الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (381) - سورة الأنبياء 1-11

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبدالله، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد  فيقول الله -تبارك وتعالى-

بسم الله الرحمن الرحيم

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:1-6]

هذه الآيات في افتتاح سورة الأنبياء، وهي من القرآن المكي، افتتح الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الصورة لغفلة الناس عن هذا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى- وعن هذا الرسول الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- رسولاً للعالمين ينذرهم أعظم أمر مخيف، وهو عقوبة الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:1] وحسابهم في الآخرة، وقربه من الناس أولاً بقرب آجالهم؛ ثم بقرب نهاية عمر هذه الدنيا؛ فإن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو النبي الخاتم، ختم به الرسل لا نبي بعده -صلوات الله والسلام عليه- وعمر أمته الباقي في الزمان القديم عمر قليل بالنسبة لما مضى من الأزمان، ومن الدهور؛ فقد اقتربت الساعة، واقترب يوم القيامة، وأزف الرحيل، ونهاية هذا الكون المشاهد، وقيام الناس لرب العالمين ليحاسبهم -سبحانه وتعالى- فمع اقتراب القيامة الكبرى للناس جميعاً، وأن يأخذ كل حسابه، وما يترتب على هذا الحساب من الأمر العظيم من خلود من يخلد في النار السجن الأبدي الذى لا ينقطع الذي لا يموت أهله، ولا يستريحون ساعة من نهار فيه، والبستان، بستان الرب، جنته -سبحانه وتعالى- وفيها النعيم المقيم.

يقول: [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ] ومع ذلك هم في غفلة معرضون، هذه جملة حالية تبين حال الناس مع اقتراب الحساب ها قد دنا حسابكم أيها الناس، وأنتم في غفلة معرضون [وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ] الغفلة ضد الذكر كأنه غافل بمعنى كالذي قد غطى على عقله، أو غفل بالنوم، وترك هذا الأمر [مُعْرِضُونَ] يعني معطون عرضهم لهذا الذكر {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:1] عمن يذكرهم بهذا الحساب، ويدعوهم إلى ربهم، وإلههم، ومولاهم -سبحانه وتعالى- {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء:2] مَا يَأْتِيهِمْ يأتي هؤلاء الناس المكذبين، الغافلين، اللاهين [مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ] تذكير من الله -تبارك وتعالى- قرآن من الله -تبارك وتعالى- يذكر الله -تبارك وتعالى- به عباده بهذا الأمر العظيم الذي هم مقدمون عليه، وبالحساب، وبالموقف بين يدي الرب -تبارك وتعالى- [مُحْدَثٍ] جديد يعني كل ما تتنزل أمر جديد من الله -تبارك وتعالى- موعظة جديدة[ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ] يستمعوا هذا الذكر، وهم يلعبون يعني أنه، والذي يكون في حال اللعب ويسمع ما يسمع من الذكر فإنه لا يعمل به، ولا يلتفت إليه، وقول الله -تبارك وتعالى- [مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ] يعنى أنه ربهم خالقهم، سيدهم -سبحانه وتعالى- وكان ينبغي أن يصيغ سمعه إلى كلام ربهم -سبحانه وتعالى-  لأنه ربهم معناه أنه -سبحانه وتعالى- الذي يريد لهم الخير؛ ثم حقه عليهم -سبحانه وتعالى- لأنه هو خالقهم، ورازقهم، ومتولي شؤنهم -سبحانه وتعالى- ومع ذلك، والكلام أتى ، آتٍ إليهم من ربهم، ولكنهم معرضون عنه، ولا يستمعون هذا الكلام إلا، وهم يلعبون [لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ] لاهية قلوبهم اللهو هو الانشغال بما لا يفيد، قلوبهم لاهية، ونسب الله -تبارك وتعالى- اللهو للقلوب أن هذا أمر أساس فكرهم؛ فالقلب هو محل التفكير قلبهم لاهي بمعنى أنه بعيد كل البعد عن أن يقبل الذكرى؛ فهذا أول وصف لحال الناس عندما يأتيهم هذه التذكير من ربهم -سبحانه وتعالى-.

 ثم الأمر الآخر افترائهم، وردهم يعني الحق النازل لهم من الله -تبارك وتعالى- بالشبهة، والافتراءات، قال -جل وعلا- {........وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:3] [وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] الذين ظلموا أسروا النجوى، أسروها يعني أنه يتناجى بعضهم مع بعض، كل يتكلم مع الآخر، قال: [الَّذِينَ ظَلَمُوا] وذلك أن فعلهم هذا بالنجوى الذي يتناجون فيها، ويتهمون فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه ليس رسولاً من الله -تبارك وتعالى- وأنه كيف يتخذ الله رسولاً من البشر، لما لم ينزل رسولاً من الملائكة [وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] وهذا بظلمهم، هذا بظلمهم وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هؤلاء الكفار [هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] يعني هذه مقالتهم بعضهم لبعض هَلْ هَذَا مشيرين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشاروا إليه بصورة القريب لأنه قريب منهم وهذا كذلك من باب استصغار شأنه، واحتقار أمره [هل هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] يعنى رجل مثلكم، وبشر مثلكم لماذا يتفضل عليكم، ولماذا يختاره الله -تبارك وتعالى- دونكم.

[ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ] أفتأتون السحر يعني أيها الرسل، مقالتهم وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أن هذا الذي جاءت به الرسل، وهذا الذي جاء به الرسول إنما هو مقالة ساحر؛ فكيف يفعل هذا، ويأتي بهذا الكلام السحر ليفرق الجموع، ويلبس عليهم، ويخبرهم بأنه هو رسول من الله، والحال أنه ليس كذلك، هذه نجوى هؤلاء المجرمين من الكفار بعضهم مع بعض، وهذا وصفهم للنبي بأنه مجرد بشر لا ينبغي أن يتفضل عليهم، وأن يرسل الله بشراً؛ ثم أنه الكلام الذي جاء به إنه نوع من السحر.

 قال -جل وعلا- {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنبياء:4] قَالَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ربي، وهو الذي أرسلني، ومقالته من عنده يَعْلَمُ الْقَوْلَ كل قول يقال قولي، وقولكم في السماء، والأرض؛ فيعلمه [وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] السميع بكل الأقوال الْعَلِيمُ بكل الأحوال -سبحانه وتعالى- فلا يغيب عنه شيء، واسناد العلم، والسمع، والبصر إلى الله -تبارك وتعالى- بخلقه بالرسول، وبهم فيه أولاً بيان أنه لا يمكن أن الله -تبارك وتعالى- يقر على باطل؛ فلو كنت مفترياً على الله، وكاذباً عليه؛ فكيف يقرني على يعني ما أقول، وبالتالي كذلك هو تهديد لهم، أنتم عندما تجدوفون بهذا، وتدفعون يعني آية الرسل، وتقولون ألست مرسلاً، وأنا رسول من الله -تبارك وتعالى- فأنتم تعارضون الرب، وهذا الذي تفعلونه بسمع الله، وبصره إذاً فانتظروا العقوبة {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنبياء:4] وهذه مقالة من الرسول فيها أمر شهادته له أولاً أنه رسول الله حقاً، وصدقا لأن الله لا يمكن أن يقره على أن يكذب عليه، ويفتري عليه، وكذلك تهديد لهؤلاء المجرمين المعاندين الذين يعني دفعوا الإيمان بالرسول -صلوات الله والسلام عليه.

 قال -جل وعلا- {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}[الأنبياء:5] أربعة أمور من أمور الباطل يرمون بها في وجه النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكلها أمر، كل واحد منها ينقض الآخر مما يدل على أنهم في قول مختلف، قالوا: [بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ] بل قالوا أن الذي أتى به النبي من الذكر، وهذا القرآن الذي جاء به النبي محمد، هو أَضْغَاثُ أَحْلامٍ  أضغاث جمع ضغث، والضغث هو يعني الأمر المختلط كالحصيد المجموع من النبات هذا ضغث لأنه خلط من هذه النباتات [أَضْغَاثُ أَحْلامٍ] يعني أنها أحلام متفرقة في شؤون شتى كما يحلم الإنسان، ويخرج من وادي إلى وادي، ومن قضية إلى قضية، ومن ناحية إلى ناحية, فهذه مجموع من الخلطة من هذه الأحلام مجموعة، وهو يأتي بها؛ فانظر ظلم هؤلاء المجرمين في تصويرهم كلام الرب الحكيم المنزل من عنده -سبحانه وتعالى- الموضوع كل يعني الأمر في نصابه صدق الذي هو الصدق فيه، والذي أتى ببيان وصف الرب -تبارك وتعالى- وصفته، وصراطه المستقيم  وما أخبر -سبحانه وتعالى- فيه عن غيبه، وعن رسالاته، وعن أحكامه يسمون هذا أضغاث أحلام، أنها أخلاط مما يراها النائم في أحلامه، وأتى به النبي [بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ] هذا أيضاً مما فسروا به الوحي، وقالوا به عن وحي النبي بأنه افتراه، كذبه يعني اختلقه من عنده، وكذبه، وطبعاً أن يكون قولهم [أَضْغَاثُ أَحْلامٍ] غير قولهم بأن النبي افْتَرَاهُ فإن المفتري هذا يتكلم في اليقظة، ويفتري هذا من عند نفسه، ويختلقه، والحال كيف يكون النبي مفترياً -صلوات الله والسلام عليه- وهو الصادق الأمين قد عهدوا، وعرفوا صدقه، وأمانته، وأنه لم يكذب على بشر قط أربعين سنة في وسطهم ما كذب على أحد؛ فكيف يفتري على الله -تبارك وتعالى- لكن انظر مقالة الظالمين.

 [بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ] هذه أيضاً أمر آخر التي يعني ألقوها لتفسيرهم، ولحكمهم على رسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه- قالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ يعني الكلام الذي أتى به إنما هو شعر، وشأنه شأن الشعراء، الشعراء الآخرين كانوا يأتوا بالقصيدة التي هي هذه القصيدة العمودية الموزونة، وهذا كلامه إنما هو من جنس هذا الشعر، والحال كيف يكون النبي شاعر -صلوات الله والسلام عليه- والكلام الذي جاء به لا يمت إلى هذا الشعر الذي يقولونه بأي صلة لا في أموره، ولا في أوزانه، ولا في مواضيعه {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:224-226]  يتكلم في الخمر، وفي النساء، وفي الوصف، وفي  وفي مدح هذا، وفي ذم ذاك هذا شأن الشاعر شأن مختلف كل الاختلاف هذا خطاب الرب -سبحانه وتعالى- يخاطب به عباده، ويذكرهم بالغاية التي خلقوا من أجلها، والطريق، ويذكرهم ببدايتهم كيف خلقوا بداية من آدم في السماء، وكيف هبطوا إلى هذه الأرض، ورسالات الله -تبارك وتعالى- وهذا صراطه، وهذا أحكامه، وعن غيبه أين الشعر؟! أين هذا؟! أين الشعر الذى يأفكه الأفاكون، والكذابون، وبين هذا الكلام الحكيم {........وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}[فصلت:41]{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42] كيف يكون كلام الرب الإله -سبحانه وتعالى- هذا المحكم الذي قد نزل بالحق، واشتمل على الحق يكون هو شعر، قالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ وحال النبي ليس بحال شعر؛ فلم ليس في كلامه مدح لأحد، ولا هجاء لأحد، ولا ذكر لخمورهم، ولا نسائهم، ولا يتكلم شيء لا يقوله، لا شك أن من يفهم الأمور، ويدركها يعلم بكل سهولة أن النبي ليس هو من جملة الشعراء الذين  عهدوهم من شعراء هؤلاء العرب.

 أمر رابع قالوا: {........فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}[الأنبياء:5] طيب، وإذا كان يقولوا، وإذا كان رسول كما يدعي لما لم يأتنا بآية كما أرسل الرسل السابقين، كناقة صالح، وعصى موسى، وما جرى على يد عيسى لما طبعاً هم سمعوا بأن هؤلاء رسل، وأجرى الله -تبارك وتعالى- عليهم هذه الآيات العينية, لماذا؟ ما يأتينا بآية كهذه الآيات [فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ] والحال أن الله -تبارك وتعالى- الآية الكبرى التي لا تعدلها آية من آيات الرسل، وهي كلام الله، كلامه المعجز بلسانهم العربي، آية يلمسونها، ويدركونها، وقد تحدوا بها، وهو أن يأتوا بكلام مثل هذا الكلام المنزل من الله -تبارك وتعالى- {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34] وقد عجزوا عن هذا، لكن يقولون هذا إنما هو على وجه العناد، وعلى وجه الانتقال، واكثار الشبه لإلقائها على وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يجعلوا طريق الله -تبارك وتعالى- معوجة للسالكين، لا يسلكه أحد، ويعطوا شبهة بشبهة، بشبهة {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}[الأنبياء:5]

قال -جل وعلا- {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا........}[الأنبياء:6] يخبر -سبحانه وتعالى- أن القرى الظالمة التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- قد جاءتها الآيات هذه العينية التي تراها، وأعجزتهم، وعلموا أنها آيات الله -تبارك وتعالى- ولكنهم لم ينتفعوا بها،ولم يؤمنوا بها، وكان من سنة الله -تبارك وتعالى- أن من رأى الآية العينية، وأتته؛ ثم كفر لا بد ، أن يستأصله الله -تبارك وتعالى- وأن لا يبقيه على الأرض لأن هذا يعنى يكون في مجال للتحدي، هات الآية، وخاصة إذا اقترحوها، وقالوا هات لنا الآية الفلانية؛ فإذا أتى الله -تبارك وتعالى- بالآية، ولم يؤمنوا بها؛ فيكون العذاب، الاستئصال {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا........}[الأنبياء:6] يعني جاءت الآية، ورأوها؛ ثم كذبوا بها؛ فكان هلاك الله -تبارك وتعالى- لهم {........أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:6]يعني أفهم هؤلاء المعاندون يؤمنون. حالهم سيكون كحال هؤلاء المكذبين، لو أتتهم آية عينية رأوها كذلك؛ فإنهم سيكذبون بها؛ ثم يستأصلون العذاب أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ سؤال لبيان أنهم لا يؤمنون، لنفي إيمانهم، وأن شأنهم شأن المكذبين الذين سبقوهم [مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا] وهذا يبين أن الله -تبارك وتعالى- لا يهلك القرى إلا بعد أن ينزل لهم، ويرسل لهم هذه الآيات، فيكذبوا بها؛ فيهلكهم الله -تبارك وتعالى- {........أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:6].

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الأنبياء:7] الجواب، الجواب الثاني على شبهتهم، وهو أنه بشر مثلهم؛ فقال -جل وعلا- وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ كل، شأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- شأنه شأن إخوانه من الرسل؛ فإن كل من أرسله الله -تبارك وتعالى- لينذروهم، ويحذروهم، ويبينوا لهم طريق الرب -جل وعلا- قد كانوا رجالا، وقول الله -تبارك وتعالى- رجالا به دل بمفهومه على أن الله لم يختر امرأة ليرسلها، ما في نبيه، ولا رسوله، وإنما كل الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم لدعوة الناس إلى الدين كانوا رجالا، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ يعنى في الأمم السابقة إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ يختارهم الله -تبارك وتعالى- وينزل -جل وعلا- وحيه إليهم [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] أنتم العرب ليسوا من أهل الذكر ما عندهم كتب يقرؤونها، لا عندهم توراة، ولا عندهم إنجيل؛ فقال الله -تبارك وتعالى- [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ] الذكر المنزل من الله -تبارك وتعالى- كالتوراة، والإنجيل اسألوا يعني أهل الكتاب السابقين عن رسالات الرب -تبارك وتعالى- بدءً بنوح أول رسول إلى أهل الأرض؛ ثم بعد ذلك رسل إبراهيم، وموسى، وعيسى، وبينهم من هؤلاء الرسل [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] هل يعني أنزل الله -تبارك وتعالى- ملكاً رسولاً إلى الناس أم أن كل الرسالات التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- إنما كنت يعني كان رجال بشر يختارهم الله -تبارك وتعالى- رسلا [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] بهذه الحقيقة، وهي أن الله -تبارك وتعالى- اختار لهداية الخلق رسلا يختارهم، رجالا يختارهم، ويوحي إليهم، ويرسلهم إلى أقوامهم.

 ثم قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}[الأنبياء:8] يعني أنهم كانوا بشرا كسائر البشر لم يجعل الله -تبارك وتعالى- واحداً من هؤلاء جسد لا يأكل الطعام كأنه جعله ملكاً جسداً لا يأكل الطعام، بل كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كبقية الناس وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ لم يكن كذلك هؤلاء الرسل مخلدون بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- كتب لهم البقاء السرمدي الأبدي، بل عاشوا كالبشر، وماتوا كذلك كما يموت البشر، وإذاً شأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- شأن إخوانه الذين سبقوه من الرسل {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}[الأنبياء:8] {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ........}[الأنبياء:9] ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ الوعد الذي وعدهم الله -تبارك وتعالى- به مع أقوامهم بأن من آمن أنجاه الله -تبارك وتعالى- ومن كفر بهؤلاء الرسل أهلكهم الله -تبارك وتعالى- صدق وعده مع رسله {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}[الأنبياء:9] هذا وعد الله -تبارك وتعالى- للرسل بأن كل من عاندهم، وكذبهم أن يهلكه الله -تبارك وتعالى- في الدنيا، وكل من أطاعهم، وسار خلفهم أن ينجيه الله -تبارك وتعالى- ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ هذا الوعد [فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ] أنجاهم الله -تبارك وتعالى- من يعني ما تهددهم به الكفار؛ فكل الكفار، كل مجموعة من الكفار هددوا رسولهم هذا نوح قال له قومه {........لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116]  وهذا لوط قال له قومه {........لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167] وهذا صالح تآمروا به ليقتلوه [تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ] لنبيتنه البيات يعني القتل ليلاً، وهذا هود إن [نراك إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ] فكل رسول أرسل إلى قوم فإنهم تهددوه بالقتل، أو الإبعاد، أو الطرد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا........}[إبراهيم:13] إما نحن نخرجكم من هذه الأرض إلا أن تعودوا في ملتنا مرة ثانية.

 قال -جل وعلا- {........فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:13]{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:14]  قال -جل وعلا-  ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ صدقنا وعدنا للرسل فَأَنجَيْنَاهُمْ مما تهددهم به الكفار وَمَنْ نَشَاءُ أي ممن آمن بهؤلاء الرسل، وهؤلاء هم الذين شاء الله -تبارك وتعالى- أن يهديهم، وأن يجعلهم من المؤمنين وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ وكان من شأن الرب -تبارك وتعالى- أهلك المسرفين بالعذاب المستأصل، قوم نوح بالغرق  لم يبقى فيهم أحداً، ما نجى إلا أصحاب السفينة الذين كانوا مع نوح عليه السلام، وكذلك صالح مع أهل الإيمان؛ ثم أهلك الله البقية، وكذلك هود أنجاه الله -تبارك وتعالى- وأهلك البقية، وهكذا وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المسرفين، الإسراف مجاوزة الحد، الذين جاوزوا الحد في الكفر، والعناد، والظلم، وهذه الأقوال الكاذبة التي ردوا بها الحق [وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ].

 ثم قال-جل وعلا- موجهاً خطابا مباشرا إلى هؤلاء العرب الذين أرسل فيهم النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- قال {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:10] لَقَدْ أَنزَلْنَا الرب الإله الذي لا إله إلا هو، وهو الذي أنزل هذا، وهو رب السماوات، والأرض إِلَيْكُمْ كتابا من الله ملك السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- إِلَيْكُمْ  أيها المخاطبين كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ تذكرون فيه فِيهِ ذِكْرُكُمْ يعني أن الله -تبارك وتعالى- خاطبكم به خطاباً مباشراً، ويذكركم فيه هذه واحدة [فِيهِ ذِكْرُكُمْ] كذلك هذا الكتاب تذكرون يكون لكم الرفعة، والعزة في الدنيا، والآخرة، والذكر على مدى العصور بإيمانكم بالله -تبارك وتعالى- إذا آمنتم بهذا الكتاب، وأخذتموه ذكرتم في الأمم، كما قال -جل وعلا- {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}[الزخرف:44]  ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر به، وكذلك لقومه العرب الذين يؤمنون به وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ عن هذه الأمانة العظيمة التي حملتموها {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:10] فيه عزتكم، ورفعتكم ألا عقل عندكم يقدر هذا الأمر، وأن هذه رسالة أنزلت لكم من الله ملك السماوات، والأرض، خالق السماوات، والأرض رب العالمين -سبحانه وتعالى- وأنه ينزل رسالة لكم، ويوجهها إليكم، ويخاطبكم فيها، ويذكركم فيها هذا أمر عظيم جداً {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:10].

 ثم قال -جل وعلا- {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الأنبياء:11] كم العددية تكثيريه يعني كثيراً من القرى قصمها الله، القصم الهلاك، والكسر، قصمها الله بمعنى أنه حطمها -سبحانه وتعالى- وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً كانت هذه القرية ظالمة، والمقصود بالقرية، القرية المدينة العظيمة التي فيها بشر، يقرى فيها الضيف، أو التي يجتمع فيها الناس، قرى من جمع  [وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً] كانت هذه القرية ظالمة، وذلك بكفرها بالله -تبارك وتعالى- وردها يعنى آيات الله -تبارك وتعالى- كقوم نوح، وثمود، وقبيلة عاد، وكثير من القرى يعني أن قرىً كثيرة أهلكها الله -تبارك وتعالى- كانت ظالمة بكفرها، وعنادها؛ ثم قال -جل وعلا- [وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ] لم يضروا الله -تبارك وتعالى- أزالهم من على وجه الأرض، وأنشأ الله -تبارك وتعالى- بعدهم قوماً آخرين ليكونوا في الأرض، ويعيشوا يعني أن الله طوى صفحتهم، وهذا فيه تهديد للعرب، والمكذبين أنهم إن كذبوا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قادر أن يهلكهم كما أهلك السابقين، ويطوي صفحتهم كما طويت صفحة أولئك؟؟؟؟؟؟ بعد ذلك أقوام آخرين؛ فهذا ليس على الله -تبارك وتعالى- بعزيز {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الأنبياء:11].

{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}[الأنبياء:12] لما احسوا بأس الله بداية العذاب، بدأ العذاب يأتي اذا هم يركضون، إِذَا الفجائية يَرْكُضُونَ يركضوا يعني في ظنهم بعيداً عن العذاب، قال -جل وعلا- يعني مقالة استهزاء بهم {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}[الأنبياء:13]{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأنبياء:14] لا تَرْكُضُوا يعني من العذاب استهزاء لهم يعني لا يفيد الركض بعد [وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ] ارجعوا مرة ثانية إلى الذي أترفكم الله فيه، إلى الذي نعمكم فيه [وَمَسَاكِنِكُمْ] الجميلة، المزخرفة، المزينة [لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ] يعني الله -تبارك وتعالى- يسألكم، وأنتم في هذه الحالة من التمكن، والنعيم.

 {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}[الأنبياء:14-15].

 سنعود إن شاء الله إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم، والحمد لله رب العالمين.