الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول
الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127]، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:128]، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129]، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ}، أي اذكروا {إِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، ورفع القواعد؛
قواعد البناء، يذكِّر الله -تبارك وتعالى- بأن إبراهيم -عليه السلام- كان هو
وإسماعيل يرفعان القواعد، قواعد البناء من البيت؛ بيت الله -تبارك وتعالى- الحرام،
في مكة المكرمة، وهما يدعوان الله -تبارك وتعالى- قائلين {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، صورة
ينقلها الله -تبارك وتعالى-، يصوِّرها لنا، صورة إبراهيم -عليه السلام- وابنه
بكرُّه إسماعيل، ابنه من زوجته هاجر، يرفعان قواعد البناء وهما يدعوان الله -تبارك
وتعالى- قائلين {رَبَّنَا}، أي يا ربنا، {تَقَبَّلْ مِنَّا}، أي تقبل منا عملنا هذا في أن شرفتنا
ببناء بيتك الحرام، الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه سيكون مثابة للناس وأمنا،
مكان يثوبون إليه، مكان لإثابة الناس، ومكان آمن لعبادة الله -تبارك وتعالى-، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ}، إنك أي يا ربنا خطاب منهم إلى الله -تبارك وتعالى-، أنت
السميع لدعائنا، العليم بقلوبنا وبأحوالنا، وأننا نفعل مخلصين نياتنا لك، وهذا
أعظم ما يدعى به الرب -تبارك وتعالى- في وقت الدعاء، أن يوصف الرب -سبحانه وتعالى-
بأنه السميع للدعاء، العليم -سبحانه وتعالى- بأحوال الداعي.
{رَبَّنَا}،
تتمة لدعائهم أي يا ربنا، {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ
لَكَ}، اجعلنا مسلمين لك، دعوا الله -تبارك وتعالى- يجعلهما من الجعل أي
التصيير والتوجيه، وأن يقيمهما على هذا النحو، مسلمين منقادين مذعنين، الإسلام
بمعناه العام الذي هو دين الله -تبارك وتعالى-، الذي لا يقبل من أحدٍ سواه، وهو الإذعان
له والاستسلام له، فهذا الدين الذي هو دين الله، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ}، فكل عباد الله
المؤمنين من أول آدم إلى آخر مؤمن ومسلم هم مسلمون بهذا المعنى، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، منقادَين مذعنين خاضعين مُنَفِذين لأمرك، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، أي أنشئ
يا رب وأخلق وهيئ من ذريتنا، ذرية إبراهيم وإسماعيل أمَّة؛ الأمة الجماعة العظيمة،
مسلمة كذلك أي دينها هو الإسلام لك، {وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا}، دعوا كذلك بأن يريهم الله -تبارك وتعالى- المناسك، وهي
العبادة التي يريد الله -تبارك وتعالى- أن يشرعها لعباده في هذا المكان، في بيته
الحرام، {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، التي ننسكها،
من طوافٍ، ومن سعي، ومن وقوفٍ بعرفة، ومن رمي للجمار، ونحو ذلك مما شرعه الله -تبارك
وتعالى- لعباده أن يقوموا به، العبادات التي شرعها الله -عز وجل- أن يقوموا بها في
هذا المكان -في بيته-، {وَتُبْ عَلَيْنَا}، هذه
دعاءٌ بالاستغفار، تب علينا أي اغفر لنا ذنوبنا، واقبل توبتنا ورجوعنا إليك، فالله
هو التواب، والعبد يسمى تواب، التواب كثير التوبة، والتوبة هي الرجوع، فالعبد تواب
كثير الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والله تواب يقبل توبة عبده -سبحانه وتعالى-
إذا رجع إليه، {وَتُبْ عَلَيْنَا}، اقبل رجوعنا
وإنابتنا إليك، {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}،
وصف لله -تبارك وتعالى- بأنه هو التواب، كثير قبول التوبة عن عباده مهما كان منهم
من الذنب، فإذا رجعوا إليه فإن الله -تبارك وتعالى- يقيل عثره، ويقبل العبد ويمحو
الذنب -سبحانه وتعالى- الرحيم بعباده، وقبوله للتوبة هو من رحمته -سبحانه وتعالى-،
فهما صفتان متلازمتان، هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- أنه تواب.
{رَبَّنَا}، أي يا ربنا، {وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، دعوا الله -تبارك وتعالى- بأن يبعث الله في
هذه الأمة التي تكون من ذريتهما رسولًا منهم، منهم؛ من هؤلاء القوم، من نفس هذه
الأمة، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}، صفة هذا الرسول الذي دعوا الله -تبارك
وتعالى- أن يخرجه من هذه الأمة، أن يكون {يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}، يتلو يقرأ، عليهم على هذه الأمة، آياتك المنزَلة، آياتك
التي تنزلها عليه، وآيات الله -تبارك وتعالى- أشمل، فآياته في الخلق آياته
المسموعة، هذه الآيات المسموعة، وآياته المنظورة هي خلقه -سبحانه وتعالى-، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ}.
من صفة النبي أن معلم
للكتاب المنزَل والحكمة، قالوا الحكمة هي السنَّة، وأصل الحكمة...، الحكمة في لغة
العرب مأخوذة من الحَكَمَة؛ والحَكَمَة هذه الحديدة التي تكون في حنك الفرس في
اللجام، وسميت -هذه الحديدة- بالحَكَمَة لأنها تحكم ضبطه، وتمنع جموحه، ونقلها
للحكمة فيما يعطاه الإنسان أنها ملكة وعلم، يضبط تصرف الإنسان، فيمنعه من الميل
والزيغ والطيش، فالحكيم هو صاحب العلم الذي يضع الأمور في نصابها، ولا يخرج شيء عن
أعماله عن الصواب، وعن أنه في مكانه الصحيح، ولا شك أن الكتاب نازلٌ بالحكمة،
فكتاب الله -تبارك وتعالى- إنما هو العلم الكامل، الذي مينع متعلمه والقائم به أن
يضع أمرًا في غير نصابه، وقد نزل على النبي الحكمة، ونزل كذلك وحيٌ أخر، هو الذي
عُلِمَهُ النبي غير القرآن، وهو سنَّته -صلوات الله والسلام عليه-، السنَّة، ولذلك
قال من قال من أهل العلم أن الحكمة تأتي للسنَّة، السنَّة وهي كل وحي من الله -تبارك
وتعالى-، الكتاب مقروء، والسنَّة تتعلم، وكلها من الله -تبارك وتعالى-، فالكتاب من
الله والحكمة من الله، والحكمة هي سنَّة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فيعلمهم
الكتاب ويعلمهم الحكمة، فإذا كانت الحكمة من الكتاب، يكون من باب عطف الشيء على
نفسه بتعدد أوصافه، فهذا وصف للكتاب كذلك بأنه قد جاء بالحكمة، وإذا كان غيره
فيكون غيره وحيٌ أخر، يوحيه الله -تبارك وتعالى- إلى النبي، وهذا الوحي هو من العلم
المحكم، الذي يجعل صاحبه حكيمًا، يضع الأمور في نصابها.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}،
يزكيهم أي هذا النبي يطهرهم، الزكاة هي الطهارة، والطهارة التي جاء بها الدين هي
طهارة النفس زكاة النفس، والدين كله لهذا المعنى، فالدين كله لتزكية النفوس، فالإيمان
بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده وتعظيمة زكاة للنفس، كما الشرك نجاسة وقذارة، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، من نجاسة قلوبهم واعتقادهم،
فإن من جحد الرب -تبارك وتعالى- جحد نعمته هو نجس، من أشرك بالله -تبارك وتعالى-
وجعل لله ند نجس، هذه نجاسة معنى، إذ يجعل للإله الرب الذي لا شبيه له ولا ند له،
يجعل له ند وشبيه، ولذلك قيل أن قال النبي عندما سأله عبد الله بن مسعود، يا رسول
الله أي الذنب أكبر؟ أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، هذا أعظم نجاسة، أعظم ذنب، قيل ثم
أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، فهذا إجرام فظيع جدًا، أن يعمد الإنسان
إلى قتل ابنه -ولده-، خوفًا أن يشاركه طعامه، خوفًا الرزق، قلت ثم أي؟ أنت تزاني
حليلة جارك، فهذه الذنوب كلها نجاسة، الإسلام والدين طهارة، طهارة معنى وطهارة حس،
فالإيمان بالله-تبارك وتعالى- وتوحيده وتقديسه طهارة؛ طهارة نفس، والخلق الذي جاء
به الإسلام من الصدق والأمانة، وصلة الرحم، والبر والإحسان للوالدين، والإحسان إلى
الناس، والبعد عن كل الأدناس، هذه زكاة، فيأتي هذا النبي من مهمته ويزكيهم، فالنبي
هذه مهمات النبي، جمع هنا مهمات النبي، أنه يتلو عليهم آياتك، يعلمهم الكتاب
والحكمة، ويزكيهم، يطهِّر نفوسهم بالدين، {إِنَّكَ}
أي يا رب، {أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب، العزَّة
في لغة العرب معناها الغلبة، ومنه قول العرب "من عزَّ بز"، يعنون من غلب
استلب، فإن من يغلب عندهم كان يسلب الأخرين، فمن عز أي من غلب، فالعزيز الله؛
العزيز أي الغالب، الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، {الْحَكِيمُ}،
الذي يضع كل أمرٍ في نصابه -يضع كل أمرٍ في نصابه-، وجمع هنا بين العزَّة والحكمة
أن هذا الأمر لا يقدر عليه غيرك، وهو أن ينشئ من الذرية أمة، ثم يخرج منها رسولًا
يتلو عليهم آياتك، هذا أمر لا يقدر عليه ولا يفعله إلا الرب، الرب الإله -سبحانه
وتعالى-، العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، والحكيم الذي يضع كل أمرٍ في نصابه،
يضع النبوة في مكانها، والهداية في مكانها، كما يكون الإضلال كذلك منه لمن يُضِل
في مكانه.
هذا الدعاء الذي دعى
به إبراهيم وإسماعيل هو أعظم دعاء، لعله أعظم دعاء بركة في القرآن، وفيما نعلم من
أدعية البشر جميعًا والرسل والأنبياء، لأنه قد تحقق بهذا الدعاء من البركات ما لم
يتحقق به أي دعاء أخر، دعاء بأن ينشئ الله -تبارك وتعالى- أمة، ثم يرسل رسول، وهذا
الرسول يقوم بهذه المهمة العظيمة، ما أثر هذا الدعاء؟ النبي محمد -صلوات الله
والسلام عليه- وهو في بشريته سيد ولد آدم، وفي فضله أعلى الرسل مكانة وأفضلهم، وأكثرهم
تابعًا، لم يتَّبع الرسل جميعًا مثل ما اتبعه هو، فأمته أكثر من كل الأمم، من كل
أمم الهداية، وتحقق على يديه من الخير للبشر أمر عظيم جدًا، فهو رحمة الله -تبارك
وتعالى- للعالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، فانظر فضل النبي، فضل هذه الأمة، ما قام على يد هذه الأمة
من الخير -من الخير- للناس كلهم، من عبادة الله -تبارك وتعالى- وتوحيده وتقديسه،
والبر الذي حصل في الأرض، والخير الذي عمَّ الله -تبارك وتعالى- به ليس البشر فقط،
بل حتى النبات والحيوان والأرض، فالإيمان كله بركات، انظر هذا إنما كل خُلقٍ كريم
وقع في الأرض إنما هو أثر، من آثار بعثة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-،
وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أثر لهذا الدعاء الكريم، الذي دعى به إبراهيم
وإسماعيل، ولذلك لما سُئل النبي عن أول شأنه، قال أنا دعوة أبي إبراهيم، أنا أي
كوني رسول أُرسلت إلى الناس، أنا تحقيق من الله -تبارك وتعالى- للدعوة التي دعى
إبراهيم -عليه السلام- بها ربه، قال هو وإسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:128]، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ}،
أي في هذه الأمة التي هي من الذرية -من ذرية إسماعيل-، {........ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129]، فهذه أعظم دعوة بركة من كل الدعوات التي قالها بشر، وهذا من
توفيق الله -تبارك وتعالى- إلى إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.
وهنا قال الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ}، سؤال يراد به التقبيح والتأنيب والتقريع، {مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ}، والجواب لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، مَن مِن صيغ
العموم تعم كل أحد، يرغب عن؛ رغب عن بمعنى كره وأبغض ومال ولم يحب، ورغب فيه بمعنى
أحبه، أقول رغبت في هذا الأمر أي أحببته، ورغبت عنه أي كرهته، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ}، أي لا يريدها ويتركها
ويهجرها، وملة إبراهيم هي منهجه وطريقه وصراطه المستقيم، وملة إبراهيم هي التوحيد،
هي أنه قد دعى إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، وعبادته وحده لا شريك له، ودعى لأن
يكون مسلمًا لله -تبارك وتعالى-، فهذه ملته التي آمن بها، والتي دعى الناس إليها، فالذي
يرغب عن هذه الملة توحيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته، لا يرغب عن ذلك إلا السفيه،
من سفه نفسه، السفه هو الخفة والطيش، يقال ثوبٌ سفيه أي أنه صفيق خفيف، وصاحب
العقل الخفيف الضعيف يقال له سفيه، فالسفيه ضعيف العقل قاصر الفهم، الذي لا ثقل في
عقله يزن به الأمور، فهذا الطائش أي الخفيف، هذا هو الذي يبتعد عن ملة إبراهيم،
وذلك أنه يترك الفلاح والخير والنجح والفوز العظيم، ومهما استعاض عنه استعاض
بالتافه من الأمور، استعاض بهذه الحياة الدنيا، بأي دينٍ غير التوحيد، فهذا قد أخذ
الخسران، وترك الربح والفوز، فهذا السفيه يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن السفيه كل
السفيه من ترك ملة إبراهيم في توحيده لله -تبارك وتعالى- وإسلامه له، واستعاض وأخذ
دينًا أخر.
قال -جل وعلا- {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}، ولقد اصطفيناه
اخترناه، الاصطفاء هو الاختيار والاجتباء، أي اخترناه هو من كل البشر، اختاره الله
-تبارك وتعالى- واجتباه، وفضَّله على العالمين، فهو خير البرية -صلوات الله
والسلام عليه-، كما قال رجل إلى النبي فقال له "يا خير البرية"، فقال له
ذاك إبراهيم -عليه السلام-، ذاك إبراهيم أي أنه خير البرية، البرية هي الخلق، فهو
خير خلق الله -تبارك وتعالى-، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ولا شك أن محمد -صلوات الله والسلام عليه- خيرٌ
منه، يقول النبي ذاك إبراهيم، هو تواضع من النبي-صلوات الله والسلام عليه-، لا شك
أن إبراهيم هو خير البرايا، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- خير البرايا، لكن بالتفاضل
بين الخليلين، هذا خليل الله، وهذا خليل الله، محمد خليل الله لا شك أنه أفضل
وأعلى من أبيه بأدلة كثيرة تأتي في مكانها، الشاهد أن قول الله {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}، اختاره الله -تبارك
وتعالى-، فضَّله على العالمين، فضَّله بالرسالة، جعله إمامًا للناس، جعل النبوة
كلها بعد ذلك في ذريته، هذا اصطفاءٌ عظيم له من الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -تبارك
وتعالى- {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}،
إنه تأكيد من الرب -جل وعلا- عن إبراهيم، في الآخرة؛ الآخرة يوم القيامة، سميت
الآخرة لأنها نهاية المطاف، كلٌ يضع عصا التسيار، كلٌ يضع عصاه ويستقر مستقر، فأهل
الجنة مستقرون فيها، لا رحيل عنها، ولا ما في نُقلة أخرى، وأهل النار خلاص هذا
مقرهم، وهذه مستقرهم، لا نُقلة عن النار، فأهل الجنة خلودٌ فلا موت، وأهل النار
خلودٌ فلا موت، سميت الآخرة لأنها خلاص هي نهاية المطاف، لا تحوّل إلى دارٍ أخرى،
فلا موت بعد ذلك ولا حياة أخرى، ولا نظام آخر للحياة لا، هذا هو الأمر الأخير، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}،
الصالحين جمع صالح، وهو العبد الذي صلحت أحواله بدين الله -تبارك وتعالى-، والالتزام
بشريعته، ووصفه وصف الله -تبارك وتعالى- هنا له بأنه من الصالحين، هذا تعظيم لمسمى
الصلاح، وأن هذا مسمى الصلاح ممكن أن يُسمى به كل عبد صالح لله، وإن لم يكن نبيًّا
ولا رسولًا، فإن عباد الله -تبارك وتعالى- الذين آمنوا واتبعوا الرسل، كلهم مممكن
يطلق عليه لفظ الصلاح من الصالحين، فإدخاله وهو أفضل البرية في مسمى الصالحين رفع
لشأن هذا المسمى، وذلك يجعل المؤمن الذي ينال هذه الصفة سعيدٌ بها، وأنه مع خليل
الرب -جل وعلا-، ومن اختاره الله -تبارك وتعالى- ليكون خير براياه، وخير خلائقه، كما
قال -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69]، فهذه مجموعة، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، أي اذكروا {إِذْ قَالَ لَهُ}،
قال الله -تبارك وتعالى- لإبراهيم، {أَسْلِمْ}،
أسلم أي استسلم لله -تبارك وتعالى-، افعل ما يأمرك به، فالإسلام هو دين الله -تبارك
وتعالى- تصديقٌ وطاعة، صدِّق ما يقال لك من الله -تبارك وتعالى-، أطع أمر الله -عز
وجل-، هذا الاستسلام، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}،
قال إبراهيم مؤمنًا ومعتقدًا ومجيبًا للرب -جل وعلا- أسلمت لرب العالمين، ووصف
الله -تبارك وتعالى- هنا بأنه رب العالمين لأن هذا هو الذي يسلم له، فأنا مسلم لله
رب العالمين، رب العالمين ربهم، الرب خالقهم، مالكهم المتصرف فيهم -سبحانه
وتعالى-، والعالمين جمع عالم، كل هذه العوالم في العلو في السفل، الملائكة، الجن،
الإنس، السماوات، الأرض، الله رب الجميع، رب جميع هذه العوالم -سبحانه وتعالى-، وهو
الذي يستحق أن يسلم له، ولا يحق للعبد أن يسلم إلا لمن هذه صفته، إلا لرب العالمين،
أما إذا كان مخلوق فإن الإسلام له والانقياد له والاذعان له، اذعان الإسلام والانقياد
الكامل هذا لا يحق له، لأنه هذا ظلم، وضعٌ للشيء في غير محله، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
قال -جل وعلا- {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ}[البقرة:132]،
هذه الوصية التي أوصى الله -تبارك وتعالى- بها إبراهيم بأن يسلم له، ودعاء إبراهيم
أنه قد أسلم لرب العالمين، الله يخبر بأن إبراهيم وصى بها بنيه، فوصية الله التي
أوصى بها إبراهيم هي التي وصى بها إبراهيم بنيه، {وَيَعْقُوبُ}، يعقوب من أولاد إبراهيم، والله هنا ينُّص
عليه بأنه كذلك وصى بنيه كذلك بهذا، فهذه السلسلة المباركة من هؤلاء الأنبياء ذرية
بعضها من بعض، إبراهيم يوصي بنيه، وبنيه الذين شاهدهم إبراهيم، هو إسماعيل بكرُهُ
وإسحاق، إسماعيل من هاجر المصرية، وإسحاق من سارة، إبراهيم وصى بنيه، وصى إسحاق،
وأوصى إسماعيل وإسحاق كذلك بأن يسلما لله -تبارك وتعالى-، يعقوب هو ابن إسحاق، يعقوب
كذلك وصى أبنائه وهم الاثنى عشر؛ الاثنى عشر هم أسباط بني إسرائيل، هؤلاء الأسباط
هم بنو إسرائيل أي أولاد يعقوب، كذلك هو وصى بنيه قائلًا لهم، يعقوب قائلًا لبنيه {يَا بَنِيَّ}، أي يا أولادي، يا أولادي {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}، اصطفاه لكم
اختاره لكم، أو اختاركم للدين، فاختاركم لتكونوا أهل دينه، أهل رسالته.
{فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أي
تمسكوا بهذا الدين الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- لكم، وهو أعظم اختيار وأعظم
نعمة، هو الفلاح، هو الفوز، فهذا يذكِّرهم بنعمة الله -تبارك وتعالى- التي اختارهم
لها، واختار هذا الدين لهم، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، معناه تمسكوا بهذا الدين حتى يأتيكم الموت وأنتم
على ذلك، لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، فلا يمكن أن يأتيه الموت وهو مسلم
إلا إذا ظل متمسكًا بهذا الإسلام حتى يدركه الموت وهو على هذا، فهذه وصية من يعقوب
أن يتمسكوا بالدين، وأن يكونوا مسلمين حتى يأتيهم الإسلام وهم كذلك، وكل هذا في
معرض الرد على اليهود الذي ادعوا ما ادعوا، يخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأن أباهم
الأعلى إبراهيم، كان مسلمًا، حنيفًا مسلمًا لله -تبارك وتعالى-، وأباهم الذي
ينسبون إليه يعقوب كان مسلمًا لله -تبارك وتعالى-، وأنه أوصى بنيه بالإسلام لله -جل
وعلا-.
نقف عند هذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.