الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }[طه:40-46]
هذه الآيات من سورة طه هي في سياق حديث الرب -سبحانه وتعالى- إلى موسى عندما كان في الطور عائداً من مدين إلى مصر، وهناك على قدر مقدر من الله -تبارك وتعالى- وحمله رسالته إلى فرعون، وقومه، وأن يطلق بني إسرائيل، السياق في تذكير الله، الله يذكر موسى سبحانه وتعالى بنعمه عليه؛ فيقول له -جل وعلا-[ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ] وذلك أن أم موسى عليه السلام لما أوحى الله -تبارك وتعالى- إليها عندما ولدت موسى أن ترضعه، وأن تضعه في صندوق، وتلقيه في البحر، وأن الله -تبارك وتعالى- حافظه، وأنه راده، ومرجعه إليها، ومقر عينها، وأن الله -تبارك وتعالى- سيمن عليه بعدذلك عندما يكبر بالرسالة؛ ففعلت ما أمر الله تبارك وتعالى {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}[طه:38]{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي........}[طه:39] هذه الحماية التي حمى الله -تبارك وتعالى- بها موسى من القتل، من قتل فرعون، وأنصاره، وأن من رآه أحبه، ووقع في قلبه {........وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه:39] يصنعه الله تبارك وتعالى رجلاً، شديداً، قوياً، يبلغ أشده، ويأخذ دروس عظيمة من هذه الأحداث والابتلاءات التي تمر عليه [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] على رعاية الله -تبارك وتعالى- تحت بصر الله -تبارك وتعالى- الله يبصره، وهو الذي ينقله من درس إلى درس، ومن حالة إلى حالة ليشب قادراً أن يقوم بعدذلك بالمهمة التى يكلفها الله -تبارك وتعالى- بها، مهمة هذه الرسالة العظيمة، وتخليص شعبه بني إسرائيل من ذل الفراعنة، وإقامتهم في الأرض يعبدون الله -تبارك وتعالى-.
[ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ] عندما كان التابوت يجري على صفحة النهر؛ فتقول بعد ذلك عندما التقط آل فرعون التابوت، وبحثوا بعدذلك لموسى عن مرضع؛ فلم يلتقم موسى ثدي امرأة قط؛ فقالت: [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ] قال -جل وعلا- [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ] لما دلتهم على أم موسى، وجاءت أم موسى قرب لها الصبى فالتقم ثدي أمه مباشرة، وارتاح إلى ذلك، أمرت عند ذلك إمرأة فرعون أن تمكث عندها في القصر لتكون مرضعة له [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ] هذه كذلك نعمة، ومنة من الله تبارك وتعالى من الله تبارك وتعالى على موسى عندما قتل القبطى الذي كان بينه، وبين رجل من بني إسرائيل خصومة، والإسرائيلي استنجد بموسى؛ فجاء موسى، ودفع القبطي عنه، ولكن هذه الدفعة كانت فيها مقتله [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ] الغم، ارتكاب هذا الأمر، وذلك أن موسى رجع إلى الله تبارك وتعالى وقال {........ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[القصص:15] وقال: {........فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص:16].
[ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا] فتناك اختبرناك [فُتُونًا] يعني تأكيد للفتون، أو فتون قوي، وقد ذكرنا الإمام النسائى رحمه الله، والإمام بن الجرير رووا حديث طويل لابن عباس رضى الله تعالى عنه في هذه، في هذا الفتون سلسلة الأحداث التى جرت على موسى منذ ولادته، وإلى وفاته حديث طويل، وهذا الحديث بعضه موقوف على ابن عباس، ويبدو أنه مأخوذ من الإسرائيليات التي جاء النص النبوي في جوازة الحديث عن بنى إسرائيل، قال: (حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج)، لكن يصدق ما عندنا من الكتاب، هناك بعض التفصيلات التي جاءت يعني غير موجودة في القرآن كنوع من الفتنة، وهو عندما جلس يوماً، جلس موسى يوماً على حجر فرعون؛ فسحب لحيته إلى الأرض؛ فقال له من حوله إن هذا الغلام هو الذي سيتسبب في قتلك، ويزيل ملكك؛ فشفعت زوجة فرعون مرة ثانية في أنه غلام صغير لا يعرف هذا الأمر؛ ثم قيل له؛ فليقرب له تمر، وجمر، أو لؤلؤتين، وجمر، ويرى أي يده تذهب إلى أي طبق من هذه الطبقين؛ فأخذت يده إلى الطبق الذي فيه الجمر، ووضعها الجمرة في فمه، وقيل أن هذا كان السبب في هذه الثقل الذي كان في لسانه من ذلك، على كل حال قد ذكر الله -تبارك وتعالى- من هذا الفتون الذى حدث لموسى أمر عظيم جداً، فقد فتن، وهو غلام صغير كان القتل في إثره لأنه نشأ من هؤلاء القوم بني إسرائيل الذين يلاحقون بالقتل، يذبحون أبنائهم، فتنته بعد ذلك عندما قتل الفرعوني، وآتمر به الملأ ليقتلوه، وأنجاه الله -تبارك وتعالى- فتنته عندما خرج فاراً، هارباً من أرض مصر، وذهب إلى مدين لا يعرف في المكان أحد، وجلس وحيداً عند بئر، بئرهم الذي يسقون منه، وقص الله -تبارك وتعالى- قص عندما جلس هذا، قال -جل وعلا- {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ(22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24]
انظر هذا الدعاء لله -تبارك وتعالى- والانكسار [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] فهو غريب في هذا المكان، ولا يعرف فيه أحد، ومحتاج إلى مأوى، وإلى طعام، وإلى عمل يعمل؛ ثم بعد ذلك من الله تبارك وتعالى عليه في مدين؛ فأواه ذلك الرجل الصالح، وعرض عليه زواج ابنته، وبقي عاملاً عنده على الصحيح عشر سنين {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[القصص:28].
والصحيح أن موسى قضى الأجل الأكبر الذي هو عشر سنوات؛ ثم عاد بعد ذلك إلى مصر، وهو يحمل أهله، وفتنة في الطريق وحمل أهله؛ ثم القدوم على أمر مجهول لا يعلم ما الذي سيكون من مصيره، لكن الله تبارك وتعالى تلقاه بالقبول، وأعطاه الرسالة في رحلة عودته إلى مصىر، وكان هذا الحديث الإلهي، والمناداة الإلهية لموسى، وتحميله هذه الأمانة، وهذا الحديث الطويل الندي مع الله -تبارك وتعالى- [وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ] لبس سنين في أهل مدين صحيح أنها عشر سنين هذه التي لبثها، ومكثها في أهل مدين أجيراً عند ذلك الرجل الصالح في مقابل مهر، أجرته هنا مهر لزواج ابنته.
{........ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}[طه:40] ثُمَّ جِئْتَ آتى الله -تبارك وتعالى- بك عَلَى قَدَرٍ أن الله -تبارك وتعالى- قدرها، ما هو مجيئه يعني اتفاق، وإنما قدر الله تبارك وتعالى- أن يحمله الرسالة في هذا الوقت، وأن يكون حمل الرسالة هنا في هذا المكان المقدس حيث يناديه الله تبارك وتعالى يخاطبه، ويحمله أمانة هذه الرسالة [جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ] أي قدر من الله -تبارك وتعالى- يا موسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:41] اخبار عظيم من الله -تبارك وتعالى- لموسى بأنه اصطنعه على هذا النحو اصطنعتك، صنعتك، اصطنعتك بزيادة الطاء لبيان أنها يعني الأحداث التي أجراها الله -تبارك وتعالى- عليه لينشأ بها موسى رجلاً، قوياً، مكتملاً تمر عليه هذه التجارب العظيمة، تجارب من البداية، الولادة، وإلى أن يصبح رجل؛ فالدروس التي أخذها دروس عظيمة جداً، دروسه أن ينشأ في القصر، وفي حماية فرعون ليعلم حياة القصور، وحياة الناس وكذلك دروسه في نشأته في بني إسرائيل، وفي قوم مطاردين يعلم مقدار المعاناة التي يعانيها هؤلاء من الذل، ومن الخسف، ومن سومهم العذاب.
درس هذه الملاحقة، ملاحقة فرعون له ليقتله بعد يعني قتله للمصري؛ ثم بعد ذلك يأخد درس في أن يعبر هذه الصحراء وحده، وما في هذا من التحمل، والجلد، ومعرفة الطرق، وكأن الله -تبارك وتعالى- رتب له هذا لأنه سيسير في هذا الطريق مرة ما، وهو يقود قومه خارجين من مصر، درس في أن يعيش عشرة سنوات أجير، وكم يتحمل هذا الأجير، ويتعلم، وخاصة عمله هنا فى رعاية الغنم، وفيها دروس عظيمة؛ فما من نبي، إلا رعى الغنم، تعلم الرعاية، والعطف، والحماية، والرحمة؛ فرعاية الغنم فيها دروس، ومواعظ عظيمة جداً، وتربية لمن يقوم على هذا الأمر درس في العفاف، والالتزام بالحق؛ فإنه قد كان ينظر موقفه عند البئر، وقيامه بخدمة هاتين الفتاتين الضعيفتين، وانكساره، وعفته حتى تصف البنت بمجرد تصف الولد يقول {........يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26] فتصفه بالأمانة لما رأته من أخلاقه العالية، السامية؛ فلا كلمة، ولا غمزة، ولا نحو ذلك كل هذه دروس اصطنعها الله تبارك وتعالى بالدروس التي أجراها عليه ليكون هذا {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:41] ليكون عبداً خالصاً لله -تبارك وتعالى- يحبه الله -تبارك وتعالى- ويقربه.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[طه:42] جاءه الأمر الإلهى هنا بعد هذه بعد أن ذكره الله -تبارك وتعالى- نعمه العظيمة عليه، وأنه رباه هذه التربية يقول له [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ] أنت أولاً، وأخوك ثانياً الذي نبأه الله -تبارك وتعالى- بطلب من موسى عليه السلام بِآيَاتِي اذهبوا بآياتي إلى فرعون بهذه الآيات، آيات الله -تبارك وتعالى- المنزلة عليهم، وآياته التي أيده بها هذه المعجزات، عصاه الذي تنقلب حية، ويده التي يدخلها فى جيبه؛ ثم يخرجها؛ فتكون يد بيضاء من غير سوء [وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي] الوهن ضعف يعني لا تضعفا، ولا تتهاونا بل اسعوا في هذا الأمر السعي الحقيقي، ولا تنقطعوا عنه، ولا يأتي وقت الركود، والراحة بل للعمل المتواصل، وهذا أمر الله -تبارك وتعالى- لرسوله، انظر قول الله -تبارك وتعالى- لعبده، ونبيه، ورسوله محمد أول ما أقام هذه الرسالة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:1-4]
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[طه:42] في ذكر الله -تبارك وتعالى- سواء بعبادتهم للرب -تبارك وتعالى- ودعوتهم يعني فرعون، وقومه إلى الله .
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:43] اذْهَبَا موسى، وهارون عليهما السلام إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وفرعون هو ملك مصر، يسمى فرعون، وهو من يملك القبط كان هذا المسمى المنصب الذي هو فيه منصب الملك [إِنَّهُ طَغَى] هو أنه طغى إِنَّهُ أي فرعون طَغَى الطغيان هو طغى بكل أنواع الطغيان, أولا طغى في جعل نفسه إله من دون الله -تبارك وتعالى- بل رب للناس يقدسونه، يأمرهم فيطيعونه، وأنه أمره هو الأمر، وأنه لا يرى إلا الصواب، والحق {........مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29] وأنه هو الإله الذي يعبد من دون الله [يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] هذه كلماته، وطغى بإذلاله، واحتقاره بني إسرائيل، وتقتيله لذكورهم، وابقاء اناثهم، وتسخيرهم في الأعمال، والأعمال الشاقة كضرب الطوب وحمل الأثقال، ونحو ذلك في كل أعمالهم الشاقة كانوا يسومونهم سوء العذاب بهذه الأعمال. {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه:43].
{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا........}[طه:44] هذا ارشاد من الله، وتوجيه بأنهم إذا ذهبوا إلى هذا الطاغية، الطاغية الكبير أن يقولا له قولاً لينا، قال -جل وعلا- [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] القول اللين غيرل القول الخشن، غير القول الذي فيه غلظة و من تحقيره، تحقير لفرعون، سبه، شتمه بل ينبغي أن يكون قول لين، وقد بين الله هذا القول اللين هنا بأنه عرض، عرض الدين عليه ليس بالأمر، أن يعرض الأمر عرضا، وليس أمراً، كقوله {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}[النازعات:19] فيقولون له نحن جئنا إنما لنرشدك إلى طريق الحق، وإلى طريق الصواب {........هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}[النازعات:18]{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}[النازعات:19] [هَلْ لَكَ بالعرض [أَنْ تَزَكَّى] والتزكية هنا ما قال له أن يزكيك بل أن تتزكى أنت [وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ ] أرشدك إلى الله -تبارك وتعالى- [فَتَخْشَى] فتخشى الله -تبارك وتعالى- فيكون من القول اللين أن يعرض عليه الرسالة عرضاً لا تفرض عليه فرضاً، وكذلك أن يكون القول بعيد عن الخشونة، والتغليظ، والسباب، والشتام {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44] لعل فرعون يتذكر ربه، وإلهه، وخالقه، ومولاه، وطريق الحق، والصواب، أو يخشى يخشى الله -تبارك وتعالى- ويخافه أن يعاقبه، ويعذبه بطغيانه، وجبروته، ولعل هنا بحسب المخلوق، وليس بحسب الرب فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يبده نواصي العباد، وهو لا يعجزه أن يهدى من يشاء -سبحانه وتعالى- ولكن هذا [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] يبذل هذه الأسباب لعل فرعون يعني أن تفيده هذا الأسباب؛ فيتذكر أو يخشى.
{قَالا] أي موسى، وهارون {........رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}[طه:45] قال موسى، وهارون عندما أمرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر بحمل هذه الرسالة، والذهاب إلى فرعون [إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا] أي فرعون [أَوْ أَنْ يَطْغَى] يفرط من تجاوز الحد؛ فأول شيء بمجرد ما يسمع أننا جئنا لنعرض عليه أمراً، أو نقول له شيء، أو أن نعرض عليه الدين غير الدين الذي عليه؛ فيقفل الباب , يقفل الباب بتاتاً، ولا يسمع لمثلنا .[أَوْ أَنْ يَطْغَى] الطغيان يأمر بسجننا، وقتلنا، كما الشأن في كل الشأن؛ فإنه طاغية، إما أن يفرط بأن يمنع أن يصله هذا الحق، أو أن يطغى علينا بضرب أو بتعذيب، أو نحو ذلك.
قال -جل وعلا- {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46] تطمين من الله -تبارك وتعالى- أجاب الله -تبارك وتعالى- مقالتهم في خوفهم من فرعون قَالَ لا تَخَافَا أي من فرعون، وقومه [إِنَّنِي مَعَكُمَا] معية النصر، والتأييد، والتقوية؛ ثم قال[ أَسْمَعُ وَأَرَى] يعني لستم غائبين عن سمع الله، وبصره بل أنتم تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وبصره، وأن الله -تبارك وتعالى- لا يمكن إلا أن ينفذ رسالته، ويمضي وعده -سبحانه وتعالى- لا بد أن يكون {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46] هذا المعية هنا ، معية الله -تبارك وتعالى- مع موسى معية النصر، والتأييد، والتقوية، وأنه معه، وإلا فالله -سبحانه وتعالى- لا شك أنه مع عباده جميعاً بعلمه -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه -جل وعلا- ومن أعمالهم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ.......}[المجادلة:7] إِلَّا هو الله {........مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7] لكن هذه المعية، هذه هي هنا معية أنه مع موسى، ومع هارون؛ إنما هى معيته بنصره، وتأييده، ورحمته، وعنايته، -سبحانه وتعالى- {........إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46].
{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}[طه:47] هذه خلاصة ما أرسلوا به؛ اذهبا إلى فرعون، وأتياه في مكانه فَقُولا أي له إِنَّا الاثنين [رَسُولا رَبِّكَ] يعني موسى، وهارون رَسُولا رَبِّكَ وهنا قولهم رَبِّكَ أيضاً فيه تذكير بأن الذي أرسلهم هو رب فرعون، وهو ربه هنا ربه يعني أن الله هو خالقه، وهو رازقه، وهو المتولي بشئونه؛ فهذا كأنهم يقولون نذكرك بالرب الذى هو خالقك، ورازقك، ومنشئك، ومملكك؛ فهو سيدك؛ فالرب هو السيد المالك، المتصرف -سبحانه وتعالى- ما قالوا إنا رسولا ربنا، وإنما قالوا [رَسُولا رَبِّكَ] وهذا كذلك من القول اللين، ومن تقريب الأمر، ومن تحبيب فرعون في أن يعود إلى ربه، إلى خالقه؛ فيعود إلى الحق[ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] يعني لا نريد عندك مكثاً، ولا ملكاً، وإنما نريد أن ترسل معنا بني إسرائيل، أن تترك بني إسرائيل يخرجوا من مصر؛ فيعبدوا الله -تبارك وتعالى- في مكان آخر، يخرجوا إلى برية سيناء؛ ثم إلى الأرض التي وعدوا أن يسكنوها، ونريد أن نخرج عنك من مملكتك بمصر [فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] بني إسرائيل أولاد يعقوب وَلا تُعَذِّبْهُمْ يعني انتهي عن عذابهم بهذا الذي صبه عليهم قتل ذكورهم، تشغيلهم، واقامتهم في العمل الأعمال الشاقة ظلماً لهم.
[قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ] قد جئناك نحن بآية من ربك، آية علامة على صدقنا لأن هذه الدعوة ممكن أن يدعي أي إنسان أنه رسول من الله لكن هنا الذي يبين الصادق من الكاذب هو البرهان؛ فقالوا نحن آتينا بآية من ربك أيضاً {........قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}[طه:47] لم يسلما عليه بذاته، وهو في حال الكفر، وإنما ألقيا السلام على كل من اتبع الهدى [وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى] من اتبع الهدى فإن منا سلام لنا، أن ما لا يتبع الهدى مفهوم هذا أنه من لا يتبع الهدى؛ فالمؤمن ليس سلماً للكافر، وعدو الله -تبارك وتعالى- بل يدعو عليه، بل هو في هلاك الرب -تبارك وتعالى- بل هو نذير منذر له بالهلاك، والعذاب، قالوا [وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى] فيدخل فيها فرعون إن اتبع الهدى، ويدخل فيها كل من اتبع هدى الرب -سبحانه وتعالى-.
ثم قال له كذلك يعنى وعظاً {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[طه:48] هذا انذار لفرعون، وبيان له إِنَّا أي موسى، وهارون ]قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا] أي أوحي إلينا بالبناء لما لم يسم فاعله، والموحي هو الله -سبحانه وتعالى- أن العذاب على من كذب، وتولى، العذاب في الدنيا، والآخرة عَلَى مَنْ كَذَّبَ الحق، وقد جاء موسى، وهارون بالحق؛ فهذه دعوة لتوحيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته، وكذلك دعوة إلى تخليص شعب يعني في الذل، والقهر؛ فكل دعوتهم جاءت حق؛ فالعذاب [عَلَى مَنْ كَذَّبَ] ما جاؤه من الحق [وَتَوَلَّى] أعرض، التولي هو الإعراض، والذهاب بعيداً عن الحق بلا عمل، وهذه الدعوة التي حملها الله -تبارك وتعالى- موسى، وهارون إلى فرعون دعوة واضحة، مدللة، حجتها قائمة، لا غبش فيها يفهمها كل من عرضت عليه، ولكن طغيان فرعون حال بينه، وبين أن يقبل الحق فبدأ استكباره، وعناده {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}[طه:49] هكذا، انظر الخطاب الإلهى له أنهم يخبروه بأنه يعني نحن جئنا لندعوك إلى ربك يا فرعون، ولكنه ينفي بعد ذلك أن يكون له رب، وينسب هذا الرب إلى موسى {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}[طه:49] وذلك أن فرعون كان يعتقد بأنه هو الرب الإله الذي لا رب للناس غيره؛ فرأى هؤلاء يخاطبهم على أنهم خارجين عن عبادته، وعن ألوهيته{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}[طه:49] هو يقول هذا على وجه طبعاً الكبر، وعلى وجه المعتقد الذي يعتقده من أنه هو رب الناس، وأنه إلههم.
فأجابه موسى جوابا عظيما جداً {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50] أجمل صفة الرب -تبارك وتعالى- في بيان أنه خالق كل هذا الخلق، وهو الذي وضع كل مخلوق في مساره، وفي عمله [أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ] فكل شيء، كل ما سوى الله هو خلق الله -تبارك وتعالى- ثم إن كل مخلوق قد وضع في المسار الذي يسير فيه؛ فالله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
نعود إلى هذه الآية إن شاء الله في الحلقة الآتية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.