الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
قال -جل وعلا- {فَخَلَفَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) } [مريم:59-63].
يخبر -سبحانه وتعالى- بعد أن ذكر هذه الطائفة العظيمة من الأنبياء، والمرسلين إبراهيم، وموسى، وزكريا، وإسماعيل عليه السلام الذي ذكره الله تبارك وتعالى بانه كان صادق الوعد، وكان رسولاً نبياً، صادق الوعد مدحه الله تبارك وتعالى بهذه المدحة، وقد يظن البعض صدق الوعد إنما هو خصلة يسيرة من خصائل الإيمان، كيف يذكر نبي عظيم، ورسول عظيم هو رسول العرب، أبو العرب عليه السلام، بهذه الصفة التي هي صدق الوعد، ويثري الله عليهم بهذا، طبعاً صدق الوعد صفة عظيمة، وإسماعيل عليه السلام يعني صدق الوعد فيما هو فيه قتله؛ فإنه لما عرض عليه إبراهيم عليه السلام أبوه، وقال له {.........يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:102] أعطى وعد، وقال: [سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] تم الأمر على هذا النحو، واستعد إبراهيم لعله بعد أيام، وقال له خلاص نخرج لتنفيذ أمر الله -تبارك وتعالى- فكان عند وعده، قال: [سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] قام عند وعده، وخرج مع أبيه إبراهيم عليه السلام خارج مكة لأن مكة لا يسفح فيها دم وقابله الشيطان، وحاول أن يثني إبراهيم. الشاهد أن انظر هذه الموعدة التي وعدها وفيها يعني الذبح، ولكنه كان عند هذا الوعد لم يتملص من هذا، ولم يقل لأبيه يعني اعتذر من الرب، أو اطلب منه، قال خلاص ، وعد هذا الوعد، وقال: [يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] وقد كان عند وعده عليه السلام.
الشاهد أن الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر هذه الطائفة العظيمة من هؤلاء الأنبياء، والمرسلين الذين هم قدوة، هم قدوة، وجعلهم الله، أقامهم الله -تبارك وتعالى- قدوة للبشر، قدوة لأقوامهم، ولمن يأتي بعدهم قال -جل وعلا- {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ........}[مريم:59] خلف من بعد هؤلاء الأنبياء الصالحين يعني مخالفون، خلف من نسلهم، وذرياتهم، ولكنهم مخالفون لما كان عليه يعني هؤلاء الآباء، والمرسلون أضاعوا الصلاة، أشرف أعمالهم، أشرف عمل، وأعلى عمل، وأحسنهم ممكن أن يقوم الإنسان، الصلاة خير ما وضع على هذه الأرض [وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ] من اللذائذ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ........}[آل عمران:14] هذه اللذائذ، والشهوات، اتبعوها، وسعوا بكليتهم ورائها، وتركوا أشرف الأعمال، قال -جل وعلا- [فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] غواية مشي في الغي؛ فيسير فيه، غوايةً شديدة، وكذلك غي هذا وادي في جهنم الذي هذا مصيره من ترك أشرف عمله، واتبع الشهوات الدنيئة، قال -جل وعلا- {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}[مريم:60] إِلَّا مَنْ تَابَ من هؤلاء العباد، والتوبة الرجوع، يعني رجع عن طريق الغواية إلى طريق الهدى، والإحسان وَآمَنَ بالله -تبارك وتعالى- بأركان الإيمان، وعمل صالحا يعني يجمع الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان، والعمل الصالح، وإذا اجتمع الإيمان، والعمل الصالح انصرف الإيمان إلى أعمال القلوب، والعمل الصالح إلى أعمال الجوارح، وأشرف الأعمال الصالحة، الصلاة [فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا] أولئك هؤلاء المذكورين الذين تابوا عن طريق الغواية، والشر، وآمنوا بالله -تبارك وتعالى- وعملوا الأعمال الصالحة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يخبر [فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ] بستان الرب العظيم، بستان الرب العظيم الذى سعته، سعة السماوات، والأرض {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ........} [آل عمران:133] وقال {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ........}[الحديد:21] [فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا] يظلمون ينقصون يعني لا ينقصهم الله -تبارك وتعالى- شئياً من خير عملوه، وإن كان مثقال ذرة، من قليل؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يكتبه لهم، تجاوز عنه سيئاتهم بعد أن تابوا عنها، وكل أعمالهم الصالحة حفظها الله -تبارك وتعالى- لهم حتى الصغير منها [وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا] ثم وصف الله هذه الجنة فقال [جَنَّاتِ عَدْنٍ] وليس بستاناً واحداً صغيراً، بل هي جنات، وليست جنة واحدة إنما هى جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة، جنات إقامة، باقية، خالدة، وليست كحال الدنيا التي هي فتبدو مؤقتة؛ فالدنيا مؤقتة، وتنتهي، أما هذه جنات ثابتة، مستقرة، مقيمة، وأهلها يقيمون فيها إقامة لا تنتهي، ولا تنقطع [جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ] وعدها الرحمن، والله -تبارك وتعالى- هنا ذكر اسمه الرحمن ليبين أنه هو الذي وسعت رحمته كل شيء -سبحانه وتعالى- وأن الجنة، هذه الجنة هي من أثر رحمته -سبحانه وتعالى- هدية، ونزل لهؤلاء عباده المؤمنين [عِبَادَهُ] عباد الرحمن الذين حبوا، واتخذوا هذا الطريق إليه -سبحانه وتعالى- الذين آمنوا، وعملوا الصالحات بِالْغَيْبِ يعني وعدهم الله -تبارك وتعالى- وهم لم يروها، هي وعد هي غائبة عنهم لكن الله أخبرهم بأن موعدكم عندي جنة صفتها كذا، وكذا، وكذا، وكذا؛ فهم صدقوها، صدقوا موعود الرب -تبارك وتعالى- فكان هذا جزاؤهم، هذا جزاؤهم أنه صدقوا وعد الله -تبارك وتعالى- وآمنوا به، وعلموا أنه هناك يعني هذه الجنة التي يعدهم الله -تبارك وتعالى- وأن الله سيوفي وعده لهم، ما أصدق من الله قيلا، وما أصدق من الله حديثا؛ فلما آمنوا بهذا، آمنوا بالجنة، وهم لم يروها، وصدقوا موعود الله -تبارك وتعالى- كان هذا لهم هذا الجزاء العظيم {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}[مريم:61] إِنَّهُ الرب الإله -سبحانه وتعالى- كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا إذا وعد الله -تبارك وتعالى- فإن وعده لا بد أن يأتي، لن يخلف الله وعده -سبحانه وتعالى- هل يخلف الله وعده؟! لا؛ فإذا كان الله -تبارك وتعال- قد أثنى على عبده، عبد من عباده، وهو إسماعيل عليه السلام قال: إنه كان صادق الوعد، صفة عظيمة يحبها الله تبارك وتعالى. والرب -سبحانه وتعالى- عندما يعد لا شك أنه يفي-سبحانه وتعالى- ولا يمكن أن يخلف الله وعده، ولا يخلف الميعاد؛ فوعد الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالجنة التي يعني هذه صفتها لا بد أن يكون [كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا] لا بد أن يأتي، ويحضر، وأن الذين وعدوا بدخول الجنة لا بد أن يعني أن يكون، وذلك أن هذا وعد الله -تبارك وتعالى- والله لا يخلف وعده -سبحانه وتعالى- وأنه [كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا].
ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هذه الجنة ببعض صفاتها فقال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:62] يعني قد ثبت، وعلت هذه الجنة، وعلت الحياة فيها بأن كل جنبات الجنة ليس فيها لغوُ واحد {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11] [لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا] اللغو أصل اللغو قيل في لغة العرب، اللغو لغة الطير لأن الطير لما يتكلم كذا يلغو، ما يعرف الإنسان ماذا يقول، واللغو في كلامنا هو الكلام الذي لا طائل تحته، لا فائدة فيه، أو اللغط الذي يكون كلاما يقال هنا، وهنا يسمع، وما عرفة به، إن هي مجرد أصوات؛ فهذا كله صوت لا فائدة منه، أو كلام لا يتأتى منه خير، ولا يدفع به شر كل هذا لا يكون في الجنة، شيء يلغو، وكلام يغطي على كلام لا، [لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا] قط، وقال -جل وعلا- {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11] [إِلَّا سَلامًا إِلَّا سَلامًا] إلا المنقطعة هنا يعني لا يسمعون [إِلَّا سَلامًا] كلاما كله سالم من العيب، والنقص، وكذلك كلاما كله سلم ليس فيه سب، ولا شتم، ولا عدوان كله كلام سلم؛ فأهل الجنة لا يتكلمون إلا مع بعضهم بكلام حسن سالم من كل آفة، وهو سلم بعضهم لبعض لأنه لا بغضاء، ولا خصومة، وبالتالي لا حروب، ولا تباعد، ولا تشاحن لا توجد شحناء بين اثنين قط في الجنة [إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا] لهم لأهل الجنة [رِزْقُهُمْ فِيهَا] رزقهم من الطعام، والشراب، والنعم، والكسوة العظيمة [بُكْرَةً وَعَشِيًّا] يعني في كل الأوقات [بُكْرَةً] البكور هي أول النهار، والعشي هو آخر النهار ففي كل أوقاتهم صباحاً، ومساءً بُكْرَةً وَعَشِيًّا رزقهم موجود، لا ينقطع، ولا هو يحتاج الى سعى، ولا هو محجوب بل طعامهم، ورزقهم كل أنواع الأرزاق التى يعني لا نقول ينالونها بل يتلذذون بها كلها حاضرة في كل الأوقات.
[ تِلْكَ الْجَنَّةُ] تلك بالإشارة للبعيد إشادة بها، وإعلاءً لمنزلتها {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63] نورث، الميراث هو ما يحصله أقارب المتوفي بعده، وينالونه، وقيل الميراث، هو أعظم انتقال للملك، الملك ينتقل من نفس إلى نفس، من شخص إلى شخص بصور كثيرة، بالهبة، بالصدقة، بالبيع، بالشراء يعنى يشترى، لكن أعظم انتقال للملك، الميراث، وذلك أن صاحب الملك الأساسي يعني توفي، وأصبح هذا وقعة، ولذلك قيل أنه لا يوجد شيء يتملكه الإنسان رغماً عنه إلا الميراث يقع به رغماً عنه بقية الأشياء اشترى بالاختيار، والهبة بالاختيار، اختار أن أقبل الهبة، وأرفضها، أقبل الهدية، وأرفضها لكن الميراث يقع فى الملك بل وهو يكرهه، أو لا يريده، يقع فى ملكه. الله -تبارك وتعالى- جعل تملك أهل الجنة، الجنة ميراث يعني خلاص ملك يعني ثابت، واقع في حقهم فهو لا يسترد ليست هناك وسيلة يعني أخرى لأن يسترد، وأن يخرج منها، وإنما ورثهم الله -تبارك وتعالى- وملكهم الله -تبارك وتعالى- يعني ملك ميراث ليس لأنه قد كان يملكها غيرهم، وملكوها، لا، وإنما هذا تمليك من الرب -تبارك وتعالى- هذا تمليك، واعطاء من الرب -تبارك وتعالى- ورثهم إياه، ملكهم إياها -سبحانه وتعالى- هذا الملك الثابت، المستقر، الذى لا يزول بأى وجه من الوجوه {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63] هذا وصف، بهذا الوصف أهل التقوى، أهل مخافة الرب -تبارك وتعالى- الذين كانوا يخافون الله -تبارك وتعالى- ويخافون قيامهم بين يديه -سبحانه وتعالى- وأنه يحاسبهم، وكانوا يبكون على الذنب، ويخافون أنهم سيؤاخذون به، ويسارعون في الخيرات فهؤلاء أهل التقوى الذين سارعوا في الخيرات للرب -تبارك وتعالى- وانتهوا عن السيئات، ويخافون الله -تبارك وتعالى- وقدروا قيامهم بين يديه -جل وعلا- يوم القيامة هؤلاء الأتقياء هم الذين يورثهم الله -تبارك وتعالى- جنته، هذا فاصل ينتهى ثم يأتي فاصل في السورة.
كان نبينا -صلوات الله والسلام عليه- يحب جبريل حباً عظيماً، جبريل الروح الأمين ينزل هذا الوحي من الله تبارك وتعالى الوحي الذى هو هدىً، ونور، وتثبيت، وصلة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين ربه -جل وعلا- هذا كلام نازل له من الله -تبارك وتعالى- وينزل به جبريل الأمين؛ فكان النبي يحب ذلك، يحب جبريل، يحب أن ينزل عليه، والوحي كان يتنزل على النبى -صلوات الله والسلام عليه- حيث يعني الحاجة؛ فينزل وجبريل يزور النبي -صلى الله وسلم عليه- في وقت ما ينزل القرآن، وقد ينزل القرآن أحياناً منجماً، وينزل بأسباب لهذا النزول، وكان النبي، أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جبريل يزوره أكثر مما يزوره؛ فقال لجبريل ألا تزورنا أكثر مما تزورنا يعني هلا أكثرت يعني من الزيارة، والنزول إلى النبيي -صلوات الله والسلام عليه- فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(64) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم:65] وَمَا نَتَنَزَّلُ جبريل عليه السلام يتنزل يعني المرة بعد المرة [إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ] جبريل وملائكة الرب -تبارك وتعالى- لا ينزلون من السماء إلى الأرض إلا بأمر الله -تبارك وتعالى- فإنهم لا يتحركون حركة، ولا سكون إلا بأمر الله؛ فهم مطيعون لله -تبارك وتعالى- طاعة يعني مطلقة، وقيامهم كله، وسيرهم كله في أوامر الرب -تبارك وتعالى- وأن عملهم في مثل نزولهم إلى الأرض، وصعودهم، وعروجهم إلى السماء ليس أمراً اختيارياً يوجهونه من أنفسهم، وإنما لا يتحركون مثل هذه الحركة، ولا عن هذا الفعل إلا بأمر الله -تبارك وتعالى- وهذا الملائكة أقامهم الله -تبارك وتعالى- فيما أقامهم فيه، كلٌ قام بالعمل الموكل به بحسب أوامر الرب -تبارك وتعالى- وليس لهم خيار في أن ينتقلوا هنا، ويفعلوا هنا باختيار منهم، وبإرادة من عند أنفسهم.
[وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ] الرب الإله الذى لا إله إلا هو [مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا] يعني نحن ملك له -سبحانه وتعالى- وكل تصرفاتنا إنما هي ملك لله -تبارك وتعالى- ولا تقع إلا بأمره؛ فما بين أيدينا سواء في الزمان، وفي الأشياء، وما خلفنا زماناً، ومكاناً كله لله -تبارك وتعالى- [وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] وما كان ربك نسياً، الله -تبارك وتعالى- لا ينساك، وإنما أنت يعني في ذكره، وتصنع على عينه، والله -تبارك وتعالى- محتفٍ، ومعتنٍ بعبده، ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- ولا ينساه الله -تبارك وتعالى- ونزول جبريل دائماً يكون حيث يعني النبى -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، وهنا أمر جديد من الله -تبارك وتعالى- له، وأما أن الله -تبارك وتعالى- يعني يترك رسوله، أو ينساه، قالوا لا لست في محل نسيان من الرب تبارك وتعالى وإنما أنت يعني فى ذكره؛ فالله تبارك وتعالى جعل النبي يعني كما قال -جل وعلا- يعني [فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] فهو بعين الرب -تبارك وتعالى- وبحمايته، ورعايته -جل وعلا- وفي هذا يعني تطمين، وتقريب للرسول من ربه -جل وعلا- وما بين ذلك [وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] يعني هذا الرب الذي أنزل عليك هذا الكتاب، وأنزل عليك هذه الرحمة هو رب السماوات، والأرض، ومالكها، خلقها، وهو يملكها، وهو المتصرف فيها -سبحانه وتعالى- السماوات كلها السبع، [وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ما بين السماوات، والأرض من مخلوقات، ومن أجرام [فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ] عليه فَاعْبُدْهُ يعني الرب الذي بهذه العظمة، وهذه المكانة الذي ليس كمثله شيء رب السماوات، والأرض خالقك، رب الملائكة، والروح هذا يجب أن تعبده، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرتضيه من الأقوال، والأعمال يعني إصرف كل هذه العبادة لله -تبارك وتعالى- أعبده، قم بهذا.
[وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ] الصبر معروف حبس النفس عن المكروه، والقيام بالأمر الذي تكرهه النفوس، والإنسان يعني يقوم به، ويصبر، ويلزم نفسه به، وهنا في اصطبر زيادة الطاء هى اصبر، اصطبر زيادة الطاء، ودائماً فى اللغة زيادة المبنى هو دليل زيادة المعنى؛ فمبنى الكلمة هنا من اصبر الى اصطبر بزيادة الطاء لزيادة المعنى يعني إصبر صبراً عظيماً [لِعِبَادَتِهِ] فإن في بعض يعني هذه العبادات فيه نوع من المشقات فيها أمر على خلاف هوى النفوس، وفيها أمر المشقة كما قال الله لرسوله {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]. فقيام الليل، والجهر بالدعوة، ومقابلة المشركين، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيله، وتعريض النفس لهذه المخاطر العظيمة من القيام بشأن الدين، والصوم من الصبر، والحج جهاد كل العبادات إنما تقوم على أساس من الجهد، بذل الجهد، وتحتاج للقيام بها على وجهها صبر، ومصابرة [وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ].
{........هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم:65] لا مسامية لله، السمي هو المسامي، الشبيه، والند، والنظير، والسؤال هنا للنفي لأنه ليس لله سمي يعني هل تعلم أن هناك مسامياً لله -تبارك وتعالى-؟! من صفته صفته، خالق للسماوات، والأرض، رازق، محيي، مميت، الملك الذي يعني لا يخرج عن ملكه ذرة ليس هناك من أحد يشارك الله -تبارك وتعالى- فى هذه الصفات، وبالتالي، أو مسامي لله -تبارك وتعالى- أو مشابه له -جل وعلا- إذا هو الرب المتفرد -سبحانه وتعالى- بصفاته؛ فهو الله الذي لا إله إلا هو، رب السماوات، والأرض، رب العالمين، العظيم، الذي لا أعظم منه الكبير، الذي لا أكبر منه -سبحانه وتعالى- الذي ملك كل شيء، وذل له كل شيء، خضع له كل شيء، والذي ليس هناك له شبيه، ولا نظير، ولا كفءُ، ولا ند، ولا معاند، ولا هناك من يستطيع أن يعاند أمره، ولا أن يرفض حكمه بل حكمه نافذ فى الجميع {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83] فما دمت أنك لا تعلم سمياً لله -تبارك وتعالى- إذا هذا هو الرب الذى يجب عليك أن تعبده، وأن تكون له.
[هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] هذا فاصل جاء في هذا، وكأن هذا الفاصل فى سياق هذه السورة يعني المحببة للنفس التي ذكرها الله تبارك وتعالى فيها يعني هذه الطائفة العظيمة من يعني أنبياءه، ورسله، وأولياءه، وكيفية عناية الرب -تبارك وتعالى- بها أنظر كيف اعتنى الله بعناية الرب بزكريا، عنايته بيحي، عنايته بمريم عليها السلام، عنايته -سبحانه وتعالى- بهؤلاء الرسل فحديث ندي عظيم لأن فيها ذكر رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين، وما أعد لهم من هذه الجنة، وتحرير من يعني الخروج عن طريق هؤلاء، وفيها يعني جاء هنا يعني طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- من جبريل أن يزوره أكثر مما يزوره، وينزل بهذا الوحى العظيم من الله -تبارك وتعالى- انتهى هذا الفاصل.
ثم يبين الله تبارك وتعالى بعد ذلك يعني حال الإنسان الكافر { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }[مريم:72].
وَيَقُولُ الإِنسَانُ الكافر، هذا الإنسان الكافر يقول هذه المقالة البعيدة، في الضلال، والغي، والإثم [أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا] سؤال يراد به الاستبعاد، والاستنكار [أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا] مرة ثانية يستبعد هذا، وقد كان الكفار، العرب، المشركين كلهم مجمعون على هذه المقالة {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}[النمل:66] كلهم، لم يكن فيهم إلا أفراد قلة ممن سعوا في الأرض يبحثون عن الدين؛ فهدى الله -تبارك وتعالى- بعضهم إلى الدين الحق، كزيد بن عمرو بن نفيل، والذي بقي على الحنيفية ملة إبراهيم، وأن لله -تبارك وتعالى- دين غير دين هؤلاء الذين عليه، وكذلك ورقة بن نوفل الذي هداه الله تبارك وتعالى ودرس التوراة، ودرس الإنجيل، وآمن بعيسى بن مريم عليه السلام، وآمن بالرسل قبل ذلك، وقد لحقه النبي، وقد نُبئ النبي، ولم يرسل بعد، أما بقية العرب فقد كانوا قد أطبقوا على الشرك، والكفر، وإنكار البعث كلهم منكرون للبعث، وأن ليست إلا هذه الحياة {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}[الأنعام:29] {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ........}[الجاثية:24] خلاص كبر السن، وهذا طول العمر، هو الذي يكون نهاية المطاف، ولا حياة بعد ذلك فهذه مقالة الإنسان الكافر، وهذه مقالة العرب عموماً الذين أطبقوا على هذه المقالة يقولون [أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا].
قال -جل وعلا- {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}[مريم:67] تذكير بالنشأة الأولى، وردهم على مقالتهم فى انكار النشأة الثانية؛ فالنشأة الثانية بعد الموت، والنشأة الثانية إنما هى اعادة لأمر قد كان موجوداً، وأما النشأة الأولى فإنما هي إنشاء لأمر لم يكن موجوداً أصلاً، ولا شك أن إعادة الشيء أهون من بدئه من البداية ؛ فالله ذكر هذا الإنسان الكافر؛ فقال [أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ] هذا الكافر [أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ] أنشئناه هذا النشأة [وَلَمْ يَكُ شَيْئًا] لم يكن موجوداً أصلاً؛ فكيف يكذب بالنشأة الثانية، والحال أن النشأة الثانية إنما هي تبع للنشأة الأولى.
نقف عند هذا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله محمد.