الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (361) - سورة مريم 23-36

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته الى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:22-33].

 يخبر -سبحانه وتعالى- أن مريم عليها السلام لما نفذ لها أمر الرب -تبارك وتعالى- وأُخبرت بأنه سيولد منها ولد، وخاطبها ملائكة الرب -جبريل بهذا الأمر، وأنها حملت حملها فى بطنها {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}[مريم:22] الحمل وهو النفخة التى أودعها جبريل عليه السلام ملاك الرب فى بطن مريم، خلقها الله -تبارك وتعالى- وكان منها عيسى عليه السلام، وحملت كما تحمل النساء، ولما تبدى حملها خرجت من المكان، خرجت من بيت المقدس، تركته،  وابتعدت فارةً بشأنها الى مكان بعيد، وهو بيت لحم، ويخبر -سبحانه وتعالى-  بأن المخاض لما جائها المخاض، والمخاض الذي هو الولادة، وسمي مخاض لأنه الولد يبدأ بالطلق ليخرج، فألجأها ليس لها بيت، وليس لها مأوى، ولا أهل، ولا شيء ؟؟؟؟؟ في أحراش المدينة, لم تجد ما تستر به، وتتمسك به, شأن التي تضع؛ فتمسكت بجذع النخل {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ........}[مريم:23]  ، وهى فى هذه الحالة الشديدة، قالت {........يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:23] أمر سقط المتاع الذى اذا ترك لا يذكره أحد.

 قال -جل وعلا- {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}[مريم:24] جاء الفرج، والمفاجأة؛ فولدت؛ {فَنَادَاهَا} أي عيسى عليه السلام وليدها من تحتها ؟؟؟؟؟؟؟ وهو مازال في الأرض قبل ان تحمله، قبل أن ترفعه {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} لا تحزني على هذا الأمر الماضي؛ فإن الله -تبارك وتعالى- جعل تحتك سريا، السري النهر الصغير، يعنى أنه المكان الذى أنت فيه، وإن كان ليس بيت مهيأ، وفيه الدفء، وفيه الطعام الحار، والقابلة، والأهل، شأن الوالد التي تحتاج الى كل هذا أي الرفق بها، وهي وحيدة لا رفيق لها إلا الرب -سبحانه وتعالى- فناداها غلامها من تحتها وقال لها: لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} هذا الماء بأن وفر الله تبارك وتعالى لها الماء بهذا، بأن أجرى لها هذا النهير الصغير {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ........}[مريم:25] هذا أمر عجب؛ فإن جذع النخلة من العجب، وامرأة  والد وهى تكون فى حالة الضعف قال لها {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} وهذا يبين قدرة الرب -سبحانه وتعالى- وأنه يعني معين لها.

 طبعاً هذا سبب، استبدلو هذا السبب، وإن كان هذا السبب في العادة يؤدي الى المسبب، والذي يأتي منه؛ فإنه لو جئنا بأقوى الرجال ليهزوا نخلة حتى تسقط الرطب التي فيها، فإنه لا يستطيع هذا، لا يستطيع، ولا أقوى الرجال أن يهزوا نخلة، ويساقطوا ؟؟؟؟؟؟ لكن هذا سبب {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:25]  وكأنها يعنى شجرة من الأشجار الرقيقة التي إذا هزت كشجرة التوت مثلاً إذا هززتها تساقطت ثمارها، ؟؟؟؟؟ وإنما نخل، وهذا ربنا -سبحانه وتعالى- يعني يعطيه هذا الأمور الخارق للعادة حتى يبين عنايته -سبحانه وتعالى- بها، وأنه معتني بها، وإن كان ليس كالبشر؛ فكل شأنها ليس كما البشر؛ الوالد عندما تأتي لوضع حملها فإنه يهيأ لها أمور عظيمة جداً تكون حولها الأهل، والأولاد، والدفء، والفراش، والماء الحار...، وكل هذا غير موجود فالله -تبارك وتعالى- خرق لها كل الأمر، الغلام ونيسها، ابنها هو ونيسها، وعند البشر الابن هو مشكلتها، وليس هو ؟؟؟؟؟؟ هو الذي يحتاج إلى أن يستقبل، وأن يغسل، وأن يقمط، ويلف، لا!! الابن أصبح هو الونيس، والمتكلم؛ فيقول لها لا تحزنى؛ ثم يبشرها بهذه الأمور الخارقة للعادة نهرُ يفجر، ويجري من حولها، حامل تهز نخلة فيتساقط؛ فيقول ؟؟؟؟؟؟ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} ؟؟؟؟؟؟ بالفعل المضارع بأنها على طول وكأنه يسقط في ثمار {عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، الجني الذي هو الثمار التي في حالة استواء، ونضجها في تمام النضج، أو في حين النضج، حين القطاف {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.

 {فَكُلِي........}[مريم:26] أي من هذه الرطب {وَاشْرَبِي} أي من هذا الماء الذى جعله الله لك {وَقَرِّي عَيْنًا} قرار العين، العين القارة هى المستقرة المرتاحة لأن عين الخائف متحركة تتحرك يمينا، وشمالاً؛ فهو من القرار إما من القرار الذى هو الاستقرار، أو قرار العين، القر الذي هو البرد لأن عين المرتاح باردة، وعين الحزين المتألم حارة، ولذلك قيل "أحر من دمع المقلاة"، المقلاة التي أولادها قليل فإذا مات وليدها الوحيد يصير دمعه حارة؛ {وَقَرِّي عَيْنًا} قرار العين هنا هو راحتها، وبرودتها يعني ارتاحي، ارتاحي من كل شيء، لا تحملي هماً لأي أمر {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} ثم  ما أكبر ما تخافه، وأكبر ما يحزنها هو الفضيحة، وهو أنها أتت بهذا الولد، وهى امرأة عفيفة، شريفة، معروفة بالتقى، والورع، ومشهورة عند الناس ثم تأتى بهذا الأمر تقوم الدينا كلها تقوم فى وجهها؛ فهذا الذى تخشاه أمنها الله -تبارك وتعالى- فيه، قال: {........فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم:26] لا تردي على أحد، وأنوي الصوم الذي هو صوم أهل الكتاب، وهو الصوم عن الكلام فقولي أي كل من يريد أن يؤنب، وأن يشهر، ويعاتب قولي {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} لن أكلم إنسيا، لولا إني صائمة ملتزمة بالصوم، وطبعاً ستقول هذا بالإشارة لأنها قد دخلت الصوم قبل أن تقابل أحداً من الناس، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي سيتولى عن طريق انطاق عيسى، ويتولى النطق، والدفاع عن والدته، وبيان حقيقته، وأنه كيف ولد بأمر الله -تبارك وتعالى- لما كان الأمر على هذا النحو اعتنى الله -تبارك وتعالى- بها فإن هذا الأمر هو بقضاء الله وقدره -سبحانه وتعالى- أن يجعلها تحمل، وأن تكون على هذا النحو، واحتف الله -تبارك وتعالى- بعنايته الإلهية -سبحانه وتعالى- بهذه الأسباب التي هي فوق الأسباب، أمور فوق الأسباب، نخلة تثمر، ورطب تجنى، ونهر يشق، ويجري، طفل مولود يتكلم في ساعة الولادة كله؟؟؟؟؟؟؟ اعتنى الله -تبارك وتعالى- بها هذه العناية العظيمة وهذا شأنه -سبحانه وتعالى- مع أولياءه؛ فهى ولية لله -تبارك وتعالى- وهذه هى عنايته، ورحمته -سبحانه وتعالى- بأوليائه.

 قال -جل وعلا- {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ........}[مريم:27] أتت به عندما تم لها الولادة على هذا النحو، ولفت وليدها، وحملته، {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} قومها الذين هما بني إسرائيل؟؟؟؟؟؟؟ طبعاً يعني أهلها، وقومها لما رأوها على هذا النحو، معها وليد، قادمة به، ولم يسبق لها زواج على طول قالوا المقالة التي عندهم ليس هناك غيرها، ما فى إحتمال آخر غير هذى الإحتمال الذى فى رؤسهم {........قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}[مريم:27] ما عندهم إلا هذا لَقَدْ بالتأكيد جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا الفرى الكذب، والبهتان يعنى ابن الزنا هذا هو كذب، وبهتان، وأمر عظيم جداً إذ كيف يولد لكي يعني ولد، وأنت لم تتزوجي إذاً هذا من الطريق الخاطئ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:28] هارون العابد، التقي أنت أخته، أخوك رجل من العباد، الأتقياء، ومن الصلحاء الطيبين {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء}ٍ ليس أبوك رجلاً سيئاً، بل أبوك من الناس الطيبين، الصالحين وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أمك كذلك ليست بغي زانية؛ فكيف خرجتي من هذه الأسرة الطاهرة، الطيبة، النظيفة، وأنت على هذا النحو تحملين، وتلدين، وتأتي بغلامك، وليس لك زوج.

 {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:28] قال -جل وعلا- {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ........}[مريم:29] طبعاً وهى صائمة، وقد نذرت صوم، ولم تتكلم امتنعت عن الكلام، وأشارت إليه كلموا هذا، لا تكلموني، عند ذلك قالوا: {........كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[مريم:29] كأنها رأت، رأوا أنها تستهزئ بهم؛ فلذلك ردوا عليها، وقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} المهد هو الفراش الذى يمهد ويسهل لبقاء الصغير عليه، صبي لسه صغير، لم يتعلم نطقاً، ولم يسمع كلاماً حتى يتكلم {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وهنا جاءت المفاجأة لهم، وظهور المعجزة الإلهية، قال أي عيسى عليه السلام، وهو في قماطه، وفي مهده، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّه........}[مريم:30] أول كلمة ينطق بها لبني إسرائيل إِنِّي أنا تأكيد له عَبْدُ اللَّه وليس ابن الله كما زعموا. أنا عبد الله، عبده، وهذه هي أعلى مراتب البشرية أن يصل الإنسان الى العبودية، العبودية الاختيارية للرب -تبارك وتعالى- {........إِنِّي عَبْدُ اللَّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم:30]{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم:31] آتَانِيَ الْكِتَابَ أعطاني، وجاءت الصيغة هنا بالماضى، وهو ما زال في المهد، وإنزال الكتاب عليه إنما سيكون هناك بعد أن يصبح، يبلغ أشده، ويبلغ مبلغ الرجال، لكن التعبير بالماضى عن الأمر المستقبل لتحقق الوقوع لأن هذا أمر متحقق الوقوع لا شك أنه أمر الله، وقضاء الرب -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا- {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ........}[النحل:1] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ........}[الزمر:68] نفخ في الصور، الأمر سينفخ في الصور؛ فهذا من أساليب العربية التعبير بالماضى عن الأمر المستقبل إذا كان متحقق  بالوقوع لابد أنه سيقع.

 قال: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} والكتاب الذى أعطاه الله -تبارك وتعالى- لعيسى  أعلمه الله -تبارك وتعالى- التوراة؛ ثم كذلك أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه كتاباً خاصاً، وهو الإنجيل  {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} جعلني الله -تبارك وتعالى- صيرني نبياً منبئاً من عنده -سبحانه وتعالى- {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} أين أكون فهو مبارك، المبارك كثير البركة، والبركة هى الخير، والزيادة، والنماء كل صفات الخير هذه هي البركات، وعيسى مبارك حيث كان لأنه آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، داع إلى الله -تبارك وتعالى- الله -تبارك وتعالى- جعله بلسم، وشفاء؛ فمقعد يمسح عليه يقيمه، أعمى يمسح على عينيه فيبصر، والأعمى جعله يبصر، أصم يجعله يسمع فهذا أمر عظيم جداً يعني، أبرص يمسحه بيده فيعود جلده جلده نقياً كما كان؛ فأعطاه الله -تبارك وتعالى- هذه الأمور بركة، البركات الدينية من الهداية، والإرشاد، والنبوة، والإصلاح، وتوجيه الناس الى الخير، وكذلك البركات الدنيوية فى هذه، فى هذا الشفاء، والعافية الذى ينشره حيثما سار؛ فحيثما سار هذا يناديه ابني مشلول، وهذه تقول ابنتي  مريضة جدا، وهذا أعمى يقول يا روح الله، يا عبد الله يعنى اشفنى؛ فيمسح فيشفيه؛ فهذه بركات عظيمة، قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} في أي مكان أكون فيه؛ فهو ينشر الخير، والرحمة، وتزداد بركاته فى كل مكان.

 {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} الوصية التى هيا التوجيه، والحث، والعناية، وهذا لأنه عبدالله -تبارك وتعالى- الذي يحبه الله ويرتضيه، ويريد له هذا الطريق، سلوك هذا الطريق طريق النبوة، والرسالة، وطريق الصلاة {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} لله -تبارك وتعالى- الزكاة بالمعنى العام التى هى كل أنواع الأخلاق الطاهرة، بكل الطهارة يعنى النظافة، وكذلك الزكاة بالمعنى الخاص التى هي إخراج جزء من المال في سبيل الله {مَا دُمْتُ حَيًّا} ما في سقوط تكاليف مَا دُمْتُ حَيًّا فإنى مكلفُ بعبادة الرب -تبارك وتعالى- لا يسقط عنه تكليف بل هو مكلف بالصلاة، والزكاة طالما هو فى الحياة، وهذه أمر الله -تبارك وتعالى- وسنته فى كل عباده المؤمنين، كما قال الله تبارك وتعالى لرسوله محمد {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99] واليقين الموت يعني اعبدوا الله -تبارك وتعالى- إلى الموت؛ فالأنبياء، والرسل ليست هناك فترة معينة يعبدوا الله -تبارك وتعالى- فيه؛ فيرفع الله عنهم التكليف في الدنيا، لا بل التكليف بالصلاة، والزكاة، والأوامر، والنواهي كلها إلى الممات {........وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم:31].

 {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي........}[مريم:32] يعني هذه من صفته كذلك كان الله -تبارك وتعالى- قد جعله باراً بوالدته، وقال بِوَالِدَتِي لأنه ليس والد، ليس له أب؛ فقال بِوَالِدَتِي أمه مريم عليها السلام {........وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[مريم:32] لم يجعلنى الله -تبارك وتعالى- جبارا، جبار القاهر، يعني المعاقب، القائم على الناس بالقهر، وبالقوة، بالجبر، يجبرهم على أن يفعلوا ما يريدون، لا، لم يجعلني جباراً، وإنما كان داعٍ الى الله -تبارك وتعالى- يدعو الى الله -تبارك وتعالى- لا فقط بالهداية، والإرشاد، والنصح، والبيان، وليست له أيضاَ لم يأخد سلطة زمنية يقهر الناس فيها، ويجبرهم على أمر من الأمور {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} الشقي ضد السعيد يعنى بعيداً عن الإيمان، والطاعة؛ فهذا الشقي الذي يشقيه الله -تبارك وتعالى- بإبعاده عنه، وصرفه عن دينه، وعن طاعته، بل هو عبد لله -تبارك وتعالى- خاضع مطيع لله -تبارك وتعالى- مأمور بالصلاة، والزكاة.

 {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}[مريم:33]  اخبار كذلك، يخبر به عيسى عن نفسه، واخبار من الله ولا شك {وَالسَّلامُ عَلَيَّ} عليه السلام {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} هذه هي فواصل العمر الأساسي وقت الولادة، والموت، والبعث، وهذه فواصل العمر هذه هي الأوقات التي الإنسان فى حاجة إلى رحمة الرب، وتسليمه من كل آفة، ومن كل شر، يعنى أن الله -تبارك وتعالى- سلمه، ورحمه، وجعل عليه سلامه، ورحمته، وأمنه، وبركاته في هذه الأوقات التي هي مفاصل الحياة، مفاصل العمر {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} طبعاً كان هذا مفاجأة لبني إسرائيل، ولكن هذا أمر أجراه الله -تبارك وتعالى- وجعله على هذا النحو الباهر بهذه الآيات الباهرة، وفى هذا بيان لقدرته -جل وعلا- على الخلق، وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء -سبحانه وتعالى- وأن من أكرمهم هم أهل الإكرام، ومن هانهم هم أهل الإهانة، وعيسى عليه السلام، ومريم هم أهل إكرام الرب -تبارك وتعالى- وقد أجرى الله -تبارك وتعالى- فيهم هذه المعجزات الباهرة.

 قال -سبحانه وتعالى- معقباً على ذلك {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[مريم:34] ذَلِكَ المذكور قصته بهذا السياق، وحياته على هذا النحو، وهذا وجوده كان بهذا التفصيل الذى بينه الله -تبارك وتعالى- وهذا شأنه بدايةً، ونهايةً هذا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قول الحق نقوله فيه يعنى هذا القول الذى قاله الله -تبارك وتعالى- فى عيسى هو قول الحق لا كما يقول أولئك المجرمون الذين افتروا ما افتروا فيه، المجرمون من اليهود الذين اتهموه، وأمه، ومازالو يتهمونه إلى اليوم بأنه هو ابن يعني حبيب النجار، من زنا، ومن خطيب مريم كان خطيباً لها، ولم يدخل بها بأنها زنت به، تعالى الله عما يقولوا علواً كبيرا، برأهم الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا- عنهم فى قولهم على مريم بهتاناً عظميا؛ فإنهم قالوا هذا القول هؤلاء الكفرة منه وظلوا على هذه المقالة، وبالرغم من ظهور هذه الآيات على عيسى إلا أنه جحدوا ذلك، وما زالوا يجحدون هذا الى يومنا هذا، بل نشأ كذلك للمجرمين فى عصرنا هذا قالوا إن مريم يحتمل، لا يمكن أن يكون هذا حملها الذي كان من الرب، وإنما يحتمل أن يكون هذا من بعض الجنود الذين كانوا يحتلون فلسطين في هذا الوقت، وأنه ربما كانت أغتصبت من جندى من جنود الرومان فى ذلك الوقت، هذه مقالتهم إلى وقتنا هذا؛ فهؤلاء المجرمون قالوا هذا صنف منهم قالوا في مريم هذا القول، الصنف الثانى هم هؤلاء العميان، الضالون من النصارى الذين رفعوا عيسى، وقالوا إنه ابن الله، بكره على الحقيقة، ولده هو منه، وأنه جزء من الله -تبارك وتعالى- تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، وأنه كان موجوداً قبل الدهور، وأن الله تغشى يعنى عن طريق روح القدس مريم، وتغشى حقيقى، وأنه قد يعنى ولد له يعنى هذا الغلام تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.

 فالرب -جل وعلا- بعد أن قص خبر عيسى عليه السلام على هذا النحو قال: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ} يعني هذا القول الذي يقوله الله تبارك وتعالى فيه قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ الذى فيه هؤلاء المجرمون يَمْتَرُونَ يشكون، ويجادلون، شك ، وجدال من هؤلاء، وهؤلاء {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[مريم:35] مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ فليس من شأنه -سبحانه وتعالى- أن يتخذ ولد، وذلك أنه الرب الواحد، الأحد -سبحانه وتعالى- الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، لا كفء له، ولا ند له، أنى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شئ، كل ما سواه مخلوق -سبحانه وتعالى- ولا يتخذ ولدا لأنه ليست له زوجة، ولا يمكن أن يكون مكافئ له -سبحانه وتعالى- فهو الرب الإله، الواحد، الأحد -سبحانه وتعالى- {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له -سبحانه وتعالى- عن الشيء كله، والعيب؛ فإن الولد عيب لأن الولد اذا وجد هذا معناه يصير صنو أبيه يعنى المولود صنو أبيه، وبالتالي سيكون له صفات الرب يخلق، ويرزق، ويحي، ويميت، ويفعل، وبالتالي يكون لله شريك فى الملك، وكفء، وند، تعالى الله أن يكون له ندا، وله شريك {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} اذا قضى أمر، أمر قضاه، أراده -سبحانه وتعالى- أن يكون مقضياً، محتوماً فقط فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ لا يعجزه شئ؛ فإخراج عيسى من مريم بلا زوج هذا أمر يسير على الله -تبارك وتعالى- فإن الله خالق هذا الخلق كله، ويخلق من الخلق ما يشاء -سبحانه وتعالى- لا يعجزه شئ -جل وعلا- فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

 {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:36] تتمت كلام عيسى، قال لبنى إسرائيل وَإِنَّ اللَّهَ خالق السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- الله معروف لكل خلقه -سبحانه وتعالى- بهذا الاسم خالق السماوات، والأرض رب العالمين رَبِّي بدأ بنفسه {وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أيها الناس {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} هذا صراط مستقيم، وهو هذا الصراط، الطريق الذي دل الله تبارك وتعالى الخلق عليه، والذي جاء فى التوراة، والذي جاء به عيسى عليه السلام {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} إلى الرب -جل وعلا-.

نقف هنا، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.