الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم:12]، {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}[مريم:13]، {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}[مريم:14]، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:15]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}[مريم:16]، {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17]، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18]، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم:19]، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}[مريم:20]، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}[مريم:21]، بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- ما منَّ به على عبده زكريا، الذي طلب من الله -تبارك وتعالى- الولد على كبر سنه وعقم إمرأته، وأن الله -تبارك وتعالى- استجاب له، وقد إفتتح الله -تبارك وتعالى- هذه السورة؛ سورة مريم، بذكر هذه الرحمة قال {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، يعني هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا، مبين الله -تبارك وتعالى- قدرته -سبحانه وتعالى- على الخلق، وأنه يخلق ما يشاء كيف يشاء -سبحانه وتعالى-، فمن قدرته وإحسانه بعبده أنه أوجد الولد من رجل قد شاب، شكى ضعفه لربه، قال {........ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم:4]، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[مريم:5]، قد حقق الله -تبارك وتعالى- هذا، غير وهو على خلاف العادة التي خلقها الله -تبارك وتعالى- في معظم البشر، وكان أيضًا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن هذا الغلام الذي وهبه الله -تبارك وتعالى- لزكريا سماه الله يحيى، قال {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، أي مسمًا بهذا الإسم وهو إسم مطابق للوصف القائم به، فإنه يحيا بهذا الدين ويحيي به من شاء الله -تبارك وتعالى-؛ فالدين حياة.
ناداه الله -تبارك وتعالى- فقال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم:12]، أي أن الله -تبارك وتعالى- بعد أن منَّ وشب هذا الغلام في كنف أبيه زكريا، وهيأه أن يتولى أمر بني إسرائيل من بعده، فخاطبه الله؛ نبئه الله -تبارك وتعالى-، وقال به خذ الكتاب، الكتاب هنا كتاب التوراة، وهي الشريعة والدين الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على موسى، وجعله الله –تبارك وتعالى- في بني إسرائيل بعد ذلك إلى عيسى إبن مريم -عليه السلام-، وهو آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ........}[مريم:12]، بجد وعزم ونشاط وعزيمة، وهذا أمر الله -تبارك وتعالى- لكل الرسل ولكل الأنبياء ولكل عباده، أن يأخذوا كلامه -سبحانه وتعالى- بأن يحملوه على محمل الجد؛ فهو جد لا هزل فيه، وأن يقوموا فيه، وكان أول ما خوطب به النبي -صل الله عليه وسلم- من الرسالة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1]، {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3]، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]، {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6]، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، فهي أوامر لحمل هذا الدين بقوة، قال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم:12]، هذا أيضًا من رحمة الله -تبارك وتعالى- ونعمته، أن أعطى عبده يحيى الحكم، الحكم وهو الحكم على الأشياء، يعني يستفتى ويحكم في الخصومات وفي مشكلات الناس وفي أقضياتهم وهو صبي، صبي لم يبلغ الحلم بعد، وهذا أمر أيضًا مخالف للعادة، فإن الحكم يحتاج إلى كمال العقل والصبي يبكون مازال في بدايات العقل والتفكير، لكن الله -تبارك وتعالى- أكمل له عقله وحكمته؛ الحكمة وهو في هذه السن الصغيرة، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}، حال كونه صبيًا، لم يبلغ العلم بعد، كان قد بلغ مبلغ الرجال الذين إكتملت عقولهم، فالنبوة مثلًا؛ النبوة والرسالة لا تكون إلا بعد الأربعين، عند تمام العقل، هذا تمام العقل في هذه السن، منَّ الله -تبارك وتعالى- على عبده يحيى بأن جعله في تمام العقل وهو في هذه السن الصغيرة، وذكر أنه قيل له وهو غلام في هذا الصبي قال له أترابه تعالى نلعب فقال لم نخلق لهذا، لم نخلق لهذا، يعني أنه كان عازفًا حتى عن أن يلهو لهو الصبيان من أترابه، بل إنما توجه بكليته إلى الجد والقيام بالدين، فهو رجل يعني كأنه رجل مكتمل العقل.
{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، حنان؛ الحنان العطف والرحمة، من لدنا؛ من عندنا، يعني أن الله -تبارك وتعالى- جعله في كمال العقل وكذلك في كمال الرأفة والرحمة بغيره، بالكبار من مثل والديه وبالصغار، فهو ذو قلب حنون رحيم، {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، من عندنا، أن هذا أمر لم يكتسبه وأنما غرسه الله -تبارك وتعالى- في قلبه وجعله على هذا النحو، {وَزَكَاةً}، طهارة، يعني جعله الله -تبارك وتعالى- شابًا طاهرًا مبعدًا عن كل الأدناس والأرجاس، {وَزَكَاةً}، زكي، الزكاة اللي هي الطهارة؛ طهارة النفس والخلق، {وَكَانَ تَقِيًّا}، وكان تقيًا؛ خائفًا من الله -تبارك وتعالى-، التقوى هي مخافة الله -تبارك وتعالى- ومراقبته، يعني أنه مراقب لربه -سبحانه وتعالى- خائف منه، وهذه الصفات التي وصف الله -تبارك وتعالى- بها هذا العبد الصالح وهذا النبي الصالح، يعني صفات الكمال كلها جمعها الله -تبارك وتعالى- له وهو بهذه السن الصغيرة، وكان هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعبده زكريا، {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2]، انظر كيف منَّ الله -تبارك وتعالى- عليه بغلام على هذا النحو، ولعل هذا يفسر قول الله -تبارك وتعالى- {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، كذلك في هذه الصفات، في أن تجتمع هذه الصفات، لم تجمع هذه الصفات في صبي بهذه السن، فجعله الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفات العظيمة وهو بهذه السن، الحكم، الرقة والعطف والحنان، قلب ديّت، الزكاة، الطهارة الكاملة، ما في صبوة شباب، يعني لا صبوة له ولا ديَّت، بل عبث ولعب الشباب هو كان منزه عنه، {وَكَانَ تَقِيًّا}، خائفًا من الله -تبارك وتعالى-.
ثم {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ}، البار أصل البر من الصلة، يعني أنه واصل ورحيم، والبر هو كلمة تجمع خصال الخير كلها، يعني أنه خصال الخير كلها نحو والديه قائم بها، {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}[مريم:14]، نفى الله -تبارك وتعالى- بعد أن أثبت له هذه الصفات من صفات الكمال، نفى عنه صفات النقص، قال لم يكن جبارًا، الجبار هو القاسي القلب القوي الباطش، عصيًا؛ عاصيًا، يعني لربه أو عاصيًا لوالديه، بل هو طائع لرب -سبحانه وتعالى-، مطيع له، مخبت له، وكذلك طائع لوالديه، بار بوالديه، {........ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}[مريم:14]، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:15]، سلام؛ من الله -سبحانه وتعالى-، يسلم الله -تبارك وتعالى- عليه، والسلام من الله رحمة وإجتباء وإصطفاء وإعلاء منزلة وسلامة من كل الشرور والآفات، يعني أن الله سلمه أعطاه هذا السلام وخاصة في هذه ذكر الله -تبارك وتعالى- الأوقات التي ...، يعني أوقات الحاجة الشديدة، قال {يَوْمَ وُلِدَ}، من يوم ما ولد وقد سلمه الله -تبارك وتعالى- وديَّت وأنزل سلامه عليه، {........ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:15]، كذلك فهو في كل هذه الأحوال بداية ونهاية من الحياة وبعثًا ونشورًا، هو في رحمة الله وفي أمنه وفي إحسانه وفي عطفه، والسلام من الله يشمل هذا كله.
صفحة عظيمة من هذه رحمة الله -تبارك وتعالى- بعبد من عباده، هذا زكريا نبي من أنبياء الله -تبارك وتعالى-، هذا من أنبياء بني إسرائيل وانظر عناية الله -تبارك وتعالى- به وحفاوته به، وكيف أنه لما دعى ربه -سبحانه وتعالى- استجاب له وكانت الاستجابة على هذا النحو العظيم، بهذا النبي الصالح الذي رزقه الله إياه وهو يحيى -عليه السلام-، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد هذا ما هو أعجب منه وهذا من رحمته العظيمة -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}[مريم:16]، اذكر في الكتاب؛ في هذا الكتاب، المنزل على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- القرآن، مريم إبنة عمران وهي كذلك من نسل داود؛ من بني إسرائيل، {........ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}[مريم:16]، الإنتباذ هو الإبتعاد، يعني إتخذت مكانًا منبوذًا بعيدًا عن الناس، مكانًا شرقيًا؛ من المسجد، وذلك أن أمها قد نذرتها للبيت وهي حامل بها، قالت {........ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[آل عمران:35]، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}، وهي مريم، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، قال -جل وعلا- {........ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:36]، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ........}[آل عمران:37]، هذه مريم التي نذرتها أمها وهي في بطنها للبيت، نذرتها؛ كانت تظن أنه يأتيها ولد ثم ولدت لها مريم، فوفت بنذرها مع الله -تبارك وتعالى-، وتقبلها الله -تبارك وتعالى- وأنشأها النشأة الطيبة الصالحة، فقد جعلها في بيت نبوة، جعل كفالتها لزوج خالتها زكريا –عليه السلام-، قال {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، ففي ما قص الله -تبارك وتعالى- لم يأخذها إلا بالقرعة، لأن بني إسرائيل كلهم قد تنافسوا في أن ينالوا شرف كفالتها، وذلك أنها من بيت نبوة وقد أهديت لبيت الله -تبارك وتعالى-، فجعل الله -تبارك وتعالى- كفالتها عند زكريا لتنشأ نشأة طيبة في كنف نبي، ولما شبت وكبرت إتخذت بعد ذلك في المسجد مكانًا منتبذًا بعيدًا عن الناس، قال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}[مريم:16]، معتزل، تعتزل فيه لعبادة الرب -تبارك وتعالى-، وشرقي بالنسبة للمسجد، يعني في شرق المسجد؛ بيت المقدس.
قال -جل وعلا- {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا}، إتخذت؛ مريم، من دونهم؛ من دون أهلها، حجابًا؛ يعني ستر، جعلت لها ستر ومكان كالمعتكف تعتكف فيه لعبادة الرب -تبارك وتعالى-، قال –جل وعلا- {........ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17]، أرسلنا؛ الله –سبحانه وتعالى- يخبر عن نفسه –جل وعلا-، إليها؛ إلى مريم، روحنا؛ روح الله -تبارك وتعالى- جبريل، سماه الله -تبارك وتعالى- بالروح لأنه ينزل بما يحيي القلوب ويحيي النفوس؛ الوحي، قال {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193]، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193]، الروح الأمين؛ جبريل، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102]، روح القدس؛ الروح المقدسة، فهو منزه عن كل عيب، كما قال -جل وعلا- {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير:21]، فهو عند الله أمين، مؤتمن على وحي الله -تبارك وتعالى-، أرسل الله -تبارك وتعالى- جبريل إلى مريم، ودخل عليها في محرابها وسترها التي هي حصنته وجعلته بعيدًا أن يطأه أحد غيرها، فقال -جل وعلا- الله يقول {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا}، أي جبريل، {بَشَرًا سَوِيًّا}، جائها في صورة بشر، طبعًا لم يأتي الملك في صورته التي خلقه الله -تبارك وتعالى- عليها، وذلك أنه مرأى الملك في صورته التي خلقها الله عليها مفزع ولا يحتمله البشر، وهذا نبينا -صلوات الله والسلام عليه- عندما رأى جبريل وهو في مكة وهو على صورته التي خلقه الله عليها وهو منحدر من جبل حراء، يقول «نظرت في الأفق أينما أنظر فإذا هو أمامي»، قال فإذا الملك الذي جائني بحراء في الأفق، وله ستمائة جناح، قال فرعبت منه، فرعبت منه، رعب منه رعبًا شديدًا، وذهب مسرعًا إلى مكة وهو يقول زملوني زملوني، أو دثروني دثروني من الرعب، فلأجل ذلك لا يأتي الملك إلى من يرسله لهم الله -تبارك وتعالى- في صورته، وإنما يتمثل بصورة مؤنسة لهم؛ صورة البشر، قال {فَتَمَثَّلَ لَهَا}، يعني جاء بمثال، {بَشَرًا سَوِيًّا}، كامل الخلق، مستوي الخلق، يعني ليس فيه أي مخالفة لصورة البشر، يعني على هيئة البشر وكماله في إستواء الخلق، ليس ناقصًا منه، وليس له مثلًا بشر بجناحين أو بصورة مختلفة، وإنما بشر سوي كامل الأطراف كامل الخلقة.
{قَالَتْ}، أي مريم -عليها السلام-، {........ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18]، فعلى طول إستعاذت بالله -تبارك وتعالى- وذلك لهذا الذي قد إهتحم خلوتها ودخل عليها، هنا ظنت أنه رجل يريد بها سوءًا فلجأت بشأن التقاة العباد إلى الله -تبارك وتعالى-، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ........}[مريم:18]، أعوذ؛ ألتجئ، يعني ألتجئ إلى الله -تبارك وتعالى- وأعوذ به منك، {إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}، أي فارتدع، {إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}، إن كنت تقيًا تخاف الله -تبارك وتعالى- فأخرج وارتدع عن أن تمسني بسوء، وهذا من كمال دينها وخلقها وأنها البتول العفيفة التقية البارة، كما أثنى الله -تبارك وتعالى- عليها، قال {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم:12].
{قَالَ}، أي رادًا عليها جبريل -عليه السلام-، {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، يعني لست بشرًا كما تظنين وإنما أنا رسول ربك؛ أنا ملاك الرب، جئت من قبل الرب -تبارك وتعالى-، وهنا قال لها ربك ما قال ربي ليكون هذا تقريب لها، أن هذا ربك الذي أرسلني، وبالتالي إضافتها إلى الله -تبارك وتعالى- تجعلها تشعر بالقرب والمحبة، وأن ربها لا يمكن أن يريد بها سوء، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم:19]، وأخبرها بعد ذلك بالغاية والوجهة التي من أجلها جاء، وهي أن يهب لها غلامًا زكيًا، غلامًا؛ غلام ذكر، وزكي يعني طاهر النفس وطاهر القلب، الزكاة هي الطهارة والصفاء، قال {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}.
وهنا فاجأها الأمر {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}[مريم:20]، فهي ظنتها بشرى بالغلام ثم أخبرت بأنه كيف يكون لها غلام، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي}، أنى؛ كيف، {يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، فإنه بشرى بأن يولد لها غلام قالت ما مسني بشر قبل هذا، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، يعني ليس من شأني البغاء وهو الزنا، يعني لا أعمل شيئًا من ذلك، فهي تنفي عن نفسها الفاحشة في ما سبق من الأمر وفي ما هو قادم من الزمن، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}[مريم:20]، في السابق ما مسني بشر قط، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، ليس هذا من خلقي ومن ديني ومن صفتي إنما هي عابدة تقية، فكيف يكون هذا؟ يعني هل ستتزوج؟ بأي صورة سيكون؟ تسأل عن هذا الأمر.
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، يعني أنه سيوجد بغير سبب من هذه الأسباب البشرية، قال كذلك؛ يعني الأمر، قال ربك؛ كذلك يعني يا مريم قال ربك، وإذا قال الله -تبارك وتعالى- لابد أن يكون ما قال، هو علي هين؛ هو هذا الأمر، وهو أن يوجد أن يولد لكي غلام بغير هذه السنة المتبعة وهي إجتماع الذكر والأنثى، فهو هين على الله -تبارك وتعالى- لأن الله يخلق ما يشاء كيف يشاء –سبحانه وتعالى-، قال {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}، نجعله؛ هذا الغلام الذي يولد لكي من غير زوج، آية للناس؛ علامة، الآية؛ العلامة، فهذا علامة على قدرة الرب -تبارك وتعالى- وعلى إحسانه وعلى إكرامه لهذه الفتاة التقية، التي وهبتها أمها لله -تبارك وتعالى- فاعتنى بها الرب -تبارك وتعالى- وتقبلها هذا القبول الحسن، وهذه بركات قبول الله -تبارك وتعالى- لها، أن يولد لها غلام يكون زكي ثم يكون رسول إلى بني إسرائيل، يعلمه الله -تبارك وتعالى- ويكون من شأنه نور يسطع في الكون، قال {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا}، رحمة للخلق، رحمة للخلق يهدي إلى طريق الرب -سبحانه وتعالى-، ورحمة منا؛ من الله، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}، وكان أمرًا مقضيًا؛ يعني الأمر الذي أرسل به جبريل -عليه السلام- لابد أن يقضى وأن ينتهى، لأن هذا أمر الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}، يعني الأمر الذي جاء به جبريل -عليه السلام-، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- في موضع أخر من السورة وهي أن جبريل نفخ فيها، قال {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}، وأن هذه النفخة هي التي خلق الله -تبارك وتعالى- منها عيسى -عليه السلام-.
قال -جل وعلا- {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}[مريم:22]، حملته؛ ما في بطنها، وانتبذت به مكانًا قصيًا؛ هربت من المكان، خرجت من هذا المكان وبحثت عن مكان قصي؛ بعيد عن بيت المقدس، قيل إنها ذهبت إلى بيت لحم، وبيت لحم مدينة مجاورة لبيت المقدس، إبتعدت عن المكان وذلك أنها خشيت من الفضيحة، فهي إمرأة عابدة تقية في هذا المعتكف ثم بعد ذلك يظهر الحمل عليها ولا زوج لها، فالأمر في غاية العسر والصعوبة لذلك إبتعدت عن المكان؛ عن المعتكف الذي كانت فيه، والصحيح أن هذا الحمل مر بتسع شهور على نحو الحمل الذي عليه البشر، وليس كان في كما قيل بأنه كان في نفس الساعة، يعني أنها بالنفخة فالحمل المكتمل فالولادة كله في ساعة واحدة... لا، هذا ليس بصحيح وإنما حملت به كما يحمل بالبشر، أخذت هذه المدة اللي هي تسعة أشهر، وفي أثناء هذا لما ظهر حملها إختفت من المكان وخرجت إلى ذلك المكان البعيد، قال -جل وعلا- {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}[مريم:22]، إنتبذت به؛ يعني إبتعدت إلى مكان قصي، اللي هو بيت لحم الذي ولد فيه عيسى -عليه السلام-.
قال -جل وعلا- {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، فأجاءها؛ يعني وصلها المخاض وألجأها، ألجأها المخاض وهو الطلق الذي يأتي الحامل إنذارًا بالولادة، ألجأها هذا إلى جذع نخلة، لم تجد مكانًا تستتر فيه وتأوي إليه إلا جذع نخلة، وهذا يدل على أنها كانت بعيدة لا أهل ولا بيت ولا من يقف معها في هذه المحنة، إلى جذع نخلة؛ أي لتتمسك به، شأن من يأتيها آلام الطلق والولادة فإنها تتمسك بأي شيء ليعينها على نزول حملها، قال -جل وعلا- {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:23]، حالة مريم -عليها السلام- في هذا الوقت حالة شديدة جدًا وفتنة عظيمة، فتاة عذراء تحمل بغير زوج، ليس معها زوج، ليس هناك أهل حولها، تخشى ما تخشاه بعد ذلك من الفضيحة والعار بعد ولادتها، فالأمر كله يعني الصعوبات كلها قد إجتمعت عليها في وقت واحد، فلا مأوى ولا سكن ولا قابلها معها ولا أخت ولا أم، أمر في غاية الصعوبة، وتلجأ إلى جذع نخلة، النخلة التي هي أشد الأشجار ساقًا، فليست شجرة ملساء سهلة وإنما جذع النخلة وهو معروف النخلة بكربها وبشوكها.
{قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، تمنت أن تكون قد ماتت ولا تشهد هذه المحنة العظيمة، قبل هذا؛ يعني الذي هي فيه، {وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}، النسي هو الأمر القذر الذي يلقيه الناس ويبعدوه، قيل أنها الخرقة؛ خرقة الدم، يلقوا ديَّت، أو النسي هو الأمر الصغير الذي يضعه الناس وينسونه، الناس دايمًا عندما يكون هناك شيء ثمين فإنها تعرف تثبته في مكان وتجعل له مكان وتذكره أو في خزانة أو نحو ذلك، أما إذا كان من سقط المتاع فإنها إذا ألقته نسيت أين وضعت هذا المكان هنا، نسي منسي يعني شيء من سقط المتاع الذي لا يؤبه له، ألقي في ركن من الأركان ونسي، فتمنت أن تكون على هذا النحو أنها كانت شيئًا منسيًا لا يؤبه له، وليست على هذا النحو التي هي فيه فإنه إمرأة معلومة في كل بني إسرائيل، وأنها مهداة البيت، وأنه قد ظهر على يديها كثير من الكرامات، فإن زكريا -عليه السلام- كان يدخل عندها، وعندها فاكهة؛ الفاكهة في غير أوانها وليست موجودة، يقول لها {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وهي مشهورة لأنها في المسجد، هي خادمة بيت المقدس، فهي مشهورة هذه الشهرة ثم تصاب بما تصاب به على هذا النحو، كان الأمر عندها في غاية الصعوبة، فلذلك تمنت الموت وقالت بهذه الكلمات الشديدة {........ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:23].
سنقف عند هذه الآية -إن شاء الله- ونكمل في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.