الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (378) - سورة طه 111-121

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:111-114]

هذه الآيات في سياق بيان الله -تبارك وتعالى- العاقبة السيئة التي سيكون عليها كل المعرضين عن هذا القرآن العظيم، والذكر الحكيم المنزل على عبده، ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- فقد قال الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة،  سورة طه التي ذكر الله -تبارك وتعالى- في عامتها قصة موسى عليه السلام، وفيها أولاً نموذج لهذا العبء العظيم، والحمل العظيم الذي يحمله هذا الرسول الكريم موسى ابن عمران في مجابهته لقوم فرعون؛ ثم بعد ذلك فيما تحمله من تربية قومه بني إسرائيل، وحملهم على الطريق الصحيح، وفي ذكر أولاً هذه القصة، وإنزالها بهذا التفصيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية شاهد على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وأن النبي لم يكن على أي خبر، وأي علم بهذه الرسالة السابقة.

 قال -جل وعلا- فى ختام هذه السورة {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ........}[طه:99] كَذَلِكَ كهذا القصص الذي قصه الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة بهذا التفصيل، وهذا البيان {........وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه:99] وهو هذا القرآن {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}[طه:100]{خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه:101] كل من أعرض عن هذا القرآن؛ فإنه يحمل وزر هذا الإعراض، وهذا الوزر سيظل راكباً له، يحمله حملا لا ينفك عنه، وساء حملاً من يحمل الكفر بالله -تبارك وتعالى- والإعراض عن الله -عز وجل- والتكذيب بهذا القرآن المنزل من الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- ثم بين الله -تبارك وتعالى- الصورة التى سيكون عليها هؤلاء المكذبين في يوم القيامة، قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102] سود يعني الأسود الداكن من وجوههم من الكمد، والغيظ {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103] يتكلمون هذا في المحشر أنه كل الأيام التي مكثناها في الدنيا كانت عشر أيام فقط، قال -جل وعلا- {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه:104] يقول له يوم واحد بس ما لبثنا عشر أيام، يوم واحد، مرت الحياة كأنها يوم واحد.

 ثم قال -جل وعلا- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }[طه:105-109] كل ما يتعلق به الكفار فى أن عبادتهم للملائكة نافعة لهم عند الله -تبارك وتعالى- لا تنفع هذه الشفاعة التي تصورها الكفار حسب تصوراتهم، وأن الله يقبل الشفاعة بكل حال -سبحانه وتعالى- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً سواء أن كان مشركوا العرب، أو النصارى وهم ممن يتعلقون بهذه الشفاعات يظنوها نافعة عند الله، لا تنفع {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ........}[طه:109] أن يشفع {........وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}[طه:109] فى المشفوع؛ فلا بد أن يكون الشافع ممن يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه، ويرضى له بأن يشفع؛ ثم لا بد أن يكون المشفوع فيه ممن يرضى الله -تبارك وتعالى- الشفاعة فيه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ........}[طه:110] الذين هم الملائكة {........وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] لا أحد يحيط علماً، يعلم الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة إلا الله -جل وعلا-

  ثم قال -جل وعلا- {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}[طه:111] عنت من العناء، والتعب، وحصول الذل، يعنى أنها ذلت، وخضعت، وأصبحت الوجوه كالوجه الذي يحمل العبء الثقيل، وينتظر العذاب المهين؛ فيظهر يعني علامات الإعياء، والتعب في وجهه [وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ] الرب الإله الذي لا إله إلا هو، الحي صفة الحياة، وحياة الله -تبارك وتعالى- حياة صفة ذاتية ليست يعني كحياة المخلوق التي تقوم بأسباب، وطعام، وشراب، ومناخ أما  الله -تبارك وتعالى- الحي بذاته -سبحانه وتعالى- [الْقَيُّومِ] القائم بنفسه لا يقوم بشيء، الله لا يقوم بشيء غيره -سبحانه وتعالى- بل كل الأشياء قائمة به، وهو لا يقوم بشيء -سبحانه وتعالى- فهو القيوم، القائم، القيام -سبحانه وتعالى- ثم هو كذلك المقيم لغيره -سبحانه وتعالى- {........لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}[طه:111] حقيقة، اخبار يدل على حقيقة [خَابَ] الخيبة هى الخسارة، والندام، وضياع الفرصة العظيمة [وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا] كل من حمل ظلماً، وأتى به يوم القيامة؛ فهذا هو الخائب الخاسر، والظلم هنا طبعاً ظلماً مطلقاً، ولكن الظلم الذى فيه الخيبة، لا خيبة مثل هو الظلم الشرك، بالشرك، والكفر بالله -تبارك وتعالى- وأما الظلم الذي دون ذلك يعني كأن يظلم الإنسان نفسه بصغيرة من الذنب؛ فلا شك هناك يعني فيه قد يكون فيه محاسبة عليه لكن ليس داخلاً هنا في الخيبة الكاملة لأن كل مؤمن في النهاية، من أتى الله تبارك وتعالى مؤمناً؛ فإن نهايته إلى الكسب، وإلى الفوز، ودخول جنة الرب -تبارك وتعالى-

 ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا}[طه:112] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ من الأعمال الصالحات، وكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به هو من الصالحات لأن له الثواب عند الله -تبارك وتعالى- هو من الصلاح في هذه الحياة صلاة، صيام، زكاة، حجاً، براً للوالدين، صدقاً للحديث كل هذا شعب الإيمان كلها، الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان هذه الأعمال الصالحات [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] جملة حالية، يعني حال كونه مؤمناً من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصدق بكلمات الله -تبارك وتعالى-[ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا] لا يخاف هذا تأمين من الله -تبارك وتعالى- [فَلا يَخَافُ ظُلْمًا] أن يظلمه الرب -تبارك وتعالى- والله تعالى عن الظلم، ولا هضماً لعمله، ظلم بأن نظلمه، بأن نحجب عنه عمله، بأن ندخله النار، بأن نعذبه بما لا يستحق وَلا هَضْمًا ولا الهضم، هو النقص من عمله، وإذهابه سيعطى عمله موفرا، كل عمله الذي عمله يجازيه الله -تبارك وتعالى- حتى للحسنة الصغيرة [فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا] هذا أمن من الله -تبارك وتعالى- انظر الخوف الذي ينتظر المكذبين {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}[طه:100]{خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه:101] وهذا الأمن لأهل الأمن، هؤلاء لأهل الإيمان {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا}[طه:112]

 ثم قال -جل وعلا-[ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا] وكذلك هذا الإنزال، إنزال القرآن على هذا النحو مبيناً، مفصلاً، موضحاً في هذا التذكير، والوعظ [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا] حال كونه قرآن يقرأ عَرَبِيًّا بلسان العرب وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ صرفنا نوعنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الوعيد الذي هو التهديد؛ فتصريف الوعيد جاء بصورة متعددة يعني ذكر الموقف يوم القيامة، حال الناس كيف أن وجوههم سوداء من الظلمة، الكرب الذي يعلوهم، النار، وما فيها، وما أعد الله -تبارك وتعالى- فيها لأهلها كيف سيؤخذون {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13] {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا........}[الحج:22] تصريف الوعيد، كذلك الوعيد بالنسبة للكافر، وما يناله من العقوبة العاجلة قبل العقوبة الآجلة ذكر الله تبارك وتعالى أنواع ما يتوعد به، وينتظر الكافر، وكل ذلك لتذكيره، وتحذيره كما قال -تبارك وتعالى- {........وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}[الإسراء:60] فذكر هذا، ذكر شجرة الزقوم، وما فيها، وما رآه النبي إخبار الأمة بذلك، كل هذا يخبر -سبحانه وتعالى- أنه صرف في هذا القرآن من الوعيد يعني نوع فيه بأنواع  الأساليب العربية، والبيان متوعداً، متهددا، مخوفاً، مذكراً، قال -جل وعلا- {........لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}[طه:113] لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لعل للترجي، ليس الترجي من الله  -سبحانه وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- لا يرجو أحداً فوقه -سبحانه وتعالى- وإنما ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولو أراد الله أن يجمعهم على الهدى لجمع، ولكن هذا بالنسبة للعبد أن هذا القرآن من أعظم الأساب للهداية، وأنزله الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، ولكن كثيرون من البشر لا يستفيدون بهذا، ويصدون عن كلام الله -تبارك وتعالى- فلعلهم يتقون سبب معطى لهم، وتذكير من الله -تبارك وتعالى- لكن هل يستفيدون بهذا لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لعلهم يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- [أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا]  أو يحدث لهم هذا الكتاب، هذا القرآن، هذا الوعيد ذِكْرًا  يتذكروا، آه، هذا الله تبارك وتعالى يتهدد المكذب بهذا الأمر، الله الذي لا إله إلا هو ملك السماوات، والأرض؛ فيتذكر هذا الأمر، يتذكر موقف، وأن هذا يعني على الأقل إن كان حقاً؛ فسيكون مآله يعني مآل عظيم؛ فقد يرعوي، ويرجع إلى طريق الحق، والصواب يؤمن بالله -تبارك وتعالى- كما أخبر، ويلتزم طريق الرب -سبحانه وتعالى- [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- بالإيمان به، بفعل ما يأمرهم به، بالانتهاء عما ينهاهم عنه[ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا].

 ثم قال -جل وعلا- [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ] تعالى الله الملك الحق عما يقول هؤلاء الكفار، أولاً من الشرك به -سبحانه وتعالى- فهو الإله الواحد الذي لا إله إلا هو من هذا الذي زعموه أنه يقبل الشفاعة التي لا يرضاها، ولا يرضى عن صاحبها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -سبحانه وتعالى- مقالتهم من أنهم لن يبعثوا، ولن تكون حكومة، ولن يحاسبهم الرب -تبارك وتعالى- تعالى الله عن ذلك لأنه لو كان الأمر على هذا النحو لكانت هذه الحياة عبث، يكون خلق هذه الأرض، وخلق هذه السماوات، وخلق هذه الدنيا، وخلق البشر لا فائدة منه، ولا حكمة من وراءه، ولا غاية منه، كيف يخلق الله -تبارك وتعالى- خلقاً، ويتركهم هملاً، وسداً يفعلون ما يشاؤا، ويتركوا ما يشاؤا، ويقتتلون، ويفجرون، ويزنون،؟ ويشركون به، ويدعون أن هناك إله غيره، وهو يخليهم، ولا يحاسب هذا، ولا هذا لكن هذا {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الدخان:38]  {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:17] تعالى الله -عز وجل- أن يكون قد خلق خلقه سداً، وعبثاً؛ فتعالى الله عن مقالاة يعني الكفار، وشركهم، وكفرهم، وادعائهم أن لا بعث، ولا نشور

 [الْمَلِكُ الْحَقُّ]. الله ملك، الملك له -سبحانه وتعالى- وهو يقيم بين عباده الحق، والعدل، ولا بد أن يحاسب كل أحد بعمله؛ فالمحسن يأخذ جزاؤه، والمسئ لا بد أن يأخذ عقابه؛ فالله هو الملك -سبحانه وتعالى- الْحَقُّ الحق ضد الباطل، الثابت، الموجود، القائم؛ فالله -تبارك وتعالى- هو الإله الحق، وهو الملك الحق -سبحانه وتعالى- ولا بد أن يحكم بين عباده -سبحانه وتعالى- فيما كانوا فيه يختلفون، ويجازي كلاً بعمله {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36] [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ].

 ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {........وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114] وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ألقى عليه جبريل آيات نازلة من الرب -تبارك وتعالى- من السماء؛ فكان النبي يتعجل بقراءتها قبل أن ينتهي الوحي، وذلك خوف من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفقد شيئاً، وأن ينسى شيئاً مما يوحى إليه، وحرصا على أن يأخذ كل الموحى إليه، ولا يضيع منه شيء؛ فكان يحرك لسانه بالقرآن ليقرأ مع جبريل حتى لا ينسى شيئاً؛ فقال له الله -تبارك وتعالى- {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] عَلَيْنَا جَمْعَهُ جمع هذا القرآن في صدرك، والقرآن هو قرآته {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19] وهنا في هذه الآية يقول الله [وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ] أي قرائته [قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ] حتى ينهي يعني النجم، والسورة النازلة تنتهي؛ ثم بعد ذلك إقرأ [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] وهذه الآية دخولها هنا هي دليل مضاف إلى هذا الدليل لأن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- فإن إيحاء هذه السورة التي فيها ذكر موسى النبى عليه السلام بدءً بالنار التي رآها في الطور؛ ثم خطاب الرب له -سبحانه وتعالى- ثم، ثم .....الخ، ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- من علم بكل هذا؛ فإتيانه بهذا يعني الاخبار على هذا التفصيل دليل على أن هذا القرآن من عند الإله الرب الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- كذلك حفظ النبي لهذا القرآن، وهو رجل أمي لم يقرأ، ولا يكتب، ويحفظ عليه من أول مرة تأتيه الآيات؛ فيحفظها؛ ثم ينقلها لأصحابه؛ ثم بعد ذلك يقرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- دائماً كما أنزلت دون أن يكون قد كتب هذا، ودرسه المرة، والمرة، واستحفظه المرة، والمرة دليل على أن هذا من عند الله -تبارك وتعالى- اعجاز بات هذا القرآن في ذهن النبي، ولأول مرة هذا كذلك دليل عل أن هذا أمر فوق قدرة البشر، وإن هذا بأمر إلهي من الله -تبارك وتعالى- {........وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114] توجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يزيده الله -تبارك وتعالى- علما بمنزله من هذه الآيات العظيمة العلم الحقيقي على نبيه -صلوات الله والسلام عليه- [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] وقيل أنه لم تطلب الزيادة في أمر إلا في العلم، وذلك أن زيادة العلم هي أعظم أمر، وأعظم خير أن يزاد في العلم [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا].

 ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى(116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه:115-117] ذكر الله -تبارك وتعالى- معصية آدم، وكيف أدت هذه المعصية إلى يعني أن ينزل إلى هذه الأرض، وذكر الله -تبارك وتعالى- قوله {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه:115] بعد ما ذكره -سبحانه وتعالى- في هذه السورة من أمر موسى عليه السلام الذي كان رسولاً من أولي العزم قام بالأمر عندما ألقي إليه الأمر، قام به يعني خير قيام منذ أن أوحى الله -تبارك وتعالى- له أن يقوم بأمر هذه الرسالة؛ فقام، وجابه أعظم الطواغيت في التاريخ فرعون الماكر، الباطش، الظالم، وقومه الذين اتبعوه على عمى، وعلى ضلاله؛ ثم بعد ذلك ما قام به موسى عليه السلام من تربية شعب أيضاً صلب، معاند، وإقامته على طريق الحق، وما وقع له من المحن، والفتن العظيمة مع قومه في أن يطلبوا أن يكون لهم آلهة كالمشركين الذين مروا عليهم، وأن يأخذوا، يتركهم أربعين يوم؛ فيعبدوا عجلاً لهم مسبوكاً من الذهب أمورا عظيمة قام بها موسى؛ فالرب تبارك وتعالى ذكر عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- بأن يقوم لله -تبارك وتعالى- وقال له: أول هذه السورة { طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ] [طه:1-8] أنت قد أنزل إليك هذا القرآن تذكرة للناس، وهو من الله الذي هذه صفاته -سبحانه وتعالى- إذاً فقم به؛ ثم ذكر موسى الذي قام بأمر الله -تبارك وتعالى- ثم يذكر بعد ذلك في آخر هذه السورة يعني قضية آدم، وأنه بتراخيه، نسيانه لعهد الله -تبارك وتعالى- في أن لا يأكل من الشجرة، وأن الشيطان لما أغواه، وأكل من الشجرة، انظر يعني كيف كان الأمر بالنسبة إليه، قال -جل وعلا- [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ] وهو أنه أسكنه الجنة، وقال له إياك أن تأكل من هذه الشجرة؛ فنسي نسي هذا الأمر الإلهى له [وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] يعني على الثبات على أمر الله -تبارك وتعالى- العزم الذي هو يعني أخذ الأمر بشدة، وقوة، ومن أجل تراخيه في الأمر؛ فإن الشيطان يعني استغل هذا، ووسوس له يعني أنساه عهد الله -تبارك وتعالى- فأكل من الشجرة [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ] يعني من قبل موسى، في البداية يوم بعد أن خلقه الله -تبارك وتعالى- فنسي أي عهد الله، ولم نجد له عزما.

 ثم فصل الله -تبارك وتعالى- هذا {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}[طه:116] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ ملائكة الرب -تبارك وتعالى- في السماء [اسْجُدُوا لِآدَمَ] أمر إلهي من الله -تبارك وتعالى- أن تسجد الملائكة لآدم سجود يعني تعظيم له، وتنفيذ لأمر الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- [فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى] سجدوا، وبين الله -تبارك وتعالى- أن جميعهم سجدوا، قال: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:30-31] إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى الإباء هو الامتناع، وامتناع إبليس كان عن كبر، وتعالي عن أن يسجد لمن يظن أنه هو دونه في الخلق، وفي المكان  {........إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}[طه:116]{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه:117] هذا عهد الله -تبارك وتعالى- لآدم [فَقُلْنَا يَا آدَمُ] خاطبه الله -تبارك وتعالى- باسمه إِنَّ هَذَا والمشار إليه هو إبليس [عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ] عدو ضد الصديق يحمل في قلبه الغل، والحسد [إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ] الذي هي حواء عليها السلام [فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى] إياك أن  يتمكن من أن يخرجنكما من الجنة؛ فَتَشْقَى الشقوة، الشقوة الدنيا، وليس فتشقى التي هي شقوة الآخرة، والدخول بالعذاب، وإنما هنا بين الله -تبارك وتعالى- هذه الشقوة.

 {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118] هي أن الجنة هي دار النعيم؛ فلا عمل فيها، ولا نصب، ولا وصب، وكل ما يتنعم به أمره موفر، موجود في جنة الرب -تبارك وتعالى- وأما إذا خرجت فيها؛ فإنك تشقى تنصب بالنصب، والتعب؛ فلا يأخذ طعامه كما يقال: إلا بعرق الجبين، لا بد أن ينصب، ينصب ليزرع، ويفلح، وليحصد، وليطحن، وينسج ليلبس؛ فلا بد شقوة، شقوة العمل الدنيوي حتى يكفى، يكفى حاجاته، ويقوم بمتطلباته في هذه الدنيا، في هذه الأرض فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا أي الشيطان [مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى].

 {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118]  إِنَّ لَكَ أي في هذه الجنة، جنة الرب، والصحيح أنها جنة الخلد، وجنة السماء، وليست جنة في الأرض كما قال، ومال إليه بعض المفسرين أن الله -تبارك وتعالى- بنى له بستاناً في الأرض يسكنه، ويفلح فيه، ويشتغل فيه، بل الصحيح أنها جنة الخلد بأدلة كثيرة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118] قال له: لا تجوع في هذه الجنة, و الجوع، وهذا أكبر، وأخص يعني حاجات الإنسان الطعام [وَلا تَعْرَى] من اللباس {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119] وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا الظمأ العطش [وَلا تَضْحَى] تضحى من التعب، والإرهاق؛ أضحى الإنسان بمعنى أنه أصابه الإعياء، والتعب من شدة العمل، ومن حرارة الشمس [وَلا تَضْحَى].

 قال -جل وعلا- [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ]  وسوس أي هذا الحديث الذي يحدثه الشيطان في قلبه أنه ألقى في نفسه بهذا الأمر الخفي {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}[طه:120] والشيطان هنا أتى بصيغة المراوغة، والكذب، وكذلك الإستدراج لآدم؛ فقال: [هَلْ أَدُلُّكَ] من باب العرض، وليس من باب الفرض بل عرض عليه الأمر عرض [هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ] الشجرة الذي إذا أكلت منها بقيت خالداً لا يصيبك موت [وَمُلْكٍ لا يَبْلَى] ملك إذا كنت فيه؛ فإنه لا يبلى لا يصيبه الفناء يعني الذهاب.

 قال -جل وعلا- {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:121] فَأَكَلا مِنْهَا تباعاً، واستدراجاً من هذا الشيطان الذي استدرجهم بهذا الكلام المعسول، الكذب، قال -جل وعلا- [فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا] نزل، وذهب عنهم اللباس الذي كان يواري عوراتهما؛ فنظر كل منهما إلى عورة الآخر، واستحيا استحياءً شديداً [وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] طفقا بدءا  [يَخْصِفَانِ] الخصف الذي هو نسيج الورق، أخذا من ورق الجنة ينسجاه حتى يجعلاه سترة، مآزر يئتزر بها يغطيا سوآتهم [وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] ورق الأشجار [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى] عصى آدم ربه في قوله لا تأكل من هذه الشجرة {........وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأعراف:19] فأكلا من الشجرة التي نهاهم الله -تبارك وتعالى- عنها، ذلك قال: [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ] إلهه، ومولاه الذي حذره من إبليس [فَغَوَى] كانت هذه غواية؛ ثم وقع ما وقع بعدها.

نقف هنا إن شاء الله، ونكمل في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب.