الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (371) - سورة طه 22-39

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول -تبارك وتعالى- {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه:39]

يخبر -سبحانه وتعالى- أنه نادى عبده، ورسوله موسى عليه السلام في الطور، عندما كان موسى عائداً من مدين إلى مصر، وأن الله -تبارك وتعالى- حمله هذه الرسالة، قال له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًىوَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) }[طه:] أراه الله -تبارك وتعالى- هذه العصا التي هي عصا عادية هذه صفاتها، وليست عصا نازلة من السماء، كما قاله بعض من يفسرون القرآن، بل هب عصا كان اتخذها موسى، وأراه الله تبارك وتعالى في هذه الآية قال: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى}[طه:19]{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}[طه:20]{قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}[طه:21]{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِك........}[طه:22]  أدخلها فى جيبك [تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] أي بغير برص {........آيَةً أُخْرَى}[طه:22]{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}[طه:23]

 ثم قال له الله -تبارك وتعالى- {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24] بعد أن عرفه الله -تبارك وتعالى- أنه الذي يكلمه، وأنه اختاره لهذه الرسالة، ووعظه في أن يعمل للساعة، وأن لا يسمع إلى أحد أن يصده عن هذه الساعة فلا يصدنك قال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[طه:16] بعد أن علمه الله -تبارك وتعالى- هذا التعليم، وأراه هاتين الآيتين من آياته -سبحانه وتعالى- وأخبره بأنه سيرى من آيات ربه الكبرى بعد ذلك عرفه وجهته، ولماذا يرسله، قال له الرب -تبارك وتعالى- {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24] فرعون هو اللقب، الوصف الذي يطلق على كل من ملك القبط في القديم، ملوك القبط فراعنة، الواحد فرعون، كما أن ملوك الفرس أكاسرة الواحد كسرى، وملوك الروم قياصرة، والواحد قيصر {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24] الطغيان مجاوزة الحد، تقول العرب طغى الماء فى النهر يعنى جاوز حده، كان يمشي بحدود معينة؛ فإذا زاد، وخرج عن عن الشطئان، يقال طغى الماء، ومنه قول الله {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11] طغى ارتفع، وعلى حتى ذهب قمم الجبال، فرعون طغى جاوز حده، جاوز حده بأمور كثيرة جداً، أولاً في إنه إله الناس، أنه ربهم الأعلى، هو الإله الخالق، هو معبودهم، وهو متولي شئونهم، وخالقهم؛ فقد قال الناس: يا أيها الناس ما علمت لكم من إله غيرى، وأمر الناس بعبادته، كذلك أنه الآمر الناهي لا يأمر إلا هو {........مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29] فالذي يجب أن تروا، ما أرى أنا، وطريقي هو طريق الرشاد؛ فلا، لا اعتراض يعني لا يريد أن يعترض عليه أحد، ولا أن يشير عليه أحد، وهو كذلك الطريق الذي يقوله هو الطريق الأمثل الذى لا طريق مثله، هذا طغيان، كذلك من طغيانه الظلم الذي أوقعه على بنى إسرائيل بتخوفه هو، وقومه أن ينفسوهم، وأن يعلوا عليهم، وقول الناس متنبئين بأنة سيأتي منهم من يأخذ، من يقتله، من يسلبه ملكه؛ فبدأ يقتل الذكور، ويترك بناتهم حيات ليكون هذا أدعى إلى ذلهم؛ فإن القوم، والجماعة التى تكثر نسائها، ويقل ذكورها، ويكونوا مدعى لأن يذلوا أو يهانوا  كما قال -جل وعلا- {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4] فهذه أنواع من الطغيان، طغى بكل أنواع الطغيان، جحوده الرب الإله -سبحانه وتعالى- وجعله نفسه مكان الرب، وأنه هو الرب الذي يأمر، وينهى، ويستحق العبادة، وكذلك يعنى تقسيمه الناس الذين يعيشون في مملكته إلى  أقسام، شيع، ويأخذ هذه الشيعة بني إسرائيل؛ فيفعل بها المنكرات قتل الذرية، ومن سومهم سوء العذاب {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24] إذن هذه يعني غرض، وهدف اختيار الرب -سبحانه وتعالى- لموسى، وهذا أمر لا شك أنه شاق، وصعب إن رجل مثل موسى، وهو من بنى إسرائيل من المستضعفين، وأن يذهب إلى هذا الطاغية المتأله، المتجبر، الذي لا يسمح بأن يعترض عليه، وأنه يقول لقومه أنا {........مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29] والذي يقتل بني إسرائيل هذا التقتيل، ويفعل بهم هذا الصنيع، يذلهم هذا الذل، أن يذهب إليه، يقول الله -تبارك وتعالى- {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:24].

 فما كان من موسى عليه السلام إلا أن قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25] قبل الأمر وقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25] وهذا أول دعوة يدعوها، وأول طلب يطلبه من الله -تبارك وتعالى- يدل على يعنى توفيقه، وذكائه المفرط، وحنكته، وفهمه للأمور؛ فأول شئ {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25] وشرح الصدر هو توسعته حتى لا يضيق،  لأنه لا يقوى على مجابهة هذا الطاغوت العظيم إلا من كا ذا صدر منشرح يتحمل هذه المجابهة، ويتحمل الأذى، ويقوى على هذا الأمر، ويفصل، قد يقابل بشبه، وأمور عظيمة؛ فيكون عنده من سعة الصدر ما يمتص هذه الصدمات، وأن يجيب الإجابة الصحيحة فقال {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25]{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}[طه:26] أمر شاق، وصعب يحتاج إلى تيسير، الرب سبحانه وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أمري كله، كيف أصل إلى الغاية، والهدف بأقصر الطرق، وبأحسن الوسائل [وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي] اجعل كل أمري ميسر، وخاصة هذا الأمر الذي هو أمر هذه الرسالة المكلف بها من الرب -تبارك وتعالى- {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}[طه:27]{يَفْقَهُوا قَوْلِي}[طه:28] الحل الفك يعني ارفع هذه العقدة التي في لساني، العقدة كان ثقيل اللسان، وقيل، وسيأتي في حديث الفتون إن شاء الله أنه قد أخذ جمرة من الطبق الذي قدمه فرعون له، قدم له تمر، وجمر لما انتزع خصلة من لحيته، وقال هذا الولد هو الذي سيقتلني؛ فقالت زوجته، لا يعرف التمر من الجمر؛ فقدم له إناء، قال يقدم له التمر، والجمر إذا أخذ، مد يده على التمر يكون هو مدرك، ومميز؛ فمد يده على الجمرة، وأخذ الجمرة، ووضعها في فمه ، وهو أخذ قالوا إنه أخذ جبريل بيده ودعه في الجمر حتى ينجو؛ فحرقت لسانه؛ فأصبح في لسانه ثقل منذ ذلك الوقت، ولأجل ذلك يقول بعد ذلك فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52] ويبدو أنه يعيره بهذا الأمر الأول، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- حل عقدة {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}[طه:27] أي لأستطيع أن أفصح، وأتكلم عما أريد {يَفْقَهُوا قَوْلِي}[طه:28] حتى يفقهوا عني ما أريد، واطلب يسمعوا قولي، يفقهوا قولي؛ فيوفق إلى أن يقول القول الذي يستطيع هؤلاء أن يفقهوه، وأن يفهموه فهما كاملاً عنى.

 ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي}[طه:29] الوزير المعين، الذي يتحمل الأوزار، الأحمال عن الملك، ومنه وزير الملك، وهو الذي يتحمل أحمال الملك مع الملك {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي}[طه:29] وطلب هذا الوزير أن يكون من أهله لأنهم أقرب إليه، أحرص له على الخير، أكثر عون له من أن يكون هذا المعين الذي يعينه من أناس بعيدين في النسب عنه؛ ثم اقترح أن يكون أخوه، قال: {هَارُونَ أَخِي}[طه:30] فاختار أخاه أن يكون هو وزيره، وهو الذي يختاره الله -تبارك وتعالى- ليكون يعني معيناً، وعضداً له {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[طه:31] طلب من الله -تبارك وتعالى- أن يختار، وأن ينبئ معه، يرسل معه أخاه هارون، قال: [اشْدُدْ بِهِ] الشد الضم، والتقوية أَزْرِي أصل الأزر هو موضع الإزار اليد؛ فكأنه المعنى الإنسان إذا شد موضع الإزار، وشد وسطه فإنه يتقوى على الفعل؛ فيكون هذا الأخ بجواره، هو يشد من أزره، يقويه يعينه على هذه المهمة الصعبة {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:32] اجعله شريكاً معي في هذا الأمر، أمر النبوة، والدعوة، دعوة فرعون إلى الله -تبارك وتعالى- وكذلك إخراج بني إسرائيل مما هم فيه {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:32] أمري كله {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا}[طه:33] افعل بنا هذا يارب كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا  بتسبيحك تسبيحاً كثيرا {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}[طه:34] نذكر الله -تبارك وتعالى- ذكراً كثيراً {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}[طه:35] ثناء على الله -تبارك وتعالى- واعتراف من موسى بأنه قد كان في نعمة الله تبارك وتعالى منذ البداية [إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا] مبصراً لنا، وجابراً لضعفنا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- طبعاً يتذكر موسى بأن الله أنجاه من القتل، وكان السكين قد اقتربت من عنقه، وهو طفل صغير لا يستطيع أن يدفع؛ فدفع الله -تبارك وتعالى- عنه، كذلك رباه الله -تبارك وتعالى- في بيت فرعون الذي يسعى لقتله؛ فربي عنده، جعله هو الذي ينفق عليه، ويربيه، ويجعل أهل فرعون زوجته تعطف عليه، وكذلك لما قتل القبطي نجاه الله -تبارك وتعالى- لم يستطع القبط أن يأخذوه، وأن يقتلوه، وإنما أنجاه الله؛ فقد كان أولى به أن يقول قد [كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا]  قد كنت يارب بنا، وبأحوالنا، وبكل هذه الأسرة [بَصِيرًا ].

  قال أي الرب الإله -سبحانه وتعالى- لموسى {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه:36] أُوتِيتَ أعطيت، أعطاه الله -تبارك وتعالى- سؤله كله كل ما سأل، كل ما سألته، وطلبته بهذه الطلبات قد أعطيتك إياها قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى نداء من الله -تبارك وتعالى- له، واخبار بأنه قد أعطاه الله كل ما سأل، ولا شك أن مما سأل أن يكون أخوه هارون نبي لا يوجد، قيل أنه لا يوجد، أو لم يوجد في الأرض كلها من شفع لأخيه مثل هذه الشفاعة، أعظم شفاعة وقعت من إنسان لأخيه؛ فإن موسى عليه السلام شفع لأخيه بالنبوة، بأن ينبئه الله -تبارك وتعالى- يشركه في هذا الأمر، وقد كان؛ فهو أعظم الإخوان على أخيه منة، وجميلة، أجابه الله عن كل ذلك، وقال: [قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى] ثم ذكره الله -تبارك وتعالى- بنعمه العظيمة عليه قبل هذه الرسالة، هذه نعمة الرسالة طبعاً هي النعمة الكبرى، العظمىى، شرع الله -تبارك وتعالى- يذكره نعمه عليه -جل وعلا- منذ البداية قال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}[طه:37] وَلَقَدْ مَنَنَّا قد تأكيد، المن الذي هو العطاء، والتفضل عَلَيْكَ يا موسى مَرَّةً أُخْرَى مرة قبل هذا، غير هذه منة الآن يعني الرسالة، وأن يذهب إلى هذا الأمر العظيم {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}[طه:38] اذكر [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى] وحي إلهام خفي من الله -تبارك وتعالى- ألهمها الله تبارك وتعالى دون علم أحد ممن حولها، وإنما ألهمها الله تبارك وتعالى إلهام فى قلبها إِلَى أُمِّكَ أم موسى مَا يُوحَى الذى يوحى  {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه:39] لما ولدت أم موسى، موسى، وكان هذا اليوم الذي ولدته فيه، أو العام الذي ولدته فيه هو عام القتل، عام تقتل فيه الذرية، قالوا إن فرعون كان يسير في سياسته في بنى إسرائيل، أن يجعل عام تقتل فيه كل من يولد له من الذكور، وعام يترك لهم يعنى قتل، قتل الذكور حتى يبقى فيه بعض الذكور، وأما الإناث فإنهم لا يقتل حتى يكثر الناس، ويقل الذكور فيها؛ فموسى عليه السلام ولد في العام الذي تقتل فيه الذكور؛ فأوحى الله -تبارك وتعالى- إلى أمه هذا الوحى أنه [اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ] وهذا جاء في قبل هذا أنها ترضعه كما جاء في الآية الأخرى أن أرضعيه؛ فإذا خفتى عليه أن اقذفيه في اليم [اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ] التابوت صندوق، أن تصنع صندوق، وأن ترضع موسى عليه السلام، وتقذفه، تضعه في هذا الصندوق، صندوق لكنه طبعاَ لا يغطى، ولا يحكم غطاؤه، وقال الله -تبارك وتعالى- [فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ] ألقيه في اليم، الْيَمِّ الذي هو البحر، والمقصود هنا في نهر، نهر النيل، وقصور فرعون كانت كما العادة يعني مبنى قصره على شاطئ النيل، كما قال [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي] تجري من تحتي، تجري من تحت قصوره، وكذلك سدوده، وجسوره [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ] أمر إلهي، وأن الله -تبارك وتعالى- سيجعل اليم يحمل هذا الصندوق حتى يوصله إلى الساحل، ساحل البحر [يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ] سيلتقطه، ويأخذه [عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ] عدو له لأنه يبحث عن هذه الذرية؛ فيقتلها، إنه يذهب له، وعدو لله -تبارك وتعالى- لأنه جبار، مجرم، مدعي الألوهية، والربوبية؛ فهذا أكبر عدو لله -تبارك وتعالى- عدوانه على سلطان الرب -تبارك وتعالى- وادعاؤه أنه هو الرب، وأنه الإله، وأنه لا إله للناس إلا هو [يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ].

 والحماية التي حمى الله تبارك وتعالى بها هذا موسى [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي] هذه الحماية، لم يكن مع موسى عليه السلام، وهو طفل صغير ما معه شيء إلا الصندوق الذي يحمله، لا معه حراس، ولا جنود، ولا شيء، وإنما الله -تبارك وتعالى- الحماية التي أرسلها معه إن كل من رآه وقع في قلبه، أحبه [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي] هي محبة من الله -تبارك وتعالى- ومحبة في قلوب العباد، ما يراه أحد إلا ويحبه إلا فرعون، إلا فرعون العدو؛ فالله -تبارك وتعالى- ألقى عليه هذه المحبة التي يحمى بها، وأن هذا الولد ليس أهلاً للقتل عندما يأتي ليقتلوه يقولوا أبداً، هذا الغلام ما يستحق القتل {........وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه:39] تصنع، الصناعة يصنعه الله -تبارك وتعالى- الصناعة هذا البناء يبنى بناء، ويربى تربية عَلَى عَيْنِي على عين الله -تبارك وتعالى- يعني تحت سمع الله -تبارك وتعالى- تحت بصر الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يعتني به، ويربيه -سبحانه وتعالى- ويهيء كل الأسباب لينشأ النشأة التي يريدها الله -تبارك وتعالى- له، من أن يحمل هذه الرسالة، من أن يكون مخلصاً لبني إسرائيل [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] هذه الصناعة، حفظي، ورعايتي, يعني يعتبرونك إنما هي صناعة من الرب -تبارك وتعالى-

 ثم من العناية الإلهية بعد ذلك {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ........}[طه:40] اذكر إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ أخت موسى يعني لما وضعت أم موسى صندوق موسى في البحر {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ........}[القصص:11] قصيه، القص الأثر الذي هو اتباع أثره، تابعي الصندوق، انظري أين الصندوق سيذهب، ولكن دون أن يشعر أحد بأنك تراقبينه حتى لا يربط أحد بين هذه الأخت، وبين الصندوق؛ فيقول هذه لا بد تعرف هذا، وتعرف من هو؛ فتؤخذ، وتقر، ونحو ذلك؛ فيعرف مصدر هذا الصندوق، وابن من هذا الذي ألقى في البحر على هذا النحو كما قال -جل وعلا- {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[القصص:11] فَبَصُرَتْ بِهِ كانت تبصره عَنْ جُنُبٍ من طرف العين وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وهم حولها لا يشعرون بأن هذه الأخت إنما هي تتبع صندوق الذي فيه أخوها [إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ] أي من بعيد تبصر الصندوق، وتتبع أثره من بعيد حتى لا يراها، ولا يفطن أحد الى أنها تراقبه [فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ] يعني أنها لما علمت أخته أن جماعة فرعون هم الذين أخذوا الصندوق، وأدخلوه إلى القصر، وبدأوا طبعاً أول ما رأوه، أحبته قدم طبعاً على العادة امرأة فرعون؛ فوقع في قلبها، وقالت، وهي تقدمه لزوجها، لفرعون {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا........ }[القصص:9] ولكن فرعون كرهه، وقال: قرة عين لك وحدك، رأى أن زوجته قد تعلقت به، وتمسكت به، ولم يرد أن يجبرها في أن ينتزعه، وأن يقتله، وسلم الأمر لهذا كله بقضاء الله -تبارك وتعالى- [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ] {........وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21]

  وبدأت تبحث عن مراضع الذي يرضعن الولد؛ فحرم الله تبارك وتعالى موسى أن يقبل ثدي أي امرأة، كلما قدمت له امرأة ليرضع منها لم يقبل ثديها، وطبعاً بدأ يبكي، وهم يبحثون بعدذلك في من يرضع هذا الغلام؛ فكانت هذه الأخت الذي قصته عرفت وين هو، وجاءت على القصر، كأنها ممن سيدل؛ فقالت أنا عندي مرضعة، هل أدلكم على من يرضعه؟ من يرضعه، ومن يقبل ثديها، ولم يفطروا إلى أن تكون هي أم موسى.

 {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ........}[طه:40]  قالت لامرأة فرعون، ووصيفاتها [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ] يكفل هذا الغلام، ويقوم بحفظه، ورعايته، قال -جل وعلا- [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ] بعد هذه الرحلة، رحلة التي كان يخاف عليه من الموت في كل شيء، الموت في غرق، الموت من فرعون، أنه وضع في يده الآمر بقتل الذرية، ولكن الله -تبارك وتعالى- أنجاه، وأرجعه سليماً معافى إلى أمه، ولتكن أمه في القصر، وعند فرعون [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ] هذه رحمة من الله -تبارك وتعالى- ورفق بهذه الأم الملهوفة على ابنها، والتي كانت تخاف عليه من القتل، أو الغرق؛ فربنا -سبحانه وتعالى- أرجعه إليها؛ فكذلك هذا من عناية الرب -سبحانه وتعالى- ورأفته، ورحمته بأم موسى.

 ثم قال له الله -تبارك وتعالى- [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ] كبر موسى يذكر الله تبارك وتعالى موسى كذلك بنعمة أخرى من انعامه، وافضاله عليه أنه عندما قتل نفساً، وقصة قتله نفس فسرها الله -تبارك وتعالى- في سورة القصص، وهو أنه دخل مرة المدينة في غفلة من أهلها كان يقال  الوقت ظهيرة، أو وقت.., وأنه وجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته يعني إسرائيلي بني إسرائيل، وهذا من عدوه من الأقباط، وأن الإسرائيلي استغاث بموسى، وأن يغيثه على القبطي فجاء موسى دفعه، قال -جل وعلا- [فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ] يعني دفع القبطي عن الإسرائيلى، دفعه، وكانت في هذه الدفعة هلاكه يبدو أنه إصطدم بشيء، أو هذه الدفعة قوية؛ فجاءت في مقتل؛ فمات؛ فطبعاً عند ذلك فوجئ موسى أنه لايريد قتله، وإنما يريد دفعه عن الذي من شيعته، ووقع الأمر على هذا النحو، قال -جل وعلا- {........فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17]

ولكن فى اليوم التالى {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[القصص:19] هذه مقالة الإسرائيلي؛ ثم جاء رجل من قوم فرعون كان يحب موسى، ويعطف عليه قال له: [إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ] كان هذا من حاشية فرعون، وسمع القضية بحثت في بلاط فرعون، عند فرعون، وأمر بأن يقبض عليه، ويقتل؛ فعند ذلك، قال له: إِنَّ الْمَلَأَ الملأ الذين هم الرؤساء، والكبراء من قوم فرعون {........إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20] قال -جل وعلا- {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ.......}[القصص:21] فهذه هي  النفس التي قتلها موسى، قال: [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ] نجاه الله -تبارك وتعالى- من الغم يعني قبل الله -تبارك وتعالى- عذره في هذا القتل، وأن أخرجه منه وإلا قتل، القتل يعني يصيب إذا كان الإنسان قتل ظلم؛ فإنه يصاب بغم شديد نجاه الله -تبارك وتعالى- من هذه، وقبل عذره، وقبل مغفرته -سبحانه وتعالى- قال [فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ].

 ثم قال -جل وعلا- [وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا] فتناك اختبرناك، فتونا فتوناً عظيما، وهذا الفتون له حديث طويل من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه نعود إليه إن شاء الله في الحلقة الآتية.

أستغفر الله من كل ذنب، وصلى الله، وسلم على عبده، ورسوله محمد.