الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (363) - سورة مريم 49-59

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته الى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- { قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }[مريم:50].

 الآيات فى سياق ذكر الله -تبارك وتعالى- لعبده إبراهيم عليه السلام من سورة مريم، وقول إبراهيم لأبيه {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47] رداً على دعوة إبراهيم لأبيه؛ ثم الرد السيء من أبيه له حيث قال له {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46] فلما قفل الطريق نهائى فى أن يقبل دعوة الحق، وأمر ابنه بأن يفارقه، وأن يغادر المكان حتى لا يراه عند ذلك قال إبراهيم [سَلامٌ عَلَيْكَ] يعني كل شأني منك السلام، لا سب، ولا تشهير، ولا [سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا] وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن هذا الاستغفار إنما كان لفترة زمنية كما قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114] فتبرأ منه بعد ذلك بعد أن أصر على الكفر، إبراهيم لما اعتزل قومه، وهاجر {........وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]  هاجر من العراق إلى بلاد الشام؛ فنزل فى فلسطين فى مدينة الخليل مدينة حبرون، وأقام هناك.

 يقول الله -سبحانه وتعالى- بأنه عوضه -سبحانه وتعالى- عن ترك وطنه، وعن ترك أهله بعد أن هاجر هذه الهجرة فى الله، وعوضه الله -تبارك وتعالى- بابن له من زوجته سارة، وهو إسحق الذى قال الله -تبارك وتعالى- فيه [إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ]؛ ثم إن بعد إسحق كذلك وُلد لإسحق ولد آخر، وهو يعقوب، وهو إسرائيل عليه السلام فكان هذا يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا كان عوضا من الله -تبارك وتعالى- ورحمة من الله -تبارك وتعالى- وجزاء لإبراهيم الذى تُرٍك بلده، وأهله، وهاجر فى سبيل الله أن يعوضه الله -تبارك وتعالى- بذلك، قال: [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] والذى يعبدونه من دون الله من أصنام {........وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مريم:49] أمر عظيم جداً، جزاء عظيم من الله -تبارك وتعالى- لإبراهيم، قال -جل وعلا- [وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا] وهبنا لهم، لهؤلاء إبراهيم، وإسحق، ويعقوب [مِنْ رَحْمَتِنَا] الرحمة العظيمة، النبوة، الرسالة، البركات العظيمة، الدعوة الى الله -تبارك وتعالى- القيام بأمره -جل وعلا- رحمة الله -تبارك وتعالى- الواسعة يعنى  في الدين، وكذلك رحمته الواسعة، وسع عليه -سبحانه وتعالى- في الدنيا {........وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}[مريم:50].

 جعل الله لهم لسان صدق، لساناً صادقاً، يلتزم الصدق، ويقول الحق [عَلِيًّا] عاليا يتكلمون بالحكمة العالية بالشأن العظيم، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده، وعبادته، ودعوة الناس الى البر، والخير؛ فهذا أمر شريف عظيم [وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا] وكذلك جعل الله -تبارك وتعالى- لسان صدق يذكرهم بالخير على مدى الدهر؛ فعلى مدى الدهور بعد ذلك فيمن جاء بعدهم يثنى عليهم، الثناء على إبراهيم ثناءُ باقٍ على ألسنة الأنبياء من ذريته، وآخر هؤلاء الأنبياء، والرسل نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنه يعنى أشاد الله -تبارك وتعالى- به إشادة عظيمة، وأنزل ذكره في القرآن، ومازال المؤمنون يذكرونه، ويشيدون به يذكرون فضائله، وخصائصه؛ فجعل الله -تبارك وتعالى- لإبراهيم، وكذلك لإسحق، وليعقوب هذا لسان الصدق الذى يذكرون به، قال -جل وعلا- بعد هذا {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[مريم:51] هذه فى سلسلة هؤلاء الأنبياء الطيبون، الصالحون، ذكر الله -تبارك وتعالى- عبده موسى عليه السلام [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى] موسى الرسول العظيم من رسل بنى إسرائيل، المخلص الذى جاء ليخلصهم من الذل، والعبودية التى كانوا فيها فى أرض مصر بعد أن استعبدهم الفراعنة زماناً طويلاً [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا] مخلصاً خلصه الله -تبارك وتعالى- من كل شر، وسوء يعنى كم أراد به الناس السوء، والشر، والله -تبارك وتعالى- يخلصه -جل وعلا- فقد كان محوطاً، ومعتناً به من الرب -تبارك وتعالى- مُخْلَصًا الله -تبارك وتعالى- خلصه من كل الشرور، وأقامه الله -سبحانه وتعالى- داعياً إليه، ومخلصاً لبنى إسرائيل مما كانو فيه [وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا] رسول إلى بني إسرائيل، ونبي منبأ من الله -تبارك وتعالى- جمع الله -تبارك وتعالى- له بين الرسالة، والنبوة، الرسالة لإنه أتى بدين جديد، بشرع جديد، بشرع كامل أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه التوراة فهو رسول، وهو نبي منبأ من الله -تبارك وتعالى- أما يعنى كونه كان مخلصاً من البداية؛ فإنه لما وُلد كان الطلب فى إثره يُقتل كما كانت عادة فرعون فى أبناء بنى إسرائيل تذبيح الذكور، قتل الذكور، وإبقاء الإناث أحياناً؛ فأول أمر  خلصه الله -تبارك وتعالى- من القتل، وأنجاه، وجعله يتربى فى قصر فرعون عدوه الأكبر، كذلك عندما كان يلعب مرة مع فرعون إذا به يشد يعنى خصلة من لحيته بشدة؛ فتنبه فرعون إن هذا الولد يعنى هو وراءه قتله، وقد قيل له من عرافيه إنه سينشأ ولد فى بنى إسرائيل يكون هلاكه على يديه؛ فتوسم أنه هو هذا، وكان من شأنه أنه خلصه الله -تبارك وتعالى- بأن حاطته زوجة فرعون، وقالت: أنه طفل صغير لا يعرف التمر من الجمر، وقال ليقدم له، يقدم له تمر، وجمر؛ فإن وضع يده فى التمر ترك الجمر فهو مميز، وهو يقصد هذا؛ فلما قدم له هذا وضع يده على الجمرة بأمر من الله -تبارك وتعالى- ولم يضعها على التمر وأخذ الجمرة ووضعها في فمه، وكانت هذه من سبب نجاته، وهكذا سلسلة طويلة من السلاسل المحن، وسنأتى إن شاء الله إليها عند قول الله -تبارك وتعالى- [وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا] ففتن فتون عظيمة جداً، وكل ذلك يخلصه الله -تبارك وتعالى- ولم يستطع أعداؤه أن ينالوا منه إلى أن أتم رسالة الله -تبارك وتعالى-.

 {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا* وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم:52] وَنَادَيْنَاهُ الرب -تبارك وتعالى- ناداه -جل وعلا- [مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ] الطور الجبل، وهو في سيناء، هذا كان في أثناء عبوره عليه السلام بعد أن عاش فى مدين، هاربا من مصر بعد أن قتل المصرى قتله قتل شبه عمد، لم يقصد قوله وإنما دفعه فقتل؛ فهرب عندما علم أن الطلب فى إثره قيل له إخرج [إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ] قال -جل وعلا- {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20] قال -جل وعلا- {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ........}[القصص:21] خرج من مصر، وبقي في مدين التي تزوج فيها عشر سنوات؛ ثم عاد في رحلته إلى مصر لأهله، وإخوانه؛ فناداه الله -تبارك وتعالى- عندما كان في جزيرة سيناء، فى جانب الطور، وهو على جانب الطور عندما كان قطع به الطريق، ولم يهتدي يوماً فى ليلة مظلمة, أراه الله -تبارك وتعالى- يعنى نار عن بعد، وقال لأهله {........إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}[النمل:7] وعندما وصل النار إذا بها نور عظيم ينتشر في شجرة، قيل أنها شجرة عليق، وينتشر فيها، وعندها ناداه الله -تبارك وتعالى- وأخبره أنه أولا عرفه الرب -سبحانه وتعالى- بنفسه، قال يا موسى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}[طه:12-14] ثم أمره الله -تبارك وتعالى- بأن يذهب إلى فرعون ليبلغه رسالة الرب -جل وعلا-.

 قال -جل وعلا- {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم:52] وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا قربه الله -تبارك وتعالى- يناجيه لا يعني أحد بينه وبين الله -تبارك وتعالى- يسمع كلام الله -عز وجل- ويناجيه الله -تبارك وتعالى- في حديث طويل بين موسى، وبين الرب -تبارك وتعالى- وسيأتي يعنى تفصيل بعض هذه المناجاة في سورة طه؛ فإنها مناجاة عظيمة كانت بين الله -تبارك وتعالى- وبين موسى عليه السلام، وهذا تشريف عظيم جداً، وأعلاه منزلة أن الله الذى لا إله إلا هو رب السماوات، والأرض يناجي عبده موسى، ويخاطبه، ويقول له { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى }[طه:17-21] بكلام عظيم جداً مع الرب تبارك وتعالى ومناجاة بين الرب الإله الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- ملك السماوات، والأرض، وبين عبده موسى؛ فالله يخبر بنعمته -جل وعلا- وإحسانه، وإفضاله على عبده موسى عليه السلام {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم:52] وهذا إصطفاء، وإعلاء {........يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] قال -جل وعلا- {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}[مريم:53] وهذا كذلك من إنعام الرب -سبحانه وتعالى- وإفضاله على عبده موسى أن الله -تبارك وتعالى- قبل شفاعته في أخيه هارون، في أن ينبأ معه ليشد من أزره عندما يرسل إلى فرعون؛ فإن الله قال الى موسى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24] فطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يكون معه. هذا الطاغية، ويـأمره، وينهاه، ويقول له الدين الذي عليه دين باطل، أنت تدعي الألوهية، والربوبية، لست رباً، ولست إلهً، ربك الله، وإلهك الله فيعني يفاجؤه، ويعطيه هذه المقالة العظيمة، وبالتالي هذا نسف، وتحطيم لكل ما يقوم عليه ملكه، وتقوم عليه دولته؛ فإن الدولة، والملك، هذا كله، والقائم على هو أنه الرب الإله عند قومه المعبود الذى يسمع كلمه، ولا يعارض فيه حكم من الأحكام، ويقدس تقديس الإله خالق السماوات، والأرض؛ فيأتي هذا كلم جداً شديد، ولذلك قال موسى، طلب من الله -تبارك وتعالى- أن يرسل معه {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34] وقال { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36) }[طه] سؤالك الذى سألته، وطلبته فى أن يكون هارون أخوك نبياً معك، أجابه الله -تبارك وتعالى- له؛ فقال الله -جل وعلا- {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}[مريم:53] بطلبه، وقد قيل له لا أحد أعظم جميلاً على أحد من موسى على هارون؛ فإنه قد شفع له بالنبوة التي هى أشرف، وأعلا المقامات، مقامات البشر، من شرفه الله فجعله نبيا، إنه لا يوجد أحد شفع له شفاعة نفع بها آخر كما هذه الشفاعة التى شفع بها موسى لأخيه هارون، طلب له النبوة من الله -تبارك وتعالى- فهذا أعظم شيء هذا تفضل كذلك، وهو تفضل من الله -تبارك وتعالى- الذى قبل سئل موسى، وشفاعته فى أخيه، قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}[مريم:53] هذه صفحة من صفحات هؤلاء الأنبياء، المرسلين، الطيبيين.

 بعد ذلك أتى الله -تبارك وتعالى- بعبد صالح له من هؤلاء الأنبياء؛ فقال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[مريم:54] [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ] في هذا القرآن العظيم، المنزل من الله -تبارك وتعالى- كلمة الله تبارك وتعالى الأخيرة إلى أهل الأرض، المحفوظ من كل عيب، وسوء، المنزل من رب العالمين إلى الناس أجمعين، قال -جل وعلا- [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ] إسماعيل عليه السلام، ابن إبراهيم من زوجته هاجر المصرية، والذي أسكنه الله -تبارك وتعالى- أسكنه إبراهيم بأمر الله -تبارك وتعالى- في المسجد الحرام في أرض مكة، وكان من شأنه هذا التاريخ العظيم من الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- إنشاء أمة على التوحيد، أمة العرب؛ ثم بعد ذلك ما كان من شأن الرب -تبارك وتعالى- من نسل إسماعيل النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبدالله -صلوات الله والسلام عليه- [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ] أبو العرب جميعاً، قحطانيين، وعدنانيين [إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا] هنا مدحه الله -تبارك وتعالى- وأثنى الله تبارك وتعالى على عبده إسماعيل بصدق الوعد [كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ] إذا وعد لا يخلف، قيل إن أحداً واعده فانتظره في المكان ثلاثة أيام لا يترك مكانه؛ فالوعد، صدق الوعد هو شعبة من شعب الإيمان، وقد منحه الله -تبارك وتعالى- بهذه الشعبة قيامه بها على الوجه الأكمل [إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا] أي كان رسولاً من الله -تبارك وتعالى- إلى قومه من العرب نَبِيًّا منبأً من الله -تبارك وتعالى- بالأخبار العظيمة {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[مريم:55] أيضا أثنى الله -تبارك وتعالى- على عبده إسماعيل بهذه الصفة الأخرى، وهذه طبعاً الصفات, ثناء الله -تبارك وتعالى- على عباده بها لأنهم هم الأسوة، وهم القدوة الذين يقتدى بهم.

 [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ] يعني زوجته، وأولاده [بِالصَّلاةِ] قائم عليهم بأن يقوموا بالصلاة للرب الإله -سبحانه وتعالى- [وَالزَّكَاةِ] الزكاة بمعانييها، الزكاة بالمخصوصة إخراج المال لأنه طهرة في سبيل الله، والزكاة الطهارة، طهارة النفس، وهذه يدخل فيها كل أنواع الأخلاق الطيبة التي هي حقيقتها زكاة، وطهارة للنفس [وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا] وكان أي إسماعيل عليه السلام [عِنْدَ رَبِّه] الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو [مَرْضِيًّا] راضياً عنه -سبحانه وتعالى- فهذا أمر عظيم.

 ثم قال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا(57)], إِدْرِيسَ نبي آخر إلى بني إسرائيل قال: [إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا] صديقا كثير الصدق، نبيا منبأ من الله -تبارك وتعالى- ثم قال -جل وعلا- {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}[مريم:57] في الدنيا، والآخرة، رفعه الله -تبارك وتعالى- مَكَانًا عَلِيًّا في الدنيا، والآخرة بقيامه بأمر الله -تبارك وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ........}[مريم:58] أُوْلَئِكَ الذين ذكروا هؤلاء بدءً بزكريا الذي صدر الله -تبارك وتعالى- به رحمته في هذه السورة، ذكر رحمته، مريم عليها السلام؛ ثم بعد ذلك إبراهيم، فموسى، فإسماعيل عليه السلام، فإدريس، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ........}[مريم:58] ذرية آدم، وذلك أن كل الأنبياء الذين جاؤا بعد نوح، هم ذريته، ونوح من آدم عليه السلام {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ........}[مريم:58] وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ من هؤلاء الذين حملهم الله -تبارك وتعالى- مع نوح، وقد جاء بأن نوح يعني آدم الثانى يعني كل الأنبياء بل كل البشر الذين بقوا بعد ذلك إنما هم من نسل نوح عليه السلام [وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ] ومن ذرية إبراهيم ممن جاء إبراهيم، فإسحق، ويعقوب، وموسى من ذرية إبراهيم، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام وَمِنْ ذُرِّيَّةِ كل الأنبياء الذين جاؤا بعد ذلك من أنبياء بني إسرائيل آخرهم عيسى عليه السلام [وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا] من الذين هداهم الله -تبارك وتعالى- واجتباهم، هداهم الله -عز وجل- إلى دينه، واجتباهم، اختارهم، وخصهم بهذه النبوة، والرسالة، قال -جل وعلا- {........إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58] هذه صفتهم مع الرب -تبارك وتعالى- أنهم أهل إيمان بالله -تبارك وتعالى- مؤمنون بآياته [إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ] آياته المتلوة، والمقروءة منها، والتي فيها تذكير بعظمته، وكبريائه -سبحانه وتعالى- وأمر بالإذعان له، والسجود له، والطاعة، أو تشريع؛ يخروا ساجدين لله -تبارك وتعالى- بمجرد أمرهم بالسجود للرب.

 [الرَّحْمَنِ] اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- فيه صفة مبالغة من الرحمة وذلك أن رحمة الله -تبارك وتعالى- وسعت كل شيء فكل ما خلق الله -تبارك وتعالى- قد ناله من رحمته، رحمته وسعت كل خلقه -سبحانه وتعالى-  [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً رَحْمَةً وَعِلْمًا] ثم لله تبارك وتعالى رحمته المخصوصة قد خصها الله -تبارك وتعالى- في بعض الخلق، وهي الرحمة، بالإيمان، وبالتقوى، وبالإذعان لله -تبارك وتعالى- وهذه رحمة مخصوصة، بعد الرحمة العامة؛ فكل مخلوق إنما يعيش في رحمة الله؛ رزقه، وأكله، وشربه، وحياته، ونعيمه كل هذا رحمة، كلها من الرب الإله -سبحانه وتعالى- ثم رحمة مخصوصة للمؤمنين.

 {........إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58] خَرُّوا الأصل، الخرور هو السقوط من عالٍ دفعة واحدة يعني أنهم لا يسجدون جزءً بعد جزء إنما يسقطون كأنه ثقل مرة واحدة [خَرُّوا سُجَّدًا] حال كونهم سُجَّدًا ساجدين لله -تبارك وتعالى- والسجود الذى أمرنا به هو السجود على سبعة أعظم، أن يصل الساجد أن يضع سبعة أعظم فى الأرض كما قال النبي « أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم»  وأشار أولاً الى جبهته، وأنفه؛ ثم اليدين؛ ثم الركبتين، ثم أطراف القدمين فهذا هو السجود، السجود في الإسلام هو على هذا النحو، وليس هو الانبطاح على الأرض، هذا ليس السجود، إنما السجود كما قال النبي « أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم»  ثم أشار النبي إلى هذه العظام السبعة [خَرُّوا سُجَّدًا] حال كونهم [سُجَّدًا وَبُكِيًّا] باكين، باكين من خوف الله -تبارك وتعالى- ومن خشيته؛ فإن قمة العبادة، ونهاية العبادة هي مخافة الله -تبارك وتعالى- والبكاء من مخافة عقوبته، وتذكر عظمته -جل وعلا-.

 ثم قال -جل وعلا- {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[مريم:59] خلف من بعدهم، من بعد هؤلاء الأنبياء الذين أتوا بالهدى، والحكمة يعني إيضاح الصراط المستقيم، خلف، خلف مخالف يعني خلف لهم، ذرية لهم، لكنهم هم مخالفون للطريق، لم يسيروا على الطريق الذي بين لهم على ألسنة هؤلاء الرسل، إنما خالفوا هذا الطريق، واتبعوا طريقاً آخر [أَضَاعُوا الصَّلاةَ] التي هى أشرف، وأعلى ما وضع الله -تبارك وتعالى- للناس في الأرض، الصلاة خير الموضوع، والتي هى حقيقتها القيام بحق الله -تبارك وتعالى- وذكره، وشكره -سبحانه وتعالى- فالتي العمل المقام بترجمة معنى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وذكر الله، وشكره -سبحانه وتعالى- وهي أشرف الأعمال [أَضَاعُوا الصَّلاةَ] التي هى أشرف عمل، لا عمل يمكن أن يعمله الإنسان بعد الإيمان بالله -تبارك وتعالى- أشرف، وأعلى من الصلاة فأضاعوا هذا، أضاعوا أشرف أعمالهم، وأحسن أعمالهم، وأزكاها، وأتقاها يعني أقربها الى الله -تبارك وتعالى- وكذلك أنفعها لهم؛ فهذا الأمر الذي هو أثمن ما فى الوجود أضاعوه، تضييعه إما يكون بتركه، وإهماله بالكلية، وكذلك إما أن يكون بأدائه على غير وجهه، بأنهم أدوها على غير وجهها، أخروها عن أوقاتها، لم يقوموا بأركانها كما ينبغي، فهذا كذلك إضاعة؛ فالإضاعة في إضاعة جزئية، وإضاعة كلية [أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ] الشهوات ما تشتهيه أنفسهم، من لذائذ العيش فى الطعام، والشراب ونحو ذلك، هذه ما يشتهونه من الأمور الدنيوية اتبعوه، اتبعوه ساروا وراءه، وركضوا خلفه، فهي أمنيتهم، وهي مبتغاهم، قال -جل وعلا- مهدداً [فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] سوف للمستقبل يلقون غياً، الغي يأتي بمعنى الغواية يعني أنهم لما تنكبوا طريق الرب -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- سيزيدهم غواية على غوايتهم، والغواية، والغي هو السير في طريق الهلاك، وهو لا يدري أين يسير [فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] هذه عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا........}[طه:124] وقال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36] {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:37] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:8-10] وقال: [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ] وقال: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا........} [مريم:75]. فإن الله يمده في الضلالة ما دام اختار طريق الضلالة فإنه يمده فيها [فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] غواية، أو غياً وقيل الغي مكان فى النار عياذاً بالله يعني يلقون هذا مكانهم في النار حيث يلقونه؛ فهذا هو المكان المناسب لهم بتضييعهم الصلاة، واتباعهم الشهوات.

نقف هنا إن شاء الله، ونعود إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، أقول قولى هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب،؟ وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.