الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (385) - سورة الأنبياء 38-50

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنبياء:36-41].

 يخبر -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء الكفار المعاندين هذا صنيعهم عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- النبي الصادق الأمين، المؤيد بالوحي التي احتفت كل الأدلة، والقرائن على أنه رسول الله حقاً، وصدقاً الكامل في الخلق لكن هؤلاء المجرمون العميان الذين عموا، يقول الله -عز وجل- [وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا] هذا فعلهم لا يعني رد فعل عند رؤية النبي إلا الاستهزاء به؛ فكان الاستهزاء هو الرد الجاهز، والحاضر بمجرد رؤيتهم للنبي [وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا] يستهزئون به، ومن هزئهم به إن يرونه ليس أهلا، ولا كفؤاً أن يتكلم عن آلهتهم، يقولون: [أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ] يعني هذا احتقار لشأن النبي، هذا يتكلم على يعني آلهتنا، ومقدساتنا التي نعظمها، ونعبدها، قال -جل وعلا- [وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ] هم هؤلاء المجرمون بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ خالق هذا الكون -سبحانه وتعالى- الذي وسعت رحمته كل شيء؛ فلا وجود لشيء إلا لرحمته، ولا بقاء له إلا برحمته، ما فيء شيء يبقى إلا بالرحمة التي خلقها الله -تبارك وتعالى- في هذا الوجود وَهُمْ وجودهم، بقائهم، حياتهم، نومهم، قيامهم، أكلهم، شربهم برحمة الله -تبارك وتعالى- موجودون، ومعرضون عن ذكر الإله، الرب الإله -سبحانه وتعالى- لا يذكرونه، ولا يعظمونه، ولا يوقرونه، ويجعلون هذه الآلهة التي لا تنفع، ولا تضر هي مكان التعظيم، ومكان التقديس، ويجعلون أن النبي ليس أهلاً أن يتكلم عليها، وهم معرضون عن الله -تبارك وتعالى- أعظم الاعراض أكبر جريمة يرتكبونها باعراضهم للرب -تبارك وتعالى- أكبر جريمة ممكن أن يرتكبها مخلوق أن يعرض عن إلهه، وخالقه، ومولاه -سبحانه وتعالى-.

 قال -جل وعلا- مهدداً لهم {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء:37] الإنسان عجول، خلق الإنسان عجولا، محب للعجلة دائماً في كل شيء يطلب. إن كان في طلبه للخير، أو في دفعه الضر، قال: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي يعني تمهلوا ستروا آيات الله -تبارك وتعالى- في عقوبتكم مما لا تتخيلونه، ولا تتصورونه {........فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء:37].

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأنبياء:38] فيكون عندما يتهددهم الرب -تبارك وتعالى- بالعقوبة على إجرامهم، وكفرهم، وشركهم، واستهزائهم بنبيه هذه مقابلة للنبي، يقولون أين متى؟[مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] يقولون هذا على وجه يعني الاستبعاد، إن هذا ما يكون [مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] يعني إن كنت صادقاً يا أيها النبي في ما توعدنا به، وتتهددنا به من العذاب؛ فمتى هذا؟ متى يقع هذا؟ قال -جل وعلا- {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}[الأنبياء:39] يعني الحال الذي تنتظرهم أنه سيأتيهم وقت الذي لا يستطيعون أن يكفوا عن وجوههم، وهي أشرف ما في الإنسان وجهه، وظهره أي ألم؟ ما يقدر يكف النار عن وجهه، ولا عن ظهره [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ] والكف الذي هو المنع، وسمى كف لأن الإنسان يعرض كفيه، ليعني منع هذا، يعني عندما يستطيعون أن يمنعوا النار عندما تأتي على وجوههم، والنار عندما تأتي عن ظهورهم [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ] يعني ما تكلموا بهذا الكلام ولا قالوا: [مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] لو رأوا هذه الحالة، لو علموا بهذه الحالة ما تفوهوا بهذا الكفر الذي يقولون به، ولا استبعدوا هذه العقوبة ولتسارعوا إلى الإيمان، وسارعوا إلى الاستغفار، وسارعوا إلى يعني اللياذ، والعياذ بالله -تبارك وتعالى- والإيمان به حتى ينجون من هذا المصير المؤلم الذي ينتظرهم {........وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}[الأنبياء:39] وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عندما يكونون في هذا المكان؛ فإنه لا هم ينصرون، لا ينصرهم أحد لينتصروا، ليخرجوا من عذاب الله -تبارك وتعالى- ويتغلبوا على ما هم فيه، ما ينصرون، ما هناك من الناصر لهم، ولا من يقف معهم.

 قال -جل وعلا- [بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ] تأتيهم الساعة، وهذه العقوبة بَغْتَةً فتبهتهم، تبهتهم، البهت هو السكوت،  والإنسان يبهت إما بأمر مفاجئ ما كان يتصوره، ولا يتخيله؛ فهؤلاء ما يتصورون أن تكون العقوبة، والساعة تأتيهم بهذا الأمر العظيم؛ فعند ذلك يبهتون بمعنى أنهم خلاص يقفل عليهم باب يعني الرد على هذا الأمر، ويسمى أيضاً البهتان، وهو الكذب الكبير، وذلك أنه الإنسان إذا فوجئ بكذبة كبيرة جداً ليست في الخيال فإنه يبهت بمعنى أنه يتحير كيف كان هذا؟َ! [فَتَبْهَتُهُمْ] فتجعلهم صامتين، متحيرين، مبلسين لا يعرفون كيف الرد، وكيف الخروج على ما جاءهم من عقوبة الرب -سبحانه وتعالى- {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)  بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[الأنبياء:40] لا يستطيعون رد الساعة عندما تأتيهم وَلا هُمْ يُنظَرُونَ يمهلون إلى وقت آخر، طلبوا الإمهال. فهذا هو يعني أخذ الله -تبارك وتعالى- لهم إما بعذاب يفاجئهم على هذا النحو، ويكون هذا الأمر؛ ثم ينتقلون منه إلى العذاب الأخروي، كما قال الله -تبارك وتعالى- في عقوبة قوم نوح {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا........}[نوح:25] حصل الغرق هذا العقوبة التي رأوها في الدنيا؛ ثم على طول أدخلوا ناراً بعدها مباشرة {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[الأنبياء:40].

 ثم أرسل الله تبارك وتعالى- رسوله أن الذي يحصل له الآن من هذا الاستهزاء، والاحتقار، والأذى قد جرى مثله على إخوانه الرسل السابقين، قال -جل وعلا- [وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ] كذلك رسل قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- استهزأ بهم يعني المجرمون على هذا النحو {........فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنبياء:41] فَحَاقَ أحاط، وحل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ بهؤلاء المستهزئين به مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون من العذاب، استهزأ قوم نوح بالعذاب الذي يأتيه، كما قال -جل وعلا- [وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ] يعني منهم [سَخِرُوا مِنْهُ] قال لهم: انتظروا {........قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود:38]{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[هود:39] واستهزأ كذلك ثمود به بصالح، وعاد برسولهم هود، وكل أمة من هذه الأمم استهزأت برسولها، واحتقرت شأنه، ورأت أن العذاب الذي يتهددها به لا يكون؛ فكان؛ فأتتهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنبياء:41].

 ثم أعاد الله تبارك وتعالى الكلام لهؤلاء الكفار المعاندين الذين يرون وهم الآن في حالة الفسحة، والمهلة أنهم لن يصيبهم شيء {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:42] قل لهم من يكلؤكم بالليل، والنهار من الرحمن [يَكْلَؤُكُمْ] يحرسكم، ويرعاكم من الذي يحرسكم في ليلكم، ونهاركم من الرحمن خالق هذه السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- وخالقكم هل لكم حراس يحرسونكم من الرحمن. الله -سبحانه وتعالى- لو أراد الله -تبارك وتعالى- أن ينزل عليكم عقوبته في وقت من الأوقات ليل، أو نهار هل لكم حراس يحرسونكم، يعني يستطيعون حراستكم من غضب الرب -تبارك وتعالى- ومن عقوبته إذا أراد أن ينزلها بكم؟ [قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ] ثم قال -جل وعلا- [بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ] بل حال هؤلاء العميان، الكفار أنهم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ خالقهم، وإلههم، ومولاهم الذي يتولى كل شئونهم [مُعْرِضُونَ] الإعراض عن أي شيء هنا، اعراض عن ذكر ربهم، ذكر الذي يقيمهم ربهم، خالقهم، سيدهم -سبحانه وتعالى-.

 قال -جل وعلا- [أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ ] يعنى هم  وجعلوا يعني اطمئنانهم، وركونهم لآلهة قوية، عزيزة تستطيع أن تدفع عنهم عقوبة الرب -جل وعلا- [أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ] معبودات [تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا] تستطيع أن تحفظهم، وتمنعهم إذا نزل بهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {........لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}[الأنبياء:43] هذه الآلهة المدعاة لا يستطيعون نصر أنفسهم، لا يستطيع هذا الإله المدعي أن يدفع عن نفسه، فكيف سينفع عابده، وهو عن نفسه ما ينفع، لو جاء ثعلب لبال عليه كما قال ذلك الأعرابى عندما ذهب ليذبح عند صنم من الأصنام، ووثن من أوثانهم، وكان بعض هذه الأوثان تكون في البراري، والقفار في الصحراء؛ فوجد أن الثعالب بالت على هذا النصب؛ فقال:

رب يبول الثعلبان برأسه ألا هان من بالت عليه الثعالب
  

 قال هذا يعنى دليل أن يأتى ثعلب يبول عليه هذا، كيف أتقرب بذبح يعني أنعامي لهذا الإله! فهذا حال آلهتهم سواء أن كانت هذه، حتى وإن وضعوها في أشرف الأماكن، كما كانت قريش تضع هبل صنمها المعزز، المكرم يضعونه في جوف الكعبة لكن ما ماذا بيده هذا! يلقييه إنسان ما لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيء؛ فكل آلهتهم هذه المزعومة لا تستطيع أن تدفع [لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ] يعني ولا هذه الآلهة يعني تصحب من الله -تبارك وتعالى- بهداية، وبرعاية، وأن الله -تبارك وتعالى- قد يكلأها، ويرعاها، ويعنيها، لا، وإنما هي في مجال إذلال الرب -سبحانه وتعالى- وسخطه، وعقوبته.

 ثم قال -جل وعلا- [بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ] لكن يقول الرب -تبارك وتعالى- إن يعني سبب إجرام هؤلاء المجرمين، وعتوهم، وعلوهم أنهم يعيشون في نعيم الرب -جل وعلا- قال: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ متعناهم بما متعهم الله -تبارك وتعالى- فيه بالأموال العظيمة، والخيرات الكبيرة، وطول العمر، وما هم فيه من العز، والتمكين؛ فهذه التي سبب عناد المعاندين.

 يقول، يقول الرب -جل وعلا- الذي يعني دفعهم إلى هذا أن الله متعهم {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الأنبياء:44] أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ يعني هذا كذلك صورة من صور تهديد الله -تبارك وتعالى- لهم، وأن الله -تبارك وتعالى- يأتي أرض الكفر، وينقصها من أطرافها، ويجعل هذه الأطراف تنضم طرفاً، طرفاً إلى أرض الإسلام؛ فتتوسع رقعة أرض الإسلام، وتتقلص يعنى رقعة أرض الكفر؛ فإن الله -تبارك وتعالى- مؤيد جنده؛ فالنبي -صلوات الله والسلام عليه- عندما هاجر المدينة لم يكن من أرض الإسلام إلا هذه البقعة الصغيرة؛ ثم بعد ذلك بدأ نور الله -تبارك وتعالى- والإسلام يتسع، يتسع، ويشمل ما حولها، ما حولها، ما حولها، كما قال النبي -صلى الله وسلم- « أمرت بقرية تأكل القرى» يعني أن الله -تبارك وتعالى- أمره أن يذهب إلى قرية من أم القرى مكة التي هي يعني منطلق نذارته [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ثم بعد ذلك أمره الله -تبارك وتعالى- أن ينتقل إلى قرية، وهي المدينة، أخبر النبي بأنها تأكل القرى؛ فينتقل إليها؛ ثم بعد ذك تأكل كل من حولها يعني تبقى هي رقعة الإسلام الأولى؛ ثم تتوسع هذه الرقعة في الأرض كلها [أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ أرض الكفر نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ أفهم هؤلاء المشركون هم الغالبون، وهذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- بأن رقعة أرض الإسلام هي تتوسع، وتتقلص رقعة الكفر، وقد تقلصت حتى إن مكة هذه، وهي مركز يعني المعارضة للنبي -صلى الله عليه وسلم- دخلت بعد ذلك في الدين، ودخل أهلها في الإسلام.

 ثم قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}[الأنبياء:45] يقول أنا الذي عندي الآن إنما هو الوحى قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أنا أنذركم، ما عندي العقوبة الإلهية التي أستطيع أن أنزلها عليكم، وإنما هذا بيد الله -تبارك وتعالى- وأنا أنذركم بالوحي، والوحي خطاب الله -تبارك وتعالى- لنبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- يعني أن نذارته كلام، هذا كلام من؟ هذا كلام الرب -جل وعلا- فهو يشمل أن يعني ما عندي إلا أن أنذركم بكلام الرب -تبارك وتعالى- لكن في هذا تهديد عظيم، ووعيد كبير لأن الذي يتهددكم هنا، ويتوعدكم إنما هو الله -سبحانه وتعالى- فهذا الوحي جاي من الله، -سبحانه وتعالى- [قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ] ولكن [وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ] لكن الأصم وهو الذي قد يعني أصبح فيه ثقل وحجبه عن أن يسمع ما يسمع الدعاء وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ إذا أنذروا فإن الصم الذين فيهم هذا الصمم؛ فإنهم لا يسمعون الدعاء لأنه أصم فما يسمع الدعاء؛ فشبه حالهم بحال هؤلاء أنهم يقول، يقال لهم هذا الكلام، وينذرهم، يخوفهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- ولكن كأنه لم يقل شيء، وكأنه لم يخوفهم من شيء؛ فحالهم حال الأصم الذي لا يخترق الدعاء أذنه.

 ثم قال -جل وعلا- {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الأنبياء:46] وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ النفحة هو يعني الشيء الصغير الذي ينفح من باب  يشتي شيء صغير، وتأتي الخير، والشر نفحة يعني أنه جزء صغير من العطاء هنا عطاء العذاب وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ مجرد مس، نفحة يعني أن الله لو أصابهم بشيء قليل جداً من عذابه [لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] مباشرة يرجعوا عن كل هذا الإفك، والافتراء الذي هم فيه، ويعتقد الإعتقاد الحق في أنهم كانوا ظالمين بكفرهم، وعنادهم، وعدم تصديقهم لعقوبة الرب -تبارك وتعالى- [وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ] والسؤال كان هذا العذاب في الدنيا، وفي الآخرة يعني لو جاءهم عذاب الله -تبارك وتعالى- جزء من عذابه في الدنيا؛ مباشرة؛ فإنهم سيتركون ما هم فيه، ويعتقدون بأن الذي كانوا فيه إنما كان ظلم، وضع الأمر في غير محلها كفر، وعناد، وأنهم يستحقوا هذه العقوبة [لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ].

 ثم قال -جل وعلا- [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ] هذا الذي ينتظرونه [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ] الموازين العادلة {........لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47] أن الله -تبارك وتعالى- سيضع لعباده ليحاسبهم الموازين العادلة التي لا تظلم مثقال ذرة، لو مثقال ذرة من الخير، والشر؛ فإنها تظهرها،  فهذا ميزان يعني من الحساسية، والعدل في أنه لا يظلم مثقال ذرة، انظر مثقال ذرة لكنها تظهر في هذا الميزان [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ] أنها ستوضع يوم القيامة [فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا] أي نفس لا تظلم شيئاً [وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] أي من الخير [أَتَيْنَا بِهَا] ليحاسب عليها يعني صاحبها [وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] كفى بالله -تبارك وتعالى- حاسباً يعظم الرب نفسه -سبحانه وتعالى- وأنه لا يحتاج إلى هذه الموازين، وضعها لعباده، ولكن كفى به حاسباً -سبحانه وتعالى- يعني محصياً أعمال خلقه -سبحانه وتعالى- فلا يغيب عنه شيء من أعمال خلقه لا صغير، ولا كبير، بل خلجات نفوسهم، ووساوسها إنما هي بعلمه -سبحانه وتعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] فهذا علمه؛ ثم تدوين هذا {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17]{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18] ولذلك المجرمون يوم القيامة [وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ] الذي هو كتاب أعمالهم [لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا] قال -جل وعلا- {........وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49] لا يظلم الله -تبارك وتعالى- أحداً قط من عباده، وخلقه -جل وعلا- [وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا] فكفى بالله -تبارك وتعالى- حاسب، وفي هذا في نزول هذه الآيات تذكير لهؤلاء المجرمين، لهؤلاء الكفار أن هذا الذي ينتظرهم؛ فتذكروا و و ولكن يعني كما قال الله -تبارك وتعالى- بأنه لا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون.

 ثم بين -سبحانه وتعالى- سنته في هداية يعني الخلق؛ فقال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:48-49] يخبر -سبحانه وتعالى- أنه آتى عبده موسى النبي، نبي بني إسرائيل، وهارون أخوه، والذي نبئ بشفاعة موسى عليه السلام [الْفُرْقَانَ] الفرقان الذي يفرق بين الحق، والباطل سمى الله -تبارك وتعالى- ما أنزله الله -تبارك وتعالى- لموسى بالفرقان، وذلك أن التوراة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على موسى كانت فارقة بين الحق، والباطل، وموضحة لطريق الرب -جل وعلا- [وَضِيَاءً] نور، ضوء نور يضيء الحياة، يضيء فيظهر الحق، وكذلك يظهر الباطل [وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ] ذكر، تذكير لهم، تذكير لهم بما ينتظرهم عند الله -تبارك وتعالى- وتذكير لهم بموعود الله، وتذكير لهم بطريق الله ليذكروه، ويفهموه لكن أخبر -تبارك وتعالى- بأنه [لِلْمُتَّقِينَ] الذين يخافون الله -تبارك وتعالى- ويخشونه؛ فهم الذين يستفيدون بهذا الذكر، وبهذا الفرقان، وبهذا الضياء، كما قال الله -تبارك وتعالى- في كتابه القرآن المنزل على عبده، ورسوله محمد {الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:1-2] فهو هداية كذلك للمتقين يهديهم الله -تبارك وتعالى- به طريق {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3] فهذا كذلك حال التوراة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:48-49] نفس الآيات التي يعني أنزلها الله -تبارك وتعالى- في شأن هذا القرآن المنزل على عبده، ورسوله محمد؛ فكذلك؛ فهؤلاء المتقون الذين يستفيدون بالكتاب المنزل على موسى عليه السلام [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ] يخافون الله -تبارك وتعالى- [بِالْغَيْبِ] هم، هم ، وهم غائبون، لم يروه -سبحانه وتعالى- ويؤمنوا به بآياته السمعية، المنزلة، وبآياته -سبحانه وتعالى- البصرية التي بثها الله -تبارك وتعالى- وأقامها في هذا الكون؛ فيخشون ربهم بالغيب [وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] وهم هؤلاء المتقون [مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] يعني خائفون من الساعة خوفاً عظيماً جداً، الإشفاق غاية الخوف، غاية الخوف، والخشية؛ فهم خائفون أشد الخوف من الساعة أن يؤاخذهم الله -تبارك وتعالى- بذنوبهم، ولذلك فهم في خوف دائم، ولا حتى يكون تأمينهم بإدخالهم الجنة،قلنا نفس الآيات كما قال الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:2-5].

 بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- التوراة المنزلة على موسى ذكر هذا القرآن، قال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[الأنبياء:50] [وَهَذَا] القرآن [ذِكْرٌ مُبَارَكٌ] ذكر من الله -تبارك وتعالى- وهو مبارك وصف لهذا الذكر بأنه مبارك، مبارك الذي قد عمت بركته، وزاد خيره  فالخير، والفضل لهذا القرآن لا يعد.

نقف عند هذا، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.