السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (38) - سورة البقرة 133-138

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:133]، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:134]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن إبراهيم -عليه السلام- قد وصى بنيه، وأن يعقوب قد وصى بنيه كذلك، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم، كلٌ منهم وصى أولاده من بعده قائلًا لهم {........ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:132]، فكلٌ قد أوصى ذريته وأولاده بأن يتمسكوا بالدين وبالإسلام حتى الموت، وذلك أنه اختيار الله –تبارك وتعالى- لهم، ونعم الاختيار، هذا الاختيار هو الذي في الفوز والفلاح والنجح في الدنيا والآخرة، ثم قال -جل وعلا- {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ}، الكلام كله في معرض الحجَاج مع اليهود، الذين زعموا أنهم قد نالوا البركة، التي بارك الله -تبارك وتعالى- فيها إبراهيم، وأنهم ما داموا أنه من نسله فهو مبارك، وأن جميع هذا النسل مبارك، وهم شعب الله المختار، الذي الدين لهم وحدهم، والجنة لهم دون الناس، ولا يمس أحد منهم النار إلا أيام معدودة، إن كان قد وقع في معصية فإنه لا يعاقب إلا أيام معدودة، ثم يكون مآله إلى الجنة، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- لهم، أن عهد الله -تبارك وتعالى- لا يناله الظالمين، وأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، وأنه أوصى أولاده بالإسلام وبالحنيفية وبتوحيد الله -تبارك وتعالى-، وأن يعقوب كذلك كان مسلمًا حنيفًا لله -تبارك وتعالى-، مائلًا عن كل طرق الشرك، وأنه وصى أولاده بأن يعبدوا الله لا إله إلا هو.

قال الله -تبارك وتعالى- وهذا خطابٌ لأهل الكتاب، {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}، أي هل كنتم حاضرين عندما كان يعقوب على فراش الموت؟ حضره الموت، فقال لبينه لأولاده ما تعبدون من بعدي؟ هذا سؤال يختبر بهم تمسكهم بالدين، وهل هم على الدين والملة؟ التي هي الإسلام، وهي التي هو عليها ودعى إليها أم لا، {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}، ما قال لهم مَن، ومَن في اللغة تستخدم للعاقل، وما تستخدم لغير العاقل تشمل هذا وهذا، {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}، ما الذي تعبدونه من بعدي؟ هذا لأنه في موضع الاختبار، أي شيء تعبدونه من بعدي؟ قالوا مجيبين {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، شَهِدَ هؤلاء الذرية الاثنى عشر قالوا {نَعْبُدُ إِلَهَكَ}، معبودك الذي تعبد، الإله هو المعبود، ويطلق الإله على كل ما يُعبَد حقًا وباطلًا، فالله هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو على الحقيقة –سبحانه وتعالى-، وغيره إذا سمي إله فباطل، تسمية فقط، اسم على غير مسمى حقيقي، يسمى بإله وبغير إله، فالشمس قيل لها الإلهة، والأصنام جعاها عُبَّادها آلهة، {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، و{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ........}[الأنبياء:59]، هذا كلام قوم هود "بآلهتنا"، سموها آلهة، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ........}[النجم:23]، فإذا سميت الشمس أو القمر أو البقر إلهًا فهل تكون إلهًا؟! لا تكون إلهًا، لأن الإله لا يكون إلى خالقًا، رازقًا، محييًا، مميتًا، بيده نفع من يعبده، وبيده ضرُّه، وهذا ليس إلا لله رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، الخالق الذي لا إله إلا هو، فهو الإله الحق، ويعقوب كان يعبد الله -تبارك وتعالى- لا إله له إلا الله، قالوا {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} أي يا يعقوب، {وَإِلَهَ آبَائِكَ}، الإله الذي عبده آباؤك؛ {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، هذه هي آباء يعقوب، إبراهيم جده الأعلى، وإسماعيل هذا عمه أخو أبيه، وإسحاق أبوه.

{إِلَهًا وَاحِدًا}، حال كون هذا الإله إلهًا واحدًا، فلم يكن لأي أحد من هؤلاء إلا إلهٌ واحد، هو الرب الواحد، أي هؤلاء جميعًا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وكذلك يعقوب لم يعبدوا إلا إلهًا واحدًا، هو الله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، شهادة منهم بأنهم مسلمون لهذا الإله، أي منقادون مذعنون خاضعون لهذا الإله، هذا احتجاج كامل على اليهود بأن آباءهم إنما عبدوا الرب الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، رب إبراهيم، ورب إسماعيل، ورب إسحاق، ورب يعقوب، وأنهم جميعًا كانوا مسلمين بالله منقادين مذعنين.

ثم قال -جل وعلا- {تِلْكَ أُمَّةٌ}، تلك بالإشارة للبعيد أمة، أي هؤلاء المذكورون -الذين ذُكروا- أمة، {قَدْ خَلَتْ}، قد خلت أي أنها مضت في الزمن الأول، {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، من الخير؛ من هذا الخير الذي شهد الله -تبارك وتعالى- به، إيمانهم، توحيدهم، إسلامهم لله -تبارك وتعالى-، {وَلَكُمْ}، أنتم المخاطبون، أنتم الذرية، {مَا كَسَبْتُمْ}، أي أن كسب الآباء لهم، ولا ينفعكم إن كنتم على غير دينهم وعلى ملتهم، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}، فإيمانها وتوحيدها وإسلامها لها، وليس لكم أنتم أيها المخاطبون، {وَلَكُمْ}، أنتم المخاطبون، المعاصرون لنزول هذا الوحي، {مَا كَسَبْتُمْ}، ولا شك أن الذي كسبوه، قد كسبوا رد هذا الدين، الكفر به، معاداة هؤلاء الرسل، فعليكم؛ الذي تكسبونه عليكم، ولا ينفعكم كسب الآباء إذا لم تكونوا على طريقتهم وعلى ملتهم وعلى دينهم، لكم ما كسبتم كذلك من خيرٍ وشر، فإن كنتم قد كسبتم الإيمان والتوحيد، وسرتم مع هذا المسار فأنتم منهم، وإن كنتم قد كسبتم غير ذلك فهذا لكم، وتحاسبون عليه، {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لن تسألوا عن عمل آبائكم، وإنما ستسألون عن عملكم أنتم، هذا قطع لصلة الكافرين بالمؤمنين، فهؤلاء الكفار الذين كفروا بالله -تبارك وتعالى- وعادوه، ليسوا على طريق هؤلاء المؤمنين، فتلك الأمة قد خلت ولها ما كسبت، وهؤلاء المخاطبون لهم ما كسبوا، {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، تكاد تكون هذه الآية قد حسمت كل الدعاوي التي ادعاها اليهود والنصارى، بأنهم أهل الجنة، وأنهم شعبه المختار، وأن دينهم هو الحق، وأن ما هم عليه هو الحق، وأنهم مباركون ببركة إبراهيم، وببركة يعقوب، حسمت هذا الأمر، وفصلت بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ولكن هؤلاء اليهود والنصارى لا تنقضي دعاواهم، في أنهم أهل الهدى، وأن غيرهم على ضلال، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- المبعوث بالرسالة والدين، ليس على الطريقة الصحيحة.

قال -جل وعلا- {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:135]، {وَقَالُوا}، كلٌ من اليهود والنصارى، {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}، أي قال اليهود للمسلمين تريدون الفلاح كونوا يهود، وقال كذلك النصارى للمسلمين تريدون الفلاح والنجاح كونوا نصارى، فكلٌ دعى إلى دينه وإلى ملته، {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، تكونوا على الهداية والطريق، قال -جل وعلا- {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، أرجعهم الله -تبارك وتعالى- هنا إلى الأصل، الذي لا يختلفون عليه، والذي ينتمون كلهم إليه، وكلهم يعتز به، فاليهود يعتزون بإبراهيم، والنصارى يعتزون بإبراهيم ويرون أن ملتهم هي إليه، وأنهم على دينه وطريقته، فالله -تبارك وتعالى- قال أتركوا الآن هذه الدعاوى {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}، بل من كان على ملة إبراهيم هو الذي اهتدى، {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}، بل تعالوا جميعًا نتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا، الحنف أصله في اللغة هو الميل، ومنه يقال لمن كان فيه ميل في قدميه يقال له أحنف، وقيل سبب تسمية طريقة إبراهيم بأنها طريقة مائلة، قال لأنه مال عن كل طريق الشرك -مال عنها-، فإن الأرض في وقته كانت مطبقة على الكفر والشرك، فمال عن كل هذه الملل، واتخذ طريقه المستقيم إلى الله -تبارك وتعالى-، حنيفًا أي مائلًا عن كل طرق الشرك والكفر، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، لم يكن مشركًا، كالحال والشأن الذي عليه اليهود والنصارى، فإن النصارى مشركون، قد جعلوا عيسى وهو عبد الله جعلوه إلهًا مع الله -تبارك وتعالى-، بل جعلوه هو الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وكذلك صنع اليهود في عُزير، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، بل قد كان حنيفًا مسلمًا -صلى الله عليه وسلم-، {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، فدعاهم إلى الأصل الذي لا يختلفون عليه، {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ثم بيَّن أن طريقة الإسلام هو الإيمان بكل هؤلاء الرسل، واتِّباع منهجهم، وأن منهجهم واحد، قال -جل وعلا- {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136]، {قُولُوا}، أي أيها المؤمنون بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وقولوا الجميع إذا أردتم الهداية بالفعل، ليس أن يقول اليهود نحن أهل الهداية وحدنا، والنصارى نحن أهل الهداية وحدنا، ويكَّفر كلٌ منهم الأخر، ويكفِّرون أهل الإسلام، لا الهداية هي طريقٌ واحد، وهي طريق هؤلاء الرسل جميعًا، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}، دعوة من الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله وإلى المؤمنين، أن يقولوا آمنا بالله، الإيمان تصديقٌ وعملٌ بمقتضى هذا التصديق، بالله؛ الله علم على ذات الرب -جل وعلا-، الله المعلوم عند كل الأمم بهذا الاسم، خالق السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، وخالق هذا الكون رب العالمين -سبحانه وتعالى-، {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا}، وما أُنزل إلينا إلى أهل الإيمان، اتباع محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وما أنزل إليهم هو هذا القرآن، {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ}، ما أنزله الله -تبارك وتعالى- إلى إبراهيم نحن مؤمنون به، وإن كنا لم يصلنا نصوصه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أخبرنا في القرآن فيما أنزل على محمد مضمونه، وما دعا إليه إبراهيم، فالذي أنزل على إبراهيم آتانا كذلك عن طريق النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، ابن إبراهيم بكرٌه، وإسحاق ابنه الثاني، وهو من زوجته الثانية -الابن الثاني-، ويعقوب بن إسحاق، {وَالأَسْبَاطِ}، الأسباط أولاد يعقوب الاثني عشر، وقيل أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل عند العرب، أسباط بني إسرائيل قبائلهم، وكلهم ينتمون إلى الاثنى عشر ولد من أولاد يعقوب –عليه السلام-، فما نزل على هؤلاء الأسباط وما كان فيهم من الأنبياء كذلك نحن نؤمن به، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}، ما آتاه الله -تبارك وتعالى- لموسى، وقد آتى موسى التوراة، وآتاه وحيه، وكذلك عيسى أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه الإنجيل، وهذا آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، الذين ينسبون إلى يعقوب.

{وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ}، ما أوتي بالبناء لغير المعلوم، والذي يؤتي الأنبياء هو الله -سبحانه وتعالى-، أي ما آتاه الله وأنزله على الأنبياء، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}، كل هؤلاء الأنبياء نحن لا نفرِّق بين نبي ونبي، فنقول نؤمن بهذا ونكفر بالآخرين، أو نؤمن بهم كلهم ونكفر بهذا، فاليهود يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون بالبعض الأخر، فقد كفروا بعيسى وهو عبد الله ورسوله وجاءهم بالبينات ومنهم، يعلمون صدقه وأمانته ولكنهم رفضوه وكفَّروه، وقالوا في أمه المقالة الشنيعة العظيمة، والنصارى آمنوا بالأنبياء السابقين، ولكنهم كفروا بمحمد، الذي يعلمون صفته عندهم، فهو رسول الله، أعظم رسل الله -تبارك وتعالى-، الذي لا رسول قد أوتي من البينات والمعجزات والأدلة الواضحات أكثر منه، ومع ذلك كفروا به، هذا مع اتهام كذلك اليهود لكثير من الأنبياء غير عيسى، فمقالتهم الشنيعة في لوط –عليه السلام-، ومقالتهم الشنيعة في الأنبياء أمر عظيم جدًا، فأهل الإيمان؛ الدين الذي بعث به النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- هو إيمانٌ برسل الله الصادقين جميعًا -هؤلاء المذكورون-،  {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}، فنؤمن ببعضهم ونكفر بالبعض الآخر، التفريق هنا في الإيمان، وكذلك قد يكون التفريق في المحبة والبغض، يعنى لا نبغض أحدًا في الأنبياء ولا نكرهه، ولا نتهم نبي بفِرية كما الشأن في اليهود، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، نحن لهذا الرب -جل وعلا - مسلمون، أي منقادون مذعنون له.

قال -جل وعلا- {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا}، أي هؤلاء الذين يقولون {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، اليهود يقول للمسلمين خليك يهودي، كن يهودي تكن على الهداية، والنصراني يقول لهم كن نصراني تكن على الهداية، قال -جل وعلا- إن آمنوا بمثل ما آمنتم به من الإيمان بالرسل جميعًا فقد اهتدوا، اهتدوا؛ وفقوا إلى طريق الخير والصراط المستقيم حقًا، {وَإِنْ تَوَلَّوْا}، إن تولوا عن هذا والتولي هو الإعراض وترك الطريق، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}، فإنما هم في شقاق، أي كأن الشقاق ظرف هم داخلون فيه، والشقاق هو الخلاف، لأن هذا يصبح في شق وهذا في شق، مختلفين كأن كلٌ منهم في شق، في جانب، فهم في شقاق، اليهود مختلفون في دينهم، فقد اختلفوا إلى أكثر من إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مختلفون في دينهم، يكفِّر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، واليهود يكفِّرون النصار ويقولون ليست النصارى على شيء، والنصارى يكفِّرون اليهود ويقولون ليست اليهود على شيء، فهم يعيشون في بوتقة وفي ظرف هذا الشقاق، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}، فهؤلاء المختلفون المتشاققون كيف يدعو كلٌ منهم إلى دينه! والحال أنهم في أصل دينهم هم مختلفون فيه هذا الاختلاف، قال -جل وعلا- {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}، ومثل الذين في شقاق لا تقوم حجتهم على الأخرين.

قال -جل وعلا- {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}، هذه بشارة من الرب -تبارك وتعالى- وتأمين منه لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، بأن مكر اليهود والنصارى وسعيهم في إبطال رسالة الرسول سيبطل، ولن تقوم لهم قائمة، {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}، سيكفكهم أي سيتولى الله –تبارك وتعالى- أمرهم دونك فيكفيك إياهم، أي يكفيك من شرهم، يكفيك هذا الأمر ويتولى عنك -سبحانه- حربهم وصدهم، أي إبطال سعيهم ومكرهم، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، الرب -تبارك وتعالى- هو السميع، السميع لك، العليم بحالك أنك رسوله وعبده، ولذلك هو سيتولى شأنك وسيبطل كيد هؤلاء، هذا تأمينٌ عظيم من الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلوات الله والسلام عليه-، وأن دينه سيعلو، وأن اليهود والنصارى مهما مكروا فلن يصل مكرهم إلى إطفاء نور الله.

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة:138]، {صِبْغَةَ اللَّهِ}، الصبغة هو الطلاء الكامل، ومنه الصبغ، صبغت هذا الشيء بمعنى طلاء وتغطية لهذا الأمر المصبوغ، الدين الذي جاء به النبي -صلوات الله والسلام عليه- جعله الله -تبارك وتعالى- صبغة، يصطبغ بها القائم به، فاعله المؤمن، وذلك أنه دين يشمل تصرفات العبد كلها، ويحكم سلوكه، يزكي نفسه ويطهرها ويسلكها في مسلك يريده الله -تبارك وتعالى- ينشئه، فأعمال قلبه وأعمال جوارحه وصفاته تصطبغ بهذا الدين، وهو دينٌ ناصع نظيف، فمن تمسك به امتلأ قلبه حكمة، إيمان، نور، برهان، يقين، امتلأت أعماله كلها رحمة، عدل، إحسان، كالصدق والوفاء والاستقامة، عبادة للرب –تبارك وتعالى-، فهذا الدين صبغة كاملة، والله نسبه إليه قال {صِبْغَةَ اللَّهِ}، أي دينه الذي يصبغ الله -تبارك وتعالى- به سلوك أتباعه، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}، والجواب لا أحد أحسن من الله صبغة، فأي دين، أي ملة، أي هوى، أي تشريع لا يمكن أن يخرج إنسان بهذه المواصفات، التي يخرج الله -تبارك وتعالى- بها الإنسان المؤمن.

فإن الإنسان المؤمن له مواصفات عظيمة، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1]، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5]، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6]، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون:7]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9]، هذا مواصفات العبد، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63]، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64]، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65]، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:66]، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}[الفرقان:68]، هذه مواصفات عباد الرحمن، هذه الصبغة، هذا الإنسان بهذه المواصفات يخرجه الله -تبارك وتعالى- بهذا الدين، انظر النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد، والصفوة التي أخرجها الله -تبارك وتعالى- بهذا الدين، انظر حال هذه الأمة في الشرك والكفر قبل الإسلام، ثم كيف أقامها الله -تبارك وتعالى- وصبغ كل عبدٍ فيها بهذه الصبغة الربانية الإلهية، فكان إنشاء آخر، أنظر إلى المسلم أي هذا الفرد في الإسلام، وكيف كان في الجاهلية! كان في الجاهلية جاهل طائش، يعبد حجرًا، شجرًا، يؤمن بالتُرهات بالأوهام، يقتل ابنه مخافة أن يطعم معه، يعتدي على الآخرين ويفتخر بعدوانه، فالظلم من شيمته، لكن انظر كيف أخرج الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة الأمية، من جهلالتها إلى هذا الدين، أنشأها إنشاء آخر، هذه الصبغة.

قال الله {صِبْغَةَ اللَّهِ}، أي هذا الدين العظيم هو صبغة الله، {........ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة:138]، قولوا هذا لأهلنا، قولوا هذا لأهل الكتاب، الذين يقولون تعالوا كونوا يهود حتى تهتدوا، وتعالوا كونوا نصارى حتى تهتدوا، قل بل نصطبغ بصبغة الله، نسير في دينه ونصطبغ بصبغة الله في هذا الدين، فنخرج أمة أخرى، نشئًا آخر، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ}، أي القائلون هذه المقالة، {لَهُ}، للرب -تبارك وتعالى-، {عَابِدُونَ}، قيل أيضًا أن من سبب نزول هذه الآية {صِبْغَةَ اللَّهِ}، أن النصارى كان عندهم من طقوسهم أنه عندما يولد المولود يأتون بماء ويلونون هذا الماء لون أصفر، ثم يأتون بالحبر أو القسيس ويضع هذا الطفل المولود في هذا الماء، يغمسه فيه ويخرجه، ويقولون نغمسه فيخرج مصبوغ بصبغة النصراني، نصبغه بهذا، وهذا العمل طقس، مجرد إدخال مولود في ماء أصفر، أو ماء يسمى ماء مبارك، وإخراجه لا يخرج به نصراني، لأن إنما الصبغة الحقيقية إنما هي بالدين وبالتخلق بالدين القويم، فهذه صبغة الله، نحن نصطبغ بصبغة الله وليس بمجرد أن يغطَّس إنسان ويوضع إنسان في ماءٍ يقال إنه ماء مبارك، ويخرج على النصرانية، {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة:138].

نقف عند هذه الآية، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.