الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (362) - سورة مريم 36-49

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته الى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47].

 بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- قول الحق في عيسى، وبين الله -تبارك وتعالى- قصته من البداية من بداية وجود مريم في بيت المقدس تعبد الله -تبارك وتعالى- في كنف منه؛ ثم مجيئها البشري من الله -تبارك وتعالى- من جبريل يبشرها بغلام؛ ثم بعد ذلك حملها به، وفرارها إلى مكان بعيد عن بيت المقدس، والمخاض الذي ألجأها إلى هذا المكان البعيد عن الناس، ولم تجد شيئاً تتمسك به إلا جذع نخلة فولدت؛ ثم خرق الله -تبارك وتعالى- لها العادة، أجرى لها نهر تحتها، تكلم عيسى عليه السلام، وقال لها لا تحزنى {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}[مريم] وعادت بعد ذلك تحمله؛ ثم لما قال لها قومها هذه المقالة الشديدة، وأشارت إليه، أنطق الله -تبارك وتعالى- عيسى؛ فقال مقالة الحق {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} قال هذا بلسان فصيح، وهو طفل في المهد، ويخاطب الجموع.

 لما ذكر الله هذا، قال: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} هذا هو الحق في عيسى، إنه على هذا النحو آية من آيات الله -تبارك وتعالى- أوجدها من مريم على هذا النحو {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكون، يشكون في هذا القول، واختلفوا فيه هذا الاختلاف العظيم ما بين اليهود الجاحدين له، والقائلين فى أمه، وفيه هذه المقالة الشنيعة، العظيمة، وما بين الذين غلوا فيه، وقالوا ابن الله قال -جل وعلا- ودفع عن نفسه ما قالته النصارى فى عيسى، قال: { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }[مريم:35-36].

 قال -جل وعلا- {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} اختلف الأحزاب الجماعة، جماعة بنى إسرائيل اختلفوا فى حقيقة عيسى عليه السلام ما بين من اتهم مريم بالفاحشة، والزنا، وبين من قال: هو ابن الله، وبين الذين قالوا الحق، وأنه عبدالله، ورسوله، وآمنوا به على النحو الذى جاء بأنه عبدالله، ورسوله، واتبعوه فى هذا من الحواريين، والمؤمنين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] هذا تهديد، ووعيد من الله -تبارك وتعالى- والله الذى يتهدد، ويتوعد هؤلاء، الويل كلمة يراد بها التهديد، والوعيد، ويل لك يعنى هلاك لك, وقيل الويل مكان خاص فى النار يوعد الله -تبارك وتعالى- به هؤلاء [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ]، يوم عظيم يوم القيامة، اليوم الذي تظهر فيه فضيحتهم، وعارهم، وشرارهم يقدمون على أعظم عذاب، ويكون هذا الكذب الذي كذبوه، وافتروه في هذا الشأن، واتبعوه سواد لوجوههم، وعار، وشرار عليهم {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أسمع بهم، وأبصر يوم يأتونك، ما أسمعهم، وما أبصرهم فى ذلك اليوم، اليوم عميان، اليوم هم عميان، صم، صموا آذانهم عن كلام الله -تبارك وتعالى- عموا عن آياته لكن ذلك اليوم إنما يكونون في غاية السمع، وفي غاية البصر، سمع كامل، وبصر حديد {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[مريم:38] ولكن هؤلاء الظالمين، سموا ظالمين، وصفهم الله بهذا الوصف، لأن الظلم وضع الأمر فى غير محله فبدل من أن يجعلوا عيسى كما هو شأنه، هو نبي الله، وعبده، ورسوله، ويتبعوا على هذا النحو، ظلموا؛ ففجر هؤلاء هذه الناحية, وفجر أولئك هذه الناحية؛ فجعلوه ابن لله.

 [لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] من حقيقة عيسى، وفي قولهم، وزعمهم بأنه ابن الله كان قبل الدهور موجوداً مع أبيه، وأنه خالق، رازق، يحي، ويميت، وأنه خلق هذا الكون، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا؛ً فيوم القيامة سيعرفون الحق، وستسود وجوههم، ويشهد عليهم عيسى، ويتبرأ من مقالتهم، ويقول [مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] فهذا يظهر الحق هنا، لكن الله يقول هؤلاء العميان الآن، والذين نزل أيضاً التوراة، والإنجيل كلها مليئة بأنه لا إله إلا الله -سبحانه وتعالى- ما أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن له ولد في هذه التوراة التي بين أيديهم، وهذا الإنجيل الذي بين أيدي النصارى كذلك، كله يعلم بأن عيسى عبدالله، وكلمته، وليس ابناً لله كما يزعمون؛ ثم جاء النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- جاء بالبرهان العظيم، والخبر الأكيد من الله -تبارك وتعالى- والأمر الذى عندما سمعه يعني حكماء النصارى، قالوا هذا الحق؛ فهذا النجاشى عندما قرئت له هذه السورة، سورة مريم، قال لمن حوله من بطارقته، من البطارقة، والقساوسة الذين عنده، قال والله ما زاد عيسى عن هذا مثل هذه، أخذ قشة من عنده، قال ما زاد عيسى على ما جاء فى هذه السورة مثل هذه، لكن طبعاً، نخروا عليه، وقاموا، وثاروا في وجهه؛ فهذا يعني حكي النصارى, النجاشى رحمه الله، هذا شأنه شأن الأخرين رهبان النصارى الذين لما قرئ عليهم هذا القرآن آمنوا به، والجموع بعد ذلك الذين عرفوا أن هذا هو الحق في شأن عيسى المختلف فيه، لكن الكثرة من الكاثرة من النصارى بقيت فى هذا العمى فالله تبارك وتعالى يقول: [أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ] هؤلاء العميان [أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ] اليوم الذي هذا الآن  يعني في هذه الدنيا [فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] ضلال، بين، واضح لكل ذي عينين أنهم ضالون؛ فإن الله -تبارك وتعالى- ليس له ولد، لم يتخذ ولداً، وإنما هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-

 ثم قال -جل وعلا- لرسوله {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[مريم:39] وَأَنذِرْهُمْ يعنى يا محمد أن ينذر هؤلاء الذين قالوا في عيسى هذه المقالة، ورفعوه الى هذا الأمر الغير حقيقي، وأنهم قالوا ابن الله [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ] يوم القيامة يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم التحسر، والحسرة هي حصول الألم الشديد على أمر فات، على أمر قد فات، وكان من الممكن أن يصححه الإنسان، وأن يكون فى مكنته، وملكه لكنه فات منه، وانتهى؛ فيتحسر، وحسرة يوم القيامة ليست مثلها حسرة لأنه تحسر على أمر فات لا مجال لإصلاحه، ماله أي صورة من الصور، ومجال من المجالات يمكن أن يصلح وممكن يخرج الإنسان منه [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ] خلاص الأمر قضي، من قال مقالة غير الحق، وكفر بالله -تبارك وتعالى- فقد حلت عليه اللعنة، وحل عليه العقوبة الأبدية التيى لا خروج منها؛ فانتهى الأمر ليس هناك مجال لتصحيح هذا الخطأ مرة ثانية، ويقال ياربي أخطأنا، وضللنا، وسامحنا، ارجعنا يعنى ليشفع فينا عيسى لا مجال لا شفاعة، ولا لأمر من الأمور، ولا نصر، ولا إعفاء، ولا عتاب، هناك ليس هناك باب ليخرجوا من اللعنة، والعقوبة التي لا بد أن تلزمهم أبد الآبدين [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ] الآن الأمر حتم، وانتهى، وقضي، ولا بد أن يكون، وأن تكون العقوبة لمن يأتي ربه مجرماً، معتقد غير الحق [وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ] الآن [وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] لا يصدقون، أنذرهم هذا، هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن يقيم رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- لينذر هؤلاء الضلال يعني راعوه، ارجعوا {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ........}[النساء:171] فهذا خطاب الرب -سبحانه وتعالى- المنزل على عبده، ورسوله محمد لينذر به، ويخبرهم هذا الإخبار، ويحذرهم هذا التحذير، لكن الضالون فى ضلالهم، وسيرهم سائرون {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[مريم:39].

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40] إِنَّا الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- رب العالمين، خالق الخلق أجمعين، قال: [نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا] الأرض ومن عليها ميراث لله -تبارك وتعالى- لأنها ملكه، لأنها ملكه، والذين يتملكون في هذه الأرض هو الله الذي ملكهم -سبحانه وتعالى- فهو الذي أعطى، وملك غيره عارية منه، هذا الله معير هذا الملك، يعني عبارة عن عارية خذها، أنت مستخلف فى هذا الأمر، وتموت، وتنتهى لست ملكاً مُلكاً حقيقيا، وأنت هذه الأرض التي أنت عليها خولك الله فيها لست تملكها ملكاً حقيقياً، وتتصرف فيها كما تشاء، أنت تصريفك فيها إنما هو شيء وقتي، عاري أساس من الله تبارك وتعالى معطيك إياها ثم يأخذها [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا] كل من عليها هو ملك لله تبارك وتعالى- البشر الذين هم فيها، ما جعل الله -تبارك وتعالى- فيها من الخيرات، ومن البركات، ومن المنافع كلها لله -تبارك وتعالى- [وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] إلينا لا الى غيرنا يُرْجَعُونَ ما قال يرجعون الينا، وإنما قال [وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] تقديم هنا هذا لبيان إن لا رجوع إلا إليه -سبحانه وتعالى- فرجوع الخلق كلهم إلى الله يعني الخلق الآن قد نشرهم الله -تبارك وتعالى- وخلقهم في هذه الأرض؛ ثم كل مصيرهم، ورجوعهم إلى الرب -سبحانه وتعالى- يحاسبهم يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40] ختام عظيم لهذا الفاصل من السورة فى شأنه عيسى ابن مريم، ولو أن هذه الجموع الهائلة، الملايين المملينة من هؤلاء الضالين سمعوا نداء الرب، وسمعوا كلامه لاهتدوا، وأنقذوا أنفسهم من النار، ولكنهم في عمى عن هذا الأمر، هذا خطاب الله، خطاب لهم، هذا خطاب الله تبارك وتعالى الأخير على لسانه لرسوله محمد، وقد حفظه الله، وأبقاه أبد العصور على هذا النحو ليخاطبهم، لكن أنظر يعني هؤلاء النصارى تأتي أجيال، تلو أجيال، تلو أجيال، والخطاب هذا موجه لهم وهم عميانا كما قال الله -عز وجل- {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:38-40] ختم هذا الفاصل.

 ثم شرع الله -تبارك وتعالى- فى بيان رحمة منه، ونعمة منه -سبحانه وتعالى- وإشادة منه -سبحانه وتعالى- بعبد من عباده الصالحين، وهو إبراهيم عليه االسلام، قال -جل وعلا- [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ] إخبار منه -سبحانه وتعالى- بأن يذكر إبراهيم عليه السلام النبي أبو الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه- فالكتاب المنزل هنا، والموحى به الى عبده، ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن، إبراهيم النبي، الرسول، الذي نشأ في العراق لما نبأه الله، وأرسله الله -تبارك وتعالى- وآذاه قومه، وطردوه؛ فخرج مهاجر إلى الله -تبارك وتعالى- إلى أن سكن الشام في فلسطين، قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم:41] صديق كثير التصديق يعني مصدق بكلمات الله -تبارك وتعالى- المنزلة إليه، والموحى إليه نَبِيًّا منبأ من الله -تبارك وتعالى- [إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا] ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- من شأنه هنا بعد ذلك خطابه، ودعوته الكريمة لنبيه أن يعبد الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، ويذهب عن عبادة الأصنام [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ] اذكر إذ قال إبراهيم عليه السلام لأبيه، وقد جاء تسمية أبيه فى سورة الأنعام وأنه آزر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74].

 [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ] نداء فيه تحبب يَا أَبَتِ تحبب، وتقرب منه {........لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:42] كلام مباشر، وواضح، وفي الصميم، سؤال لم تعبد ما لا يسمع هذه أصنام التي تعبدها لا تسمع، ولا تبصر [وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا] يغني عنك شيئاً فى جلب منفعة، أو في دفع مضرة، وهذا ما يحتاجه الإنسان إنه يجلب منفعة لنفسه كصحة، أو رزق، أو سعادة، أو طمأنينة، ولا كذلك في دفع مضرة عنك، أنك تكون مريض فيدفع عنك، أو محتاج يأتيك بشيء، ما ينفعك شيء [لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا] هذه كلمات قليلة لكنها تهدم عبادة الأصنام هدماً، وعبادة ما يعبد من دون الله [لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا] والعبادة هذه التي هيا الذل، والخضوع، والطاعة، والإنابة. هؤلاء ناس كانوا يعكفون على هذه الأصنام، ويدعونها، ويطلبون منها، يتقربون إليها، وينذرون لها يعني يعطوها صنوف من صنوف الخضوع، والطاعة، والمحبة هذه أنواع العبادة [مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا]

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43] هنا يبيين أنه عندما يأمره بهذا أنه فيه أمر مخصوص هنا ليس مثلاً الأب بحكم كبر سنه، وخبرته، ومعرفته بالحياة أعظم  تجربة، وعلماً من الابن؛ فإذا جاء يعني انتصب الابن ليأمر أباه، وينهاه، ويبين له من أين هذا أنا أبوك يعني؛ هنا يخبره بأنه قد جاءه علم ما جاءه، وأن هذا العلم علم مخصوص هنا قد خص به، وبالتالي هو يقوله له؛ فلا تغتر بأنك أبي، وأنك أكبر سناً مني، أعظم تجربة، أعرف بالأمور، قال له: [يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ] جاءني من علم، علم النبوة مَا لَمْ يَأْتِكَ لم ينبئك الله -تبارك وتعالى- يخبرك، وإن ما أنزل عليه من النبوة عليه السلام {........فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43] اتبعني فيما جاءني من هذا العلم، علم النبوة الذي أوحي إلى [أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا] الصراط طريق سوي ما فيه عوج، وإنما هو سوي مستقيم إلى الرب -سبحانه وتعالى-.

 {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44] هنا بين حقيقة أن هذه الأصنام طبعاً هي ما تكلمت بنفسها، ودعت الناس إليها، وإنما الشيطان هو الداعي لها، وهو الذي زين عبادة هذه الأصنام في عقول من عبدها، وفي نفوسهم، وبالتالي هي عبادتهم الحقيقية عبادتهم الشيطان الآمر بهذا، الموسوس بهذا {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44] الشيطان هذا منبوذ من الله -تبارك وتعالى- وهو كثير العصيان لله -تبارك وتعالى- قد عصاه يوم ما أمره بالسجود لآدم فلم يسجد؛ فطرده الله -تبارك وتعالى- من رحمته [إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا].

 {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:45] هذه الخطوة الرابعة، والعنصر الرابع في هذه الدعوة إنه حديث على منفعة أبيه، وألا يعرضه لسخط الرب، وعقوبة الرب [إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ]  يعني إذا بقيت الكفر بالله، والشرك بالله -تبارك وتعالى- فإنك تكون معرض لعقوبة الرب -تبارك وتعالى- [إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا] تبقى خاسر، تكون خاسر لأن من يتخذ الشيطان وليا، وهو عدوه الذي يدعو إلى النار، تواليه، أي تحبه، وتكون معه على هذا النحو لا شك أنه قد خسر خسراناً مبيناً [فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا] وكفى بهذه الولاية شر، هذه الدعوة الكريمة، والمفصلة، والقائمة بالحجة، والبرهان لم ترق لآزر أبي إبراهيم، وإنما قابلها بنوع من الرفض، والكراهية الشديدة [قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ] رغب عن بمعنى كره يعني أتنصرف، وتكره، وتبتعد عن آلهتي التي أنا متخذها آلهة، اعبدها، وأقدسها، هذه مقدساتي، آلهتي التي أعبدها، ترغب عنها، وأنت ابني، والأمل أن تكون فى طوع  أبيك تأتمر به، وتأتسى به، وتقتدي به  [قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ] وقوله [يَا إِبْراهِيمُ] أنه ابنه، والمفروض أن يكون تابعاً لأبيه؛ ثم قال: {........لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46] كبر الأمر فى نفسه، وأن يخرج منه من طوعه، وأن لا يعظم آلهته، وأن يقول فى آلهته هذا القول، ولم طبعا يعني آزر لم يناقش إبراهيم عليه االسلام في أي حجة من الحجج قالها إنما الأمر كبر في نفسه، وأنه قد اتخذ هذا الطريق، وكيف يخرج منه على هذا النحو، ويخاطبه هذا الخطاب [لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ] عن حديثك هذا لي على هذا النحو، ودعوتك إلى ما تدعو إليه [لَأَرْجُمَنَّكَ] وهذا أمر شديد جداً [لَأَرْجُمَنَّكَ] هذا طبعاً ضرب بالحجارة حتى الموت، الرجم هو الضرب بالحجارة حتى الموت، وقال تهديد بالقتل، قال لأقتلك شر قتلة، وهذه القتلة اختار له هذه القتلة، وهي الرجم.  [وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا] لا أريد أن أراك [وَاهْجُرْنِي] الهجران ابتعد [مَلِيًّا] وقتا طويلا يعني أغرب عن وجهىي، ولا أريد أسمع بك شيئاً [وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا] قطع الأمر يعني خطاب أبو إبراهيم آزر لابنه عبارة عن قطع الأمر نهائي، ما جعل هناك فرصة لشيء، ولا فرصة للكلام، أنت قد لم ترق لك آلهتي، ورغبت عنها، وهذه آلهتي، وإذا لم تسكت عن ما تقوله لأرجمنك؛ ثم ابتعد عني لا أريد أن أراك؛ فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا قال: [قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ] يعني رأى إبراهيم أنه يبدو أنه خلاص الباب موصد أمامه فى دعوة أبيه، وأنه قد أوصد الباب؛ فقال سلام عليك يعني حالا مني لك السلام، لا يعني أأنف عليك، ولا أشد عليك، ولا أرغمك [ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي] سأطلب لك مغفرة الرب -تبارك وتعالى- {........إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47] أنه الرب -سبحانه وتعالى- [كَانَ بِي حَفِيًّا] الحفاوة الإكرام يعنى أنه مكرم لي، معتنٍ بي، آواني، أوحى إلي، هداني، وفقني، أرشدني، يستجيب دعاي؛ فهذا ما أعلمه يقول ما أعلمه من شأن ربي -تبارك وتعالى- أنه مكرم لي، وبالتالي سأستغفر لك لعله -سبحانه وتعالى- يغفر إثمك، وذنبك فيما تصنعه {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47].

 {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[مريم:48] لما قال له أغرب عن وجهى، لا أريد أن أراك [وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا] قال: [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] اعتزال ابتعاد [وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] والذين تدعونه من دون الله، لهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة لهم[وَأَدْعُو رَبِّي] أدعو ربي، الدعاء الذي هو العبادة يعني أعبد الله -تبارك وتعالى- حال كوني داعياً له يعني بالدعاء متضرعاً له -سبحانه وتعالى- {........عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[مريم:48] عَسَى يعني رجاءً، أرجو من الله -تبارك وتعالى- ألا أكون شقياً بدعاءه يعني أدعوه لا يستجيب لي، وإنما أدعوه يستجيب لي -سبحانه وتعالى- [عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا] يعني متروكاً من الله -تبارك وتعالى- لا يستجاب لي، لا، وإنما  عسى أن يستجيب الله -تبارك وتعالى- دعائي، ويؤنس وحدتي، ويعينني في اعتزالي عن القوم الذين اعتزلهم على هذا النحو.

 قال -جل وعلا- مبيناً حفاوته، وعنايته بعبده إبراهيم عليه السلام {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مريم:49] هذا إكرام الله -تبارك وتعالى- هذا التعويض، ترك هذا لله، ترك الأهل، والوطن لله -تبارك وتعالى- فاكتنفه الرب -تبارك وتعالى- وأعطاه خيرا مما ترك [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ] أي قومه [وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ] ابنه، ومن سارة، زوجه الأولى سارة [وَيَعْقُوبَ ابن إسحق [وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا] جعل الله -تبارك وتعالى- له إسحق، ويعقوب نبيا ليكونوا معه، ويؤنسوه فى وحدته، ويكونا معه, إسحق؛ ثم يعقوب عليهما السلام، وهذا يعني تعويض من الله -تبارك وتعالى- له، وعناية من الله -تبارك وتعالى- له بعد أن ترك قومه فكان من اتحاف الرب له -تبارك وتعالى- لهذا تفصيل إن شاء الله فى الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.