الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (379) - سورة طه 121-131

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

قال -جل وعلا- {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى }[طه:121-126]

يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد عهد إلى آدم في عدم أكله من الشجرة بعد أن أسكنه الله -تبارك وتعالى- بعد أن امتنع إبليس عن السجود له؛ فحذره الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}[طه:116]{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه:117] شقوة الدنيا بالعمل، والتعب لا تنال طعامك إلا بعرق الجبين؛ ثم قال له الله -عز وجل- عن الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118]{وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119] فكل أنواع الشقوة منزوعة من الجنة لأن كل حاجات ساكنها موجودة لا جوع، ولا عرى، ولا تعب، ولا نصب، قال -جل وعلا- طبعاً حسده الشيطان، وبقي إن الشيطان علم أن هذا هو سبب لعنه، وطرده من رحمة الله، قال -جل وعلا- {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}[طه:120] كذاب، كذب عليه، وأغواه وقال له أنا أدلك [هَلْ أَدُلُّكَ وبالعرض [عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ] إذا أكلت منها أصبحت خالداً، واصبحت ملكاً لا يأتيك موت [وَمُلْكٍ لا يَبْلَى] قال -جل وعلا- [فَأَكَلا مِنْهَا] كما قال -جل وعلا- [فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ] استزلهم  إلى معصية الرب بهذا التغرير [فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا] كشف الستر الذي كان الله -تبارك وتعالى- يستر به عوراتهما [وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] أنهم بدأوا يأخذوا من أوراق الجنة، ويخصفوه، الخصف نسج هذه الأوراق ليعملوا منها أزر يغطيان بهذه الأزر عوراتهم ]وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] قال -جل وعلا- {........وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:121].

 قال -جل وعلا- {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه:122] اجْتَبَاهُ اصطفاه الله -تبارك وتعالى- واختاره للهداية، وذلك بأن أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه كلمات التوبة {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23] كما قال -جل وعلا- {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:37] فَتَابَ عَلَيْهِ قبل توبته، وقبل رجوعه -سبحانه وتعالى- وهداه، هداه الله -تبارك وتعالى- إلى طريقه، وصراطه المستقيم قَالَ أي الرب -سبحانه وتعالى- لهما [اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا] أمره الله -تبارك وتعالى- بالهبوط من جنة السماء، جنة الخلد إلى هذه الأرض التي لا ينال الإنسان فيها طعامه، وشرابه، ويحافظ على حياته إلا بكدٍ، وشقوة دنيوية [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا] الخطاب موجه إلى آدم، وحواء عليهما السلام [جَمِيعًا] وقيل أيضاً جميعاً إما لأنهم يعني مما سيكون لهم بعد ذلك من الذرية، أو من أن يعني كذلك إخراج إبليس كذلك ليهبط معهم إلى هذه الأرض {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ........}[طه:123] [بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] يعني الشيطان عدو للإنسان، والإنسان عدو للشيطان.

 {........فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123] وكذلك بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ بعض الذرية سيكون أعداء لبعض أهل الإيمان أعداء لأهل الكفران، أهل كفر أعداء لأهل الإيمان [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] إذا جاءكم هدى من الله -تبارك وتعالى- وهذا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان صراط الرب -تبارك وتعالى- فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أي أيها الإنس، والجن  [مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى] هذا حكم الرب -سبحانه وتعالى- أن من اتبع هدى الله -تبارك وتعالى- من الجن، والإنس؛ فإنه لا يضل، ولا يشقى لا يضل عن طريق الله -تبارك وتعالى- ولا يشقى في الآخرة بالعذاب، وكذلك لا يشقى في الحياة الدنيا بالضنك، والقذر، والشرك الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- وجعله فرض على من أعرض عن ذكر الله -تبارك وتعالى- [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ] هداي منسوب إلى الله -تبارك وتعالى- هدى الله بأنه هو الموحي به، وهو المبين له -سبحانه وتعالى- فَلا يَضِلُّ عن الحق، بل هذا صراط مستقيم، صراط الله [وَلا يَشْقَى]

 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا........}[طه:124] [أَعْرَضَ] أعطى عرضه، ترك ذكر الله -تبارك وتعالى- ذِكْرِي رسالة الله -تبارك وتعالى- هي تذكير للعباد، وبيان لهم طريق الرب -سبحانه وتعالى- [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي] أو ذِكْرِي أن يذكر ربه -سبحانه وتعالى- إلهه، ومولاه، وخالقه، وأن يعبده وحده لا شريك له [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا] فإن الله يعني من الله تبارك وتعالى حكم إلهي هذا [مَعِيشَةً ضَنكًا] عيشة في هذه الدنيا ضنك، الضنك هو الضيق، أو الفراغ من الفائدة، والخير؛ فالإنسان إذا كان في فراغ من امتلاء قلبه بالعافية، والثبات، والإيمان، والتلهف للأمور، والسعي وراءها؛ ثم إذا نالها وجد أنها يعني لا تؤدي إلى استقراره، وسعادته هذا كله من معاني الضنك، الضنك الضيق معيشة كلها يعني ضيق هموم، وغموم، وفراغ من الحق، والخير [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ] ولا وصف أكمل لحياة الكافر المعرض عن ذكر الله -تبارك وتعالى- أكبر من هذا؛ فإن حياة كل كافر إنما هي حياته ضنك، حياتهم فارغة لا معنى لها، أو أنها موجهة للباطل للشر، كهذا المشرك الذي يبذل وقته، وجهده في عبادة مالا ينفعه، ولا يضره، بل ضره عليه أعظم في معاصي الرب -تبارك وتعالى- كل ما هو من نواهي الرب، إنما جعل الله -تبارك وتعالى- يعني جراثيم الشر فيه؛ فالزنا، وشرب الخمر، والقتل، والسفك، وكل ما نهى الله -عز وجل- عنه إنما هو فحش، فحشاء، ومنكر؛ فممارسة هذا مماسرة القذر، يعيش فى القذر، والضيق أمر لا يعود على صاحبه بالنفع الحقيقي غير ما أمر الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]ز

 {........فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] وَنَحْشُرُهُ الذي هو الجمع مع أشكاله يوم القيامة أَعْمَى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}[طه:125] عقوبة من الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الذي عمي عن الحق، وعن دين الله في الدنيا يعميه الله -تبارك وتعالى- يعمي كذلك بصره في الآخرة قَالَ رَبِّ قائل هذا مقالة الكافر [لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا] قد كنت بصيراً في الدنيا كانت لي عينان قَالَ أي الرب -جل وعلا-[ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا] أتتك آياتنا، آيات الله -تبارك وتعالى- جاءتك عن طريق الرسل؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يرسل آياته، وينزل وحيه على رسله، ويأمر هؤلاء الرسل بتبليغ هذه الرسالة للناس، قال: [أَتَتْكَ آيَاتُنَا] جاءتك، وصلتك الرسالة  {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1] فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل إليه هذا القرآن لينذر به العالمين، كلام الرب -جل وعلا- وفيه هذا الخطاب منه -سبحانه وتعالى- إلى الناس [قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا] أهملتها النسيان هنا بمعنى الإهمال يعني أهملتها ولم تعر لها انتباهاً، ولم تأخذها بمحمل الجد، وإنما أهملتها، وتركتها {........وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:126] نفس العقوبة، تعاقب بأن تنسى، تترك، تخلى، تهمل؛ فيترك في النار عياذا بالله، ولا يكون هناك اهتمام بشأنه، وإخراج له خلاص يهمل، ويترك تركاً أبدياً لا يأتي الوقت الذي تقال فيه عثرته، ويخرج من النار، ويدخل الجنة، لا، وإنما [كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى] الله -تبارك وتعالى- لا يغيب عنه عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وإنما النسيان هنا هو بمعنى أنه يترك، ويخلد يعني في النار عياذا بالله [وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى]

 ثم قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ........}[طه:127] وَكَذَلِكَ بهذا الجزاء أن يحشر أعمى، أن تكون له معيشة ضنك، وأن يحشر يوم القيامة أعمى، وأن يهمل، ويترك في النار تركاً، أبدياً لا ينقطع، ولا يسمع لاستغاثته، ولا لرجاءه، وصراخه، وإنما يترك وَكَذَلِكَ هذا الجزاء [نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ] في الكفر، والمعاصي، والشرك، الإسراف هو جواز الحد يعني جاوز الحد في أنه أشرك بالله -تبارك وتعالى- وكفر بالله -عز وجل- وارتكب ما ارتكب من هذه المعاصي الكثيرة [وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ] لم يؤمن بآيات ربه المنزلة إليه القرآن كلام الله -تبارك وتعالى- الله -تبارك وتعالى- ينزله من عنده كلامه، وينزله للبشر؛ ثم يأتي هذا الإنسان، ويتركه، ويهمله، ولا يأخذه على محمل الجد {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}[طه:127] وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ الذي يتهددهم الله -تبارك وتعالى- به هنا أشد من عذاب الدنيا، من عذاب الدنيا؛ فهو أَشَدُّ وَأَبْقَى فعذاب الدنيا الضنك، وإنزال بعض الأمراض، والأسقام، وما يأخذه الله -تبارك وتعالى- الكافر به من شدة [وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ] لكن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، وأبقى، وذلك لأنه لا يتحول، ولا يتغير بل هو باقٍ عليهم بقاء سرمدياً، أبدياً.

 ثم بعد ذلك يعني شاء الله -تبارك وتعالى- في الآيات الأخيرة التي هى ختام هذه السورة، الذي يذكر عباده بصنوف المواعظ، والأمور التي ينبغي يعني تجعل لهم ذكرا، توقظ إحساسهم، توقظ قلوبهم، قال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى}[طه:128] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ هذه القرون التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- قبلهم ألا يكون هذا، هذا الهلاك، وهم يرون مساكنهم، ويعلمون كيف كانوا في هذه الدنيا، وهذه عقوبة الرب نزلت بهم ألا تكون هذه هداية لهم، دافع لهم لأن يهتدوا إلى طريق الحق، والصواب، وأن الله الذي فعل هذا الفعل بهؤلاء المجرمين هو قادر على أن يفعل هذا الفعل بهم، وأن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك الأولين [أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ] يبين لهم، ويرشدهم الى الطريق، وينقذهم من هذا الضلال الذي هم فيه [كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ] ثم قال -جل وعلا- [يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ] يعني هؤلاء الكفار يسيرون بأرجلهم في المساكن التي كان يسكنها، تسكنها هذه الأمم الظالمة قبلهم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- فهذه مساكن قوم فرعون، وهذه أرض ثمود مازالت موجودة، وهذه أثارهم، وهذه الأحقاف التي كانت فيها عاد، وهذه القرى التي كان فيها لوط، وهذه مدين كان فيها قوم شعيب؛ فهم يمشون في مساكن القوم، مساكن القوم الذين، أراضي القوم الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى- [يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ] وبالتالي هذا إحساس يعني هم أحياء، ويبصرون، ويتحركون في هذه ما رأوا هذه ديار القوم، وأثارهم كيف أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بكفرهم، وظلمهم.

 قال -جل وعلا- [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى] في ذلك في إهلاكم الله تبارك وتعالى القرى يعني الظالمة الأولى هذه لَآيَاتٍ دلالات واضحات لِأُوْلِي النُّهَى النهى العقول سميت بالنهى العقول لأنها تنهى صاحبها عن فعل القبيح، عن الخطأ، والشر، ولكن ليست لهم يعني لهؤلاء عقول تنهاهم عما هم فيه من الضلال، والكفر.

 ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}[طه:129] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في أن يأتي هؤلاء يعني القوم عذابهم في وقت محدد حدده الله -تبارك وتعالى- وكذلك أن لا يستئصلهم الله بالنسبة للكفار الذين عاندوا النبي -صلوات الله وسلامه عليه- [لَكَانَ لِزَامًا] أن ينزل عليهم العذاب مثل مانزل على الأمم السابقة كان هذا لزاماً؛ ثم قال -جل وعلا- [وَأَجَلٌ مُسَمًّى] ولكن هو أجل مسمى، أجل لهم، أجل عند الله -تبارك وتعالى- مُسَمًّى يعني أنه محدد، ومكتوب، قد كتب الله -تبارك وتعالى- أجلهم الذي ينتهون إليه {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}[طه:129].

[ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ] إذا الأمر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[طه:130] فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ هذا الذي هو يعني ثمرة، وخلاصة هذه السورة، وبيانها أن يقوم النبي بهذا الأمر الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- فيه من الدعوة إليه، والقيام بأمره، وأن يصبر على هذا الأمر لأنه حمل {طه}[طه:1]{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}[طه:2]{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}[طه:3] فهذا الحمل العظيم الذي حملته يجب أن تقوم به، ويجب، وقد شرح له هذا الأمر من قصة موسى، ومن قصة آدم عليهما السلام [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ] ما يقوله هؤلاء الكفار، والذي يقولونه كلام كبير جداً؛ فقد قالوا له ساحر، كاهن، كذاب تريد من وراء هذه الدعوة غرضاً لنفسك {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] قولهم لن يمر انتظروا به يعني غيره من الشعراء الذين سبقوه سينتهي، أفك هذا الكلام سنفعل به، ونفعل ما قد قالوا هددوه بصنوف التهديدات [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ] كذلك من قولهم في الله -تبارك وتعالى- المقالات العظيمة كفرهم، عنادهم، وأن طريقتهم هي الحق، وأنهم يعبدون الملائكة ليقربوهم إلى الله، و،و،و مما قالوه من كلمات الكفر، والمعاندة لأمر الله -تبارك وتعالى- [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا] توجيه من الرب -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتوجه بالعبادة إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى- [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ] التسبيح التنزيه، والله هو السبوح المنزه عن كل شر -سبحانه وتعالى- الله -تبارك وتعالى- الذي لا يناله  نقص فهو الإله الحي القيوم الذى لا تأخذه سنة، ولا نوم، والذي لا يغفل عن شيء {........لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}[طه:52] فهو الحي الذي لا يموت -سبحانه وتعالى- وهو الحكم العدل الذي لا يظلم -سبحانه وتعالى- سبح عن كل عيب، ونقص -سبحانه وتعالى- [بِحَمْدِ رَبِّكَ] حال كونك ملتزم، ملتزماً بحمده؛ فالحمد إنما هو الثناء على الله -تبارك وتعالى- بما هو أهله من صفاته العليا -سبحانه وتعالى- ومن أعماله الجميلة، وكل عمله جميل، كريم -سبحانه وتعالى- فلا يعمل إلا خيراً -سبحانه وتعالى- فهو مجري النعم، وخالق الخلق، مدبر الأمر -سبحانه وتعالى- [وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ] وفيها هنا يعني حث على التسبيح لله تبارك وتعالى وأنه ربه رب النبي -صلوات الله عليه وسلم- إذا هو سيده، ومولاه، وإلهه، وخالقه -سبحانه وتعالى-

 [قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا] قبل طلوع الشمس، وقد شرع الله -تبارك وتعالى- لنا هنا صلاة واجبة  [قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ] وهى صلاة الفجر بمجرد ظهور النور إلى طلوع الشمس قد فرض الله -تبارك وتعالى- على المسلمين هنا صلاة فيها ذكر الله -تبارك وتعالى- وتسبيحه، وتحميده، التي هي صلاة الفجر، وهي أعلى، وأشرف صلوات {........وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78] لذلك قدمت هنا [قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا] صلاة العصر، وهي صلاة فرضها الله -تبارك وتعالى- على المسلمين قبل الغروب من منذ أن يكون ظل كل شيء مثله إلى أن تغرب الشمس صلاة فرض الله -تبارك وتعالى- المسلمين التي هى صلاة العصر، وهاتان هم أشرف الصلوات الخمس، وفي فضلهما مع بعضهما أحاديث كثيرة، وآيات كثيرة أولا قول الله -تبارك وتعالى- {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238] وقيل أنها صلاة العصر، لقول النبي «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأالله قلوبهم، وبيوتهم نارا»  دعاء من النبي -صلى الله عليه وسلم- على الكفار في يوم الخندق، وقد قال صلى الله عليه وسلم من صلى البردين دخل الجنة وصلاة الصبح، وصلاة العصر تأتيان في أوقات تغير الليل والنهار، وفيهما آية من آيات الله -تبارك وتعالى- فهذه صلاة الفجر بعد آية الليل، ودخول آية النهار وقت عظيم جداً فيه، يعني فيه ذكر، و هذا  الرب الإله الخالق، والإنتقال من الليل إلى النهار أمر عظيم {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}[الفرقان:61]{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[الفرقان:62] فإقامة الصلاة في هذا الوقت العظيم، وكذلك بالنسبة لوقت العصر وقت المساء كذلك الانتقال من وقت، قد أصبح قريبا الانتقال من وقت النهار إلى وقت الليل؛ ثم دائماً يكون هذين الوقتين أيضا بعد يعني نوم، وراحة لذلك أعتنى بهما عناية خاصة.

{........وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[طه:130] [وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ] آنأه إحياؤه أوقات الليل كلها، وقد شرع الله -تبارك وتعالى- لنا يعني الصلاة في أول الليل هي صلاة المغرب، وصلاة كذلك بعد مضي دخول وقت الليل، وانتهاء كل أثر للنهار الذي هو من مغيب الشفق الأحمر، وهي صلاة العشاء [وَأَطْرَافَ النَّهَارِ] أيضاً من طرف النهار الذي هو وسط النهار هذا أيضاً يعني طرف من أطرافه، وهو صلاة الظهر، ويدخل في هذا كذلك غير الصلوات الخمس التي فرضها الله -تبارك وتعالى- في هذه المواقيت يعني الصلوات النافلة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- شرع للمؤمن أن يصلي في كل هذه الأحيان النهار، والليل إلا في أوقات نهى النبي عن الصلاة فيها التي هي بعد صلاة، بعد شروق، بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وكذلك الوقت الصغير الذي هو وقت الزوال؛ فهذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- هي أن يحافظ على هذه الصلوات التي فرضها بعد ذلك فرضاً، وهي الصلوات الخمس فرضت في السماء، وأصبحت صلوات مفروضة، وكذلك بالنوافل التي تكون يعني بعد هذه الصلوات {........وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[طه:130] يعني بالحفاظ على هذه الصلوات، وبالحفاظ على تسبيح الله -تبارك وتعالى- وتحميد القيام بتسبيحه، وتحميده، قال -جل وعلا- [لَعَلَّكَ تَرْضَى] بما يعطيك الله -تبارك وتعالى- من المثوبة، والأجر، والحظو عنده، والرضوان لمن يقوم بهذا العمل [لَعَلَّكَ تَرْضَى] وهذا حث منه -سبحانه وتعالى- على فعل هذا الخير، والقيام بأمره -سبحانه وتعالى- لأن عاقبة هذا هو رضوان الله -تبارك وتعالى- وإرضاء الله -تبارك وتعالى- المؤمن بما يفيض عليه من الخير في الآخرة.

 ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:131] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ مد العين هو اطالة النظر يعني لا تطل نظرك [إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ] ما متعنا به الذي هو استمتاع وقتي [أَزْوَاجًا مِنْهُمْ] من الكفار أنواع، أصناف من الكفار. الله -تبارك وتعالى- يخبر بأنه متعهم بهذه الدنيا من الأموال الكثيرة، من الدور، والقصور، والمراكب، وسائر ما يشتهون من النساء، والخيل، وغير ذلك [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ] إلى الذي متعنا به، قال -جل وعلا- [أَزْوَاجًا مِنْهُمْ] ثم قال -جل وعلا- [زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ] زهرة الحياة الدنيا، زهرة الحياة الدنيا بيان أنه يعني وقت قليل، وأن عمر هذا المتاع كعمر الزهور لا يدوم، ولا يبقى كما قال -جل وعلا- {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا.......}[يونس:24] أي بالنبات [وَازَّيَّنَتْ] بصنوف الزهور، والنباتات [أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ] وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف:45] لا يشب حتى يهيج يصفر؛ ثم يكون حطاماً بعد ذلك [زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا]  أو زهرة الحياة الدنيا يعني انفتاحها، وجمالها أنها هذه فقط؛ ثم هذه الحياة الدنيا ليست الحياة الباقية إنما هي حياة دنيوية، دنيئة، قصيرة، منتهية.

 ثم قال -جل وعلا- [لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] لنفتنهم فيه لنختبرهم بهذا الذي أعطيناهم إياه في هذه الدنيا، أو لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لتكون يختبرون، وتكون العاقبة سيئة بأن يعني ينشغلوا بهذا المتاع، ويتمسكوا به، وينسوا به الآخرة؛ فعند ذلك يفتنون عياذاً بالله {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7] ثم قال -جل وعلا- [وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] رزق ربك في الآخرة خير من هذه الدنيا [وَأَبْقَى] لأنه متاع، متاع الآخرة متاع باقٍ لا يزول، ولا يحول متاع الجنة، أسال الله -تبارك وتعالى- أن يجعلها مستقرنا، وإخواننا المؤمنين.

أستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب.

 نكتفي اليوم بهذا، ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.