب العظيم، والحج هو من أعظم الأعمال التي يُنَال بها الثواب ورضا الرب -تبارك
وتعالى-، كما جاء في الحديث «من حجَّ فلم يفسق ولم يرفس، رجع كما ولدته أمه»، فالحج
والعمرة من أعظم كفارات الذنوب، {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
لكل الناس، أو مثابَةً للناس مكان يثوبون إليه، يثوبون إليه أي يرجعون إليه، مرجِع
للناس لأنه مأوى، وحرم آمن، فيرجع الناس إليه، {وَأَمْنًا}
مكانًا آمنًا، مكانًا آمنًا وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الأمن الذي في هذا
المكان دلالة من دلالات قدرته -سبحانه وتعالى-، فإن الله ألقى في قلوب الناس تعظيم
هذا المكان، والرهبة من انتهاك حرماته، وقد كان انظروا كان العرب بعد إبراهيم وبعد
إسماعيل، شريعة طويلة من الهدى والتقى معظمين لهذا البيت، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى
الشرك، ومع انتقالهم إلى الشرك إلا أن بقي تعظيم هذا البيت في قلوبهم، علمًا أن
العرب كانت أمة متفرقة، لا يجمعها نظامٌ واحد، ولا ملكٌ واحد، وإنما كانت متفرقة،
الولاء فيها للقبيلة، وللجماعات الخارجة عن العرف والقانون، ليس هناك قانون
يجمعهم، وكان الغزو والسلب والنهب سبب من أسباب الكسب، فكان الناس تكسب قوتها
بعضهم بالرعي، بعضهم بالزراعة بالتجارة، وكان أعظم الناس تجارة أهل البيت الحرام،
وكثيرٌ من العرب كانت وسيلتها للكسب هو أخذ ما في أيدي الآخرين، الغزو على الآخرين
وسلب ما عندهم، ويتفاخرون بهذا، ويرون أن هذا أشرف أنواع الكسب، فهو أشرف من
الزراعة، وأشرف من التجارة، وأشرف من أي عملٍ أخر، وكانت الحروب تقوم بينهم بسبب
هذا وبسبب غيره، من المفاخرة والمنافرة، وتقوم الحرب لأتفه الأسباب، ومع هذا كان
العرب على اختلاف قبائلهم وهديانهم إلا أنهم يعظمون البيت الحرام، ولا يغفر أحدٌ
ذمةً فيه، مع شركه وكفره ومع أخلاقه الرديَّة في القتل، ومع أنفته، فقد كان الشخص
يرى قاتل أبيه موجود في البيت، في الأرض الحرام ولا يمسُّه ويمتنع عنه.
فالله -تبارك وتعالى-
هذا الجعل هنا {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، هذا جعل كوني قدري مع الجعل الشرعي، فإن الله -تبارك
وتعالى- جعل هذا على ألسنة الأنبياء، فإبراهيم حرَّم مكة، كما قال -صلى الله عليه
وسلم- نبينا -صلى الله عليه وسلم- «إن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض»،
وقال النبي «إني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة»، فإبراهيم نادى في مكة
بتحريم الله -تبارك وتعالى-، نادى هذا في العرب وفي مَن حول هذا البيت، أن هذه
المكان له حرمته، وأنه بيت الله، وحجُّوا إلى بيت الله وأفعلوا هذا، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى
كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27]، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، فإبراهيم أعلن تحريم
هذا المكان، والله -تبارك وتعالى- جعل هذا الأمن كون هذا البيت مثابة للناس، مكانٌ
يثوبون إليه، وأمنه جعله هذا أمر شرعي -في أمره الشرعي-، وكذلك في أمره الكوني
القدري، فالذين جاءوا من شعوب العرب والتي لا تؤمن بشريعة ولا بدين، إلا دينها وما
اختارته أهوائها، كذلك كانت تعظم هذا البيت، ولا تغفر الذمة فيه.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، هذا أمرٌ من الله -تبارك
وتعالى- بأن يتخذ العباد من مقام إبراهيم مُصَلى، مقامه هو الحجر الذي كان يقوم
عليه عند بناء البيت، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الحجر علامة من العلامات،
على أن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت، وأن هذا بيته -سبحانه وتعالى-، كما في قول
الله -تبارك وتعالى- {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، فهذا البيت فيه آيات بينات
للناس، منها مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، والحجر الذي كان يقوم إبراهيم عليه،
قد جعل الله -تبارك وتعالى- موطئ قدميه في الحجر ظاهرتين، وحجر ولكن موطئ قدمين
إبراهيم في الحجر ظاهرتين، وقيل أن هذا الحجر هو الذي كان يقف عليه ليبني البيت، فإذا
وقف كان يرتفع، كلما ارتفع البناء ارتفع به هذا الحجر ليبني هذا البيت، جعله الله -تبارك
وتعالى- معجزةً له، ثم إن هذا الحجر بقي، وحوفظ عليه في كل عصور البيت، وورثه لما
ورث المسلمون هذا البيت، في عهد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كان من شأن
النبي أنه نفَّذ أمر الله -تبارك وتعالى- {وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، لما طاف بالبيت جاء إلى هذا المقام -هذا
الحجر-، وصلى خلفه وقرآ قول الله -تبارك وتعالى- {وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فصلى النبي خلف هذا الحجر، وكان هذا
الحجر موضوعًا، ملاصقًا للكعبة، عند باب البيت، ثم في عهد عمر لما ازدحم الناس،
أخِّرَ إلى المكان الذي هو فيه الآن، الذي فيه الآن هذا وأصبح الطواف بين مقام إبراهيم،
الحجر الذي كان يقف عليه وبين البيت.
وفسَّر بعض أهل العلم
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}،
مقامه في البيت كله، لأن هذا البيت مكان إقامته، اتخذوا من هذا المكان مُصَلى، لكن
يرجِّح القول الأول هو فعل النبي -صلوات والله والسلام عليه-، وأنه أتى خلف
المقام، يسمى المقام وهو هذا الحجر الذي وقف عليه إبراهيم، وصلى في هذا المكان،
وقال {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}،
ثم قال -جل وعلا- {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، {وَعَهِدْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ}، أي ألزمنا إبراهيم بعهدنا له، أي قم بهذا الأمر، فالعهد هو
الميثاق المؤكد، علاقة ارتباط بين طرفين، فالله -تبارك وتعالى- عاهد إبراهيم، أي أخذ
العهد عليه، هذا الميثاق عليه وعلى إسماعيل، أن يطهِّرا بيت الله -تبارك وتعالى-،
الطهارة الحسية والطهارة المعنوية، الطهارة الحسية من الأدناس والأقذار والأرجاس،
فيكون مكان نظيف لعبادة الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الطهارة المعنوية من الأصنام
والأوثان ودعاء غير الله، أن يخصص هذا بيتٌ قد خصَّ بعبادة الإله الواحد، الذي لا
إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}، نسبه الله -تبارك وتعالى- إليه،
أصبح بيت الله، لأنه هذا المكان الذي يعبد في الرب الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، {لِلطَّائِفِينَ} حول البيت، لمن يطوف حول بيت الله -تبارك
وتعالى-، والطواف هو هذا الدوران حول البيت، {وَالْعَاكِفِينَ}،
العكوف في المكان هو البقاء فيه، فكل بقاءٍ في هذا البيت؛ البقاء فيه عبادة، كل
لحظة تمر على العبد وهو جالسٌ في هذا البيت عبادةٌ لله -تبارك وتعالى-، {وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، الركَّع جمع
راكع، والسجود جمع ساجد، أي أهل الركوع والسجود؛ والركوع والسجود عملان من أعمال
الصلاة.
فهذا إخبارٌ من الله -تبارك
وتعالى- لإبراهيم وإسماعيل، أنهم يقوموا بهذا، أي أن هذا الأمر يقوموا به بأمر
الله، بعهده لهما، هو تطهير هذا البيت، جعل هذا البيت طاهرًا ومهيأً لأهل هذه
العبادات التي شرع الله -تبارك وتعالى- فيه، الطواف، والعكوف هو البقاء، والصلاة
بأركانها الركوع والسجود،
ثم قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[البقرة:126]، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}، اذكروا إذ قال إبراهيم أي
في دعائه، ربي أي يا ربي {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}،
اجعل هذا المكان -بيته الحرام- بلدًا آمنا، بلدًا آمنًا قال إنه اجعله بلدًا آمنًا
لأنه لم يكن في هذا الوقت الذي بنى إبراهيم فيه وإسماعيل البيت، لك يكن في هذا
الوقت قد عُمِّرَ عمارة كبيرة، ودعى أن يجعله الله -تبارك وتعالى- بلدًا آمنًا في
مستقبل الزمان، والأمن ضد الخوف، أنه لا يخاف فيه أحد، ولا يفزَّعُ فيه أحد، ولذلك
كتب الله -تبارك وتعالى- فيه الأمن لكل شيء، الأمن لصيده، والأمن لشجره، والأمن
لمن يأتي إليه، ولو فارًا إليه، فإنه كذلك يجب تأمينه في هذا المكان، كما قال -جل
وعلا- {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}، يؤمَّنُ فيه الخلق،
ويأمنون فيه على أنفسهم وعلى أموالهم، {وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، دعى إبراهيم أن يرزق الله -تبارك وتعالى- على
أهل هذا البلد من الثمرات، ثم قال إبراهيم {مَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، وكأن إبراهيم ظنَّ أنه مادام أنه
لا ينال الظالمون عهد الله، ولا يعطي الله -تبارك وتعالى- عهده للظالمين، فدعى
كذلك تأدبًا أن يكون الرزق -رزق هذه الدنيا- لأهل الإيمان فقط، قال {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}،
أرزق أهله ثم خصَّ من أهله قال {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، أي أهل الإيمان بالله واليوم الآخر هم
الذين ترزقهم.
فقال له الله -تبارك
وتعالى- {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، أجاب الله -تبارك
وتعالى- إبراهيم، أن الرزق -رزق الدنيا- يعطى للمؤمن والكافر، أما الدين والإمامة
فهذه لا تعطى للظالمين، أما الكفار والظالمون فإن الله -تبارك وتعالى- قد يغدق
عليهم رزقه وأفضاله في الدنيا، قال {وَمَنْ كَفَرَ}
كذلك أرزقه، {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}، أمتعه بالرزق
قليلا، وذلك أن الدنيا قليلة بالنسبة للآخرة، {ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ}، أضطره؛ الاضطرار هو الضرورة المنجئة،
أي رغمًا عن أنفه، {إِلَى عَذَابِ النَّارِ}،
وذلك أن الكافر يموت رغمًا عنه، ويبعث رغمًا عنه، ويدخل النار سوقًا رغمًا عنه، ولا
يستطيع فرار من هذا، فلا أحد يفر من الموت، ولا أحد يفر من البعث، ولا أحد ينسى،
أو يمكن أن يهرب، {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11]، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:12]، {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الانفطار:16]، لا يغيب أحد عن النار، كل
من كتب الله -عز وجل- عليه النار، لابد أن يأتي، فقال -جل وعلا- {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ}، رغمًا عنه، {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، هذا
الكافر؛ الذي كفر بالله -تبارك وتعالى- يمتَّع في الدنيا، ولكن لابد أن يكون مصيره
إلى النار في نهاية المطاف.
نكتفي ونقف عند هذه
الآية، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.